رواية عبق الفراشة (الفراشة البيضاء 2)(الخاتمة) بقلم سارة نيل




رواية عبق الفراشة (الفراشة البيضاء2)(الخاتمة) بقلم سارة نيل 






 نوفيلا "عبق الفراشة" 
الفراشة البيضاء 2
====================

[الـــــخـــــــــاتــمة]

هبطت الدرج بتكاسل بينما عقلها شارد فيما حدث بينها وبين والدتها بالأمس حينما سألتها بشكل صريح وأخبرتها أن تخبرها بالحقيقة وهل هناك شيءٌ بينها وبين عمّار..
جنّ جنونها من هذا الخاطر الذي وقع بعقل والدتها وأخذت تخبرها كل الحقيقة وتقصّ عليها ما وأدته بقلبها منذ سنوات، وتعهدتها أن هذا الأمر لن يتكرر وأنها أزالت هذا الأمر من داخلها..
إنها تكذب وتعلم هذا، لكن نظرات والدتها كان تحمل شيئًا أخر لا تعلم ما هو!
تنهدت بثقل وجاءت ترفع رأسها بينما تخرج من مدخل البناية لتتصادف وللمرة الأولى بعمّار..
يا الله سنتان كانت تدعوا أن يلتقيا ولو صدفةً والآن خرج أمامها..
أخفضت رأسها أرضًا ومرت أمامه وكأنها لم ترى شيء لكن أوقفها قوله بتهكم:-
- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته يا دكتورة إسراء.

أغمضت أعينها بنفاذ صبر وهي تُمسك لسانها أن يُلقي بشواظٍ من نار، هدرت بهدوء ظاهري:-
- خير يا سعادة الضابط في حاجة.!

تعجب من عدم تعليقها على 'إسراء'، فقال لها وهو يغضّ بصره:-
- شكلك راحه شغلك .. أنا كمان طالع تعالِ أوصلك في طريقي..

رمقته بنظرة سعيرية ورفعت زاوية فمها بتهكم تقول قبل أن تُكمل سيرها وترحل:-
- مش عايزين النهاردة متشكرين يا أسطى عطوة..

فغر فاهه بصدمة وهو ينظر لأثرها مصعوقًا، فتبًا للسانها الذي يُسقط جمرًا..
ردد بذهول:-
- أسطى عطوة!!!!!

                ***********************

كانت بحاجة مُلّحة للإختلاء بنفسها، تريد الفرار والسكون خلف باب غرفتها، تلك الكلمات جعلتها تنفصل عن واقعها، لاذت بالفرار إلى غرفتها ولم تهتم بالرجل والمرأة اللذان كانوا يُطالعونها باهتمامٍ جلي..
استندت على باب الغرفة وصدرها يعلو ويهبط تشعر أن الهواء يأبى ضرب رئتيها..
رفعت كفها تُطبطب فوق موضع قلبها ثم لفت ذراعيها حول نفسها وسقطت خلف الباب تشهق بألم وقد انسابت دموعها في وجع..
لماذا تشعر بهذا العجز الآن؟
لماذا كلما تقدمت أميالًا للأمام عادت آلاف الخطوات للخلف؟!
هل يُقارعها السقوط مترقبها؟!
الآن تشعر بقيود تُكبلها، هناك أشياء لا تعلم كنهها تجسم فوق قلبها..
ماذا تفعل!!

عَلا صوت بكاءها وقد حاق بها الضعف مرةً أخرى، قالت بحرقة من بين شهقاتها:-
- أنا كنت بدأت أكون كويسة ... ليه كدا .. مش عايزين يسبوني في حالي..
كل إللي أنا عيزاه إن الصفحة دي تتقفل للأبد يارب، أنا مش عايزه أتوجع تاني يارب، مش هكذب عليك ولا على نفسي أنا بقيت مش أثق في أي مخلوق..
أنا بخاف من الناس وأسلم حلّ إن أتجنبهم..

قلبها حسير له نصيبٌ دائم من عذابٍ وبيلًا، أي حيف قامت به ليكون هذا الويل جزاءها!!
عمّ سكون مهيب على المكان إلا من صوت شهقاتها التي تمزق القلب...

- ليلى ... ليلى .. إلحقيني يا ليلى..

كان هذا صراخ رحمة التي ولجت للمنزل في حالةٍ مرزية، فُزعت ليلى ووثبت قائمة وهي تمسح وجهها مسرعة ثم ركضت تخرج بقلق قابعًا في عينيها لأجل رحمة.
جزعت حين رأت هيئة رحمة المُبعثرة..
اسندتها بحذر متسائلة بخوف:-
- في أيه يا رحمة .. مالك أيه إللي حصل؟!

بالكاد أخرجت الكلمات من حلقها الذي جفّ من خوفها وقالت من بين شهقات الباكية:-
- مازن يا ليلى... مازن ... اخدوه .. بيقولوا إن هو مجرم وإنه ورا كل إللي بيحصل..
مازن مش كدا يا ليلى وعمره ما يفكر يعمل كدا..
أنا واثقة فيه يا ليلى واثقة فيه .. مستحيل مازن يبيع نفسه وبلده ويبيع حُبنا..

في غمرة ما هم به لكنها صمتت شادرة وهي تحسد رحمة على ما هي به..
يا لحُسن حظها تستطيع أن تثق..
تستطيع أن تُطلق العنان لقلبها ومشاعرها...
هي لم تُخدع حتى لو كان على سبيل الحماية والنفع..
لم تُخدع مثلها..
يا لطيف، هل سأصبح حاسدة، ناقمة؟!!

أفاقت من شرودها وهي تصرف تلك المشاعر بعيدًا، نظرت لرحمة التي تنهار باكية بينما وقف والدها يُهدئها وهذان الغريبان يراقبان الاجواء في هدوء..
- إهدي يا رحمة إهدي يا بنتي .. كل حاجة هتتحل ومازن هيطلع بخير ومفيش حاجة هتضره إحنا كلنا واثقين فيه، أزمة وهتمر يا رحمة..

قالت برجاء من بين بكاءها:-
- لازم أروحله يا عمو إبراهيم ... عايزة أشوف مازن وأقف جمبه..

- أكيد يا رحمة هنروح .. يلا يا بنتي أنا معاكِ وأكيد أهل البلد كلهم هيبقوا مع مازن، مش هنسيبه أبدًا..

