رواية أرض زيكولا الفصل التاسع عشر 19 بقلم سندي

 




رواية أرض زيكولا الفصل التاسع عشر 19 بقلم سندي



عاد خالد إلى غرفة الفقراء مرة أخرى و معه جواد , 

و أُغلق الباب الحديدى من الخارج .. 

و ظلّت أنفاسه متسارعة , و زاد قلقه و توتّره كثيراً , 

و كلما حاول جواد أن يتحدث إليه لا يجبه .. 

و لا تتوقف رأسه عن التفكير .. 

لا يرى أمامه سوى ما رآه يوم زيكولا السابق 

حين ذُبح الفقير وَسْط احتفالات أهل زيكولا .. 

أما أسيل فمازالت فى قصر الحاكم تتمنى أن تجد يامن 

الذى اختفى منذ مجيئه إليها المرة السابقة .. 

لا تعلم ماذا حدث بالمنطقة الغربية .. 

تريد أن تعلم هل عاد خالد إلى حريته مجدداً 

أم تجده أمامها يوم تختار الثلاثة الأكثر فقراً .. 

تتمنى أن تغادر القصر إلى المنطقة الغربية , 

و لكنها لا تستطيع أن تترك زوجة الحاكم فى هذا التوقيت .. فلم تجد أمامها سوى أن تنتظر حتى يمر ذلك اليوم و ما يليه , و وقتها سيتضح كل شئ ..


الموسيقى تنتشر فى كافة أرجاء زيكولا , 

و الأخبار تتناقل بين هذا و ذاك .. 

الجميع يتحدثون عن فقراء زيكولا , و يتهامسون بأن أطباءها 

قد اختاروا فقيرين بكل منطقة بها .. 

و ينتظرون طبيبتهم الأولى حتى تعطى كلمتها الأخيرة .. يريدون أن يفرحوا .. يريدون أن يُهنّئوا حاكمهم بهذا اليوم .. الجميع فى أوج سعادتهم طالما ابتعدوا عن منصة الذبح .. يعملون نهاراً , و يتراقصون ليلاً .. 

يعلمون أنها أيام و ستمُر و سيعودون مجدداً إلى حياتهم , 

و أعمالهم الشاقة .. 

فأرادوا أن يقتنصوا كل ذرة سعادة فى تلك الأيام .. 

حتى سور زيكولا بدا و كأنه فى أيام عُرسه بعدما عُلّقت فوقه رايات عديدة مختلفة الألون ترفرف بقوة , و تتوسطها نيران مشتعلة تعلن عن احتفال أهل مدينته , 

و الذين بدأوا يتجهون إلى المنطقة الوسطى أفواجاً متتالية ليشاهدوا منافسة الزيكولا و معهم ما يكفيهم من طعام 

حتى ذلك اليوم , و حتى يوم زيكولا حين يتنقلون إلى المنطقة الشرقية حيث أرض الاحتفال و منصة ذبح الفقير ..

أما أهالى المنطقة الغربية فقد تجمّعوا أمام القصر 

الذى حُبس به خالد و جواد حين اصطف أمامه العديد 

من الجنود إيذاناً برحيل الفقيرين إلى المنطقة الوسطى 

حيث قصر الحاكم , و صاحوا و هللوا حين رأوا خالد و جواد مُكبّلين يداً و قدماً , و يتقدمهم قائد الجنود إلى عربة 

تقف أمام القصر .. 

ثم بدأت العربة فى التحرك فى طريقها لمغادرة تلك المنطقة ..


سارت العربة و شقّت طريقها , و بداخلها خالد , ينظر عبر نافذتها إلى الصحراء الشاسعة على جانب الطريق , 

و كلما حاول جواد أن يتحدث إليه لا يرد , و يظل محدّقاً 

خارج العربة حتى ابتسم جواد , و تحدّث فى هدوء :

-أعلم أنك حزين للغاية , و أعلم أنك تسخط على حاكمنا وولده .. و لكن لا تيأس يا صديق .. 

ما زال أمامك فرصتان كى تنجو بحياتك ..

