الفصل السابع
"ها يا دكتور ماما عاملة ايه"
نطق فارس هذه العبارة وهو يفرك يديه فى توتر بالغ و ينظر إلى الطبيب بقلق,دَون الطبيب أسماء بعض الأدوية فى ورقة من دفتره ثم فصلها وأعطاها لفارس قائلاً:
- متقلقش والدتك كويسة الحمد لله ..الضغط بس علي عليها شوية.. بس مفيش حاجة خطر الحمد لله
ألقى فارس نظرة على الورقة بيده فقال الطبيب متابعاً:
- دى أقراص بسيطة كده للضغط لازم تواظب عليها
خرج فارس بصحبة الطبيب من غرفة والدته وهو يقول متسائلاً:
- طب هى هتفوق أمتى يا دكتور
نهض عمرو واقفاً هو ووالدته وهو يستمع لحديث الطبيب الذى كان يجيب فارس قائلاً:
- أنا ادتها حقنة تنزل الضغط وهتفوق دلوقتى ان شاء الله ..متقلقش
خرج الطبيب من المنزل وأغلق فارس الباب خلفه واستدار فى مواجهة عمرو الذى قال بلهفة:
- خير يا فارس؟؟
جلس فارس وهو يقلب الروشتة بين يديه وكأنه فى عالم آخر وقال بشرود:
- الدكتور بيقول ضغط .. كنت متأكد أنها مش هتستحمل الصدمة
توجهت والدة عمرو داخل الغرفة التى كانت أم فارس ترقد بها وهى تقول بتبرم:
- ضغط أيه وبتاع أيه .. هو حد يصدق كلام الدكاترة
شد عمرو على يده قائلا:
- بسيطه يا فارس ان شاء الله.. متشيلش نفسك أكتر من كده.. أنت ملكش ذنب ..أنت كمان اتصدمت.. بس ولا يهمك انت مجال شغلك مفتوح وانت شاطر ....مش هتقفل على حكاية النيابة دى يعنى.. ركز بقى فى الماجيستير وبعده الدكتوراه وفى جوازك
أنتبه فارس لعبارة عمرو الأخيرة وتذكر دنيا التى تركها تصرخ على الهاتف وهرع إلى والدته , سمعا صوت والدته تناديه بوهن :
- فارس يا فارس
نهضت أم فارس من فراشها بمساعدة والدة عمرو فى أثناء دخول فارس وعمرو الذى قال يداعبها:
- ألف سلامة عليكى يا بطة
حاولت أن تبتسم وهى تنظر إلى فارس ولكنها لم تستطع, ساعدها فارس على الجلوس مرة أخرى على الفراش وجلس بجوارها , قبل رأسها وقد لمعت عيناه بالدموع وهو يقول انكسار:
- أنا آسف يا أمى أنا السبب فى اللى حصلك ده..لو كان بايدى كنت...
قاطعته والدته وهى تحاول صبغ صوتها بنبرة حاسمة:
- مش عاوزه اسمع منك الكلام ده تانى.. كل شىء نصيب .. أنا كل اللى يهمنى انك تبقى مبسوط ومرتاح ومش عاوزه حاجة تانية من الدنيا.. أنا يابنى لو كنت حاطة أمل على الشغلانة دى فده كان علشان كنت شايفاك متمسك بيها وبتحلم بيها لكن انا عن نفسى مفيش حاجة تفرق معايا ولا تريحنى غير سعادتك انت وبس .. سواء كنت محامى ولا مستشار
أنحنى فارس مقبلاً كفها وقد أعطته أمه دفعة لأن يتماسك أكثر وتتراجع دموعه وتجف قبل أن تظهر مرة أخرى وقال:
- ربنا يخليكى ليا يا ست الكل ربنا يديكى الصحة
سمع عمرو طرق خفيف على باب الشقة فقال وهو يخرج من الغرفة :
- أنا هروح اشوف مين .. ده أكيد حد من الجيران
توجه عمرو إلى الباب وفتحه , نظر إليها غير مصدق وقال بدهشة:
- عزة!
