Ads by Google X

روايه نيران الهوى الفصل الثامن

الفصل الثامن

عرض
"حياتُنا سلسلة غير مُكتملة من العروض، تبدأ من تزاوج الوالدين مروراً بالإنجاب، وتتوقف... لا لم تتوقف سوي بالرحيل، لذا سنُكمل الدرب مع تلك العروض ولا يهُم أن كان في قلبنا مثقالُ ذرةٍ من كُرهٍ أو حُبٍ فالنتيجة قد حُسِمت من السابقين؛ وهي أننا سنحيا مع تلك العثرات فرُبما يُهدنا الدربُ شُعاعٍ من نور يُزيل الظُلمات ويفتحُ الأبواب القرص الذهبي..."
حزم الليلُ حقائبهُ وهما بالرحيل، فقدت بدأ الصباح بفتح نوافذهُ للحياة، ليتسرب البعضُ من الضوء الأبيض الشاحب إلى سماءُ القاهرة، فتُصبح كطبقٌ من الشيكولاته سقط بهِ قطراتٌ من الحليب.... حينما تسرب الضوء من نافذة سيارتهُ، كانت عيناهُ السوداء على اتساعهُما من الذُعر، فبدأ كمن رأي شبحًا أو ما شابه، زفر ببُطء، و يداهُ تعرف الطريق جيداً لعيناهُ فبدأ بفركهم؛ طاردًا سُلطان النوم من على عرشه، ذاك السُلطان الذي لم يحكُم سوي لساعة أو أقل، والأن قد حان موعد هدم عرشه، ليُشغل مُحرك سيارتهُ وينطلق نحو الشركة، وعقلهُ يعود من جديد إلي مُحاربة وحوش عقله، ولكنهُ انهزم أمس أمام أكبرُ وحشً، فطرق بابًا لا يعلم على أي مصرع سيُفتح!... هل الجحيم أم حدائق من النِعم؟.... لينتشلهُ من شرُده رنين هاتفهُ، لتلتقطهُ يداهُ سريعًا، وبإنهاك حاول جاهدًا قتلهُ :
-ايوة يا "حسن"...
وبنعاس لم يُفارق صوتهُ بعد :
-أنت فين؟..
بصرامة؛ تُنهي سيلًا جارف من التساؤلات :
-نام.... وسُرعان ما أغلق هاتفهُ، ليعود لدوامتهُ من جديد....
وعلى الجانب الأخر، كان مُستلقيًا في فراشه، يتثاوب كُل ثانية، ليُجيب بنعاس، وهو يُكمل رفع غِطاؤه فوق جسده :
-قفل السكة في وشي... وغاط في نومهِ سريعًا....
زفرت بيأس، وعادت ادراجها إلى الخارج من جديد، وعلى وجه التحديد، قررت المرور بغُرفة ابنها، تلك الغُرفة المُحرم دخولها على الجميع وهي أولهم،... ليصدع عقلها بالقول... ابنها الذي صار بمثابة غريب، لا يُلقي لها بالًا....فتحت الغُرفة بحذر شديد وكأن صاحبها ليس بالخارج، وبدأت يداها بتحسُس موضع زر الإنارة، لتتحول في جُزء من الثانية إلى شمسً في وضحَ النهار... لأول من تشرُق عليهِ الشمس ذاك الجدار المُليء بصورهما معًا، زفرت باشتعال واغلقت الباب بعُنف وكأنها تضربُ شخصً وليس جماد....
**
بمُجرد تحول البُساط من اللون الاسود إلى الأبيض الشاحب، كان هو يفرُ هاربًا من وحوش غُرفته، يتخبط في نيران قلبه، وقبل أن تصل يداهُ للمقبض...
كانت لتو قد انهت "فاطمة" صلاة الفجر، لتُقرر العودة للفراش من جديد، ولكن تهادي إلى أُذنيها صوت انفتاح احدي الأبواب، ليتأكل قلبها من الخوف، ربما أحدهم جائع، وعندما فتحت باب غُرفتها، رأت خيال مُنهزم يكاد يعبُر الردهة، لتنفرج شفتاه تلقائيًا :
-"ياسين"..