و خالد يواصل صمته و لا يرد .. حتى تحدّث جواد مجدداً :

- أحدنا سينجو بالطبع .. و قد ينجو كلانا ..

ثم صمت , و أكمل :

- أريد أن أطلب منك شئ ..ثم تابع :

- إن نجوتَ و كنت أنا من سيُذبح , 

و جاء يوم زيكولا و وقفت بين من يحتفلون بذبحى , 

و رأيت امرأة تبكى وسط من يفرحون , 

فاذهب إليها و أخبرها أننى لم أحب بحياتى مثلما أحببتها ..

و سالت بعض دموعه على وجهه فالتفت إليه خالد , 

و وضع كفه على ركبته , و ابتسم إليه :

- ستعود إليها يا جواد .. 

و ستنجبان أطفالاً تعيش و تفخر بزيكولا ..

فابتسم جواد , و الدموع تلمع على وجهه , و أكمل :

- و أنت ؟.. لا تريد أن توصينى بشئ ؟ ..

فصمت قليلاً ثم نظر عبر النافذة مجدداً , و عاد لينظر لجواد :

- إن وجدت شاباً فى مثل عمرى يدعى يامن , 

و يقف حزيناً فأخبره بأننى لم أجد صديقاً و أخاً مثله 

ثم صمت برهةً , و أكمل :

- و إن رأيت طبيبة زيكولا تنظر كثيراً إلى السماء ليلاً 

تبحث عن نجم بها .. فأخبرها أنها أجمل حقاً من ذلك النجم ..

فسأله على الفور :

- هل تعرفك طبيبة زيكولا ؟

فأجابه خالد :- نعم ..

فابتسم , و أكمل :

- هل تحبها ؟

فردّ خالد :- نعم ..

فسأله :- و هى ؟ .. تحبك ؟

فصمت خالد ثم أجابه :- لا أدرى ..

فأكمل جواد :

- إن كانت تحبك فلن تتركك لتكون ذبيح زيكولا ..

فصمت خالد مرة أخرى ثم عاد هائماً يتأمل الطريق 

عبر نافذة العربة .. 

و أكملت العربة سيرها , و أمر سائقها حصانه 

بأن يسرع و لسعه بسوطٍ بيده .. 

حتى وصلت مع اقتراب غروب الشمس 

إلى المنطقة الوسطى , و التى ازدحمت شوارعها 

بالكثير من الناس .. و واصلت العربة تحركها .. 

حتى توقفت أمام قصر الحاكم ..


كانت أسيل تجلس بغرفتها حين أخبرتها وصيفتها 

بأن فقراء مناطق زيكولا قد بدأوا فى القدوم .. 

فدقّ قلبها بقوة , و سألتها على الفور :

- هل وصل فقيرا المنطقة الغربية ؟

فأجابت الوصيفة :

- نعم سيدتى ..

فسألتها مجدداً :

- هل رأيتِهما ؟

فأجابتها :

- لا .. لم أرهما .. إنهما قد وصلا منذ لحظات قليلة , 

و سيتجها نحو بَهو القصر ..

و أكملت :

- أستطيع أن أشاهدهما من تلك الشرفة ..

ثم أشارت إلى شرفة الغرفة , و أكملت :

- و هم يمرون نحو بهو القصر ..

فالتفتت أسيل إلى الشرفة :

- لا .. عليكِ أن تغادرى الآن .. و أخبرينى حين يكتملون ..

فابتسمت الوصيفة ثم غادرت ..

أما أسيل فأسرعت إلى الشرفة , و وقفت أمامها تنتظر 

أن يمر فقراء مناطق زيكولا .. تنتظر و تتسارع أنفاسها .. تخشى أن يكون ما تظنه حقيقة .. 

و تسأل نفسها ؛ أين يامن ؟ .. 

و لماذا لم يأتها ليخبرها بما حدث لخالد ؟! 

و كلّما مرّ أحد بالأسفل نظرت إليه فى لهفة , 

و تشعر بسعادة حينما تتحقق أنه ليس خالد .. 