مسحت دموعها وقالت بلهفة:-
- يلا يلا لازم أروحله دلوقتي، يلا يا عمو إبراهيم..

قالت ليلى بإصرار:-
- يلا أنا هاجي معاكِ يا رحمة مش هسيبك..

جاءوا يرحلون فتذكر والد ليلى والدي عامر فقال معتذرًا:-
- بعتذر منكم .. ابننا مازن في أزمة كبيرة، بيتهموه إن هو إللي اتسبب لعامر في إللي حصل..
إحنا لازم نروح مركز الشرطة..

قالت والدة عامر بلهفة:-
- إحنا كمان كنا هنروح أنا والحاج عبد الله .. عايزة أطمن على عامر..

التفتت إليها ليلى مسرعة وقلبها يجأر عاليًا ترصد عينيها ملامحها الهادئة التي ذكرتها به، ليتكلم والدها مسرعًا مفسرًا:-
- والد ووالدة عامر..

                  ***********************

كان لابد أن يُنهي هذا الأمر بنفسه، يجب أن يتخلص من هذا الذي يُمثل عقبة بطريق حبه..
سار بهدوء بممر المشفى بعدما علم رقم الغرفة التي يقبع بها، يغطي رأسه بغطاء السترة وفوق فمه وأنفه قناع طبي..
ولج للغرفة مسرعًا ليبتسم بخبث حين وجد ضالته، راقدًا مواليًا ظهره للباب، رفع إبرة طبية بها مادة شفافة صفراء .. مجرد ملليمترات ستحقق له مراده وتُريحه من تلك العقبة...
عامر ... بلاءه الأعظم.!
اقترب منه بهدوء وحذر وهو يرفع الإبرة قاصدًا غرزها داخل المحلول، لكنه تسمرّ بأرضه حينما تسرّب لأسماعه أسوء كوابيسه..

- أخيرًا يا حــــــــســـــــــان، كنت شاكك فيك من البداية والله يا عمّ..

                ************************

جلس مازن أمام عمّار يبتسم له بهدوء ليقول عمّار بحذر:-
- مش لازم حدّ يعرف الموضوع ده يا مازن، لازم نكمل في خطتنا؛ علشان مفيش معلومات تتسرب مش عارفين الخونه فين ومين..

حرك مازن رأسه بإيجاب وهتف بجدية:-
- متقلقش يا عمّار باشا، أنا كان لازم أتصرف بعد ما شكيت فيه وبقالي مدة طويلة براقبه في السرّ..
بس كنت عارفة من أسبوع إن هو بدأ يشك فيا وكشفني، وعلشان كدا حب يتخلص مني في إن يرميني في طريق عامر ويخلي الراجل بتاعه يذكر اسمي ودي كانت خطتنا علشان يخرج من جحره ويفكر إن هو كدا اتخلص مني والموضوع إنتهى...
كانت خطوة حلوة إن نسحب عامر من المستشفى بكل سرية وسيطرتوا على الراجل إللي تبعه في السجن..

ابتسم له مازن بإمتنان وقال:-
- إنت راجل يا مازن .. لولاك ولولا مساعدتك دي مكوناش عرفنا المجرم الحقيقي وكان عامر إتأذى..
ولولا مساعدة عامر والخطة إللي عملها كانت ليلى اتأذت هي ووالدها..

- الحمد لله يا عمّار باشا ... أظن كدا عامر بريء..

قال عمّار بفرحة تنبض بها حروفه:-
- عامر بريء أصلًا من البداية يا مازن، كدا هو قانونًا بريء وياخد إخلاء سبيل، بس القضية هتتحول للمحكمة وهيكون شاهد وإنت كمان..

تنحنح مازن وقال بإحترام:-
- ياريت كل ضباط الشرطة زيك وعندهم نفس ضميرك كدا عمار باشا، الله يباركلك ويوفقك ويعلي مراتبك يارب، لولا إخلاصك وتفهمك كنت روحت أنا وعامر ضحية للعبة قذرة زي دي..

- دوركم كان الأهم يا مازن، والتوفيق من الله؛ لأن أنا واثق دايمًا إن ربنا مش هيضيع مظلوم..  
شغلنا صعب يا مازن، أقل غلط بيضيع أُسرّ وبنشترك في الظلم..

وأثناء حديثهم تنائ لسمعهم ضجة في الخارج وعمّ الهرج المكان..
وبعد دقائق ولج العسكري بعدما طرق الباب، ثم قال بإحترام:-
- عمّار باشا مرات مازن وأهله عايزين يقابله .. كمان أهل عامر برا عايزن يطمنوا عليه..

حلّق قلب مازن وغرق في هيامٍ عندما علم بوجودها، ابتسم بحب وهو يتسائل، هل يا ترى ستشكك فيه أم ستثق به؟!
ابتسم عمّار ولا يدري لماذا شعر بالغبطة لوجود أهل عامر..
قال بصوت رخيم:-
- خرّج عامر يا ابني واديله خبر بوجود أهله، قولهم يتفضلوا..

وبسرعة البرق كانت رحمة تقتحم الغرفة ودموعها تسبقها .. وقفت أمام مازن الذي وقف يتأكلها بعينيه، ارتمت بأحضانه برعب تطمئن قلبها أنه بخير..
قالت بصوت متقطع من البكاء تحت أنظار ليلى التي بقت تشاهد الموقف بصمتٍ مُريب وقلبها يأنّ وجعًا..
- مازن .. حبيبي، أنا واثقة فيك عارفة إنك معملتش حاجة وإن إنت بريء .. أنا واثقة فيك يا مازن وصدقني أزمة وهتمرّ .. أنا معاك ومش هسيبك أبدًا وواثقة إن ربنا هيخرجك منها يا مازن..

أغمضت ليلى أعينها تحاول أن تخني هذا الشعور السيء الذي يراودها، همست بداخلها:-
- إهدي يا ليلى ... هيمرّ دا كله .. متخافيش هنرجع البيت ونبدأ من أول وجديد، هتعالجي نفسك من كل الكسر ده متنسيش إنك معاكِ ربنا وإن في خطط كبيرة مستنياكِ...

تأملت والدة رحمة التي إحتضنت ابنتها تواسيها، لتُكمل داخلها بتمني وتحسُّر:-
- ياريتك كنتِ معايا يا ماما ياريتك كنتِ موجوده جمبي، ولا إنتِ يا وردة ياريتك كنتِ جمب بنتك ليلى..
ليه سيبتوني لواحدي، كنت هحكيلك كل إللي في قلبي يا ماما ... أكيد كنتِ هتفهمني صحّ..

