رواية في لهيبك أحترق(كاملة حتى الفصل الاخير)بقلم شيماء يوسف

رواية في لهيبك أحترق الفصل الاول بقلم شيماء يوسف

Chimaa Youssef
فى_لهيبك_احترق
الفصل الاول 🔥..

''غالباً يجب عليك أن تدرك أنك عظيم ، لثباتك بنفس القوة رغم كل هذا الأهتزاز '' .
_دوستويفيسكي. 

أنتفضت من سباتها ترتجف كالفرخ المبلول شاهقه عدة مرات متلاحقة لتهدئة ضربات قلبها التى تدوى كالطبول ، سحبت نفساً عميقاً قوياً محاولة ادخاله عنوة إلى رئتيها وهى تلتفت حولها يميناً ويساراً بذعر ، حسناً حسناً اهدئى قليلاً .. مجرد كابوس وليس حقيقة .. أنتى بأمان الأن .. ليس هناك ما يدعو للخوف أو القلق .. تذكرى .. الله معك وبجوارك " .، هذا ما حدثت به نفسها قبل ان تفتل على يسارها ثلاث مرات كما علمها والدها دائماً عندما يراودها حلم مزعج ، وبعد فترة وجيزة بدءت تستعيد هدوئها شيئاً فشئ عادت لأغلاق عينيها وهى تتنهد بتعب حيث أرهقها كثرة التفكير  ، فتلك هى الليلة السادسه على التوالى !!، نفس الحلم !!، نفس المتاهه المظلمة !!، نفس التخبط والشعور المريع بالعجز ونفس الرجل مبهم الملامح الذى يلاحقها !!، والأسوء نفس الشخص الذى تصطدم به فى كل مرة معيقاً طريقها نحو الخروج !!!.

أنتظرت عدة دقائق أخرى حتى استعادت سيطرتها الكاملة على جسدها و بعدها تحركت من داخل الفراش تبتغى ملاذها الأول ، وحصنها الذى لا يُرام ، خالقها ومن بيده مفاتيح كل شئ ، فالطالما أعتادت على ذلك منذ سنوات مضت حتى أصبحت عادة وجزء لا يتجزء من يومها ، ركعتين فى جوف الليل والناس نيام قادرة على تحقيق المعجزات بالنسبه إليها ، لذا وقفت تتلو بخشوع بعض آيات من الذكر الحكيم بعدما أحسنت الوضوء وقلبها مفعم بالأجلال والأمل ، نعم الأمل والثقه ، فدائماً ما كان معها وبجوارها مهما توالت عليها الصعاب ، وعندما لامست جبهتها الأرض أنفجرت باكية وداخلها يناجى بكلمة واحدة "يارب" .

**************

نحنا والقمر جيران .... بيته خلف تلالنا 
بيطلع من قبالنا ..... يسمع الألحان 
نحنا والقمر جيران .... عارف مواعيدنا 
وتارك بقرميدنا ..... اجمل الالوان .

تهادى إلى أذنها ذلك الصوت العذب كعادة كل صباح آتياً من غرفة معيشتهم المتواضعة ، فتحت عينيها على مضض وهى تبتسم بخفوت وتمد يدها نحو المنضدة المجاورة للفراش تلتقط هاتفها وتنظر بداخله ، فقط فى الموعد ، أتسعت أبتسامتها وهى تحرك رأسها بأستسلام يشوبه الكثير من الرضا والامتنان ، فرغم كل ما مرا به إلى الأن ألا أن صوت فيروز الصباحى قاعدة مقدسة ، بروتوكول دولى ، لا تستطيع والدتها كسره لأى سبب ان كان .

تحركت رحمة تنضم إلى والدتها التى كانت تقف فى المطبخ تنتهى من وضع اللمسات النهائية لفطار الصباح ثم قالت مازحه بصوتها العذب وهى تحتضنها من الخلف :
-(( صباح الخير يا جارة القمر .. كروان بيغنى مع فيروز ياربى ))..

لكزتها والدتها السيدة فريدة بخفه جوار مرفقها ثم قالت مؤنبة ومعارضة بمرح :
-(( وماله صوتى يا ست رحمه مش عاجبك .. طب لعلمك دى الحاجة الوحيدة الحلوة اللى ورثتيها منى .. لو تقدرى تنكرى يعنى !! ))..

طبعت قبلة مطولة فوق وجنة والدتها ثم قالت وهى تبتعد عنها :
-(( أنا وارثة منك كل حاجة حلوة يا ديدا .. ها قوليلى أخدتى الدوا بتاعك ولا لسه ؟!))..

أجابتها والدتها متأففة بعدما قّلبت عينيها يميناً ويساراً بملل :
-(( اخدته يا رحمة متقلقيش ))..

قالت رحمة بجدية وقد تحولت لهجتها فى لحظة واحدة إلى الأمر حتى يظن من يستمع إليها إنهما تبادلا الأدوار :
-(( ماما لو سمحتى مش عايزة نوبة المرة اللى فاتت تتكرر تانى .. وقبل ما الدوا يخلص بلغينى أجيبلك غيره على طول .. كده كده الصيدلية فى طريقى كل يوم للبيت .. أصلاً مش مصدقة أنى بقول كده لممرضة سابقة !! ))..

جاءها صوت والدتها معقبة بضيق واضح من وصايا طفلتها العشر يومياً قائلة بجمود :
-(( حاضر يا ست رحمة .. صدقينى اللى حصل الشهر اللى فات مش هيتكرر تانى إن شاء الله .. ودلوقتى روحى غيرى هدومك لحد ما اخلص عشان تلحقى تفطرى قبل ما تنزلى ))..

أجابتها معترضة وهى تستعد للخروج من داخل المطبخ :
-(( لا مليش نفس .. يادوب هروح ألبس وأتحرك على طول .. وبعدين صحيح مصطفى فين ؟! ))..

أجابتها والدتها بأمتعاض :
-(( هيكون فين .. فى الأوضه طبعاً .. أكيد قاعد بيلعب بالتابلت ))..