خفضت عزة رأسها بخجل وتنحت جانباً فظهرت والدتها وأختها عبير من خلفها, حاول عمرو السيطرة على مشاعره وهو ينظر إليها وقال وهو يبتعد عن الباب:
- أتفضلوا
دخلت جارتهم أم عزة يتبعها الفتاتان وهى تقول بقلق:
- فى ايه يا بشمهندس.. ايه اللى حصل للست ام فارس
أشار إلى الغرفة قائلاً:
- الضغط بس علي عليها شوية .. أتفضلى هى جوى هنا ومعاها فارس
دخلت أم عزة مسرعة ووقفت عبير وعزة فى الخارج, حاول عمرو النظر إلى عزة مرة أخرى فخطف نظرة سريعة وهو يقول بابتسامة:
- أزيك يا أنسه عزة
شعرت عزة بالخجل لسؤاله أياها فقط , بينما قالت عبير بدهشة ممزوجة بابتسامة خفيفة :
- كويسين الحمد لله
لا يعلم لماذا شعر بعاطفة كبيرة تجتاحه تجاهها بدون سابق أنذار وكأن وقوفها بقربة قد حرك مشاعره وزاد لهفته عليها وعلى الأرتباط بها, لقد تردد كثيراً وهو غير متأكد من سبب تردده , كان يظن من وجهة نظرة أنها متعلقة بفارس ولكن لا دليل على ذلك , وقد يكون أساء بها الظنون ولكن هل يترك الظن يتلاعب به أكثر من هذا , شعر بالخوف عندما تذكر كلمات فارس له عندما أخبره بأنه ربما يتقدم لها شخصاً آخر وقد يقبله أهلها هل ينتظر لتضيع من بين يديه هكذا بسبب تردده وقلقه من شىء ليس له وجود , عندما وصل لهذه النقطة شعر باندفاع لم يشعر به من قبل, ولم لا أحياناً يكون التهور هو الحل الوحيد لأنهاء ما يدور من صراعات بداخلنا.
كانت الفتاتان ينظران إليه وهو شارداً تماماً وكأنه فى عالم آخر وقد خرجت والدتهما بصحبة والدة عمرو ويتبعهم فارس وأمه التى كانت تستند على ساعده
وقالت لعمرو بامتنان:
- معلش يابنى تعبناك معانا
نظر إليها وكأنه لم يسمعها وصوب بصرة باتجاه والدة عزة وعبير, أخذ نفساً عميقاً وقال باندفاع :
- طنط انا بحب عزة وعاوز اتقدملها موافقة ولا لاء
ثم تنفس لاهثاً وكأن وحشاً كان يطارده , صوب الجميع نظراتهم إليه ما بين دهشة وابتسامة واستنكار وحياء , وأسرعت عزة بالخروج من الشقة ووجهها كحبة الطماطم وتبعتها عبير التى كانت تبتسم بسعادة ودهشة , هتفت والدته به :
- أنت عبيط يا واد ولا أيه.. فى حد يطلب طلب زى ده قدام البنات كده ..مش فى أصول؟!
بينما ابتسمت والدة عزة وقالت موجهة كلامها لأم عمرو:
- عبيط ليه بس يا ام عمرو هو قال حاجة عيب.. هو بس استعجل شوية
ضحك فارس متناسياً همومه وهو يقول:
- يخرب عقلك يا عمرو انا كنت اعرف انك مجنون بس مش للدرجة دى
وأخيرا قال عمرو حانقاً:
- يعنى هى دى المشكلة دلوقتى .. خلاص انا آسف بس انا مصمم على طلبى على فكرة ومش هتنازل عنه
ونظر إلى أم عزة قائلاً برجاء :
- أنا صحيح لسه متخرج من كام شهر بس ان شاء الله هشتغل قريب.. أنا بس عاوز يبقى فى كلام رسمى يعنى علشان محدش يسبقنى
أكد فارس كلام صديقه وقال بثقة:
- ان شاء الله كام يوم وعمرو يروح يعمل مقابلة فى شركة هندسية بتاعة أخت الدكتور حمدى ..