حتى انتفض قلبها , و كأنه اُنتزِع منها 

حين وجدت أحد الجنود يتقدم , 

و يأتى خالد من خلفه مطأطأ الرأس , 

و يسير ببطأ و معه فقير غيره قد كُبّلا سوياً , 

و يصيح بهما الجندى :

- أسرعا أيها الفقيران ..

فأمسكت برأسها , و عادت خطوات إلى الخلف , 

و وضعت يدها على فمها من الصدمة .. 

ثم تحركت نحو الشرفة مجدداً , و ظلت تنظر إلى خالد 

و هو يتحرك بصعوبة خلف الجندى إلى بهو القصر .. فتسارعت أنفاسها , و لمعت عيناها بالدموع , 

و تحدّثت إلى نفسها :

- ماذا أفعل ؟ .. ماذا لو كان أكثرهم فقراً ؟! ..

تنظر إلى وريقاته المبعثرة فى غرفتها , و تقرأ كلماته .. 

أنه لم يحب غيرها , و تحدّث نفسها :

- إن مصيره بيدى ..

و تتحرك جيئة و ذهاباً بالغرفة , و تسأل نفسها حين تقف أمام المرآة :

- ماذا أفعل ؟

ثم نظرت إلى الأوراق مجدداً , و كأنها تحدّثها :

- خالد .. ماذا لو كنت أنت الأفقر بينهم ؟ 

ماذا تريدُنى أن أقرر ؟

و تعود إلى حركتها جيئة و ذهاباً , و تمسك برأسها , 

و تمرر يدها فوق شعرها ثم تنظر عبر الشرفة , 

و ترى الفقراء الآخرين الذين يتجهون نحو بهو القصر .. 

حتى سمعت طرقات على باب غرفتها , و دلفت إليها وصيفتها و قالت :

- سيدتى لقد اكتمل عدد الفقراء ببهو القصر , 

و الجميع فى انتظارك ..

فزاد انتفاض قلبها ثم حدّثتها :

- حسناً .. سآتى على الفور ..

فأغلقت الوصيفة باب الغرفة , و جلست أسيل على سريرها , و وضعت رأسها بين يديها و كأنها لا تدرى ماذا تقرر .. 

ثم نهضت مجدداً , و اتجهت مرة أخرى نحو الشرفة , 

و لكنها لم تنظر لأسفل .. 

بل نظرت إلى السماء التى امتلأت بشفق الغروب , 

و بدأت تتحدث و الدموع على وجهها :

- رأيت خالد كثيراً ينظر إلى السماء كلما وقع فى محنة , 

و سمعته يقول .. يارب ساعدنى ..

- أنا أنظر مثلما كان يفعل الآن .. و أقول مثله .. 

يارب .. يارب ساعدنى .. أريدك أن تساعدنى .. 

ثم أغمضت عينيها , و انهمرت دموعها كثيراً .. و أكملت :

- ساعدنى .. لا أريد أن أفقد خالد ثم تابعت :

- و لا أريد أن أظلم أحداً .. لا أريد أن أظلم أحداً ..


كان الصمت يسود بهو قصر الحاكم , و كأنه لا يوجد أحد به .. الجميع صامتون , كلٌ يفكر بمصيره و ينتظر أن تأتى الطبيبة .. عشرة من الفقراء .. سبعة رجال و ثلاث فتيات .. 

ينتظرون أن يمر الوقت سريعاً .. 

أى منهم سينجو , و أى منهم ستختاره الطبيبة 

لمنافسة الزيكولا , و خالد يقف و ينظر إليهم فى صمت .. 

ثم ينظر إلى أعلى و كأنه يناجى ربه .. 

حتى كُسر ذلك الصمت حين دلفت أسيل بفستانها الفضفاض إلى بهو القصر , و معها قائد حرس الحاكم 

الذى أتاها ليلة وضَعَت زوجة الحاكم , و تحدّث بصوت غليظ :

- ستختار سيدتى الآن الثلاثة الأكثر فقراً ..

فتقدمت أسيل فى صمت , و مرت أمامهم , و خالد ينظر إليها , و تعمدت ألا تنظر إليه حتى أنها أرادت أن تلمحه بطرف عينها , و لكنها أبعدت نظرها على الفور .. 