قالت رحمة بهدوء بعدما توقفت خطواتها عند المدخل :
-(( تمام .. هروح أبص عليه قبل ما البس وأنزل ))..

صمتت والدتها لوهلة تتفحصها ثم عادت تسألها بقلق :
-(( رحمة انتى كويسة ؟!.. بقالك كام يوم فيكى حاجة غريبة !! )).. 

تنهدت مطولاً بحيرة تحاول إيجاد أجابة مقنعه، فبماذا تخبر والدتها ؟!، ان هناك كابوس ما يراودها لمدة أسبوع كامل ومنذ ذلك الحين تشعر بأنقباضة ما داخل صدرها تزداد يوماً بعد يوم !، أم أن هناك ثقل ما يجثو فوق روحها يجعلها تختنق ببطء وكأن الحياة تُسحب منها شيئاً فشئ !!، هتفت والدتها أسمها مرةً أخرى بقلق واضح جعلها تقول فى عُجالة مطمئنة :
-(( مفيش .. ضغط الشغل بس مش أكتر متقلقيش ))..

هزت والدتها رأسها متفهمة بهدوء ثم قالت بحنو :
-(( ربنا يعينك يا حبيبتى )).. 

حركت  رأسها هى الاخرى مبتسمة  قبل توجهها لغرفة شقيقها الأصغر يسبقها صوتها الذى يهتف أسمه بمرح :
-(( تيفا .. يا تيفا !!! أوعى تكون لسه نايم ))..

أتاها صوته من خلف الباب المغلق يصيح بلهفه :
-(( حاسب يا عم هموت !!!.. أحمى ضهرى لحد ما أهرب منهم ))..

فتحت باب الغرفة تطالعه وهو مندمج فى أعطاء الأوامر لصديقه فى تلك اللعبة الألكترونية قبل أن تحرك رأسها أسفة عدة مرات وهى تنهره بضيق :
-(( يادى بابجى اللى هتاكل عقلك دى !!! .. يابنى قوم ذاكر كلمتين أو اقرالك كتاب يفيدك بدل العك ده !!! ))..

هتف شقيقها بلوعة دون الألتفات إليها فعينيه مازالت مسلطة فوق شاشه الجهاز اللوحى :
-(( حاضر يا ريمو .. أخلص بس الجيم دة وأقوم على طول معلش .. ما تحااااااااسب يا عم أنت بتضرب فين !!!! )). 

بالطبع علمت أن الجملة الأخيرة لم تكن موجها لها لذا حركت رأسها للمرة الثانية بقلة حيلة قبل أنسحابها تجاه غرفتها أستعداداً ليوم ملئ بالعمل كالعادة .

وبعد حوالى نصف ساعة كانت تقف خارجاً فى منتصف الطريق تحاول اتخاذ قرارها هل تسير فى تلك الحرارة وشمس أغسطس الحارقة حتى موقف الحافلات أم تدلل نفسها اليوم قليلاً وتستقل سيارة خاصة  "أوبر" وتنعم بهواء المكييف البارد وتصل إلى العمل بكامل طاقتها ؟!.. حسناً لقد اتخذت قرارها ستسير حتى أقرب موقف للحافلات الخاصة المكيفة " كريم باص" وبذلك ستنأى نفسها عن الحافله العادية وما تلاقيه داخلها من مضايقات تبغضها وتحافظ على ما تبقى من مصروفها الشهرى البخس الذى وضعته لنفسها وتلتزم به، وبالفعل بعد عدة دقائق كانت تستقل الحافلة وتستند برأسها فوق زجاج النافذة المغلق تنظر إلى الطريق أمامها بعقل شارد كلياً .

رحمة عز الدين النويري .. فتاة فى السابعة والعشرين من عمرها ، بملامح وجهه ملائكية تشبهه "بياض الثلج" كما كان يلقبها والدها دائماً حيت ورثت عن والدتها وجهها الأبيض المستدير مع وجنتى كالكرز فى حمرتهم بعيون سوداء لامعة تشبه الليل بظلمته وشفاه مكتنزة ناعمة مع شعر أسود فحمى طويل اخفته مع جسدها المتناسق خلف حجاب وملابس محتشمة.

تنهدت بحسرة وقد تزاحمت عليها الأفكار والذكريات ،
"عز الدين محمود النويري "، والدها أحد رجال أعمال الأسكندرية الذى حاول شق طريقة بين رجال الاعمال الكبار ، حيث كان يملك شركة متواضعة للأستيراد والتصدير جعلتهم قادرين على عيش حياة مترفة نوعاً ما تلقت على اثرها أحسن تعليم فى المدينة فيما يخص مجال أدارة الأعمال بلغات متعددة، مع السكن فى أحد أرقى أحياء الأسكندرية القديمة " الحى اللاتيني " أو ما يسمى حى الملوك كما يطلق عليه ، مع خطبة لشاب مقتدر ذو مستقبل مشرق واعد ، لم تكن خطبتها قائمة عن الحب ، بل مجرد زيجة مدبرة أو كما تسمى "زواج صالونات ف "شريف "، خطيبها السابق كان يقطن فى الشقة المجاورة لهم مع عائلته وعندما تقدم لخطبتها لم تجد فيه من العيوب ما يحثها على الرفض ، أما عن الحب فلم تكن تلك الكلمة موجودة فى قاموسها من الأساس حيث أنها دائماً ما كانت تتسائل ، أتلك المضغة التى تنبض اسفل ضلعها فى الجهه اليسرى مؤهلة للحب كمثيلتها من فتيات الجامعة والدراسة أم أنها خلقت فقط لضخ الدم إلى سائر أعضائها كى تبقيها على قيد الحياة !!، حسناً ذلك سؤال لن تحصل على إجابته مطلقاً خاصة بعدما أنقلبت حياتهم رأسها على عقب ، تحديداً منذ عامين عندما قرر والدها توسيع أمر تجارته مع صديق له قادم من الخارج وأقترض على أثرها عدة ملايين من البنك بضمان الشركة والمنزل مصطدماً بعدها بالواقع الأليم ألا وهو هروب صديقه إلى خارج البلاد مرةً أخرى وتركه غارق فى ديونه ، لم يتحمل والدها تلك الصدمة فسقط بعدها مصاباً بسكته دماغية أودت بحياته فى الحال ، لتجد رحمة بعدها نفسها مشردة دون منزل يأويها مع والدة مريضة بالقلب وشقيقها المراهق والذى لم يبلغ من العمر الرابعة عشر بعد ، بعدما تخلى عنهم الجميع وأولهم "شريف" حيث رأها لم تعد مناسبة له بعد ما حدث. 

