الفصل الحادي و ثلاثون من رواية:وقعت في قبضة الوحش.
بقلم/رولا هاني.
-إزيك يا "مؤمن"؟
قالتها "سيدة" بنبرتها الشبه هادئة و هي ترمقه بإشتياقٍ لم تستطع إخفاءه، مازال كما هو، كما أحبته، بائع الحلوي!....رد عليها بنبرته الرجولية الخشنة و هو يحمحم بإمتعاضٍ مصطنعٍ:
-كويس.
اومأت "سيدة" عدة مرات و هي تنظر ل"نرمين" بترددٍ، ثم صاحت بتلقائية و هي تصوب نظراتها ناحيته:
-موحشتكش!؟
نظر لها مطولًا قبل أن يهتف بقلة حيلة و هو يعطي تلك الحلوي الي الصغيرة "نرمين" ليهرب من عسليتيها اللتان تراقباه بلا توقف:
-أكيد وحشتيني.
إبتسمت بخفة ثم أخرجت من جيبها ورقة ما، لتعطيه إياها قائلة ببشاشة:
-فاكر دي؟
و ما إن نظر الورقة عرفها جيدًا ليهتف وقتها بإبتسامة واسعة:
-أكيد فاكر، دة أول جواب أكتبهولك لما كُنتي في المدرسة.
إبتسمت بسعادة فهو مازال يتذكرها و يتذكر كل شئ كان بينهما، تنهدت بسرورٍ ثم همست بتوترٍ و هي تشير ناحية "نرمين" التي تأكل الحلوي:
-شوفت "نرمين".
كان يعرف تلك الطفلة جيدًا ف "روضة" لم تبخل عليه بأي معلومات كان يريدها عن "سيدة"، لذا إصطنع عدم الفهم و هتف بتساؤلٍ:
-"نرمين" مين؟
رمقته بمكرٍ و هي تهتف بدهاء لتضربه بخفة بصدره:
-يعني يوم ما تكدب تكدب عليا!....ما أكيد "روضة" قالتلك علي الموضوع دة!
إزدرد ريقه بإرتباكٍ واضحٍ كعادته ليطرق رأسه بخجلٍ قائلًا بحرجٍ:
-هي قالتلك؟
لعقت شفتيها قبل أن تهتف بلومٍ ملحوظٍ علي تعابير وجهها التي تعاتبه:
-لية مقولتليش إنك لسة بتحبني يا "مؤمن"!؟
تنهد بضيقٍ ليصيح وقتها بحنقٍ و هو يمرر كفه علي خصلاته السوداء ببطئ:
-كنت فاكرك رافضة تشوفيني، كنت فاكرك كرهتيني!
نظرت لهما الصغيرة ببلاهة، ثم همست بفضولٍ بعدما أنهت تلك الحلوي:
-ماما "سيدة" هو الراجل دة مين؟
حملها "مؤمن" بين يديه ليصبح بمرحٍ و هو يداعب خصلاتها:
-أنا كنت جوز ماما "سيدة".
رمقته الصغيرة بفضولٍ بائن علي ملامحها الطفولية لتهمس بتلقائية جعلت وجنتي "سيدة" تصاب بحمرة الخجل:
-لية كنت؟....إنتَ حلو أوي لماما "سيدة"!
حمحمت "سيدة" بتوترٍ و هي تلتقط الصغيرة من بين يدي "مؤمن" قائلة بإرتباكٍ و هي تضغط علي كف الصغيرة حتي تتوقف عن ثرثرتها التي تسبب لها الإحراج:
-أ...أ....أنا كنت جاية عشان أسلم عليك و...و...
قاطعها هو بعبثٍ غير معهود منه:
-و عشان وحشتك.
شهقت بصدمة من وقاحته في الحديث، ثم تراجعت بخطواتها قائلة بتلعثمٍ:
-سلام...ي.....يا "مؤمن".
تنهد بعمقٍ و هو يتابعها و هي تخرج من محله الخاص به، و قد كانت عينيه تلتمع بوميضٍ يدل علي التفاؤل الشديد، كم إشتاق لها و لرؤيتها، سنوات مرت ولا يراها، سنوات كان يفتقد فيها رؤيتها، سنوات يشتاق فيها و يشتاق، أصبحت أجمل ببشرتها السمراء المتألقة، أصبحت أجمل بعسليتيها كخيوط الشمس المشرقة، بعسليتيها كصحن العسل الشهي، بخصلاتها البنية المسترسلة لتعزف علي أوتار قلبه العاشق بلا تفكير، ربما هناك أمل جديد ليكونا سويًا!....ربما هناك فرصة جديدة..فرصة جديدة من بعد فقدان إبنتهما الذي ألم قلبيهما لعدة سنوات.
____________________________________________
-قبل ما أحكي أي حاجة أنا عارف كويس إني غلطان، و أنا قابل بأي حاجة هتقوليها من بعد ما أخلص، بس إسمعيني يا "نورسين".