ابعد يداهُ عن المقبض، وعاد وجههُ للجمود قبل أن يستدير لها :
-ايوه يا "بطه"..
بتساؤل صريح يهربُ من عينها، قبل شفتيها :
-رايح فين على الصبح كدة؟...
-عندي شُغل...
غضة مريرة كالعلقم استوطنت قلبها قبل حلقها، لتتحرك قدماها نحوهُ، ويداها ترتفع تلقائياً؛ لتربت على كتفه، وهمس حنون مُشبع بالعاطفة الفطرية من القدير :
-مالك يا ضنايا؟...
زفرة من قاع بئر جاف ليس بهِ أدنى مظهر من مظاهر الحياة، وفي ذاتِ لحظة تفجر بهِ ينبوع من زمزم، ليُجيب بنبرة مُحملة بالأثقال، و رأسهُ تنحني في ود، و يداهُ ترفع يدها الثابتة بجوارها، لتُقبلها بعطف جارف :
-تعبان...
كلِمة من خمس حروف قادرة على قتلها حية، فما أسواء شعور العجز نحو الأحبة، وهو ليس بالحبيب فقط بل هو من سكن القلب، وتغذي من الروح، والآن يشكو دون أدنى سراج، لتتحول عينها لسماء مُلبدة بالغيوم، وبنبرة عاجزة:
-كف الله الشر عليك من التعب... لتترُك يداها موضعها من فوق كتفه، وتهرب لترفع وجههُ الجامد، وعينها تُحاول بكُل ذرة من الرؤية؛ أن تثبُر أغوارُه، ولكن قبضة من نار اعتصرت فؤادُها مع رؤية التخبُط والتيه في عيني وليدها، وبهمس :
-الهموم بتقتل صاحبها، عارفة الدنيا اتلخبطت في ثواني، بس دي حكمة ربنا، واحنا لازم نرضى بالمقسوم مش عشانا بس؛ قلوبنا متعلقة بقلوب الي بيحبونا، وقلب الي بيحبك بيتعذب أكثر منك، عشان خاطري حاول، بلاش توجع قلبي عليك... وبرجاء.... عشان خاطر ربنا حاول يا "ياسين"... لتسقُط لؤلؤه من عينيها، ولكن...
كان هُناك واقعًا آخر لكلمات والدتهُ، فلم تكُن مجموعة من الحروف تتألف مع بعضها لتُصبح حديثًا، بل كانت بردًا وسلامًا لقلبهُ الملكوم، فانحني يُقبل يدها، وازال تلك الماسة من نور الساقطة فوق وجنتيها، وهمس بُكل ما لديهِ من وعود :
-حاضر... ورحل مُسرعًا قبل أن يجتاح ذراعيها مُطالبًا بحقهُ من الدفء، فروحهُ صارت كقطعة من الجليد، ولا مجال لإذابتُها سوي شمسٌ من القدير، وليس هُنالك شمس أقوى من روحها....
**







مع دقات الساعة السادسة صباحًا، كانت "بدرية" تفرُ هاربة من مخدعها، فلم يعُد لديها سببًا للبقاء، فمخدعها تحول لمجموع من الأشواك، وكُل ليلة يتوجب عليها النوم عليها، ازلت تلك الدمعة العالقة، والقت نظرة مُنهزمة على النائم بجوارها، وكأنهُ طفلٌ لم يبلغ عامهُ الثاني،... أغلقت باب الغرفة خلفها، وعقلها يؤكد تلك الشكوك القائمة في قلبها منذُ أشهر، فليس هُنالك دليل للخيانة سوي قلب امرأة عاشقة، وحظها العاثر أوقعها في عشق كائن لا يعرف سوي القرش سيدًا... قادتها قدمها إلى مطبخها... وعقله يغوص في ذكرى ساعات مُنصرمة....
دقت الساعة الثانية صباحًا، وهو لم يأتي بعد، ظلت تقطع غُرفتها ذهابًا وإيابًا، وما هي الا ثوان وكان باب المنزل يُفتح، ففرت هاربة إلى مخدعها، وادعت النوم، ليُفتح باب الغرفة وهو مُترنج، وما زاد الطين بله رنين هاتفهُ، ليُقهقه قبل أن يُجيب على أُخري، صوتها يتسرب من تلك القطعة الحديدية بين يديهِ، و يُخبرها بكُل سفور... شششش... وتُصيبهُ الحازوقة، فينقطع عن الكلام قبل أن يُكمل... بُكرة على ميعادنا يا جميل...