أغمضت عينيها بألم وهى تتذكر تلك الأيام ، لم تجد من يقف جوارها سوى صديق قديم لوالدها ، حيث وجد لها منزل متواضع فى منطقة شعبية أكثر تواضعاً وتكفل بأيجار أول شهر للمنزل كما ساعدها على إيجاد عمل كمساعدة خاصة فى أحدى أكبر شركات الأسكندرية ، بالطبع ساعدها فى ذلك تفوقها فى الدراسة إلى جانب أتقانها لعدة لغات بجانب العربية مع مظهرها المهندم جعل من رفضها شئ مستحيل ، وسرعان ما أثبتت كفائتها فى ذلك المنصب وأصبح مالك المجموعة يعتمد عليها أعتماد كلى فى مقابل مادى أكثر من ممتاز بدءت من خلاله التخطيط لتحسين وضع معيشتهم  قبل أن تصيبهم طامة أخرى وهى سقوط والدتها ، حيث أخبرها الطبيب بضرورة إجراء عملية للقلب تتعدى راتب ثلاثة أعوام من العمل المتواصل ، "أن الله معنا" هذا ما فكرت بأمل وهى تتذكر مرض والدتها وفرصتها التى تتضائل مع مرور الوقت كما أخبرها الطبيب فى معاينته الأخيرة ولكن ما باليد حيلة ، فقط عام أخر وستستطيع إجراء تلك العملية باهظة التكاليف ، وحتى ذلك الوقت ستدعو الله يومياً أن يمنحها الوقت الكافى لأنقاذ والدتها من ذلك المرض اللعين .

*****************

فى جناحهم الخاص جلست على طرف الفراش تضع ساقاً فوق الأخرى كعادتها وتطالعه بنظراتها الشغوفة وهو يقوم بأرتداء ملابسه الرسمية للعمل كعادة كل صباح ، ألتفت جواد ينظر إليها بأشتهاء واضح وخطواته تسبقه إليها حتى توقف أمامها ثم قال برغبة وذراعه تمتد نحو خصرها للقبض عليه وإيقافها مقابلة له :
-(( مفيش صباح الخير قبل ما أنزل ؟! ))..

أجابته بدلالها المعتاد وهى تحاول التملص من بين ذراعيه :
-(( جود .. بيبى مينفعش لينة صحيت ))..

تأفف جواد من تمنعها المعتاد عنه ثم قال بحنق واضح رغم لين نبرته :
-(( مش ملاحظة أننا بقالنا فترة على الحال ده !!.. حتى ماما وبابا بدءوا يسألوا أمتى هنجيب أخ للينة ))..

زفرت رنا بضيق ثم أجابته بسخط شديد وهى تبتعد عنه واضعه مسافه كافية بينهم :
-(( أوف يا جود !!! مش معقول !! تعبانه من إمبارح يعنى مفيهاش حاجه .. وبعدين الحاجات دى تخصنى أنا وانت لوحدنا مع أحترامى لوالدك ووالدتك ومش معنى أننا عايشين معاهم فى نفس البيت يدخلوا فى تفاصيل زى دى .. أنت وعدتنى محدش هيتدخل فى حياتنا من قبل ما ننزل مصر فياريت تحافظ على وعودك ليا )).. 

حرك عبد الجواد رأسه متفهماً بهدوء قبل أن يعود لأستئناف ما يقوم به بصمت تام وهو يفكر فى حديثها فبالفعل رغم مكوثه مع والده ووالدته فى نفس المكان إلا أنه يحاول حتى الأن فصل حياته الزوجية عن عائلته ، أما عنها هى زوجته فبعد الأنتهاء من جملتها قررت الهروب من صحبته بحجة البحث عن طفلتهم .

وفى الأسفل هتفت رنا ملقية تحية الصباح بفتور وهى تتخذ مقعداً مجاوراً لشقيقة زوجها التى كانت مشغولة بحديثها على الهاتف ووالدته بأبتسامة مقتضبة :
-(( صباح الخير يا أنطى .. صباح الخير يا عليا ))..

أجابتها السيدة كريمة والدة جواد بودها المعتاد :
-(( صباح الخير يا بنتى .. يسعد صباحك دايماً يارب ))..

كانت السيدة كريمة أسماً على مسمى ، أمرأة ناعمه هادئه الطباع فى منتصف الخمسينات من عمرها عاشت حياة زوجية هادئة حتى بعد حادثة زوجها السيد أنور منذ عدة سنوات والتى أسفرت عن تهتك فى العمود الفقرى أدت إلى حالة من الشلل الدائم ، لم تنجب سوى طفلان ، الاكبر عبد الجواد أنور المناويشى الذى سمى بهذا الأسم تميناً بجده الأكبر والاخرى هى طفلتها المدللة علياء ، فتاة حسنة الخلق والخُلُق بملامحها الشرقيه الهادئة وعيونها الواسعة مع غمزتين يزينان وجهها وشعر بنى ناعم يصل إلى نهاية ظهرها تقريباً ، قليلة الحديث تمتاز برزانة عقلها ، تبلغ من العمر الرابعة والعشرين تمت خطبتها منذ ما يقارب العام تقريباً لشاب طموح يحاول إلى الأن شق طريقه وبناء مستقبله خارج البلاد ، عادت رنا تتسائل بفضول :
-(( أومال فين أونكل أنور يا أنطى ؟! ))..

أجابتها كريمة والأبتسامة تعلو محياها لرؤية فلذة كبدها يظهر أمامها :
-(( أهو جواد خلص هو كمان أهو .. وعمك أنور لسه منزلش ..ثوانى أطلع أجيبه من الأوضة وننزل نفطر كلنا سوا ))..

