الفصل السادس و عشرون من رواية:وقعت في قبضة الوحش.
بقلم/رولا هاني.
-هو إنتِ واثقة في اللي إسمه "إسماعيل" دة!؟
هتف بها "نادر" بعدما إستمع لما قالته "هايدي" عن إيقاف خطتهم موقتًا بسبب "إسماعيل"، فردت هي عليه بلا تردد:
-طبعًا.
كاد أن يرد عليها و لكن تعالي رنين هاتفه فإلتقطه ليرمق هوية المتصل بإهتمامٍ فسألته "هايدي" سريعًا و هي تهز رأسها بإستفسارٍ:
-دي ماما؟
هز رأسه نافيًا ثم ضغط علي الهاتف ليضعه علي أذنه هاتفًا بقلقٍ:
-حصل حاجة؟
إتسعت حدقتاه و هو يستمع لما يقوله المتصل، ثم صرخ بعدم تصديق و هو يرمي كوب الشاي الزجاجي من يده بالأرض لتنتفض "هايدي" بصدمة و هي ترمقه بعدم فهم:
-إزاي دة حصل!؟...إنتَ أكيد كداب!
نهض من علي كرسيه الخشبي برعبٍ و الناس بالمقهي تتابع أفعاله العجيبة بفضولٍ، بينما هي تتابعه بتعجبٍ صارخة بإستفهامٍ:
-حصل إية؟
تلاحقت أنفاسه و هو يجيبها بألمٍ ظهر في نبرته، و كأنه فقد كل شئ يسعده بالحياة بتلك اللحظة:
-أمي ماتت!
____________________________________________
ولج للغرفة ليستمع لنحيبها الواضح و المسموع بسخرية بائنة علي تعابير وجهه التي إنكمشت بقسوة، حمحم بخشونة حتي تشعر بوجوده و بالفعل رفعت رأسها فرمقته بهلعٍ صارخة بفزعٍ و هي ترتجف برعبٍ:
-إلحقون..
و لكنه قاطعها عندما كمم فمها و هو يرمقها بتحذيرٍ هامسًا بحدة و هو يقبض علي خصلاتها الكثيفة ليجذبها للخلف مما جعل رأسها تعود للوراء بتلك الصورة المؤلمة:
-متسنجديش بحد، أنا لو كنت عايز أذيكي كان زماني دافنك من بدري.
ثم تابع بحيرة و يرخي كفه من علي خصلاتها لترمق هي بنيتيه القاسيتين بقهرٍ:
-أنا بس عايز أفهم، إنتِ لية عملتي كدة يا "روضة" ؟
أبعد كفه من علي فمها لترد عليه، و بالفعل ردت عليه صارخة بحسرة حقيقية وسط عويلها الذي ينفطر القلب علي أثره:
-عشان ميعيش نفس العيشة اللي عيشتها، ولا يعيش نفس العيشة اللي إنتَ عيشتها، مكنتش هستحمل أشوفه تاجر مخدرات، ولا حتي كنت هستحمل أشوفه في وسط القرف دة كله، أنا حتي مش هكون الأم اللي بيتمناها أي إبن، ولا إنتَ يا "زياد" عمرك ما هتكون الأب اللي بيتمناه أي إبن، بالرغم من إنه مش إبنك و لكن أنا كنت متأكدة إنك مش هتأذيه..أنا و إنتَ شبه بعض، متلومنيش علي حاجة مكانتش بإيدي.
لوي شفتيه بقسوة ليصيح بفظاظة و هو يقبض علي معصمها بقوة كادت أن تحطمه مما جعلها تتأوه بألمٍ:
-هو إية دة اللي مكانش بإيدك يا ***، حد قالك تروحي للكلب اللي إسمه "أسامة" اللي إنتِ عارفة كويس أوي إنه مش هينفعك بحاجة، و في الأخر ترجعيلي حامل منه و تقوليلي اللي في بطني يبقي إبنك!