نظر له عمرو بدهشة فأومأ فارس برأسه مؤكداً وقال:
- أنا كلمتلك الدكتور من يومين تقريبا .. بس اتلخمت فى اللى حصلى ونسيت اقولك
ثم نظر فارس إلى أم عزة وقال:
- الدكتور حمدى أكدلى حكاية الشغل دى يا طنط
قاطعهم صوت جرس الباب المفتوح , نظر فارس تجاهه فوجد دنيا تقف بزاوية من الباب وتنقل نظرها بينهم بتوتر , شعر بالدهشة وهو مقبل عليها حتى وقف أمامها وهو يشير إليها بالدخول قائلاً:
- تعإلى يا دنيا أتفضلى
قالت والدته معرفة أياها لهن:
- دى دنيا خطيبة فارس
أستأذن الجميع بالأنصراف وجلست دنيا وهى تنظر لوالدة فارس قائلة:
- حمد لله على سلامتك يا طنط
- الله يسلمك يا بنتى
نظر إليها فارس تدور تساؤلات كثيرة بعقله وتظهرها عينيه وقال:
- عرفتى منين ان ماما تعبانة
قالت بتوتر:
- قابلت عزة تحت وانا طالعة وقالتلى
لاحت ابتسامة سخرية على شفتى أم فارس وقد علمت أن دنيا قد أتت لشىء آخر ولاحظت نظرات التوتر فى عينيها فقالت وهى تنهض :
- طب عن اذنك يا بنتى هقوم ارتاح شوية
وقالت موجهةً حديثها لفارس:
- قوم يابنى قدملها حاجة
وتركتهم وتوجهت لغرفتها
وقف فارس قائلاً:
- هعملك شاى معايا
أشارت إليه وقد نهضت هى الأخرى فى مقابلته وقالت محاولة السيطرة على نبرة صوتها:
- الكلام اللى قلتهولى فى التليفون ده صحيح يا فارس
جلس مرة أخرى وقال دون أن ينظر إليها:
- هو الكلام حد يهزر فيه يا دنيا
سقطت العبرات من عينيها وقد تأكد لديها الخبر وقد كانت تتمنى أن يكون مازحاً أو ما شابه لقد سقطت أحلامها وهوت وانسلت من بين يديها , كانت تهوى جمع حبها بفارس مع منصبه الرفيع الذى كان يحلم به وقد جعلها تتعلق به معه وتراه ليل نهار وتضع نفسها بجانبه داخل هذا البرواز المزركش المرصع بالمنصب والمستوى المرتفع والكلمة المسموعة ,قالت بحزن وكأنها تهزى:
- يعنى أيه .. حلم السنين راح خلاص ..كل حاجة راحت من بين أيديا
نظر إليها وقد عاوده شعوره بالندم والإنكسار مع كلماتها المؤنبة وقال محاولاً أضفاء بعض الأمل على قلبها:
- لا مش كله.. أنا فاضلى كام شهر واخلص الدبلومة التانية وابدأ فى الماجيستير وان شاء الله بعدها الدكتوراة
أستطردت مقاطعةُ أياه قائلة:
- وهتفرق فى أيه ماجيستير ولا حتى دكتوراة .. برضة فى الآخر شغال بمرتب عند الأستاذ حمدى
تنفس بعمق وهو يستمع لكلماتها تشق قلبه بحروفها الحادة وقال :
- لا ما انا فى يوم من الأيام هفتح مكتب إن شاء الله وساعتها الدرجات العلمية دى هتنفعنى اوى فى شغلى
لاحت ابتسامة سخرية على شفتيها وهى تقول:
- اه ..فى يوم من الأيام
لم يعد قادراً على التحمل وكل كلمة من كلماتها تنغمس بين ضلوعه لترديه يائساً وبعنف فنهض بحدة وقال:
- أنا كنت فاكرك هتقفى جنبى يا دنيا وتشجعينى أواصل طريقى ..أه صحيح كده الطريق هيطول شوية.. بس فى الآخر هنوصل ان شاء الله
نظر إليها فوجدها واجمة صامتة فجلس بقربها وأخذ كفها بين راحتيه قائلاً:
- أنا مش عاوزك تيأسى كده .. فاكرة لما كنتِ بتقوليلى أنا واثقة انك هتوصل يا فارس انت جواك عزيمة توصلك المريخ.. فاكرة؟!