أوقفها صوت جواد معترضاً وهو يرفع معصمه لينظر فى ساعة يده :
-(( لا يا ماما مش هلحق النهاردة معلش .. عمرو صوره ماليه الفيس كالعادة وأكيد هتلاقى طاهر شايط .. يادوب الحق أهديه بكلمتين قبل ما يولعوا فى بعض ))..

هزت رأسها بأسى وهى تربت على كتف ولدها بتفهم ثم قالت مشجعة :
-(( روح يا حبيبى ربنا معاك .. ومتنساش .. طاهر وعمرو أخواتك .. يعنى ده واجب عليك ))..

طبع جواد قبلة حنونة فوق كفها قبل تحركه مسرعاً للخارج بعدما ألقى نظرة وداع أخيرة على زوجته تجاهلتها الأخيرة متظاهرة العبث بهاتفها المحمول .

******************

أمام مقر الشركة الرئيسى ، وقف بجسده المتصلب أمام البوابات الخارجية مغمضاً عينيه لوهلة من الزمن وساحباً نفساً عميقاً يعلم أنه لا يجدى نفعاً فى الحد من حالته المزاجية العكرة ، فتح طاهر عينيه بقوة ثم بدء يخطو نحو الداخل بخطواته العصبية حتى وصل إلى مكتبه فى الطابق الأخير ، دلف للداخل بحدة وهرولت من خلفه مديرة مكتبه تحتضن بين ذراعيها مفكرة لتدوين ملاحظاته وتعليماته لليوم ، صاح طاهر بنبرة حادة عصبية وهو يرتمى فوق مقعده جعلت المرأة الواقفة أمامه تنتفض فزعاً :
-(( سى عمرو بيه لسه تليفونه مقفول !!!! ))..

أجابته السكرتيرة متمتة بخفوت :
-(( ايوة يا فندم صدقنى .. أنا بحاول من ساعة ما حضرتك أمرتتى ومفيش فايدة .. محدش عارف يوصله ))..

حرك طاهر رأسه عدة مرات بتشنج واضح ثم عاد يهتف من جديد بنفاذ صبر :
-(( وطبعاً جواد بيه لسه موصلش !!!... ماهى شركة أبونــ..... )).

قاطع جواد جملته قائلاً بمرح وهو يشير بعينيه إلى مديرة المكتب للأنصراف :
-(( جواد هنا أهو وواقف قدامك .. وقبل أى حاجة أفتكر أنى أكبر منك .. فبلاش قلة أدب وقيمة ع الصبح قدام الموظفين ))..

حدجه طاهر بعدة نظرات حانقة وهو يعود ويرتمى برأسه للخلف ويمسح بكلتا كفيه فوق وجهه بعصبية .

طاهر حكيم عبد الجواد المناويشى ، الحفيد الثانى لعائلة المناويشى ، تلك العائلة التى تعود جذورها لصعيد مصر وتحديداً "سوهاج" ، والتى دائماً ما أشتهرت بالعمل فى مجال المقاولات ومنذ ثلاثين عام نزح كلاً من حكيم عبد الجواد وشقيقه الأكبر أنور عبد الجواد إلى الأسكندرية للعمل بها وتوسيع مجال أعمال العائلة وبالفعل نجح الأخوين فى ترسيخ أسمها بعروس البحر الأبيض المتوسط وتكوين إمبراطورية مشابهة ومنفصلة عن تلك التى فى الجنوب ، تولى حكيم رئاسه مجلس الأدارة بعد حادثه شقيقه الأكبر أنور وعدم قدرته على  مواصلة العمل وبعد وفاته تولى طاهر ولده والبالغ من العمر ثلاثه وثلاثون عام رئاسة الشركات لظروف سفر جواد إبن عمه الذى كان مستقراً بالخارج ولم يعد سوى من عام واحد بعدما سئم الغربة وقرر العودة بزوجته وطفلتهم الوحيدة ، كان طاهر شخص قوى البنية ، حاد الطباع بدرجة كبيرة ، عصبى إلى حد ما مع تلك النزعه القبليه التى تسرى بدماءه رغم بعده كل البعد عن الجنوب ألا أنها لازالت تحتل جزء كبير من جيناته كعامل وراثى ، أما عن صفاته الشكلية فقد كان وسيماً إلى حد كبير بشعره الأسود الكثيف الناعم مع ذقن مشذبه تماثله كثافة ونظرة عين معبرة وجسد رياضى كباقى فئات الطبقة المنتمى إليها ، ربما لا يستغيثه البعض من النظرة الأولى ولكن مع مرور الوقت !.... ، مر بتجربة عاطفية وحيدة فاشلة ظن أنه حب افلاطونى كما رأى فى الأفلام والمسرح فسارع بالزواج منها رغم كل الصعوبات ، مصطدماً بعد وقت قليل بواقعه الأليم ، فتاة مدللة أنانية لا تأبه سوى بنفسها والأسوء أستغلالها له ولأسم عائلته فى أعمال والدها الغير شرعية فى التنقيب عن الاثار والذهب من خلال توقيع طاهر السورى وتحت غطاء شركته ، الأمر الذى أدى إلى تورطه مع الدولة بشكل كبير ولولا مساعى عائلته فى الجنوب ونفوذها الممتدد على طول الخريطة مع بعض السلطة المتمثّلة فى عدة مقاعد داخل مجلس النواب لوجد نفسه محتجز داخل جدران السجن مدة لا تقل عن عشرون عام ، أما عن زوجته المدعية "ريم" ، فبعد فضح أمرها أمامه وسقوط والدها أيقنت لا محالة بالهلاك لذا لاذت بالفرار خارج البلاد خوفاً من أنتقام زوجها والذى تعلم جيداً أنه يحرق فى طريقه الأخضر واليابس لتكون فعلتها تلك هى بوابتة للحرية من تلك الزيجة البائسة حيث تلقى بعد عدة أشهر من هروبها خبر وفاتها اثر حادثة طريق قضيت خلالها نحبها مع صديقها البريطاني فى أحدى قرى إيطاليا المتطرفة ، ومن بعدها أصبح طاهر كارهاً وحذراً لكل ما له علاقة بالجنس الناعم ، أو "الماكر" كما كان يلقبه ، أما عن علاقاته الأجتماعية فلم يكن له أصدقاء سوى جواد إبن العم الذى يكبره بأربع سنوات ، وشقيقه التؤام "عمرو"، زير النساء "وملك السوشيال ميديا" كما كان يُلقب حيث كانت الفتيات تتهافت على صحبته وساعده على ذلك وسامته الشديدة مع ذلك الشعر الناعم الطويل وأبتسامته المهلكة ومظهر "الباد بوى" الغامض ومشاركته لجميع نشاطاته عبر وسائل التواصل الأجتماعى ليتصدرها يومياً غير آبهاً بأسم العائلة أو شئون الشركة أو أى شئ أخر سوى متعته .