ثم همست إلى قائد الحرس أن يقدم إليها فقيراً تلو الآخر ..


بدأت أسيل تفحص كل من يتقدم إليها و تتأمله , 

و تضع ثنية من جلده بين إصبعيها , 

ثم تسأله إن كان قد مرض من قبل , 

و إن أجابها بأنه قد مرض تسأله المزيد من الأسئلة 

عن ذلك المرض , و تزيد من فحصها لأكثر من مكان بجسده حتى تعلم إن كان قد مرض حقاً أم أنه يدّعى ذلك كى ينجو .. حتى تقدم إليها جواد , و بدأت تفحصه ,

و قد نظرت إلى خالد خلسةً بطرف عينها فابتسم جواد , 

و تحدّث إليها:

- إنه يحبك أيضاً ..

فنظرت إليه , و لم تتحدث ثم أمرت أن يأتى من بعده .. فوجدت خالد يتقدم إليها فدقّ قلبها بقوة , و لامست وجهه 

و يدها ترتعش قليلاً .. و خالد ينظر إلى عينيها 

دون أن ينطق ببنت شفة .. و تحدّث نفسها .. 

ماذا أفعل يا خالد إن كنت الأفقر .. ماذا أفعل ؟ . 

ثم نظرت إلى قائد الحرس أن يأتى بمن بعد خالد , 

و الذى فوجئ بعدما استغرق فحص خالد وقتاً أقل كثيراً 

ممن فُحصوا قبله , و لكنه طلب من فقير أخر أن يتقدم 

إلى الطبيبة , و ظلّت أسيل تفحص جميع الفقراء المتواجدين بالبهو حتى انتهت .. 

ثم عادت لتجلس على أحد الكراسى الفخمة المتواجدة , 

و أمسكت بقلم و بعض الوريقات , 

و بدأت تدوّن بعض كلماتها .. 

و الجميع ينظرون إليها فى صمت .. 

لا يُسمع فقط سوى صوت الأنفاس المتسارعة من بعضهم .. حتى نهضت و تحركت نحوهم .. 

ثم تحركت أمامهم جيئة و ذهاباً و نظرت إلى فتاة :

- أنتِ .. اخرجى إلى أهلك ..

فصرخت الفتاة من الفرحة ثم نظرت أسيل إلى فقير آخر :

- و أنت .. عُد إلى أهلك ..

فصاح فرحاً .. و واصلت أسيل تحركها بينهم , 

و كلما تحرّكت تشير إلى أحدهم بأن يعود إلى أهله .. 

حتى توقفت مكانها بعدما لم يتبق سوى أربعة فقراء فقط .. بينهم خالد و جواد , و احتبست الأنفاس , و الجميع ينتظرون من هو الناجِ الأخير ..

تقف أسيل أمامهم , و خالد ينظر إليها فى ترقّب , 

و جواد ينظر إليه و كأنه يوقن بأنه من ستختاره , 

و يقف بجوارهما فقيران يزداد الوجوم على وجههما .. 

حتى نظرت إليهم , و أشارت إلى جواد :

- أنت عُد إلى أهلك ..

ثم نظرت إلى خالد و الفقيرين الآخرين :

- أنتم الأكثر فقراً بينهم .. 

الزيكولا ستحدد من منكم ذبيح يومنا ..

فسقط خالد على ركبتيه , و نظر إلى أسيل , 

و كأنه لا يصدق ما سمعته أذناه .. و صاح بصوته :

- أسيل ..

فغادرت على الفور , و اتجهت إلى غرفتها , 

و ما إن دلفت إليها حتى واصلت بكاءها مجدداً , 

و تحدّثت إلى نفسها بصوت عالٍ :

- لم أجد أمامى سوى ما فعلته .. 

لا أستطيع أن أظلم أحداً .. لا أستطيع ..

ثم أغمضت عينيها , و تحدّثت :

- ستنجو من الزيكولا يا خالد .. ستنجيك الزيكولا .. 

إنك لا تستحق أن تذبح فى مدينتنا .. ستنجو .. ستنجو ..