طالعتها والدة عامر بحنان وهي تقرأ ما بداخلها بوضوح، تعلّم أن ما تمرّ به ليس بالهيّن، لقد أخبرها عامر كم أنها رقيقة .. أخبرها ما كانت تعانيه وهو لم يجرحها إلا بأنقاب الجُرح القديم ... فكانت الضربة لها بمقتل حتى لو علمت أنه بريء..!

اعتزلت ليلى الجميع واكتفت بالصمت والمشاهدة فقط من أقاصي الغرفة، أخفضت أعينها أرضًا وهي تواجه حرب شعواء داخلها..
تفكر كيف ستخرج من تلك القوقعة الجديدة، وكيف ستطبب جروحها وتمحي أثرها، تنهدت بثقل بينما تشعر بدوار طفيف يداهمها وضيق بتنفسها..
وفي تلك اللحظة جاءت ترفع رأسها لتشعر أن الأرض تهتز من تحت قدميها حين وقعت أنظارها عليه..
أمّا عامر فلم يدرك ما يراه، ظنّ أنها واحدة من هلوساته بها ... اقترب يدقق النظر ولم يبالي بنداء الجميع له...
حقًا هي .. ليلاه .. هل أتت لأجله، هل علمت الحقيقة وجاءت مسامحة له على حماقته؟!
لكن ما هذا؟!
ما هذه الحالة الراهنة التي عليها حبيبته ليلى، لماذا هي حزينة متكاسف عليها الهمّ بتلك الطريقة..
ما هذا الإنهزام، لماذا غاض منبع النور من وجهها؟!
هناك دموعٌ جامدة .. يقسم أنه يراها بكل وضوح..
ما هذه الحالة التي تُدمي قلبه العاشق الواله، تلك الحالة تؤذيه وتقتل قلبه ألا تعلم هذا!!!
أخفضت أنظارها بعدما رشقته بنظرة تحمل كل معانِ الحسرة والخذلان والضعف..
ليتها خمشت خنجرٌ مسموم داخل قلبه ولا رمته بتلك النظرة التي أخبرته أن ليلى انتقلت إلى مرحلة مُخيفة..
كتمان أوجاعها والإكتفاء بذاتها...
لقد انزوت في كنف نفسها..

أفاق على صوت والدته الملهوف التي أخذت تتحسس جرحه وتتسائل:-
- عامر حبيبي إنت كويس، في حاجة وجعاك..

ودّ أن يصرخ بأن قلبه من يفتك به ألمًا لكنه اكتفى بإبتسامة فاترة وهو ينظر حيث ليلى وبوجع قال:-
- أنا بخير يا أمي متقلقيش..

أمّا بزاوية أخرى كان عبد الله الذي أخذ ينظر لعمّار نظرات دامعة تحمل إشتياق وفرحة وعدم تصديق..
ينتظر الوقت المناسب ليصرخ للجميع أنه ولده المفقود.

لاحظ عمّار نظراته الحانية ليشعر بالتوتر والتعجب لكنه تجاهل هذا الأمر وأجلى صوته الذي طغت عليه السعادة يقول:-
- عندي لكم خبر أكيد هيفرحكم كلكم..
عامر أخد إخلاء سبيل .. عامر بريء من كل التهم إللي اتوجهت ليه .. وهيكون شاهد في المحكمة وبس..
ألف مبروك يا عامر .. إنت بريء من أول دقيقة بس إنت عارف كان لازم يحصل كدا..

عمّ المكان بالفرحة واندمج الجميع .. والدة ووالد عامر الّذين أخذوا يعانقوه بسعادة، ومازن الذي تظاهر بالبرود وظلّ بأطراف الغرفة يتجاذب أطراف الحديث مع رحمة ويُهدّأ من روعها.
وإبراهيم الذي اقترب من عامر يحتضنه شاكرًا له معروفه وصدقه وتضحيته...

لتبقى ليلى بمفردها في أحد زوايا الغرفة متكبكبة في تساؤلاتها العديدة..
هل تسعد أنه صادق في حبها ولم يكن بخائن؟! 
أم تحزن على ما عايشته من جروح تجددت بفعل تلك اللُعبة؟!
لكن الأهم، كيف ستتجاوز ما تشعر به الآن.؟!

شعرت أنها مجرد فضله في هذه الغرفة مجرد زيادة غنية عن الإستخدام، تحركت تنسحب من بينهم بهدوء تحت نظرات عامر المتألمة..
نظر لإبراهيم برجاء يقول:-
- أعمل أيه يا عمي..

تنهد إبراهيم وتشدق بهدوء:-
- اصبر يا عامر .. اصبر على ليلى ... صدقتي هي مرت بتجارب سيئة جدًا وظروف صعبة وإللي حصل مكانش بسيط بالنسبة لها..
هي كانت عطيتك الأمان بعد رحلة خذلان طويلة ورجعت إنك وجعتها في نفس مكان جرحها..

قال عامر برجاء مسرعًا بما صدم الجميع:-
- عمّ إبراهيم جوزني ليلى .. جوزني ليلى وأنا هعالج كل جروحها وهطيب أوجعها.

               *************************

- نعم إنتِ بتقولي أيه يا ماما!!

رمقتها والدتها بهدوء وقالت:-
- زي ما سمعتي يا سرّاء .. عمّار طلب إيدك مني....

امتقع وجهها بالحيرة، والتساؤلات تُغرق عقلها فبثّت لوالدتها:-
- إزاي يا ماما .. يعني مش فاهمة، هو كدا فجأة من غير مقدمات .. بصراحة إنتِ صدمتيني..

داخلها تحمد الله على فضله، هي ابنتها الوحيدة وما تبقى لها في هذه الحياة بعد وفاة زوجها، لا تُريد لقلبها أن ينكسر أو تحزن، كم كان يقضّ مضجعها مستقبل ابنتها!! تخشى عليها..
بعد علمها بالحب الصامت الذي سكن قلب ابنتها منذ عامان، ماذا لو لم تحدث تلك المشكلة التي وقعت بها ليأتي خلفها فرحةٌ كبيرة..