سفطت عبراتها الحارة لتهلب وجنتيها، ثم همست بحرقة و هي تقبض علي خصلاتها بعنفٍ لتزداد رجفتها العنيفة:
-إنتوا اللي علمتوني أبقي كدة، أبوك علمني أبقي كدة، أبوك علمني أبقي ****، حتي إنتَ كنت فاكراك هتحميني لما نكبر عشان كنت بتدافع عني بالرغم من اللي كان أبوك بيعملوا فيك من بهدلة و شغل، لكن خيبت أملي و بعد ما أبوك مات رميتني في الدنيا دي و قولتلي عيشي لوحدك!...إنتَ عمرك ما هتعرف أنا كنت محتاجالك قد إية يا "زياد".
تعالت شهقاتها بينما هو يتابعها بندمٍ ظهر علي تعابير وجهه التي تقلصت بحزن حقيقي، لتتابع هي بإستياء و هي تنتحب بأسي ملحوظٍ:
-أمي و ماتت بعد ما ولدتني علطول، أبويا كان مدمن و كان يبيع أي حاجة عشان المخدرات و من ضمن الحاجات اللي باعها باعني!...بنت إشتغلت خدامة عشر سنين، عشر سنين ذُل و ضرب و إهانة، عشر سنين نوم علي الأرض في البرد منغير ما حاجة تدفيها، بنت صغيرة كان نفسها في حضن يطمنها، كان نفسها في أب جمبها يطبطب عليها وقت ما تعيط و تترعب!...بنت دفنتوها يا "زياد"، دفنتوها و قتلتوها، "روضة" إتقتلت من زمان يا "زياد".
كفكفت عبراتها الحارة ثم صاحت بتلك النبرة المبحوحة و شهقاتها تتعالي:
-يبقي متلومنيش يا "زياد"، عشان فاقد الشئ لا يعطيه.
رفع حاجبيه بتفهمٍ ليتنهد بعمقٍ قبل أن يقول بجدية شديدة و هو يمسح بكفه علي وجهه:
-من إنهاردة إنتِ حرة يا "روضة"، كفاية أوي كدة، وجودك مبقاش ليه لازمة، سافري أو إهربي أهم حاجة إنك تبعدي.
ضحكت بخفة لتهتف بتهكمٍ و هي تهز رأسها بذهولٍ أخفته بسخريتها:
-و مش هتقتلني!؟
هز رأسه نافيًا ثم صاح بجمودٍ و هو يتجه ناحية باب الغرفة ليخرج منها:
-ما إنتِ لسة قايلة، أنا و إنتِ شبه بعض.
تنهدت بإمتعاضٍ و فجأة مر ببالها "هلال"، لذا صاحت بتلهفٍ و هي تحاول الإعتدال في جلستها:
-إنتَ أكيد عارف إن "هلال" و اللي وراه عايزين يخلصوا منك، دة غير إنها بيدوروا علي "نورسين".
نظر له من فوق كتفه ليصيح بتلك النبرة الساخرة قبل أن يفتح الباب ليخرج منه:
-حتي إنتِ كانوا عايزين يتفقوا معاكي!
تابعته و هو يخرج لتتنفس بهدوء تحاول إستيعاب ما قاله "زياد" منذ قليل، و لما لا!؟...و لما لا تهرب لتكتشف حياة جديدة!؟....حياة جديدة، بأشخاص جديدة، ب "روضة" جديدة، ربما هناك فرصة للهروب، ربما هناك فرصة لتتحرر تلك الطفلة السجينة التي باتت بداخلها لعدة سنوات!...ربما هناك فرصة.