أبتسمت بضعف وهى تومأ برأسها وتقول:
- فاكرة
قال مشجعاً:
- يبقى تقفى جانبى لحد ما نوصل سوا
نظرت إليه بعينين زائغتين وقالت:
- وانت فاكر ان أهلى هيوافقوا اقعد استناك كل ده .. لحد ما تجيب مكتب وبعدين تجيب شقة ونفرشها بالمرتب اللى بتاخده من مكتب الأستاذ حمدى
قال باستنكار:
- وشقه ليه مش احنا متفقين هنعيش هنا مع ماما..وهى معندهاش مانع .. وهنيجى على نفسنا شوية وممكن أوى نأجر شقة تنفع مكتب مش لازم نشترى يعنى كفاية الإيجار.. وبكده يبقى جمعنا بين الجواز والمكتب فى نفس الوقت
صمتت وطال صمتها فحثها قائلاً:
- ردى عليا
مطت شفتيها وقالت بضيق:
- أنا لازم أمشى دلوقتى انا اتأخرت أوى
****
صاحت أمها فى وجهها وهى تقول:
- مش أنا قلتلك الواد ده هيفضل طول عمره فقرى..أنتِ اللى صممتى تتخطبى ليه مش عارفة .. وفى الآخر كلامى طلع هو اللى صح وعاوز ياخدك تعيشى معاه عند أمه فى الحارة وتستنى بقى لما يبقى يفتح مكتب
بللت العبرات وجنتيها وقالت باختناق:
- كفاية يا ماما كفاية .. اللى فيا مكفينى أرجوكِ
****
وقف عمرو أمام هذا المبنى الكبير الكائن فى أحد الأحياء الراقية فى قلب القاهرة وتنقلت عيناه بين اللافتات الكثيرة , ما بين لافتات عيادات أطباء كبار وبين شركات متنوعة أستيراد وتصدير ومقاولات وشركات هندسية , وهنا توقف نظرة عند أحدى اللافتات الكبيرة والتى من الواضح أنها تحتل أكثر من ثلاثة طوابق فى المبنى الكبير, مشى ببطء داخل ردهة الشركة يتأمل الفخامة والديكور المميز الذى يدل على ذوق رفيع وبذخ فى الإنفاق , ظل يجول ببصره حتى سمع صوت أنثوى يقول بلباقة :
- أهلا وسهلا يا فندم أقدر أساعد حضرتك أزاى ؟
أنتبه على صوت موظفة الأستقبال ونظر إليها متفاجأَ وقالال:
- هه..اه..أنا المهندس عمرو..عندى معاد النهاردة مع المهندسة إلهام
أبتسمت السكرتيرة بروتينية وهى ترفع سماعة الهاتف وتضغط أحد الازرار متحدثة لثوان ثم أعادت سماعة الهاتف مكانها وأرشدته إلى مكتب مديرة الشركة , وصل عمرو إلى مكتب سكرتيرة المهندسة إلهام والتى نهضت بابتسامة خفيفة وهى ترحب به وتنهض لتسير أمامه مشيرة للداخل , فتحت الباب الآخر وأشارت له بالدخول بابتسامة قائلة :
- أتفضل يا بشمهندس
وانسحبت مغلقة الباب خلفها, خطى عمرو داخل المكتب الفخم وهو ينظر حوله ثم إلى تلك المرأة القابعة خلف مكتبها تنظر له بابتسامة وعينين متفحصتين , مدت يدها وصافحته قائلة:
- أهلا وسهلا يا بشمهندس ..أتفضل
ثم قامت بالتعريف بشخصها قائلة:
- أنا البشمهندسة إلهام مديرة الشركة
أبتسم عمرو وهو ينظر إليها بترقب , كانت امرأة فى العقد الرابع من عمرها شارف الزمان على طوى نضارة شبابها ولكن من الواضح أنها تعانده بشدة وتصر على محاربة الأيام بالأزياء الحديثة التى لا تليق بعمرها والزينة المُتكلفة التى هى سلاحها الدائم فى هذه المعركة و من الواضح أنها قاتلت فيها باستماتة فلم تخسر منها الكثير, كانت نظرته إليها استكشافية لم تخلو من الفضول ولكن نظراتها هى قد تبدو مختلفة ومتباينة أكثر وذات معنى لم يفهمه عمرو للتو , وأخيراً تكلمت وهى تتلاعب بملفه الخاص بين أصابعها قائلة:
- مش ناقصك غير الخبرة ..ودى سهلة أوى
أبتسم عمرو بإشراق وقد تيقن من تعيينه بينما بدأت إلهام مناقشته فى طبيعة عمله لدقائق أخرى ثم ضغطت أزرار هاتفها قائلة وهى عيناها لا تفارق عمرو :