توقف عقلها عن الاسترسال في التذكُر؛ عندما احترق احدي اصابعها، لتعود إلى الخلف بذُعر، وتركض صوب صنبور المياه، وتُجري عليهِ المياه كما يجري الدمع على عينيها، لتتجمد مع، انغلاق الباب بسُرعة البرق، فتفر هاربة للغرفة أولادها... وخلال دقائق كانت تغلق باب غُرفة ابنتها بهدوء، لتذهب لغُرفة ابنها، ويدبُ الذعر في اوصالُها، فتدع دموعها واوجاعُها جانباً، وتبحث عن هاتفها، وخلال ثوانِ انفتح الخط، وبلهفة :
-أنت فين يا "رامي"؟... ونزلت بدري ليه؟...
كان لم يعبُر بوابة العِمارة، ليصدع هاتفهُ بالرنين، فيُجيب :
-ايوة يا "بدارة"...وبنبرة ما... عندي مشوار قبل الجامعة... وسارع بإغلاق الهاتف، و قدماهُ تُبحر إلى النيل...
**
كان كعادتهُ يُنهي تنظيف أرضية القهوة قبل السادسة، ليلمح طيف ابن عمه "رامي" ليتعجب من نزوله في هذا الوقت، فيُصبح :
-"رامي"... وقدماهُ تسبق الرياح في الوصول..
من لم يُحبهُ القلب، فلم تبتسم لهُ الشفاه، وبتأفُف :
-خير يا "سيد"..
شعر بالحراج من تلك النبرة الجامدة، والخالية من كُل صلة الرحم، بل هي أشبه بنبرة سائل وحان وقت رفضه، فيبتلع غضة مريرة، ويُتمتم :
-مفيش، استغربت نزولك في وقت زي دا!...
هُنالك البعض من الكلِمات لا يعني شيء، ولكن أن أخبرت بها مهموم فسينفجر بكَ كالبُركان، وهو ليس مهموم وحسب بل غير مُرحب بكَ في عالمهُ، وبنبرة مُهينه، وصوت مُرتفع، يُنادي على المارة، والنيام خلف الأبواب بالاستيقاظ :
-وأنت مين أصلًا عشان تستغرب؟... ليُكمل بسُخرية لاذعة... ياريت متديش نفسك مساحة اكبر من حجمك، فاهم... أنت شغال عندنا، ووجودك لحد دلوقتي، صدقة... ليتحرك دون أدنى ذرة رحمة، وكأنهُ لم يُلقي دلوًا من نار قبل قليل..
تجمد كالصنم، وتبعثرت روحه، وكادت أن تنحني هامتهُ، وشعر أن اتساع الطريق ما هو لا جُحرٌ من سمُ الخِياط، لم يعُد يكفي لهُ، فتراجع للخلف وكلام صديقُه، يزداد نورًا فوق نور الصباح، ليعود لعملة، وهو يُفكر بصورة أُخري في الحياة، جانب لم يراهُ من تلك الصورة من قبل.... ويُصبح مُلبيًا النداء :
-أيوه جااااي....
**
انهت "فريدة" حمامها سريعًا، على غير العادة، وكانت ملامح وجهها تشعُ من الفرحة، ولم تعرف السبب، لتتوقف أمام دولابها كطفلٌ يبحث عن ملابس العيد في إحدى المحلات، فتُغريهِ جميع الملابس والاقمشة، زفرت بتمهُل، وعينها تلتقط ذاك الفُستان الخريف من الزيتون، لتأخذهُ سريعًا، وبنبرة عالية بعض الشيء :
-"ياسمين".... "ياسمين".. لتحسم أمرها بالذهاب والجلوس بجنبها؛ من أجل ايقظُها من ادعاء النوم...