سقطت دموع سرّاء وهي تهمس بعدم تصديق وعَنَّ لها ما في الأمر:-
- تعرفي يا ماما .. أنا كتمت الحب ده في قلبي سنتين، سنتين يا ماما بحارب فيهم نفسي، بدعي ربنا كل يوم إن يشيل الحب ده من قلبها وإن معملش أي حاجة تغضبه، كنت خايفة الحب ده يأذيني ويضيع عليا ديني، كنت مرعوبة يا ماما وكنت موجوعة .. موجوعة من الكتمان، والصبر هو إللي كان قدامي وكان علاجي الدعاء، كنت بدعي ربنا يشيل الحب ده من جوا قلبي ويساعدني أتخطى كل الوجع ده..
سنتين محاولتش حتى إن أظهر نفسي قدامه ولا ألفت نظره..
بس لما سامية عرفتني بالخطة بتاعة المجرمين دول، مش عارفة الموضوع جه في دماغي إزاي وقولت بلاش أتدخل وأسيب الأمور تمشي على حسب ما هما مخططين لعلّ وعسى أتصادف معاه، مع إنّي كنت شاكه إن الموضوع ينجح وبالذات لما ظابط تاني حقق معايا ولقيت الموضوع دخل في الجد، ساعتها الموضوع أنا شلته من بالي وقولت خلاص كدا كفاية ولازم أرضى إن هو مش نصيبي وأشيله من قلبي .. وكنت ناوية أسافر وأبعد عن هنا خالص..
بس بعد كدا ماحسيتش إلا وأنا قدامه ومش عارفة إزاي، وبعدين رجعت غلطت نفسي إن عملت كدا، كان المفروض من الأول وقفت المجرمين دول عند حدهم بس هما كان لازم يتعاقبوا على إجرامهم..
مش عارفة يا أمي بس بعد وصلت عند الظابط الأول كنت نسيت الموضوع وتركته لله ولأجل الله، ومن هنا كل حاجة كانت بترتيب المولى عزّ وجل..
حقيقي يا أمي من ترك شيئًا لله عوضه الله بخيرٍ منه..
أنا مش عارفة هو ليه طلب إيدي وبالسرعة دي .. بس أنا واثقة إن دا كله من ترتيب الملك..

جذبتها سُها لأحضانها بحنان وهي تُمسد فوق جسدها ورأسها بحماية وهمست بأعين ممتلئة بالدموع:-
- دا كله مخبياه جوا قلبك يا سرّاء وأنا معرفش عنه حاجة، أنا بدعي إن أبدًا متتوجعيش يا بنتي..
أنا واثقة إن ربنا مش هيخذلنا أبدًا وهيفضل معانا مش هيسبنا .. ربنا عوضك يا سرّاء وجبر بقلبك..
عمّار شاب كويس ومحترم وعلى أخلاق ودين، أنا سألت عنه كذا حدّ وقالوا كلام كويس في حقه..
وأنا قولت لخالك الموضوع وبيسأل عنه، وهو منتظر مننا ميعاد..
إنتِ صلي إستخارة كدا وفكري، ولما هتقعدي معاه أكيد هيقولك أسبابه وهتعرفيه أكتر..

- حاضر يا ماما..

                 ***********************

بعد أن عاث في هذه الأرض فسادًا يجلس بكل بجاحة أمامهم، عشر سنوات ينهب بخيرات البلاد وأملاك الدولة دون رقيب، عشرات السطو التي هطلت على المتاحف بكافة الأرجاء والآن أصبح في قبضة الشرطة..
يجلس يضع قدمًا فوق أخرى بكل تبجح أثار حنق وغضب عمّار..

- منور يا حسان، دوختنا يا أخي وغلبنا تلونك زي الحرباية كدا..

رفع حسان أحد حاجبيه وقال معترفًا بتبجح أكثر:-
- لو عاد بيا الزمن هعملها مرة واتنين وعشرة..
دا كله من حقي .. أنا أولى بخير بلدي، ولو قدامي الكلب إللي اسمه عامر ده هقتله وهخلص عليه وأطلع روحه في إيدي؛ علشان ليلى من حقي أنا، وهتبقى ليا أنا، هو مين يعني علشان يرفع عينه على حبيبتي ويتجرأ ويخطبها كمان..

تلاعب عمّار بالقلم بين أصابعه وأردف بسخرية مُقطبًا ما بين حاجبيه:-
- دا إنت متفاخر بقا بإنجازاتك يا حسان..

قال بغرور أعمى:-
- مش هتقدر تعمل فيا حاجة يا باشا، ولا هتقدر تثبت عليا أي حاجة..

عاد عمّار يستند على ظهر المقعد بإسترخاء وقلب شفتيه وهو يقول بنبرة ثابتة هادئة:-
- بس الإثباتات عندنا يا حسان مش لسه هدور عليها، إحنا متابعينك من فترة يا حسان..
يعني تقدر تقول الراجل بتاعك إللي كان في السجن اعترف بكل حاجة..
والمغارة إللي فيها الأثار المسروقة بقت تحت حوزتنا، وتسجيل لخروجك ودخولك لها..
وعرض مُغري بتخفيف عقوبة جمال وكلابه اعترفوا..
بالإضافة لِعترافك قدامي دلوقتي!!

لقد زلّت قدمه بعد ثباتها ونجحوا في إيقاعه في الفخّ، ثار ووقف بغضب بعدما وقع صريعًا بين مخالب الصدمة، صاح بصوتٍ مرتفع:-
- إنتوا متعرفونيش لسه، أنا محدش يقدر يمسّ ليا طرف، ولا يهمني لا الشرطة ولا الحكومة..
محدش هيقدر ياخد ليلى مني لو راحت لأخر العالم..
أنا ورايا ناس كبيرة أووي يا باشا وكلها ساعات وهبقى برا وهتشوف..

لم يهتزّ ساكنًا لعمّار بل ردد بنفس هدوءه الثلجي:-
- السجن رحمة لك يا حسان عن برا، إنت تعرف إن أهل البلد كلهم برا منتظرينك ومش أنا إللي هقولك هيعملوا أيه .. وبعدين ليلى رفضتك مرة على حسب ما سمعت وأكيد لما عرفتك على حقيقتك مش هتقبل حتى تسمع اسمك..

وأشار للعسكري آمرًا:-
- خده يا ابني..

- والدته برا يا باشا عايزه تشوفه..

- سيبها تكلمه..