أما خالد فقد أمره قائد الحرس بأن يتبعه هو و من معه 

إلى قصر مجاور لقصر الحاكم , 

و سمع جواد الذى مازال يقف بجواره يهمس إليه :

- ستذهبون إلى قصر النحّاتين الآن ..

فنظر إليه خالد دون أن يرد , ثم تابع جواد :

- إن كانت الطبيبة تحبك لأبعدتك عن هذا المصير ..

فصاح به قائد الحرس :

- هيا .. أنت .. عليك أن تغادر القصر ..

فتحدّث خالد إليه :

- عُد إلى حبيبتك يا جواد .. 

و إن مِتُّ فابحث عن يامن , و أخبره كما قلت لك ..

فابتسم جواد ثم تركه و غادر , 

و تحرك خالد مُكبل اليديّن و القدميّن خلف قائد الحرس 

الذى طالبه بأن يسرع .. حتى غادروا قصر الحاكم , 

و اتجهوا إلى قصر مجاور وسط تجمع كبير من أهالى زيكولا الذين وقفوا أمام القصر ليرَوا من الذين سيخوضون 

تلك المنافسة رغم حلول الليل , 

و ما إن رأوا خالد و الفقيرين الآخرين مكبّلين 

و يتجهون نحو قصر النحاتين حتى صاحوا , 

و صاح أحدهم بصوت مميز :

- إنه الغريب الذى كان يعمل معنا بتقطيع الصخور ..

و صاحت أخرى :

- لقد رأيته من قبل يبحث عن مالك لكتاب غريب ..

و الجنود يحاولون أن يبعدوا الناس عنهم 

حتى وصلوا إلى قصر مجاور , و دلفوا إليه , 

و علم خالد منذ دخوله إلى ذلك المكان بأنه قلعة النحاتين .. حيث يصنع تمثال من الصلصال لكل فقير منهم ..










كان قصر النحاتين ذا واجهة فخمة , 

و نقوش خارجية على هيئة تماثيل لأشخاص و حيوانات , 

تظهر خلف النيران المضيئة التى توهجت بقوة مع ظلام الليل مما أعطته جمالاً خاصاً .. 

أما داخله فقد أُنير بمصابيح نارية عديدة , 

و كأن النهار قد حل به , 

و لكنه لم يكن يمتلك ذلك الجمال بالخارج , 

و لم تكن به سوى بضعة تماثيل قديمة 

يبدو أنها نُحِتت لفقراء من قبل .. 

و كتل طينية بأركان صالاته الكبرى , 

و تفوح بارجائه رائحة الصلصال .. 

حتى توقفوا جميعاً حين ناداهم شخص قصير القامة 

ممتلئ البطن رأسه صلعاء و لحيته طويلة جعل منها 

ضفيرات صغيرة متعددة :

- عليكم أن تمكثوا هنا .. ثم أكمل :

- سيتولى كل نحّات بعد قليل صناعة تمثال كل منكم ..

فمكثوا مكانهم , و بعد لحظات وجدوا ثلاثة رجال 

تترواح أعمارهم ما بين الشباب و الكهولة , 

و قد وقف كل منهم أمام فقير من الثلاثة , 

و نظر خالد إلى من يقف أمامه و كأنه فى حلم عميق , 

و هزّ رأسه لعله يفيق من هذا الحلم 

حتى ناداه من يقف أمامه , و يمسك بأدوات النحت فى يده :

- عليك ألا تتحرك أيها الفقير .. 

أتريد تمثالك مشوّها ؟!! ثم ضحك ساخراً .. و تابع :

- الزم السكون .. إن إمامك أمهر و أسرع نحات بزيكولا .. سأنتهى من تمثالك فى زمن قياسى ..

فنظر إليه خالد , و أخرج زفيراً قوياً .. 

ثم بدأ النحّات عمله , و جلب كتلة ضخمة من الصلصال , 

و بدأ يشكل أجزاءها بعدما يلمح بطرف عينه خالد , 

و بين الحين و الآخر يقترب منه ليضع يده على رأسه , 

و كأنه يستخدمها للمقارنة بين قياساته .. 