هتف جواد أسمه مره أخرى بتوجس جعل الأخير يعاود النظر إليه ثم قال بقلة حيلة :
-(( تعبت يا جواد .. تعبت من أستهتاره !! .. تعبت من لا مبالاته .. ٣٣ سنه ولسه مش عايز يعقل !! الماضى لسه مأثر عليه .. كل يوم مصيبة جديدة بفضيحة جديدة مع بنت جديدة .. ولم يا طاهر من وراه .. ساعات بحس لو كان بابا وماما لسه عايشين كانوا قدروا عليه معايا .. بدل ما هو مش عامل حساب ولا أحترام لحد كده ))..

هم جواد بالحديث ولكن قاطعه صوت عمرو يهتف من خلفه بلا مبالاة جعلت أخيه يستشيظ غضباً:
-(( أدينى جيت يا طاهر بيه .. ممكن أعرف أيه الدوشة اللى أنت عاملها من الصبح دى ؟! ))..

قفز طاهر من مقعده بمجرد رؤيته لتوأمة يدلف الغرفة كمصاص دماء ينتظر فريسته منذ مدة ويتوق شوقاً للأنقضاض عليها وغرز أنيابه بداخله  ثم صاح موبخاً بعصبية وهو يجذب شقيقه من تلابيب ردائه :
-(( يعنى فوق أنك قليل الأدب !!! لا كمان بارد ومعندكش دم .. تقدر تقولى أيه القرف اللى منشور من الصبح ده ؟!... يا أخى لو مش عامل حساب لسمعة عيلتنا ولا لأسمك وأصولك أعمل حساب للشركة دى .. والبيوت اللى مفتوحة من ورا المكان ده ))..

سارع جواد بالتدخل والوقوف بجسده كحائل بينهم ثم تحدث مهدئاً من ثورة أبن عمه :
-(( خلاص يا طاهر لو سمحت أهدى شوية وسيبه أنا هتصرف معاه ))..

نفض طاهر يده من فوقه ثم عاد بجسده المتشنج يجلس فوق مقعده بينما أردف جواد يقول مؤنباً بهدوء :
-(( عمرو .. طاهر عنده حق .. مينفعش صور زى اللى نزلت دى وأنت سكران طينه ومش حاسس بحاجه تنزل على الفيس .. أحنا ورانا مسئوليات وعلينا واجبات .. وأنت زيك زينا هنا .. يعنى وجهه شركه .. مطلوب منك تحافظ على سمعتها زينا بالظبط ))..

أجابه عمرو ساخراً بأستفزاز وهو يعدل من هندام قميصه المجعد بسبب قبضه أخيه :
-(( قصدك خايف تعيد الماضى واللى عملته ريم مع طاهر !!.. لا متخافش أنا مش تيتو ومش هخلى واحدة تضحك عليا وتستغل أسم شركتى وتوقعنى وتوقعها ))..

حسناً أن كان يريد أستدعاء الوحش فقد نجح فى ذلك بكل تأكيد حيث أنتفض طاهر من مقعده مرةً أخرى وخلال ثانية كان يوجهه لكمة قوية إلى أنف شقيقه جعلته ينزف بغزارة ثم صاح مهدداً بأهتياج :
-(( أقسملك بالله يا عمرو .. كلمة تانية وهتلاقى نفسك مرمى برة زى الكلب .. وأبقى ورينى مين هتبصلك وأنت شحات مش لاقى تاكل ))..

صمت لوهلة يلتقط فيها أنفاسه ثم استطرد يقول بتهديد مبطن :
-(( مع وش متشلفط عشان تبقى تفرح بحلاوتك دى ))..

شعر عمرو بجدية حديث شقيقه الاكبر تلك المرة فسارع يقول محاولاً تلطيف الأجواء :
-(( طاهر .. برو .. خلاص يا كبير متزعلش وميبقاش خُلقك ضيق كده .. أنت عارف فى الاخر مش بيهون عليا زعلك ))..

زفر طاهر مطولاً وهو يطالع يد شقيقه المحتضنة كفه برجاء، ذلك الاحمق الصغير ، تؤامه وشطره الثانى ، شقيقه الذى يصغره بعدة دقائق ونقطه ضعفه الوحيدة، والذى مهما بدر منه من افعال لا يستطيع البقاء غاضباً منه لأكثر من خمسة دقائق على أقصى تقدير، رمقه عمرو بتلك الابتسامة الساحرة التى دائماً ما كانت تميزه كعلامة أسترضاء فهتف  طاهر قائلاً بنبره محذرة شبهه محتده :
-(( بليل عندنا أجتماع مع زفت رائف .. وأنت عارف أن المشروع ده مسئوليتك عشان كده مش عايز هبل بينكم كالعادة .. نحترم نفسنا وتفتكر أنه شغل وبس .. سامعنى ؟؟..يعنى أى خلافات من زمان تتنسى .. وبليل الاقيك قدامى وإلا.... )).

سارع عمرو يقاطعه قائلاً بلهفة واضحة :
-(( من غير ألا يا معلم .. ٧ بالدقيقة هتلاقينى قدام المطعم مستنيك .. ولو على رائف فخلاص أحنا كبرنا ع الحوار ده ))..