كانت غارقة في أفكارها، ويتردد ذاك العرضُ برأسها، هل تقبل وتجد مكانًا لتسويق أم ترفُض وتُكمل في بيع القطع لمن يطلُب؟... لينتشلها من شرودها، وكزه خفيفة من "فريدة"، فتُجيب بِنُعاس مُدعى :
-أيوه يا ماما...
وبخبث:
-ماما!....يلا قومي بسرعة..
اعتدلت من نومها، وجلست نصف مُستلقيه، وبتأفُف :
-خير...
-بطلي رخامة أنا عارفه أنك صاحية من زمان...
-يا ست "فري" سبيني أنام شوية..
حركت رأسها بنفي، و بنظرة استعطاف لا يُمكن مقاوماتُها :
-مفيش نوم... وفرد كفها، والرجاء يتحد مع زيتونيتها... قولي شكلي هيبقى حلو في دا... وقرنت قولها... بالوقوف مع وضع الفُستان أمام جسدها...
حركت رأسها بنعم، و انفرجت شفتها بسؤال يلحُ دائما عليها :
-هو أنتِ ازاي بتتكلمي عربي كده!..
ضحكة صغيرة كانت بداية الجواب، قبل أن تفرُ من أمامها لتبديل ملابسها... وبعد مرور عدة دقائق عادت من جديد؛ لترى هيئتها، لتجد...
كان سُلطان النوم فر هاربًا من عينيها، وقد عزمت على تغير ملابسها للخروج، ولكن جحظت عينيها مع رؤية جمال أُختها الأخذ، وبإعجاب صريح :
-واووو...
غزي الاحمرار وجنتيها، وبمشاكسة :
-هعجب... وقرنتها بغمزة من عينها..
صفير ينمُ عن الإعجاب، وإيماء الرأس بالتأكيد :
-رايحة فين؟..
تهربت من الجواب، وبسرعة البرق أخذت الحديث لمُنحني آخر :
-بتكلم عربي كويس لأن ماما من القاهرة، وسافرنا لامريكا، وهي كانت بتحب تتكلم كتير عربي، فالعربي متغيرش معايا، وطبعا كُنا بننزل زيارات.... وقطعت إكمال الحديث، وهي تلتقط هاتفها وحقيبتها.... باي..
ابتسمت لها، ورفعت يداها بتماثُل؛ لتحية ليصدع هاتفها بالرنين... فتلتقط عينها هوية المُتصل، فسارعت بالجواب :
-أيوه يا "روكا"...
وعلي الجانب الأخر، كانت قد أنهت عبوة كاملة من المنديل؛ في البُكاء وعندما اشرقت الأرض بنور ربها كانت تمسك الهاتف لتُفرغ ما يُزهق روحها، وبلهفه :
-"ياسمين"..
شعرت بوجود خطب ما، و بتساؤل صريح :
-مالك يا "روكا"؟..
شهقة حادة كانت بداية الجواب :
-أنا وحشة صح..
تعجُب، ذهول، ترقُب، خوف، وقلق بالغ جعل الكلِمات تهرب من جوفها :
-لا طبعًا أنتِ أحسن حد في الدُنيا... أوعى حد يقلل ثقتك في نفسك أي كان، "روكا" تتحب بكُل ما فيها..
وبنحيب :
-بس هو..
علمت بفطرتها أن هُناك تصادُم بينها وبين أخيها الأحمق؛ فأمس لم يأتي لسؤالها أو أخبرها بما التقطتهُ اذُنيها، وخروجهُ صباحًا كالعاصفة،
زفرت بتمهل، قبل أن تنطق اسم أخيها لتأكيد :
-"ياسين"...
-أمبارح "رامي" طلب يتجوزني، و"ياسين" قال أنيّ.... ليقطع استرسالها شهقة خافته... قال إني وحشه، و... لتنقطع الكلِمات مع...
سارعت بالجواب، فلم يكُن هُنالك مجال لتركها تبكي، لأجل تفوه أخيها بالحماقات :
-أنتِ كويس شكلًا وموضوعًا، وأخويا متخلف، و"رامي" مغلطش..
كادت أن تُجيب، ولكن صوت والدتها بالصياح جعلها تُنهي المُكالمة سريعًا، وتُزيل دموعها العالقة :
-سلام دلوقتي... وركضت للخارج مُسرعة...