خرج العسكري يسحبه بعدما وضع القيود بيده لتقابله والدته في الخارج، قال بلهفة:-
- أمي ....

قطع جملته صفعة عاتية سقطت على وجنته تردد صداها بالأجواء ومن ثَمَ باغتته بأخرى بجهدها كله، ثم هدرت وهي ترمقه بنظرات مشمئزة:-
- إياك تقولها تاني، أنا متبرية منك ليوم الدين، معنديش ابن اسمه حسان من هنا ورايح، وإنت اعتبر أمك ماتت..
إللي يخون بلده ملهوش مكان في بيتي ولا بين أولادي.

ورحلت بعدما هوت به كلماتها إلى قعر الجحيم، حيث لم يعد شيء يُغني ولا يُسمن من جوع..
لقد إنتهى كل شيء .. هُنا خط النهاية..

انتشرت الأخبار بأن الرائد عمّار نجح في القبض على ناهب الأثار ومفتعل عمليات السطو بأرض أسوان الذي لطالما عجز الكثير عن السيطرة عليهم، وبسرعة البرق تمت ترقية عمّار من رائد لرُتبة مُقدم...

سجد عمّار حمدًا وشكرًا لله، ثم رفع رأسه للسماء وقال:-
- اللهم لك الحمد يا الله، كله بفضلك لولاك مكونتش أبدًا وصلت للي وصلتله، خليك معايا .. خليك الصاحب ليا في الحياة علشان أخلص المظلومين من الظلم ومنجرفش في ظلم عبادك..
الحمد لله حمدًا يليق بجلال وجهك وعظيم سلطانك..
ياريت أهلي كانوا موجودين معايا، أبويا كان هيبقى فخور بيا وأمي كانت هتفرح أوي..

ثم واصل حديثه بأمل:-
- عندي إحساس قوي بيقولي إنك هتجبرني وتجمعني بيهم قريب أووي، عندي أمل كبير رغم محاولات البحث إللي فشلت فيها..

ثم بسط سجادة الصلاة وأخذ يؤدي ركعتين شكر لله على ما أعطاه ووفقه..

ابتسم مازن وهو يُقْبل على أهل بلدته ووالديه ورحمة ووالديها .. الجميع استقبلوه بسعادة وحفاوة، وسعادتهم تكاد أن تعانق كبِد السماء..
كان درسًا صغيرًا لِرحمة علمها الكثير وجعلها ترى مازن بشكل أخر، ومازن الذي وثق من حب رحمة له وثقتها به..

تنهد براحة وطالعها بعشق ثم طبع قُبلة فوق جبينها وهمس:-
- شفيتي قلبي من الحيرة يا حلو، بحبك يا رومانتي.

                  *********************

- واخدنا ورايحين فين يا حاج..

تسائلت صفاء بعدما التزمت الصمت طوال الطريق إلى أن وقفوا أمام أحد البنايات الشاهقة بصحبة زوجها وولدها عامر الشارد بعيدًا..

نظر لها عبد الله بفرحة دامعة وقال:-
- هنقابل شخص بندور عليه من زمن، هنتعرف على شخص غالي علينا..

تعجبت صفاء وهي تتسائل داخلها من هذا الشخص، سحبها عبد الله برفق حتى أصبحوا داخل المصعد..
وبعد قليل كانوا أمام أحد الشقق..
تصاعد همزها مع عامر وهي تستفهم منه بفضول:-
- إنت تعرف مين ده.؟!

نفى عامر وقد أثار الأمر فضوله بينما تصاعد نبض قلبه ولا يعلم لماذا..
- مش عارف والله يا صفصف، بس صبرًا هنعرف دلوقتي..

عبست في قلق والفضول يفتك بها، لكن بعد عدة طرقات هادئة من عبد الله وقرع جرس الباب، تبين أمامهم الشخص المجهول ... عمّار..
اندهش عامر في البداية لكنه اعتقد أن والده أتى بهم إلى هُنا لأجل شكره، كما تحيّر عمّار عندما رأهم وارتفعت وتيرة نبضات قلبه لكنه اعتقد أنهم أتوا لشكره..

أمّا صفاء فكان هناك واردٌ داخلها وشك كبِر رُقعته وشيء فشيء يتحول ليقين وهي ترى وجه زوجها الذي يشعّ منه النور وسعادة تراها للمرة الأولى بعد زمنٍ طويل..

تنحنح عمّار في خشونة وافترّ ثغره عن إبتسامة هادئة وأسرع يقول:- 
- اتفضلوا نورتوني .. اتفضل يا عامر .. 

ابتسم له عامر وولجوا للداخل بصمت، وقفوا بالردهة الواسعة ليُشير لهم عمّار بترحاب حيث غرفة الجلوس لكنّ عامر وقف مندهشًا وظلّ ينظر إلى عمّار طويلًا في تفحص، اقترب منه باستمهال تحت دهشة عمّار الذي نهج صدره من التوتر، وجاهد ليحافظ على إنتظام أنفاسه، وتحت إبتسامة عبد الله المترقبة وقد أصبح يفقه ما يدور .. هذا طبيعي فإنهم أخوة .. وليس هذا فقط بل توأم..
دنى منه عامر ومدّ يده نحو عُنقه حيث هذه العلامة المُميزة والذي يمتلك شبيهتها بعنقه، أبعد خصلات عمّار الذي تفهم ما يحدث وسبب دهشة عامر..
نظر له عمّار وأخبره:-
- أيوا عندنا نفس العلامة زي الوحمة، أنا بردوه أخدت بالي من بتاعتك لما كنت في المستشفى..
فعلًا يا محاسن الصدف..

رد عبد الله مسرعًا:-
- لا يا عمّار مش صُدف..

كرمش جبهته بتسائل وقال:-
- قصدك أيه مش فاهم؟!

مدّ يده له بالمظروف وأخبره متنهدًا:-
- أكيد إنت سمعت جمال قال أيه، أنا كان عندي ولدين توأم..

نظر لعامر وقال:-
- عامر..

ثم وجه أنظاره لعمّار وقال:-
- وعمّار..

توسعت أنظار عمّار وشعر أن العالم يدور من حوله وهو يستمع لحديث عبد الله:-
- جمال طول عمره مش بيحبني ودا إللي خلاه عايز يتخلص من ولادي الأثنين علشان هو كانت خلفته كلها بنات، أخد واحد من ولادي وتواه ومن يومها اختفى ابني عمّار .. ومبقاش ليا ألا عامر..
أظنك فهمت أنا أقصد أيه يا ابني..