هز طاهر رأسه موافقاً بأقتضاب وهو يبادل عناق شقيقه بأخر جاف قبل ركض الأخير للخارج هارباً ، أما عن جواد الذى كان يتابع الموقف بصمت هتف يقول بأرتياح :
-(( الحمدلله العاصفة عدت على خير .. أروح أنا أشوف شغلى اللى متعطل بقاله ساعه عشان مشاكل الأخوين حكيم ))..

زمجر طاهر غاصباً مما جعل الأخير يحذو حذو ابن عمه الأصغر ويركض هو الاخر إلى الخارج ليغرق كلاً منهما فى مهام عمله الموكلة .

***************

داخل صرح الشافعى سارت رحمه بخطاها الثابتة الواثقة بتلك البذلة النسائية الرائعة والمتناسبة تماماً مع حجابها الحريرى وحذائها ذو الكعب العالى نحو مكتب رئيس مجلس الادارة "رائف الشافعى "، مديرها المباشر والمالك الأصلى، ذلك الشاب الذى يقف على مشارف الأربعينات ، يمتلك أكثر شخصية غامضة ممكن مصادفتها فى الحياة ، عملى للغاية ، لا يعرف المجاملات ، صارم لحد كبير وطموح إلى درجه الجنون ، فى بداية الأمر ظنت أن أصوله عربية من ذلك الأسم الغريب على مسامعها والذى يمتلكه ولكن مع مرور الوقت تأكدت من جنسيته المصرية ، فقط ولد وعاش فترة من الطفولة فى أحدى الدول الخليجية مع والده ثم عادا للأستقرار فى مصر وبدء بعدها والده العمل فى المعدات الثقيلة الخاصة بالطرق والكبارى وما شابها ، تلك هى كل المعلومات التى تمتلكها عنه رغم أنقضاء عامين على عملها معه فهو بطبيعة الحال لم يكن كثير الحديث وهى لم تكن بالشخصيه الثرثارة ، تحدث رائف مستفسراً بأهتمام شديد بمجرد رؤيتها تدلف غرفته :
-(( ها يا رحمه .. بالنسبة لعقودنا مع شركة "إيواء"  خلصت ولا لسه ؟! ))..

أجابته رحمه بثقتها وهدوئها المعتاد :
-خلصت يا فندم متقلقش .. دقيقتين وتكون على مكتب حضرتك للمراجعه النهائية .. بس....

سألها رائف مستفسراً بخبث :
-(( بس أيه يا رحمه ؟! ))..

أندفعت رحمه تجيبه بقلق :
-(( أنت عارف يا رائف بيه .. العقد مش فى مصلحتنا .. قصدى يعنى مفيهوش مكسب يغطى أى ضرر ممكن يحصل خلال فتره تأجيرهم لمعدتنا .. غير الشرط الجزائى اللى هما حاطينه .. يعنى من الاخر الصفقة دى خسرانه ))..

أبتسم رائف بغموض ثم قال بأقتضاب :
-(( معلش مكسبى من الصفقه دى حاجة أهم بكتير من الفلوس .. وعمتاً أتفضلى دلوقتى على مكتبك ولو أحتاجتك هناديلك .. أه ومتنسيش ميعادنا النهاردة الساعه ٧ فى مطعم ****** )).. 

أومأت رحمة برأسها موافقة ثم قالت بخنوع وهى تستعد للخروج :
-(( هتلاقينى هناك فى الميعاد أن شاء الله .. عن إذن حضرتك ))..

التفت عائدة للخارج بعد أنتهاء حديثها وأثناء طريقها للخروج صادفت كريم المساعد الاخر لرائف فى الأعمال الاخرى والذى يأبى الإفصاح عنها حيث دائما ما يبقيها سراً عن الجميع ، أومأت برأسها فى تحيية صامتة له وأستانفت سيرها بينما هتف رائف أسمه بتلهف واضح قائلاً بحماس :
-(( كريم .. تعالى بسرعة وأقفل الباب وراك ))..

أطاعه الاخير على الفور وبعدما قام بما أُمِر به عاد رائف يسأله بجديه وهو يشير إليه للجلوس فى أحد المقاعد المقابلة له :
-(( ها .. كل حاجة تمام ؟!... عشان بكره ؟! ))..

أجابه كريم مؤكداً بتفاخر :
-(( كله فل .. واقف على التنفيذ .. أدينى الأشارة الخضرا وأنا تحت أمرك ))..

صمت كريم لوهلة يحك مؤخره رأسه بكفه ببلاهه ثم أردف يقول بتردد واضح :
-(( بس أنت متأكد .. قصدى يعنى مش خسارة ؟!.. بصراحة البنت حلوة وملهاش ذنب وكمان محترمة .. معرفش أزاى فلتت منك لدلوقتى ))..

أجابه رائف وعيونه تلمع بغل :
-(( عندك حق هى حلوة .. وأوى كمان .. بس مش سكتى ولا نوعى .. وكفاية أنها بنت عز الدين النويري عشان تتورط وزيادة .. دورها معايا خلص لحد كده ))..

أبتلع كريم أعتراضه مع عدم أقتناعه بداخله فإلى الأن يأبى مديره مشاركته فى السبب الحقيقى وراء ذلك الحقد الموجهه لها وأكتفى بإيماءه صغيرة من رأسه قبل مراجعه الترتيبات للمرة الأخيرة. 

*****************

فى المساء وتحديداً عند الساعة السادسه وخمس وخمسون دقيقه جلست رحمه حول طاولة الطعام فى ذلك المطعم الراقى ترتب أوراقها وجلس قبالتها رائف الشافى ينتظر بعقل شارد وصول غريميه ، دوى هاتف رحمة الموضوع فوق الطاولة أمامها معلناً عن أتصال هاتفى جديد ، قطبت جبينها وتشنجت ملامحها وهى ترى هوية المتصل وسرعان ما التقطت الهاتف تجيب بقلق واضح :
-(( مصطفى ؟!... حصل حاجة ؟! ))..