**
وعلى الجانب الأخر قبل قليل كان "منصور" يقف في النافذة، وعيناهُ لم تُغلق أبوابها منذُ أمس، و قلبهُ يخفق من آن لأخر وكأن طبول الحرب تقرع لإنذار الطرف الأخر ولكن رُبما قرر الطرف أن يتظاهر بالصم، خرجت أنفاسُه بلكنة غريبة لم يعرفها قط، وكأنهُ طفل بدأ اليوم في استكشاف العالم من حولة، لتُعلن ساعتهُ رنين الاستيقاظ، ليتطفوا شبح خافت من الابتسامة، ليذهب لإخراج ملابسهُ، باعتناء على غير العادة، ولكن قبل أن تتحرك قدماهُ قيد أنملة، كان باب الغُرفة يُطرق، فيسمح من فورة بالدخول :
-أُدخلي يا أما...
كانت البسمة تُزين وجه "سناء" ولما لا؛ فأمس أخبرتها أبنتها "فدوة" بأنها ستعود قريبًا، لتفتح الباب :
-صباح الخير..
تعجب قليلًا من ابتسامتها، في هذا الوقت :
-صباح النور..
-اختك هتيجي، كمان كام يوم، و...
الآن فهم جيدًا سر الابتسامة، ولكن تعثُرها في الحديث، يُثير شكوكه، فقرر الصمت ليعرف ما تود قوله..
تعثرت بعض الشيء من نظراتُه المصوبة عليها، لتُكمل :
-أصل جوزها يعني،... وعادت لصمت من جديد، لتُنسق الكلِمات... هيجي على هنا..
بنبرة مُرحبة، ولكنها هادئة بعض الشيء :
-ومالوا، يقعدوا يومين ويرجعوا بلدوا..
-مهو أصل...
ونظرة مُستفهمة كانت الجواب...
-هتجي ومش هترجع، هي وجوزها وعيالها، هفتحلهم الشقة الي فوق...
أظلمت ملامحهُ، وتأكد من ظنونه، وبنبرة هادرة :
-لا..
حاولت استمالتهُ :
-يا ابني دي اختك، و مينفعش تترمي بعيالها في الشارع..
جمود تام :
-بنتك الي اختارت زمان، تجي يوم واتنين وعشرة، أما العمر كلوا لا..
كادت أن تُجيب لكن....
ركضت "رقية" مُسرعة صوب الصوت، و بتساؤل :
-في أيه؟..
-تعالي يا بنتي، وعقلي اخوكِ
-مش لما افهم الأول؟..
رحل من الغُرفة إلى الحمام، وبصرامة:
-لا يا أم منصور...
وبسرعة البرق، انفرجت شفتها عن السؤال :
-في ايه يا ماما؟.
ظهر الحزن على وجهها:
-بقى دا شرع ربنا، أخوكي يُرفض افتح الشقة "لفدوة"..
-"منصور" عندوا حق، "فدوة" هي الي اختارت زمان، وحقها خدتُ.
-حتى أنتِ...
تحركت لتربت على كتفي والدتها :
-"منصور" مش هيسبها وأنتِ عارفة كده كويس، بس أنها تيجي هنا صعب..
-وصعب ليه؟.. ما دا بيت أبوها..
-كان بيت ابوها، وحقها خدتوا زمان... ورحلت فهمومها كادت أن تصل عنان السماء....
زفرت بيأس بعد خروج "رقية"، لتتحرك لتُحاول الحديث من جديد... وبنبرة نداء :
-"منصور"..
كان انهي ارتداء ملابسهُ، ولكن وجههُ أظلم كليل امتنع القمر فيهِ عن الظهور، وبنفي قاطع:
-لا يا "أم منصور"... وصفع الباب خلفه مُستقبلًا وحوش اليوم....