- أبعتيلى أستاذ صلاح بسرعة
أغلقت الهاتف وهى مازالت تتفحصه بابتسامتها المستكشفة , شعر عمرو بالحرج فقال:
- طيب أنا ممكن استنى بره مش عاوز اعطل حضرتك اكتر من كده
أنتبهت لعلامات الحرج التى ظهرت على ملامحه فعادوت النظر إلى ملفه مرة أخرى وهى تغلقه قائلة:
- الأستاذ صلاح هيجى دلوقتى علشان يوريك مكتبك ويعرفك على زمايلك فيه
طرق الباب ودخل صلاح , رجل فى أواخر العقد الخامس من عمره , يظهر عليه الوقار والنشاط فى نفس الوقت , دخل وهو يرمق عمرو بنظرات خالية من أى تعبير موجهاً حديثه لإلهام , فقالت بترفع وهى تشير إلى عمرو:
- البشمهندس عمرو مهندس مدنى هيبدأ معانا من النهاردة
أومأ برأسه لها ثم نظر إلى عمرو بابتسامة ودودة قائلاً:
- أهلا بيك يا بشمهندس أتفضل معايا
نهض عمرو شاكراً أياها وتوجه فى سرعة للخارج وكأنه يهرب من وحش نظراتها الملتهمة , دخل حجرة مكتبه بصحبة صلاح الذى قال :
- إن شاء الله الشغل ترتاح فى الشغل معانا يا بشمهندس
رفع الزملاء نظرهم إلى القادم الجديد فأشار صلاح إليه قائلاً:
- البشمهندس عمرو هيبقى معاكوا فى المكتب من النهاردة
ثم قام بتعريفهم لديه قائلا:
- البشمهندس أحمد.. البشمهندس نادر
صافح عمرو زملاءه فى ترحاب شديد, شعر به مع أحمد وبعكسه تجاه نادر الذى صافحه ببرود وهو يبسم له بتهكم , لم يوله عمرو اهتمام وجلس خلف مكتبه وهو ينظر له وللكمبيوتر الخاص به بنشوة وسعادة ..كانت هذه هى المرة الأولى التى يشاهد فيها الكمبيوتر خارج أسوار الجامعة فهو لم يكن قد انتشر فى هذا الوقت ليصل للجميع بعد.
****
ذهب فارس لصلاة الجمعة فى المسجد الذى اعتاد ارتياده والصلاة فيه وكان فى داخله يتمنى لقاء الشيخ بلال ليتكلم معه ويحكى له ما يجيش بصدره لعله يجد لديه الراحة التى يتلمسها فى كلماته دائماً , وبالفعل عقب انتهاء الصلاة قام يبحث عنه ووجده فى ركن من المسجد يتحدث إلى بعض الشباب ويتمازح معهم بود ويهاديهم ببعض أعواد الأراك وزجاجات المسك الصغيرة التى يحملها دائماً فى جيبه والتى تبعث له دائماً رائحة محببة لكل من يقف بجواره أو يمر بجانبه , وقف ينتظره حتى انتهى من حديثه معهم وعندما لمحه بلال ابتسم وأقبل عليه فرحاً وصافحه بحرارة قائلاً:
- واحشنى والله يا فارس.. أيه يابنى مبقناش نشوفك ليه
ودون أن يدرى انسابت عبراته بهدوء وقال بصوت خفيض :
- أنا محتاجك أوى يا بلال
جلسا إلى أحد أركان المسجد وقال بلال وقد هاله رؤية فارس وعبراته ويستمع إلى صوت آلمه وأحزانه ويأسه وأطرق برأسه أسفاً وهو يسمع منه تجاوزاته التى كانت تحدث بينه وبين خطيبته دنيا ومخالفته لوعده معه من قبل , ظل يستمع إليه فى أنصات شديد حتى انتهى , كان فارس يظن أن بلال سيجيبه ببعض المواساة وربما بعض التقريع أيضا ولكنه وجده يبتسم قائلاً:
- أنا هحكيلك حكاية يا فارس عاوزك تسمعها بقلبك قبل ودنك ..أتفقنا
أومأ فارس برأسه و بدأ بلال فى سرد حكاية عن أحد التابعين قائلاً:
- رجل يُدعى أبا نصر الصياد ، يعيش مع زوجته وابنه في فقر شديد - مشى في الطريق ذات يوم مهموما مغموما ً، يسأل الله تعإلى الفرج والرزق الحلال فزوجته وابنه يتضوران جوعاً .
مر على شيخه أحمد بن مسكين' يقول له أنا متعب يا سيدي ..