قالها "زياد" و عبراته تبدأ في الإنهمار لترمقه "نورسين" وقتها بقلبٍ منفطرٍ فهي تعرف جيدًا ما ينوي بإخبارها إياه، تعرف إن ماضيه لم يكن سهل أبدًا، تعلم إنه مر عليه سنوات عصيبة حولته هكذا، حولته لوحشٍ!....وحش وقعت هي في قبضته لتخرج ذلك الطفل من داخله، ذلك الطفل السجين!...صوبت نظراتها ناحيته، ثم همست بخفوتٍ و هي تسحبه لصدرها لتضمه بحنان بينما هو يندفع نحوها بقلة حيلة و ضعفٍ:
-حاضر يا "زياد" هسمعك.
تشبث بملابسها و هو يهمس بحسرة علي طفولته التي جعلت منه وحش لا يكترث:
-زمان لما كنت صغير مكنتش زي أي طفل يا "نورسين"، ز...زي أي طفل نفسه يلعب و يبقي ليه صحاب.
سقطت دموعه علي قميصها الأسود لتشعر هي به، فربتت علي ظهره بيدٍ مرتجفة تحثه علي إكمال حديثه، فتنفس هو بصعوبة بالغة بسبب عبراته التي سببت له الإختناق قائلًا:
-أمي ماتت بعد ما ولدتني و بعدها أبويا إتجوز علطول، إ....إتولدت لقيت نفسي عندي أب تاجر مخدرات يا "نورسين".
إبتعد عنها قليلًا ليهتف بتهكمٍ مريرٍ و هو ينظر لفيروزتيها مباشرةً:
-كان شبهي في كل حاجة، كان مبيرحمش، مبيحبش، يحب يكسر اللي قدامه.
إرتجف كفاه و هو يحاول كفكفة دموعه ليكمل هو بنبرته المبحوحة التي جعلت عبراتها تلتمع بمقلتيها:
-كنت بخاف منه أوي يا "نورسين" ، هو كان عايزني زيه، و فعلًا نجح في دة...كل يو...كل يوم كنت أتضرب و أتشتم و أتهان عشان بحاول أقاوم و أرفض.
كادت أن تسأله بعدم فهم علي ما يقاومه و يرفضه و لكنه قاطعها بقهرٍ و عبراته تتهاوي مجددًا علي وجنتيه:
-بحاول أرفض أكون زيه، كان نفسي أبقي دكتور عشان أعالج الناس و متموتش زي أمي، هي كانت عيانة جدًا و هو مكانش حتي بيحاول يعرف هي عندها إية و يعالجها، و لما ولدتني ماتت علطول، ك....كنت بسأل مرات أبويا عنها كانت دايمًا تقولي إنها كانت طيبة و حنينة جدًا مع كل الناس، كانت دايمًا تحكيلي عنها.
تعالت صوت شهقاته ليتعالي أيضًا صوت عويله و هو يصرخ بأسي ليضع كفه علي موضع قلبه بألمٍ واضحٍ:
-كنت طول الليل أصرخ و أنادي عليها، و أقولها أنا محتاجلك يا أمي!..لية تسيبيني لكل دة، محتاجك و محتاج لحضنك عشان يحسسني بالأمان، يحسسني إن لسة في أمل عشان مستسلمش و أغلط و أشتغل معاه زي ما حصل.
رمقته بصدمة جلية علي تعابير وجهها فوضح هو لها ما قاله بندمٍ حقيقي إحتل تعابير وجهه الذي غمرته تلك الدموع الحارة:
-غصب عني يا "نورسين"، كان بيعذبني عشان بس أوافق أشتغل معاه، صدقيني قاومت كتير لغاية ما بقي عندي ١٧ سنة،كنت خلاص تعبت، تعبت و معادش في حد بيساعدني ولا حد بيطبطب حتي عليا، يمكن مرات أبويا كانت بتحبني بس أبويا مكانش بيسمحلها حتي بإنها تحضني.
ضحك بتلك السخرية المريرة ليصيح بإشمئزازٍ بادي علي تعابير وجهه التي ترمق نقطة ما بالفراغ بإحتقارٍ:
-كان دايمًا يقولها سيبيه يبقي راجل، راجل من و هو عنده أربع سنين، راجل بس في صورة طفل، طفل مكانش حتي مسموح ليه بإن يبقاله صحاب و ناس يلعب معاهم، حتي "سيدة" مكانتش عارفة تساعدني.
تنفس بصعوبة مجددًا و هو يهتف بنبرته المبحوحة ليتابع تعابير وجهها التي تنظر له بشفقة بجسدٍ مرتجفٍ بعنفٍ ملحوظٍ:
-إنتِ تعرفي إن "روضة" كمان زيي، هي كمان بقت وحش زيي، وحش لا بيرحم ولا بيشفق علي حد، أبوها باعها عشان المخدرات و أبويا حولها لوحش زي ما عمل فيا، كانت طول الوقت متبهدلة في شغل البيت دة غير الضرب و الشتيمة، ك...كنت بحاول أدافع عنها لكن مكنتش بعرف، و أكتر حاجة حاليًا مخليني ندمان إني سيبتها يا "نورسين" بعد ما أبويا مات، سيبتها تواجه الحياة لوحدها لغاية ما بقت أقذر و أقذر!