ثم يعود مجدداً إلى تمثاله الذى بدأت ملامحه 

تظهر شيئاً فشيئاً ..


النحاتون يعملون بمهارة و سرعة فائقة .. 

و يقف خالد و من معه دون حراك .. 

ينتظر كل منهم أن ينتهى من صنع تمثاله 

عله يغادر هذا المكان , و أسرع الوقت من مروره , 

حتى انتهى النحاتون من عملهم مع شروق الشمس , 

و قد صنعوا ثلاثة تماثيل من الصلصال يشبهون أصحابهم , 

و نظر خالد إلى تمثاله الذى كان يقف شامخاً , 

و تعتلى وجهه نظرة حزن واضحة , 

و هزّ رأسه فى حزن ثم نظر إلى أحد الفقيرين بجواره ,

و سأله:

- ماذا سنفعل الآن بعد نحت تماثيلنا ؟

فرد الفقير بصوت واهن :

- لم يعد لنا سوى أن نخوض منافسة الزيكولا ..

فسأله خالد :

- هل سنخوضها الآن ؟

فرد قائد الحرس :

- لماذا تتعجل أيها الفقير ؟!

- إن الوقت مازال باكراً .. 

ستكون المنافسة بعد ساعات من الآن .. 

حين تكون الشمس عمودية .. أى منتصف النهار .. ثم أكمل :

- مع شروق شمس اليوم فُتح باب زيكولا , 

و هناك الكثيرون ممن كانوا بخارجها , 

و اشتاقوا إلى احتفالاتنا مرة أخرى , 

و سيستغرق مجيئهم إلى هنا العديد من الساعات ..

فتمتم خالد :

- فُتح باب زيكولا ؟!!

ثم تجاهل ذلك الأمر , و سأل قائد الحرس :

- ماذا سنفعل فى تلك المنافسة ؟.. 

لقد أخبرنى أصدقائى عنها من قبل .. 

و لكننى لا أتذكّرها جيداً ..

فأجابه :

- أيها الفقير ستحدد الزيكولا مصيرك .. 

كى لا تقول إن الطبيبة هى من أختارت لك الموت .. 

ما عليك سوى أن تختار ثلاثة أماكن من تمثالك هذا , 

و تحميهم بدروع صغيرة , و ستُطلق سهام الزيكولا نحو تمثالك .. و إن أصابتك سهام أكثر من غيرك كنت أنت ذبيح يومنا ..

فصمت خالد , و نظر إلى أعلى :

- يارب ساعدنى ..


مر الوقت , و اقتربت الشمس من تعامدها ظهراً على الأرض , و اجتمعت الألوف من أهالى زيكولا بساحة كبيرة 

بالمنطقة الوسطى , و اصطفوا أمام منصّة خشبية عالية , 

و أخذوا يرقصون , و يغنون , و ينشدون الأهازيج , 

و حمل الكثيرون منهم أطفالهم فوق أكتافهم حتى 

أشار أحدهم إلى طفله :

- أنظر .. إنها الزيكولا ..

و أشار إلى المنصة حين قام مجموعة من الجنود 

بإزاحة قطعة قماشية كبيرة .. 

كانت تخفى أسفلها عمودَين خشبيّين سميكين و متوازيين , 

و يصل طول كل منهما إلى ثلاثة أمتار , 

و بينهما قرص خشبى دائرى يصل قطره إلى ما يقارب 

متراً واحداً , و تبرز منه ثلاثة أسهم طويلة , و تظهر من خلفه تروس حديدية تتباين أحجامها , و يزداد لمعانها تحت آشعة الشمس , و بجوار تلك الآلة يقف رجل ضخم حليق الرأس , 

لا يرتدى سوى سروالاً واسعاً , و تبرز عضلاته القوية , 

و ذراعه الضخم الذى يمسك بذراع حديدى امتد من أحد العمودين الخشبيّين للزيكولا , و يمسك ذراعه الآخر بذراع خشبى أقل طولاً , و يتصل مباشرة بشريط يخرج من القرص الخشبى .. 