____________________________________________
بعد عدة ساعات وصلا الإثنان إلي الأسكندرية، و بالتحديد الي تلك المنطقة الشعبية و بذلك البيت البسيط الذي كان يخرج منه الصرخات العنيفة المفزعة، فصوبت هي أنظارها نحوه خاصة عندما تعالت تلك الصرخات لتجده كالطفل التائه الذي يريد لشخص ناضج ليرشده، كالطفل الخائف الذي يرتجف برعبٍ عندما تركته والدته وسط الأمطار الغزيرة، كالطفل المذعور الذي ضل طريقه بعد فقدان والدته، إزدردت ريقها بصعوبة لتهمس بأسفٍ و هي ترمق نظراته الضعيفة نحو النساء التي تنتحب بحرقة بحزن:
-البقاء لله يا "نادر".
تهاوت عبراته الحارة علي وجنتيه ليصيح بنبرة متحشرجة و هو يضع كفه علي موضع قلبه الذي ألمه بصورة غير طبيعية:
-ضاعت أخر حاجة حلوة في حياتي يا "هايدي"!
إنفرجت شفتاها لترمقه بصدمة، فهي لم تكن تعرف مدي حبه لوالدته،و لم تكن تعرف مدي حزنه عليها بسبب مرضها، لذا لعقت شفتيها و كادت أن ترد عليه و لكنه لم يعطيها الفرصة ليترنح جسده، ثم وقع فاقد الوعي بثقل جسده عليها لتقع هي معه علي الأرضية فتعالت صرخات النساء، نعم فهو إنهار بتلك اللحظة،و لما لا ينهار و هو أصبح فاقدًا لأغلي الناس علي قلبه!؟..و لما لا ينهار و هو أصبح فاقدًا لشعاع الشمس الذي يدعو له يوميًا!؟..و لما لا ينهار و هو فاقد والدته التي كانت بمثابة كل شئ!؟..بمثابة الحياة!
____________________________________________
-"زياد النويري" بنفسه هنا!؟....أنا حقيقي مش مصدق نفسي.
قالها "هلال" بإستهزاء و هو يهبط الدرج ليجد "زياد" جالسًا علي تلك الأريكة الفخمة واضعًا ساقًا فوق الأخري.
وقف "هلال" أمامه صائحًا بعجرفة:
-عايز إية!؟
إبتسم "زياد" بإستخفافٍ ثم صاح بهدوء مستفزٍ و هو يشير ناحية ذلك الكرسي الخشبي الذي كان أمامه:
-أقعد بس يا "هلال"، ميصحش تفضل واقف كدة.
جز "هلال" علي أسنانه و كاد أن يطرده و لكنه توقف بسبب فضوله لمعرفة سبب وجوده ببيته بذلك الوقت المتأخر، لذا إستدار ليتجه ناحية الكرسي ليجلس عليه قائلًا بعنجهية:
-خلص، عايز إية؟
تنهد "زياد" بتمهلٍ قبل أن يهتف بغطرسة جعلت "هلال" يستشيط غضبًا:
-طول عمري كنت أقول علي واحدة كدة إنها غبية، و بجد مشوفتش أغبي منها، لغاية ما شوفتك يا "هلال" أنا بجد فرحان بيك و بغبائك.
جحظت عينان "هلال" ثم صاح بتهديدٍ صريحٍ و جسده يهتز من فرط العصبية الشديدة التي سيطرت عليه بعدما تعمد ذلك ال"زياد" إهانته:
-"زياد" يا "نويري" إنتَ جاي تغلط فيا في بيتي، إنتَ مش عارف أنا ممكن أعمل فيك إية؟
لوي "زياد" شفتيه بسخرية، ثم صاح بحدة لتتسع حدقتاه بصورة تحذيرية مرعبة جعلت "هلال" يزدرد ريقه بتوترٍ ملحوظٍ:
-إقفل بؤك يالا و إعرف إنتَ بتتكلم مع مين، متنساش نفسك يا "هلال".
و خلال عدة ثوان أصبحت تعابير وجهه متهكمة ليهتف بعدها بحزن مصطنع و ربما يصيب المرء بالغيظ:
-أكتر حاجة مفرحاني بغبائك هو إنك مصدق إنك ممكن تبقي مكان "صخر".