زفر بحزن و هو يندفع نحوها مجددًا ليلف ذراعيه حول خصرها واضعًا رأسه علي صدرها هامسًا ب:
-بعد ما هما قتلوه عشان دوره خلص كان عندي وقتها ٢٢ سنة، ك...كنت لسة مخلص الكلية، أنا حتي كنت بدرس من وراه، وقتها كنت حاسس بإني هبقي حُر أخيرًا، لكن إزاي!؟...."زياد" لازم يبقي مكان أبوه، مافيش حد يبقي مكان "أكرم النويري" غير إبنه.
زفر بحرقة ثم تابع بفخرٍ مصطنعٍ و هو يشدد قبضته علي قميصها الذي تشبث به بقوة:
-إشتغلت مرة تانية غصب عني في نفس القرف دة، و عملت شركة بتاعتي زي ما كان نفسي و فضلت شغال في الشغل دة و أنا عارف إن دوري هيخلص زي غيري و يجي يوم و يقتلوني، بس وقتها مكانش فارق لإني معنديش حاجة أخسرها، إنما...
توقف عن الحديث لعدة دقائق فسألته هي بنبرتها الثابتة لتحثه علي إكمال حديثه:
-إنما إية؟
رد عليها بنبرة توضح مدي عشقه لها، عشقه الذي بات لا يستطيع السيطرة عليه:
-دلوقت بقي عندي يا "نورسين"، عندي حاجة أخاف عليها، حاجة لو ضاعت من بين إيديا مش هعرف أعيش، مش هعرف أكمل، حاجة تخلي عندي أمل عشان أعيش، عشان أبقي أحسن و أفضل، أنا بحبك يا "نورسين".
توقف هو عن الحديث لعدة دقائق ينتظر ردها بنفاذ صبر، و فجأة توترت ملامحه و سيطر عليه القلق و هي تبعده عنها لترمقه بحيرة لم تشعر بها من قبل!....أهل تسمح لذلك الوحش بإحتلال قلبها؟....أم تتراجع و تتركه لتعش حياة طبيعية مع رجل أخر طبيعي!؟...ربما كما أخبرها هو لم يكن وحش بالأساس بل ما مر به هو ما حوله لتلك الحالة!....الحيرة تسيطر عليها و لا تجد شئ ما مناسب لقوله، لذا نهضت من علي الفراش قائلة بنبرة جامدة جعلته يشعر بالوجل الشديد:
-سيبني أفكر يا "زياد"، أنا صعب جدًا أتقبل اللي إنتَ قولته دة بسهولة.
نهض من علي الفراش هو الأخر ليقف قبالتها قائلًا بتوسلٍ و عبراته الحارة تغمر وجنتيه مجددًا:
-أنا موافق علي أي قرار هتاخديه بس عايزك تعرفي إن كل دة كان غصب عني.
جزت علي أسنانها بغضبٍ لم تستطع إخفاءه أكثر من ذلك، لذا إقتربت منه أكثر لتباغته بصفعتها العنيفة صارخة ب:
-مهربتش لية؟...ممشيتش لية؟...رُد عليا متسيبنيش كدة.
رد عليها صارخًا بإنهيارٍ و هو يكور قبضته ليضرب الحائط الذي خلفها بعنفٍ جعلها تنتفض برعبٍ ظهر بوضوحٍ علي وجهها:
-ههرب عشان إية و عشان مين؟...إنتِ لية مش فاهماني!؟
زفرت بإمتعاضٍ و هي ترمقه بلومٍ، لو كان هرب ربما كان الأمر أفضل!....لو كان هرب ربما كان الآن رجلًا أخر!....رجل أخر لن تتركه مهما حدث، هي لن تنكر عشقها له و لن تستطيع فعلها، هي تحبه مثلما يحبها و ربما هي تعشقه أكثر، و لكن هناك شئ يمنعها من البوح بمشاعرها، شئ يمنعها من البوح بإنه هو الوحيد الذي سلب لبها، سرق تفكيرها و حياتها الطبيعية!....تخاف الموافقة و البقاء معه، و تخشي تركه، لن تستطيع تركه بمفرده بعدما وثق بها و أخبرها بكل شئ يخص حياته، تحبه و لكن يجب عليها عدم التسرع يجب عليها التفكير بذهن صافٍ، لذا إستدارت و هي تتجه ناحية باب الغرفة لتخرج منها قائلة:
-سيبني يا "زياد" أفكر و أخد وقتي.
كادت أن تخرج من الغرفة و لكنها توقفت عندما إستمعت لصوت إنتحابه فإنتفض جسدها و هي لا تستطيع الإبتعاد و لو لعدة أيام، لذا باغتته بإلتفاتها له، لتركض ناحيته بقلة حيلة بينما هو تلتمع عينيه بأملٍ إزداد عندما إرتمت بين يديه صارخة بإنهيارٍ و هي تبكي بهستيرية مثله، لتبوح وقتها بما رفضت البوح به منذ قليل:
-و أنا كمان بحبك يا "زياد".
.....................................................................