**
مرت الساعات الصباح سريعًا، وبدأت الشمس وكأنها تُعانق كبد السماء، فنثرت القليل من الدفء رحمة بالمارة، وصدقًا للقاء، ولكن تلك الشمس لم تكُن سوي نيران تشتعل بجوفها، ظلت "وداد" تنظُر من النافذة، ولكنها لم ترى سوي سراب، وكأن البشر تلاشي من الوجود.... خرجت أنفاسُها بحذر شديد... وطواحين رأسها تتزايد في العمل.. لتغلق يداها النافذة بعُنف، ودمعة من نار تسقط من عينها، تليها الكثير من الشهقات.. حينها عجزت قدمها عن التحمُل فسقطت أرضً تحتضن جسدها بكِل قوة، لينبثق الجواب من داخلها :
-لا مفر من الهروب، ستُكملين الدرب.... لتجف دموعها، وتهب واقفه من فورها، قاصدة البحث عن الكارت الخاص بهِ....
**







ترجلت "ياسمين" من التاكسي، والتردد يحتلها بجدارة، ليصدع الهاتف، فتُجيب مُسرعة :
-ايوة يا "روكا"..
كانت لتو قد انهت تدوين الكثير من المُستلزمات الناقصة من الخيوط، لتُقرر إبلاغ "ياسمين" بشرائها في طريق العودة :
-خلصتِ..
التقطت البعض من أنفاسها :
-لسه مطلعتش..
-حرام يا "ياسمين" يلا بسرعة، ولما تخلصي كلميني؛ في حاجات كتير ناقصة... لتُغلق الهاتف مع انفتاح باب المحل، وتتحرك لتُرحب بالزبون...
نظرت "ياسمين" للهاتف بحنق، وبدأت باللقاء القليل من سخطها وغضبها عليهِ، لتصعد الدرج.... وماهي الا دقائق وكانت تطرق باب المكتب....
كان" أيمن "يصبُ تركيزهُ الكامل على الأوراق الموضوعة أمامه؛ ليس لأجل العمل وحسب، بل لإنهاك بنات رأسه، ليتوقف عن العمل مع طرقات على باب مكتبه، ليُجيب :
-أدخل يا "ياسين"..
التقطت أُذنيها إذن الدخول، فأطلت بمرح؛ "فأيمن" ليس أخًا لمن تُحب، بل صديقَا لأخيها، وكان يمكُث في بيتهم كثيرًا :
-مينفعش أنا... وتحركت لمكتبه تاركه جُزءً من الباب مفتوح...
بحفاوة أطلت من عيناهُ، وأمن عليها حديثُه :
-اتفضلي يا "ياسمين"، تشربي ايه؟..
طافت عينها بالغُرفة سريعًا، وجلست بهدوء :
-ول اي حاجة.... لترتدي قناع الجدية :
-أنا جايه بخصوص العرض الي "حسن" بلغني بيه...
خلع نظارتهُ الطبية، وتركها تدلي من سلسالُها، وبجدية مُماثلة، وبدأ بشرح التفاصيل :
-الشغل هيكون تنفيذ للمسات الأخيرة وفق الرسومات الي هنبلغك بيها، أول فترة هيكون شُغلنا طلب وليس بعقد؛ لحد لما نشوف تأثير التغير على العميل...
حركت رأسها بهدوء، وانتظرت دقائق لتفكير، لتُجيب :
-تمام، أول عميل شغلنا فري ليه، لكن من العميل الثاني هيبقى في عقد..
-تمام نشوف العميل الأول، وبعدين نتفاهم...
تمتمت بالاستئذان سريعًا :
-استئذان أنا بقى...
حياها برأسه، وقبل أن يعود لعمل كان باب المكتب يطرُق من جديد، لترتفع عيناهُ تلقائيًا، وتتجمد مع...
كادت "ياسمين" أن تخرج من المكتب، وقبل أن تطء قدمها باب الخروج، كانت جارتهم تطرُق الباب، ليطُل من عينها الدهشة، والتساؤل ولكنها قتلتهم سريعًا، والقت التحية ورحلت...
وصلت العنوان وشيء بداخلها يودُ التراجع، ولكن العقل يؤيد المضي قدمًا، لتتحلي بالشجاعة، وتطرق الباب، لتستقبلها نظرات الدهشة، والتجمُد، وبنبرة جامدة :
-السلام عليكم ورحمة الله..