وقرأ التابعي في وجه تلميذه ما يعانيه ، فقال له اتبعني إلى البحر
فانطلقا إليه، وقال له الشيخ – راغباً في لجوء مريده إلى الله تعإلى : " صلّ ركعتين على نية التيسير" واسأل الله تعإلى الرزق الحلال الطيب ...فصلى ، ثم قال له : "سم الله " ، - فكل شيئ بأمر الله .. فقالها . .. ثم رمى الشبكة ، فخرجت بسمكة عظيمة . ... قال له "بعها واشتر بثمنها طعاماً لأهلك ".
فانطلق إلى السوق يبيعها ، واشترى فطيرتين إحداهما باللحم والأخرى بالحلوى وقرر أن يعود إلى الشيخ فيقدم إحداهما له اعترافاً بصنيعه . ..
رد الشيخ الفطيرة قائلاً : هي لك ولعيالك ، ثم أردف : " لو أطعمنا أنفسنا هذا ما خرجت السمكة "
وفي الطريق إلى بيته قابل امرأة تبكي من الجوع ومعها طفلها، فنظرا إلى الفطيرتين في يده
وقال في نفسه هذه المرأة وابنها مثل زوجتي وابني يتضوران جوعاً فماذا افعل ؟
ونظر إلى عيني المرأة فلم يحتمل رؤية الدموع فيهما، فقدمهما لها قائلاً:
- الفطيرتان لكما ..
ظهر الفرح والسرور على محياها ، وسعد ابنها سعادة رقصت لها أسارير وجهه..
وعاد أبو نصر يفكر بولده وزوجته .
ما إن سار حتى سمع رجلاً ينادي من يدل على أبي نصر الصياد؟
فدله الناس على الرجل.. فقال له إن أباك كان قد أقرضني مالاً منذ عشرين سنة ثم مات ، خذ يا بني هذه الثلاثين ألف درهم فهو مال أبيك .
يقول أبو نصر الصياد
وتحولت غنياً بإذن الله تعإلى وكثر مالي ، و ملكت البيوت وفاضت تجارتي ، وصرت أتصدق بالألف درهم في المرة الواحدة في شكرالله تعإلى ..
ومرت الأيام ، وأنا أكثر من الصدقات حتى أعجبتني نفسي!!
وفي ليلة من الليالي رأيت في المنام أن الميزان قد وضع ونادى مناد : أبا نصر الصياد هلم لوزن حسناتك وسيئاتك ، فوضعت حسناتي ووضعت سيئاتي، فرجحت السيئات ..
فقلت أين الأموال التي تصدقت بها ؟ فوضعت الأموال، فإذا تحت كل ألف درهم شهوة نفس أو إعجاب بصنيع كأنه لفافة من القطن لا تساوي شيئاً، ورجحت السيئات
وبكيَت .. بكيت حتى كادت نفسي تذهب وأحشائي تتقطع . وقلت ما النجاة ؟
وسمعت المنادي يقول : هل بقى له من شيء ؟
فأسمع الملك يقول: نعم بقيت له رقاقتان ...
وتوضع الرقاقتان (الفطيرتان) في كفة الحسنات ، فتهبط كفة الحسنات حتى تساوت مع كفة السيئات.
فبقيت خائفاً .. وأسمع المنادي مرة أخرى يقول: هل بقى له من شيء؟ فأسمع الملك يقول: بقى له شيء
قلت: ما هو؟ ...
قيل له: دموع المرأة حين أعطيتها الرقاقتين .
فوزنت الدموع، فإذا بها كالحجر الصقيل وزناً .فثقلت كفة الحسنات، ففرحت فرحاً شديداً ..
وأسمع المنادي كرة أخرى يقول: هل بقى له من شيء؟
فقيل: نعم ابتسامة الطفل الصغير حين أعطيَت أمُه الرقاقتان ...
وترجح كفة الحسنات...و ترجح ...وترجح..
وأسمع المنادي يقول: لقد نجا ... لقد نجا
فاستيقظت من النوم فزعا أقول ما قاله لي أحمد بن مسكين حين رد إليّ إحدى الفطيرتين : لو أطعمنا أنفسنا هذا ما خرجت السمكة .
أنهى بلال حكايته قائلاً:
- فهمت اللى عاوز اقوله يا فارس
كان فارس يستمع وهو يشعر بالفهم يغزو قلبه , وكلما سمع وانصت كلما شعر بالرضا, وفهم مالم يفهم من قبل وقال:
- فهمت يا بلال.. أنا كنت عايش علشان نفسى وأحلامى وبس .. وعلشان كده خدت على قد ما قدمت.
***