حتى صاح الجميع حين دقّت الطبول , و ظهر الحاكم 

بشرفة قصره .. 

تجاوره زوجته و على ذراعيها رضيعها , و تجاورهما أسيل , 

و التى وقفت واجمة و القلق ينبعث من عينيها .. 

ثم جلسوا جميعاً ينتظرون بدء المنافسة ..


الجميع ينتظرون .. 

الجميع يتراقصون , و أسيل تنتظر أن ترى خالد .. 

يدق قلبها بقوة .. تنظر إلى السماء مجدداً , 

و تتحرك شفتاها متمتمة بهمسات غير مسموعة .. 

حتى وجدت الجنود يحملون التماثيل الثلاثة , 

و يصعدون بها إلى المنصّة الخشبية , و يسير من خلفهم 

خالد و من معه فتسارعت أنفاسها , و هللت الألوف المتواجدة حين وجدوهم يصعدون المنصة ..

بعدها التفت قائد الحرس إلى شرفة قصر الحاكم , 

و انحنى إليه فأشار إليه بأن تبدأ المنافسة , 

فالتفت إلى خالد و الفقيرين معه .. 

ثم أشار إلى أحد الفقيرين :

- ستبدأ أنت .. أين ستضع دروعك الثلاثة ؟

فنظر إليه الفقير فى صمت .. ثم تقدم بعدما فُكّت قيوده , 

و نظر إلى الزيكولا ثم التفت إلى تمثاله , و نطق :

- سأحمى ذراع تمثالى الأيمن من أعلى , 

و فخذ تمثالى الأيسر , و أسفل بطنه ..

فصاح قائد الحرس بأحد جنوده :

- ضع دروعه كما أراد ..

فوضع الجندى دروعاً حديدة صغيرة تلائم الأماكن 

التى أرادها الفقير .. 

ثم حمل التمثال و معه جندى آخر إلى أمام الزيكولا .. 

لا تفصلهما إلا أمتار قليلة ..

صمتت الأهازيج , و صمت من يتواجدون , 

و كأن أنفاسهم قد حُبست ثم نطق قائد الحرس إلى الفقير :

- سينطلق كل سهم من سهامك الثلاث 

حين تشير إلى حارس الزيكولا ..

فرد الفقير بصوت واهن :- حسناً ..

ثم أشار القائد إلى الرجل الضخم 

الذى يمسك بذراع الزيكولا الحديدى بأن يحرك أحد ذراعيها .. فابتسم الرجل مبرزاً أسنانه الصفراء الكبيرة .. 

و جذب الذراع الحديدى نحوه فبدأت التروس الحديدية 

تتحرك ببطء , و تسرع من حركتها شيئاً فشيئاً , 

و تحرّك معها القرص الخشبى و ما عليه من سهام , 

ثم زادت سرعته كثيراً , و أصبح يدور دون أن تظهر سهامه .. يدور حول نفسه ثم يتنقل بين العمودين الخشبيّين فى حركة عشوائية خاطفة , لا يستطيع أحد توقّعها , و خالد ينظر إليه , و قلبه يدق بقوة , و يحدّث نفسه :

- مستحيل أن أحدد اتجاه السهام ..

حتى أشار الفقير الأول إلى حارس الزيكولا 

فجذب الرجل الذراع الخشبى القصير على الفور .. 

فانطلق السهم الأول نحو تمثاله فأصاب عنق التمثال .. 

فصاح الحضور ثم أكمل القرص دورانه , 

و بعد لحظات أشار الفقير مجدداً إلى الحارس 

فانطلق السهم الثانى فاخترق ذراعه الأيسر , 

فصاح الناس مجدداً , و ظهر التوتر على وجه الفقير , 

و نظر إلى الزيكولا كثيراً , و إلى قرصها الذى يدور .. 

ثم أشار إلى الحارس من جديد فانطلق سهمه الأخير 

فاصطدم بدرعه الحديدى فوق أسفل بطن تمثاله .. 

فزاد صياح أهالى زيكولا , و دُقت الطبول , 

و ابتسم الفقير قليلاً بعدما لم يصب تمثاله سوى سهمان .. 