لم تستطع الحروف إسعافُه، و خذلتهُ قدماهُ عن الوقف؛ ليس من الأعجاب حاشه لله، ولكن من الصدمة، فقد ظن أن طلبهُ بالأمس لن ولم يتم الموافقة عليهِ، وجمودها كان خير دليل، ليعرف صباحًا أن كُل ما حدث، ما هو الأ دربٌ من الجنون كاد أن يسلكهُ، نفض كُل هذا جانبًا، وأشار لها بالجلوس...
أن تشعُر بلذة البحث عن الانتقام لأمرٌ بديهي ولكن عندما يحين الوقت، وتبدأ يداك بالوصول لطرف الخيط، لهو الجنون بعينة، جنون مُحبب لمن تجرع من الظُلم اطنان....تحركت بثبات مزعوم وجلست على الكرسي، وكأنها ترمي ثُقلها عليهِ، لتفرُ الكلِمات من عِقالها بسرعة البرق :
-أنا موافقة، لكن بشرط.... والتزمت الصمت لترى تعابير وجهه، ولكن قابلها الجمود...
ذهول لجزءٍ من الثانية طفي بعينه، ولكن التزم الصمت، فمع ولكن شعر بوجود خطب ما، ليحُثها على الاكمال :
-كملي...
بلعت غضة في حلقها، وبثبات تحسد نفسها عليهِ :
-جواز صوري...
لم يتعجب كثيرًا من قولها، ولكن نزعة بداخلُه تُخبرهُ أن هُناك خطبٌ جليّ، لكن لا يهُم؛ ابنتُه أهم.... حرك رأسهُ بهدوء :
-موافق، وحقوقك كلها.... لتتوقف الكلِمات مع..
عندما أسمعت للحقوق، أجابت من فورها :
-مش عاوزه أي مهر ول أي حاجه، عقد وبس..
حرك رأسهُ لها بالموافقة، وتلحف كلاهُما بالصمت، رغم التساؤلات الهاربة من عين كلاهُما.....
**
وقفت "فريدة" تلتقط أنفاسها، و قدماها تأنُ من كُثرة التحرُك، لتهمس برجاء :
-حرام عاوزه ارتاح شوية.. ولم تدع لهُ مجال لرفض فجلست أرضً، وتلهث بصعوبة..
رق قلب "منصور" لحالها، وتوقف عن السير، ليعود لها من جديد، فقد خطفت أنفاسُه صباحًا؛ حينما رآها تتهادي في ثوبها الزيتي، الذي اتحد بكُل سفور مع غابات الزيتون بحدقتيها، وسلاسل الذهب خاصتها.. ليتوقف قلبهُ عن الخفقان لثواني، وتجحظ عيناهُ من رسم القدير لحُسنها.... ولم تحد تمر الثانية الاُخرى الا وكان يُسدل جفونه عن حُسنها، ويستعيذ بقوة من شيطانهُ الرجيم، ليُلقي تحية فاترة لها، ويسبق خطواتها..... نفض شرود عقله، وتمتم بما تعجز الاذن عن سماعُه ليتحرك لها، ليضع ذاك الصندوق الكرتوني من يده، و بتساؤل :
-تعبانة....
حركت رأسها بنعم، ولم تستطع الحديث من تعبها، والم قدمها القوي، و بنظرة رجاء تدعوه للانتظار قليلًا ريثما تلتقط البعض من قواها ...
تحرك مُسرعًا مُتمتًا بالكلِمات نحو أقرب مكان مُخصص لبيع المشروبات، وهو يلعن نفسهُ ألف مره على استجابتهُ لأخذها.... ليزفر بحنق مع تذكُر نظرات العامل لها، يُقسم أن كاد أن يدُق عنقهُ..... زفر ببطء مُحاولًا استرجاع ثباتهُ، ليتوقف لشراء احدي العصائر لها...
ظلت "فريدة" تأن من فرط التعب ، وتعنف نفسها على سوء اختيارها لما ترتدي، وقبل أن تسقُط في المزيد من التقريع، كان صوتهُ يحتل حنايا عقلها...
توقف امامها وهو يمدوا لها العصير دون حديث، ليجلس بجوار الصندوق بعدما أخذتهُ، مُرتديًا ثوب الصمت..