فغر "هلال" شفتيه ليصيح بصدمة لم يستطع إخفائها:
-إنتَ جبت الكلام دة منين؟
تجاهل "زياد" ما قاله ثم تابع ما عزم فعله و هو يصيح ب:
-مش عايز تفهم إن شغلانتنا دي بذات كل واحد فينا بيبقي ليه دور واحد بس فيها، زي المسرحية كدة يا "هلال"، كل واحد بيخلص دوره بيمشي عشان يجي واحد غيره، لكن عمرنا ما سمعنا إن حد بيجي مكان حد دي أبدًا!
إرتسم علي ثغر "هلال" إبتسامة جانبية ليهتف بتحدٍ و هو يشعل سيجارته الفاخرة واضعًا ساقًا فوق الأخر بتكبرٍ:
-هتمسع، هتسمع و قريب أوي يا "زياد" يا "نويري".
نهض "زياد" من مكانه ثم صاح بفخرٍ مزيفٍ و هو يعدل من وضعية رابطة عنقه:
-و إنتَ كل ما هتقول كدة كل ما هفرح بغبائك أكتر.
و لم يعطه "زياد" فرصة للرد كعادته، بل خرج من المكان بأكملة و هو يشعر بالراحة لإقتراب وصوله الي مبتغاه.
بينما "هلال" يبحث عن الهاتف حتي وجده، و سريعًا ما ضغط عليه عدة ضغطات ليضعه علي أذنه صائحًا بتلهفٍ:
-"روبرت"، "زياد" كان بمنزلي.
___________________________________________
ظلت "سعدية" ترتشف عدة رشفات من كوب الشاي الزجاجي الساخن، لتلوي شفتيها للجانبين و هي تتابع ذلك الخبر علي التلفاز قائلة بسخطٍ:
-خلاص كدة إتجوزها، كان نفسي أوي أجوزه لبنتي، يلا أهي جت و خدته.
و هنا دلفت إبنتها "تسنيم" هاتفة بمرحٍ:
-إنتِ بتتكلمي نفسك ولا إية يامة!؟
ردت عليها والدتها و هي ترمق التلفاز بعدم رضا:
-خلاص ياختي إتجوز.
صوبت" تسنيم" نظراتها ناحية التلفاز لتري تلك المذيعة و هي تتحدث عن خبر زواج" زياد النويري" من" نورسين الشربيني" فهتفت بضيقٍ واضحٍ:
-يامة قولتلك ميت مرة أنا مهتمة بدراستي، دة غير إنه أكبر مني بإتناشر سنة.
لوت "سعدية" شفتيها بغيظٍ هاتفة بإستهجان:
-طب و فيها إية ما أبوكي الله يرحمه كان أكبر مني بعشرين سنة.
زفرت "تسنيم" بحنقٍ لترمق والدتها بقلة حيلة هاتفة بإستنكارٍ:
-كنتي عايزاني أتجوزه إزاي بس!؟...دة تاجر مخدرات يامة، عايزة بنتك تبقي مرات تاجر مخدرات و الحتة كلها عارفة!؟
إستندت "سعدية" بوجهها علي كفها قائلة بسخطٍ:
-يلا أنا اللي غلطانة كنت عايزاكي تعيشي مرتاحة.
هزت "تسنيم" رأسها بإمتعاضٍ و فجأة إنتفضت بإرتعادٍ عندما إستمعت لتلك الصرخات العالية المفزعة، فصاحت هي برعبٍ و هي ترمق والدتها ذات الوجه الشاحب بإستفهامٍ:
-إية الصوت دة يامة!؟
نهضت "سعدية" ببطئ من علي الأريكة لتهمس بتوترٍ:
-الصوت جاي من عند شقة الباشا!
.....................................................................