صمتت لوهلة تستمع إلى إجابة شقيقها وملامحها تبهت شيئاً فشئ حتى لاحظ رائف ذلك فبادر يسألها باهتمام :
-(( رحمة ؟؟.. فى مشكلة ؟! ))..

اجابته رحمة بفزع وهى تنتفض من مقعدها :
-(( ماما ... جتلها نوبة القلب تانى ومصطفى لوحده مش عارف يتصرف ))..

أجابها رائف بتفهم شديد :
-((طب تقدرى تروحى أنتى وأنا هكمل لوحدى متقلقيش ))..

نظرت رحمة نحوه بتشكك واضح ثم سألته بأرتياب :
-(( حضرتك متأكد ؟! ))..

هز رأسه موافقاً عدة مرات ثم أجابها مؤكداً بثقه :
-(( أنا حافظ العقود وشبهه متفقين .. يعنى القاعدة دى تحصيل حاصل ))..

أومأت برأسها موافقة بأمتنان وذراعيها تعمل بعُجالة ودون توقف فى ترتيب أشيائها ثم ألتقطت حقيبة يدها وهرولت نحو بوابة الخروج والقلق يحتل كافة ملامحها .

أما فى الخارج دلف طاهر بفتور شديد وعينيه تجول المكان ذهاباً وإياباً بحثاً عن شقيقه الأصغر عندما جذب أنتباهه فتاة ما ذو هيئة مهندمة للغاية ومحتشمة تسير بعُجالة شديدة تصل إلى حد الهرولة وتحاول وضع هاتفها داخل جيب سترتها الخارجى دون تركيز حتى أنها لم تعى بسقوطه فوق الأرضيه بدلاً من أدخاله فى جيبها ، سار هو حتى وصل إلى موضع الهاتف وأنحنى بجسده يلتقطه قبل أن يعاود الوقوف ثانية ويهتف عدة مرات متتالية وهو يهرول خلفها محاولاً اللحاق بها ، شعرت رحمة فى المحاولة الثالثة بجسد ما يسير خلفها أولاً قبل أن تعى لصوته العذب الذى يهتف خلفها بجدية ، توقفت عن السير وأستدارت تنظر للخلف وهى تبتلع لعابها بصعوبة بالغة وتنظر نحوه بدهشة وفضول ، التوى ثغر طاهر بأبتسامة جانبية ساخرة فتلك الفتاة تنظر إليه كما لو أنها فريسته ، أما عنها هى رحمة فقد أستغرق الأمر منها عدة ثوانِ لتلحظ ذراعه الممدودة نحوها والممسك بهاتفها ، سحبت الهاتف من يده بعنف غير مقصود من جهتها وأستنكار شديد من جهته ثم عاودت الركض نحو الخارج دون تعقيب وسط نظراته المراقبة لها .

اعاده من شروده صوت شقيقه يهتف بأسمه من خلفه :
-(( تيتو .. يا برو .. مالك واقف زى التمثال كده ليه ؟! )) ..

أجابه طاهر بسخط شديد :
-(( واحدة هبله متاخدش فى بالك ))..

أصدر عمرو صفيراً معجباً من حلقه قبل أن يقول مازحاً :
-(( أووو .. طاهر المناويشى بيقول واحدة !! ده حقيقى !!! )) ..

حدجه طاهر بعدة نظرات محذرة ثم قال معقباً بحنق :
-(( هو أنت ليه أول ما بتيجى سيرة أى حاجه مؤنثة دماغك بتقلب شمال كده !!!.. وبمناسبة المؤنث مش هنبهك تانى .. أى عك بينك أنت ورائف جوه مش هعديه على خير ... مفهوم ؟! )) .. 

زفر عمرو بضيق واضح وقد تبدلت ملامحه على الفور ثم أجابه قائلاً بفتور :
-(( خلاص يا طاهر قلتلك .. زمان صفحه واتقفلت .. وأظن رائف كمان نسى اللى حصل بدليل أننا هنشتغل مع بعض أهو وفوق كل ده كعربون سلام بينا وافق يظبطنى مع مديرة مكتبه )) ..

سأله طاهر مستفسراً بأرتياب شديد وقد ضاقت المسافة ما بين حاجبيه :
-(( قصدك أيه بالظبط مش فاهم ؟! ))..

غمز توأمه بعينه غمزه ذات مغزى وهو يربت بكفه فوق كتف شقيقه ثم قال بنبرة موحية :
-(( أنت عارف بقى .. بينى وبينك البنت صاروخ بس عايشة عليا الدور شويتين وعاملة فيها بنت ناس .. عمتاً هو ظبطنى .. بكرة بليل هتكون عندى لوحدها ))..

أنهى جملته وهو يعاود الغمز بعينه مرةً أخرى ، هتف طاهر بأحتقار جلى :
-(( أيه العك والقرف ده !!!.. وبعدين ما يمكن محترمة بجد ))..

أجابه عمرو مستهزءاً بشدة :
-(( محترمة أيه يا تيتو !!.. واضح أن بعدك عن الساحه خلاك مش عارف حاجة !! هى برضه فى واحده محترمه هتشتغل مع رائف ؟!.. وبعدين ده هو واعدنى هيجيبها بنفسه .. يعنى أكيد عارفة وموافقه .. ده غير أنه فهمنى أنها مش بتطلع غير للعزيز الغالى .. يعنى دور خضرا الشريفة ده جزء من اللعبة مش أكتر ))..

حرك طاهر رأسه رافضاً باشمئزاز ثم قال وهو يتحرك بجوار توأمه نحو رائف الذى بدء يلوح لهم بيده منذ وقوع عينيه عليهم :
-(( أنا تعبت منك وحاسس أن مفيش فايدة فيك )).. 

توقف عن السير فجأة متخذاً قراره للتو قبل أن يقول بعدم أهتمام :
-(( بص أولعوا سوا بس المهم تخلصنى من موضوع المعددات ده .. عايز ابدء شغل أول الشهر وده المهم ))..