وأكمل بأعين دامعة وهو يرى الصدمة التي تجري على وجه عمّار والذي تسابقت الدموع من مقلتيه وهو يوزع أنظاره بينهم وبين تحليل الحمض النووي (DNA).
- أظن إنت حسيت جواك بحاجة ناحية عامر، ودا طبيعي لأنكم روح واحدة في جسمين..
أنا حسيت بيك وشكيت من أول ما شوفتك علشان كدا عملت التحليل علشان أتأكد..
أيوا يا ابني إنت ابني إللي أخدوه مني..
إنت توأم عامر .. عامر أخوك .. وصفاء أمك..
دورنا عليك كتير أووي يا عمّار .. أنا وأمك اتعذبنا كتير أووي يا ابني..

سقط عمّار على ركبتيه وعَلَا صوت بكاءه يملئ المكان ولم يكن هناك أحد أقل منه فقد سقط عبد الله أمامه وجذبه بأحضانه وأطبق عليه بشدة وبدون أدنى تردد كان عمّار يرفع ذراعيه ويلفهم حول والده، ينعم بعناق من والده لمرته الأولى..!
ما هذا الشعور؟!
لقد كان ذا يقين .. كان يعلم أنه سيلتقي بهم يومًا ما..
اقتربت صفاء وجلست على ركبتيها وهي تتأمله عن قُرب ... هل يُخيب ظنّ الأم يومًا؟!
هل يُخطئ إحساس الأم بتاتًا؟!
هل لها ألا تتعرف على فلذة كبدها..؟!!

ابتلع عمّار ريقه وقلبه يجأر بمشاعر تمنّاها يومًا ما، رفعت كفيها المرتعشة تتحسس وجهه بدموع حارة ثم هبطت تتحسس كتفيه وأعينها متعلقه بملامحه لتسقط كل حصونها عندنا قال عمّار:-
- أمي...

كانت شهقاتها تمزق أنياط القلوب عندما جذبته بأحضانها بلهفة وحنان ودفء.

- ابني .. يا نور عيني يا حبيبي، حرموني من ريحتك يا عمّار .. حرموني منك يا روح أمك وبعدوك عني..
كريم أووي يارب .. كريم أووي وقادر على كل شيء يارب..

مرت عشرون دقيقة ولم تبتعد صفاء عن عمّار بقت متشبثة به تبكي وتُردد الحمد ...تشتم رائحته وتُقبل رأسه ووجه بحنان..
اقترب منها زوجها يدعمها يحاول إبعادها عندما شعر أن روحها تكاد أن تخرج من كثرة البكاء..

استقام عمّار ووقف أمام عامر المتصنم الذي لم يُحرك ساكنًا ... ابتسم له بشوق ثم قال:-
- عامر .. أخويا .. أنا ليا أخ...

ثم ارتمى بأحضانه وقد انتهى أخيرًا السجال العنيف الذي يقام بضراوة في وديان روحه، التحم قلوب الأخوة وصفارات ووجيب دقات القلب تدوي كالرعد..
شعر عامر أن دوامة تسحبه نحوها .. أن هناك قوة أعتى منه ومن إرادته..
أطبق على عمّار بشدة وهنا أُغلقت الحلقة التي كانت دائمًا ناقصة حتى في روح عامر..
همس عامر بألم ودموعه التي سقطت على كتف عمّار:-
- أنا لقيت سندي..

                  **********************

بعد مرور أسبوع..

- لا يا بابا إنت مش هتعمل معايا كدا..

تماسك إبراهيم بالكاد فهذا يجب أن يحدث لكسر تلك الهالة التي أحاطت بها نفسها، لتتماثل الشفاء وتواجه الجميع وقبلهم نفسها .. هذا هو الحلّ الأمثل..
رسم على وجهه الجدية والقسوة ثم هتف بحسم:-
- هتتجوزي عامر يا ليلى .. جهزي نفسك أهل عامر برا والمأذون على الطريق .. حالًا هيكتب عليكِ..

سقطت أمامه بصدمة تُمسك يده وقالت برجاء:-
- لا يا بابا متعملش معايا كدا .. أنا ليلى يا بابا .. ليلى..
إنت كدا هتوجعني أووي يا بابا وهتكسرني..
أنا عمري رفضتلك طلب .. عمري كسرتلك كلمة؟
بس ده لأ يا بابا أنا موجوعة منه...

قبض على كفيه بقوة وقد تمزق قلبه وأضرمت النيران به وهو يراها بتلك الحالة، استدار وتسائل بجمود:-
- هتكسري كلمتي يا ليلى..؟!

أخفضت رأسها بحزن وتهدلت أكتافها ثم قالت بنبرة خالية من الحياة مسحوبة الإرادة:-
- لأ يا بابا .. إللي تشوفه..

خرج بقلبٍ دامي، لكن بداية طريق الشفاء هكذا تكون مريرة..
وقف أمام عامر بوجه متجهم قائلًا:-
- لو مكونتش عارف إن هو ده إللي هيفوّق ليلى وإن ده الحلّ إنها تثور وتكسر الدنيا وتخرّج كل إللي جواها..
لو مكونتش عارف إن ليلى بتحبك وإنك بتعشق التراب إللي بتمشي عليه ليلى وتتمنى لها الرضا ترضى.. مكونتش أبدًا طولت طرفها ولا لمحتها عينك..

تنهد عامر ثم قال بتأكيد:-
- أنا بوعدك يا عمي إن ليلى هتبقى كويسة وأحسن من الأول كمان .. دا وعد مني..
ليلى جوا عيوني وقلبي يا عمي مش هخذلها أبدًا ولا هوجعها في يوم..

- وليلى متستحقش ألا ده يا عامر.

جلس عمّار ووالده شاهدين للعقد وبعد مرور نصف ساعة وأهل البلدة الّذين اجتمعوا ليباركوا ويهنئوا، ورحمة التي أتت راكضة وهي لا تُصدق ما يحدث، وجاءت تذهب لليلى لكن أوقفها إبراهيم بقوله:-
- رحمة متدخليش لليلى .. خليها لوحدها..

تعجبت رحمة متسائلة ما يحدث؟!
اكتفت بالصمت ووقفت تشاهد الأجواء التي تأكدت أن هناك شيءٌ ما بها..!!