قررت الحديث، فهي تكره الصمت بشدة، و بتساؤل :
-"منصور" أنت ليه زعلان؟.. أنا دايقتك صح.... ولم يكُن سؤلًا بقد ما كان تأكيدًا لها على جمودهُ الدائم معها....
حرك رأسهُ بنفي، واردف بالقول :
-هتشتغلي فين؟.
اهدتهُ ابتسامة جذابة، كشفت عن بياض الثلج خاصتها :
-في البيت، وطبعًا التسويق هيبقى أون لاين...
-كويس، يلا نمشي.... وتحرك حاملًا الصندوق الكرتوني، دون أن تنبث شفتاهُ بأدني كلِمة...
**
توقف "سيد" لثواني قبل أن يتحرك، لاستئذان لصعود بيته؛ مُتعللًا بالتعب... ليتحرك دون انتظار الجواب، فهو غير قادر على الابتسامة في وجه الآخرين، بل يملكُه الحُزن منذُ بداية الصباح، ولقائهُ الكارثي مع "رامي"، لم يكُن اللقاء دموي؛ بل كان بمثابة القشة التي قسمت ظهر البعير، وكشفت عما كان يتجاهلهُ، رغم يقينهُ الدائم به.... لم يدري أن توقف أمام شقتهُ يلهث سوي، مع تعثر قدماهُ قبل ثانية على الدرج، وحينما قرر فتح الباب؛ للاختلاء بنفسه والتأكد من قرارهُ، كان صوتًا يعرفهُ جيدًا يُناديهِ بهمس، وبتعجب :
-أيوه يا خالتي..
رفعت "بدرية" يدها؛ لكي يلتزم الصمت، وبهمس:
- عاوزه اتكلم معاك.
تعجب بعض الشيء من همسها، ليفتح الباب، ويفسح لها مجالًا للدخول، مُردفًا :
-هعملك حاجه تشربيها...
بنفي قاطع :
-لا... تعالي عاوزه اتكلم معاك قبل ما حد يجي...
تحلى بالصمت، رغم التعجب المُنتشر في الأجواء، ليجلس على كرسي المائدة بجوارها، وبترقب :
-خير يا خالتي...
شعرت بجفاف حلقها، وتلاشت الكلِمات من رأسها، لتبدأ بتعثُر :
-عاوزك تسامحني....
تعجب، ذهول، بلاهة والكثير ممن يصدمهُ سؤلًا ويعجز عن الإجابة، وببسمة :
-اسامحك على ايه بس يا خالتي؟... هو في زيك كفايا الي عملتيه معايا زمان..
غز الدمع عينها، وتحركت يدها لتربت على يدهُ الموضوعة على المائدة بحنان فطري :
-عشان.... لتمنع عن الاكمال، وتُفجر قنبُلة بوجه.... هديك دهبي كلوا، بس بشرط تسامحني وتسامح ولادي في الي عملوا عمك...
لم يعرف بماذا يُجيب، ولكنه رفع يداها وقبلها بعطف وحنان :
-يا خالتي أنتِ و"رامي" و "مريم" بعيد عن حسابتي مع عمي، متشيليش نفسك ذنب أنتِ مش طرف فيه...
ببكاء :
-طرف يا بني بسكوتي، و.... كادت أن تُخبرهُ أنها تأكدت بالأمس أن القدير سيُعاقبها على صمتها، عندما تأكدت من خيانة زوجها، فخشيت أن تلحق لعنة المال أولادها... يابني...
بصرامة :
-خلي دهبك معاكي أنا مسامح في حقي من سنين...
-ريح قلبي وخد الدهب، عشان... لتنقطع الكلمات...
حرك رأسهُ بنفي صريح، وقبل يداها بامتنان، ليُراقب تحرُكها نحو الخارج، واليقين يصدع بعقله بتأكيد ما أراد....
"لا نحتاج سوي صفعة، تُعيد لنا رُشدنا المفقود في غيابات الأمس

بدل ماتدور وتبحث علي الروايات خليها علي تليفونك وحمل تطبيقنا

تحميل تطبيق سكيرهوم
تعليقات



حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-