أنهى جملته وأستدار بجسده عائداً نحو الخارج وقد قرر سحب يده من ذلك الاتفاق نهائياً ، راقب رائف أنصراف طاهر بقلق واضح ثم هتف يسأل عمرو بجدية بعدما وصل الأخير إلى الطاولة :
-(( هو حصل أيه ؟!! طاهر ماله ؟؟! ))..

أجابه عمرو وهو يسحب احد المقاعد ليجلس فوقها :
-(( متشغلش بالك .. طاهر قال بما أننا متفقين يبقى نكمل سوا من غيره .. المهم ها ، على ميعادنا بكره ؟! )).

غمغم رائف مؤكداً بشرود وتفكيره منصب على طاهر فأنسحابه يعطى له الحرية والراحه فى تنفيذه لما ينتوى .

******************

فى صباح اليوم التالى وقفت رحمة أمام مديرها تنتهى من أخذ توقيعه على بعض الأوراق الهامة وهى تسأله بأهتمام :
-(( مقابلة إمبارح كانت ناجحة ؟! ))..

أجابها رائف بسعادة شديدة :
-(( فوق ما تتخيلى يا رحمة .. أكتر من ممتازة والفضل يرجعلك ))..

صمت رائف لوهلة معطياً لحديثه أنطباع الجدية ثم عاود يقول بنبره عميقة :
-(( بس فى حاجة أخيرة هعتمد عليكى فيها .. عمرو المناويشى طلب ياخد الملفات معاه البيت يراجعها ويمضى عليها .. وبصراحة أنا مسافر النهاردة عندى مشوار ضرورى .. ومش هأمن لحد غيرك يستلم منه الملفات دى ))..

لاحظ أمتعاض ملامحها فسارع يضيف برجاء :
-(( معلش يا رحمة أنا عارف أنى بتقل عليكى بس ده من ثقتى فيكى .. وعمتا هبعت معاكى السواق يوصلك تستلمى منه العقود وترجعى على طول معاه ))..

لوت فمها بضيق فذلك المدعو عمرو وقح إلى أقصى درجه وفى كل مقابلة بينهم يحاول الأحتكاك  بها ، هتف رائف أسمها للمرة الأخيرة بأنفاس مكتومة فخطته وجميع ترتيباته تتوقف على أجابتها التالية ، زفرت رحمة بأستسلام ثم قالت على مضض :
-(( اللى حضرتك تشوفه يا رائف بيه .. شوف العقود هتكون خلصت الساعه كام وأنا هروح .. بس أتمنى يكون بدرى ))..

أجابها بفرحة عارمة مؤكداً :
-(( أه طبعاً بدرى .. الأ صحيح طمنينى .. والدتك صحتها عاملة أيه ؟!.. )).

أجابته بأمتنان :
-(( الحمدلله كويسة .. نوبة وعدت على خير ))..

اومأ برأسه هو الاخر ممتناً ثم هتف وهو يمد ذراعه بالملفات التى أنتهى من توقيعها :
-((شكراً يا رحمة واشوفك بعد أسبوع )) .. 

غمغمت مودعة بجدية وهى تلتقط الملفات من بين يديه :
-(( إن شاء الله يا فندم وعن إذن حضرتك))..

تنهد بعد خروجها مطولاً براحة وهو يعود ويستند برأسه على مقدمة مقعده ، فالليلة هى ليلة الحظ بالنسبه إليه سينتقم منهم جميعاً فى ضربة واحدة ، نعم فرائف الشافعى يدعس كل من يقف أمامه أو يخطأ فى حقه أو حق والده دون رحمة حتى ولو كان خطأه بسيط .

***************

فى المساء وتحديداً أسفل البناية التى يقطن بها ذلك المدعو عمرو المناويشى ، خرجت رحمة من السيارة الخاصة التى وضعها رائف تحت أمرتها ثم أخدت نفساً عميقاً قبل أن تقول برقتها المعتادة موجهه حديثها للسائق:
-(( أنا مش هتأخر .. خمس دقايق بالكتير هطلع أستلم الملفات وأنزل على طول ))..

أجابها السائق بتفهم :
-(( ماشى يا فندم .. بس هستأذنك أطلع قدام شوية بالعربية أجيب مياه من السوبر ماركت ده لحد ما تخلصى ))..

أشرأبت بعنقها وضيقت عينها تنظر حيث إشار السائق لها وعندما لمحت المتجر الذى أختصه بالذكر قالت بأطمئنان :
-(( تمام هخلص وأجيلك هناك عن إذنك ))..

أنهت جملتها وتوجهت بخطواتها إلى داخل البناية الراقيه حيث أوقفها أحد رجال الأمن يسألها بأرتياب :
-(( حضرتك طالعة فين ؟! ))..

بمجرد ذكر أسم عمرو المناويشى نظر لها الرجل بشئ من الاحتقار والفهم معاً ثم أشار لها بيده نحو المصعد وتركها عائداً إلى موضع وقوفه الأساسى .

توقفت رحمة بعد دقيقة واحدة أمام رقم الشقة المذكور وأخدت نفساً عميقاً تستجمع به قوتها وشجاعتها ثم طرقت باب المنزل عدة طرقات متتالية وبعد ثوانِ معدودة كان عمرو يقف أمامها بهيئته العابسة ، فتحت فمها للحديث وعندها شعرت بحركة شخصاً ما يخطو خلفها وقبل أن يتيح لها الوقت للألتفات كانت يده تطعنها داخل عنقها بأبرة طبية مليئة بالمخدر وما هى الأ ثوانٍ معدودة من المقاومة الغير مجدية حتى بدءت الرؤيا تتشوش أمامها وأرتخى جسدها ساقطه بعدها فى فجوة من الظلام السحيق .

أما فى الطرف الأخر وتحديداً فى مطار القاهرة الدولى  أرتفع رنين هاتف رائف بمكالمة طال أنتظارها وطال معها ترقبه ، أستمع إلى الطرف الاخر بأهتمام ثم قال بأنتصار وهو يغلق هاتفه بغل :
-(( باى باى عمرو المناويشى !.. نتقابل فى الآخرة .. معاها )).

******************

 

تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1