صدح صوت المأذون يقول:-
- بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خير..

اقترب عمّار من عامر وغمز له يقول:-
- ألف مبروك يا باشا العقبى لنا .. يلا محدش قدك..

- الله يباركلك يا أخي مش وقت قرّ يا عمار باشا إنت عارف إللي فيها..

- سكتنا يا عامر باشا..

وهمس بهيام وهو يتذكر سرّاء:-
- كلها أيام وأحصلك أنا وشعنونتي..

وقف أمام غرفتها يرمقها بهيام، لقد أصبحت زوجته لقد اقترن اسمها باسمه للأبد ولا مناص للفرار..
يعلم أن الأتي ليس بهين لكنه سيطيب كل أوجاعها وسيكون لها مأواها..
طرق عدة طرقات خفيفة لكن لا إجابة، فتح الباب بخوف وهو يُقنع عقله أن ليلى لا تفعلها..
تسمرّ بأرضه وهو يراها أمامه، جالسه على طرف فراشها هامدة كما تركها والدها، تلفها هالة من الحزن، لكن بها شيءٌ يختلف عن المرة السابقة التي رأها بها، جامدة فقط..
أغلق الباب بهدوء واقترب منها بقلبٍ عاشق يتأملها بحبٍ حدّ الألم هو رجلٌ عذري القلب، يتذوق كؤوس الحب لمرته الأولى معها، وتُحسن هي التوقيع على شغاف قلبه بجداره، صعّد النظر إليها وصوّبه ليهمس بنبرة تنبض حبًا:-
- فراشتي ... ليلى حياتي..

كان توقع إبراهيم صحيح .. هذه الطريقة الوحيد لجعل ليلى تثور وتخرج من قوقعتها، جرى الغضب بعروقها كالحمم، فاستقامت ثم سارت حتى وقفت أمامه تحت نظراته العاشقة الهائمة المشتاقة لها حدّ الهلاك، لكنه أفاق من تخمة مشاعره على صفعة قوية سقطت على وجنته جعلت أعينه جاحظة..
ظلت ترمقه بغضب جعل صدرها يعلو ويهبط وقد ثارت خصلاتها الغجرية تتطاير حولها فجعلتها في عينيه أكثر فتنة، أقترب منها ولم تتبدل نظراته نحوها، وأشتد إقترابه لتتراجع للخلف لكنه كشط وثبط من تراجعها عندما امتدت ذراعه تلتف حول خصرها وجذبها نحوه حيث أحضانه تحت صدمتها..
ظلت تناضل للفرار تحاول إبعاده لكنها تفاجأت به يرفع يدها ثم أخذ يوزع قبلات كرفرفة الفراشات فوق باطن كفها..
وهمس لها بعشق:-
- صرخي .. اضربي .. ابكي .. وخرجي كل الكبت إللي جواكِ .. بس المهم إنك متسكتيش..
انتقمي من حبيبك عامر على حُبي لكِ وخوفه عليكِ..
حُبه إللي عمى عيونه ... بس أهم حاجة تبكي في حضني وتصرخي في وشي علشان أعالج أنا جروحك وأخدك جوا أحضاني يا نور عيني..

ظلت تضرب صدره بقبضة يدها بقوة وأخيرًا هطلت دموعها ... تركها عامر تبث كل ما تخبئة..
صاحت بقهر وهي تواصل ضربه في محاولة الفكاك منه..
- وجعتني .. إنت خدعتني ولو باسم الحب ... يا مخادع يا خاين .. أبعد عني يا عامر سيبني عايزه أرتاح .. إنت وجعي وحزني .. أنا تعبت يا عامر أنا مبقيتش عارفة أنا فيا أيه .. إنت رميت جوايا أحاسيس وحشه أووي يا عامر..
ليه صحيت جوايا إللي ادفن..
أنا تعبانه .. أنا بس عايزة أعيش مرتاحة..

كانت الكلمات تسقط على قلبه كأسواط من نار تُعذب روحه، حاول السيطرة عليها وهو يضمها إليه بحماية وحنان ليكوّب وجهها يُزيل دموعها برفق ويمسح على خصلاتها وهو يهمس بعذاب:-
- أنا آسف حقك عليا .. خلاص أنا بقيت هنا يا عمري وكل ده هينتهي .. أنا معاكِ يا فراشتي معاكِ وهمحي كل ده من جواكِ وهتعيشي العمر كله في هنا وراحة..
اديني فرصة يا ليلى .. فرصة واحدة يا حبيبتي علشان حُبنا..متقتليش حُبنا كدا يا ليلى وتقتلي عامر معاه..
أنا حاسس بيكِ .. أنا عارف إللي جواكِ...
العذاب إللي جواكِ علشان عايزة تدفني حُبنا وتعزلي نفسك عن الكل .. إنتِ مش كدا بتحمي نفسك يا ليلى، بل بالعكس بتأذيها كتير..
صدقتي مفيش أي حاجة وحشة هتحصل وحقك على قلبي إن خليتك تعيشي نفس التجربة غصب عني..
سيبي قلبك وسيبي نفسك للفرحة يا نور عيوني..
بحبك يا ليلى .. عاشقك يا فراشتي .. سيبي قلبك لعامر..

كانت قد همدت محاولات فرارها ومازلت دموعها تسقط، رفعت رأسها إليه ... عذابها..
حُبه يكوي قلبها وروحها .. تُناضل بقوة ولا طاقة لديها للحزن والمقاومة بعد الآن..
رفع عامر أنامله يمسح دموعها ثم اقترب منها يضع قُبلتان فوق كل عين من عينيها الباكيتان، وقُبلة فوق جبينها وهو يهمس ونار الجوى تحرق روحه:-
- مُبارك عليا إنتِ يا ليلى، إنتِ جنتي بعد صبري يا فراشتي..

ولف ذراعيه يغرزها بأحضانه يكتم شهقاتها بصدره، وهنا سقطت كل حصونها فبالأخير هي عاشقة، وحبيبها يبتغي كل الوسائل إليها وهي بأشد إحتياجها إليه..
أعطته إجابتها لتجعل قلبه يُعانق السحاب حين شعر بذراعيها تلتف حول عنقه تبادله العناق بجسد يرتعش..
أغمض أعينه براحة وهو يهمس بإمتنان:-
- شكرًا يارب على كل شيء .. اللهم لك الحمد يارب، هدتني للطريق وحفظت ليلى وحميتها..