ثم أشار قائد الحراس إلى الفقير الآخر :

- هيا تقدم لتحمى تمثالك ..

فتقدم هو الآخر , و فعل مثلما فعل الفقير الأول , 

و كلّما أشار إلى حارس الزيكولا صاح الناس .. 

حتى انتهى من سهامه الثلاث , و لم يصب تمثاله إلا سهم واحد اخترق بطنه السفلى , و رقص فرحاً مع دقات الطبول بعدما أيقن أنه قد نجا بذلك .. 











ثم أشار قائد الحرس إلى خالد :

- هيا , لم يعد سواك .. 

إما أن تنجو بألا يصيب تمثالك سهام أو يصيبه سهم واحد .. 

أو يصيبك سهمان فتُعاد المنافسة بينك و بينه .. 

و أشار إلى الفقير الاول .. أما غير ذلك فستكون ذبيح غد ..

فتقدم خالد نحو تمثاله , و وقف أمامه دون أن يفعل شيئاً .. فصاح به القائد :

- أسرع ..

فنظر خالد إلى قرص الزيكولا , و الذى زُرعت به السهام 

من جديد .. ثم نظر عالياً إلى شرفة قصر الحاكم 

حيث تجلس أسيل .. 

بعدها نظر إلى تمثاله , و أغمض عينيه , و تمتم بآيات قرآنية ثم فتحهما , و نظر إلى القائد :

- أريد أن أضع دروعى كى تحمى صدر تمثالى , 

و عضد ذراعه الأيسر .. ثم صمت مجدداً , 

و نظر إلى الزيكولا ثم التفت إلى تمثاله و أكمل :

- و أريد أن أحمى رأس تمثالى ..

فأشار القائد إلى جنوده بأن ينقلوا تمثاله أمام الزيكولا , 

و أن يضعوا دروعه مثلما أراد .. 

ثم أمر حارس الزيكولا بأن يبدأ دوران قرصها .. 

فبدأت التروس تتحرك من جديد , و خالد يراقب القرص 

الذى يدور مسرعاً و يتحرك بين العمودين الخشبيّين .. 

حتى سمى الله ثم أشار إليه فانطلق السهم الأول 

فصاح الجميع حين أصاب فخذ تمثاله الأيمن .. 

فدقّ قلبه بقوة , و دقّ قلب أسيل , 

و انتفض و كأنها تسمع دقّاته , و القرص يواصل دورانه , 

و خالد لا يعلم ماذا يصنع .. 

لا يرى تلك السهام بالقرص , و أيهما سينطلق .. 

ثم أشار إلى الحارس مجدداً فانطلق السهم الثانى 

فأصاب فخذه الأيمن مرة أخرى .. 

فأمسك برأسه , و حدّث نفسه , و كأن أنفاسه تقطعت :

- تمالك يا خالد .. تمالك ..

- عليك أن تفكر قليلاً .. لم يعد سوى سهم واحد .. 

إما أن تُعاد المنافسة .. و إما إن تكون ذبيح غد ..

و أسيل تحدّث نفسها :

- تمالك يا خالد .. تمالك ..

ثم نظر إلى القرص مجدداً , و الجميع أنفاسهم محتبسة .. ينتظرون إشارته الأخيرة , و حارس الزيكولا يبتسم , 

و يتأهّب كى يجذب ذراعها , و مازالت عينا خالد تتحرك مسرعة بين قرص الزيكولا و بين تمثاله الواقف أمامه , 

و أسيل تتمتم و تتحرك شفتاها فى توتر , و تلمع عيناها بالدموع .. 

حتى أنها لم تستطع أن تواصل جلوسها , 

و نهضت لتقف مكانها , و أغمضت عينيها بعدما وجدته 

يشير إلى حارس الزيكولا بأن يطلق سهمه الأخير ..

            الفصل العشرين من هنا 

بدل ماتدور وتبحث علي الروايات خليها علي تليفونك وحمل تطبيقنا

تحميل تطبيق سكيرهوم
تعليقات



close
حجم الخط
+
16
-
تباعد السطور
+
2
-