تنهد إبراهيم الذي يقف أمام فرجة الباب براحة وقد نجح في توقعه، قفز من مكانه بفزع حين سمع هذا الصوت من خلفه:-
- مش عارفة والله أيه الخصوصية الجامدة إللي في البيت ده..!!

لم تكن سوى رحمة التي سعدت من أجل صديقتها وعلمت ما حصل معها، رمقها إبراهيم بغيظ وهتف:-
- مش هتبطلي لماضة يا ست رمانة..

- مكونتش أعرف إنك فيك الخصلة دي وبتتصنت على الأبواب وتراقب إللي وراها يا هيما، عمومًا متقلقش مش هقول لحد سرك في بير..

- قدامي يا لمضة .. ولكِ يوم يا ست رمانة، خلاص مازن حدد ميعاد الفرح مع أبوكِ ومفيش أي مجال لتهربك.. الحجج خلصت..

رفعت أنفها عاليًا وهي تقول بعناد:-
- وأخيرًا هنجتمع أنا وميزو تحت سقف واحد دا أنا ماصدقت..

أتسعت أعينه بصدمة وحرك رأسه بعدم فائدة قائلًا:-
- بقى يا بت كدا .. دا إنتوا بكاشين بشكل..!!!..

                  *********************

جلست سرّاء أمام عمّار ترمقه بغيظ وتُحرك قدميها بعصبيه وهي تسأله بحنق:-
- عايز تتجوزني ليه..!

ابتسم بخبث ثم هتف وهو يضع قدمًا فوق الأخرى بينما يرفع كتفيه ويمطّ شفتيه للأمام:-
- والله يا آنسة إسراء تقدري تقولي إن بدور على نصّ ديني وخلاص بقا عايز أتجوز .. يعني عايز أتجوز وبس..

اتقدت النار بمقلتيها واحمرّ وجهها من إجابته الوقحة لتستقيم بغضب وتصيح بحنق:-
- وإحنا معندناش بنات للجواز يا أستاذ إنت، روح شوف أي واحدة قليلة الذوق شبهك أتجوزها..

مازال عمّار على حالته لم يحرك ساكنًا، ثم تشدق بهدوء يحرق الأعصاب:-
- ما بالفعل أنا بعمل كدا، وهدور ليه وإنتِ موجوده!!
ما أنا طالب إيدك علشان كدا.

كانت هناك أبخره تتصاعد من رأس سرّاء من وقاحته وجاءت تُلقي أحجارًا من فمها لكن قد سبقها عمار، وقف ثم سار نحو الباب ورفع صوته يقول:-
- يا حاج .. اطلب المأذون .. زغرودة يا أم إسراء..

جحظت أعينها بصدمة من وقاحته لتهتف بغيظ:-
- وقح..

رفع حاجبيه قائلًا بإبتسامة وديعة:-
- جمع ووفق يا ضكتورة إسراء..

                ************************

- ياريتني ما كنا حددنا الفرح يا رحمة، رجلي معدتش شيلاني، مش معقول كدا بقلنا ست ساعات بنلف لما راسي لفت..

قالها مازن بصوت شبه باكي بينما يحمل عدة حقائب ويسير خلف رحمة التي هتفت بلامبالاة:-
- أعمل أيه يا ميزو ما إنت إللي استعجلت، بص خلاص هانت مش باقي ألا تلت أربع مشاوير بس وهنرجع..

ألقى الحقائب من يده وصاح بغضب وعروق منتفخة:-
- رمانة .. يلا قدامي على البيت ... قدامي، بلاش دلع ماسخ وكلام فاضي ... من غير ولا كلمة قدامي على البيت..

سارت رحمة بنزق وهمس تضرب الأرض بقدميها، ليحمل الحقائب وهو يتمتم بسخط:-
- هديتي حيلي الله يسامحك وأنا داخل على فرح..
رمانة عايزه العضّ صحيح..

                   ********************* 

إبتسامة واسعة، وإشراق وجه، تقف على طرف الوادي حيث من أمامها أحد فروع نهر النيل، الرياح تضرب ثوبها الأبيض الجميل ليتطاير معها..
احتضن ظهرها لصدره ثم وضع يده فوق يدها المُمسكة بخيط الطائرة الورقية التي تُرفرف في السماء الصافية..

قالت بنبرة صافية يشوبها الراحة بعدما ابتعدت تلك الغمامة القاتمة عن حياتها:-
- عامر .. أنا مش عيزاها تقع ... إياك تسيبها..

نظر لها مُطولًا ومازال على حاله ثم همس بعشق:-
- مستحيل أسيبها .. ولا هسمح إنها تقع أبدًا..

أدرات رأسها تنظر له بوجنتين كالشفق ثم ابتسمت ونظرت أمامها بخجل من نظراته، طبع قُبلة فوق وجنتها وهو يمرمغ أنفه فوق حجابها يشتم عبقها، وتابع وهو يمنحها حروفه جوار أنفاسه الحارّة:-
- "تالله سأكون لكِ دومًا درعكِ الحامي، وسأحبك حُبًا يكفينا، وسأكون سّربك في المخاطر، وسأكون سُراجكِ في الظلام، حبيبتي ويا فراشتي وعبقي.."

التفتت له مبتسمة ثم وضعت قُبلة فوق جبينه، وهمست:-
- "أُحبك يا عَامر الفؤاد.."

"...لقد نسج الخوف حولها نسيجًا ثقيلًا من المخاوف وحرّم عليها تمزيقهُ والمرور من فوقه، امتدت يديها لمزعِهُ فاشتد حولها أكثر حتى سقطت في قعر بئرٍ مُعطلة وتكاثرت الظُلمات من حولها، لكنها لم تكن سوى ظُلمة قلبها فقط..
وحين يومٍ هبت ريحٌ عاتية فتفكك نسيجها وحُلَّ وثاق جناحيها لتُرفرف مُطلقة العنان لعَبقها حتى يغمر قلبهُ وقلبها..."

                 ~تمت بحمد الله وفضله~
   (عَبق الفراشة) الجزء الثانِ من (الفراشة البيضاء)
                
                       بمِداد/ سارة نيل
#عبق_الفراشة
#الفراشة_البيضاء2
#سارة_نيل


لمتابعة روايات سكيرهوم زوروا قناتنا على التليجرام من هنا


 

تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1