رواية نعيمي وجحيمها الفصل الثالث والاربعون 43 بقلم أمل نصر



رواية نعيمي وجحيمها الفصل الثالث والاربعون 43 بقلم أمل نصر





رواية نعيمي وجحيمها للكاتبة أمل نصر الفصل الثالث والأربعون

- الله يا جدعان دا ايه الحلاوة دي؟
هتفت بها رباب باعين متوسعة من الإنبهار وهي تفحص طقم الألماظ في علبته المخملية، وبشبه ابتسامة كانت كاميليا ترمق العقد والأسورة وخاتم الزواج في العلبة التي بيد شقيقتها، بعد أن أصر كارم عليهم ضد رغبتها في شراء شئ بسيط، فقالت ردًا على شقيقتها: - دا زوق يا كارم يا ستي مش زوقي.

سمعت شقيقتها والتفت برأسها لكارم تخاطبه بإعجاب: - زوقك يجنن ياعم كارم، طب والله انت لقطة يا شيخ.
قالتها ليشيع جوا من المرح على جميع الموجودين في الجلسة، من عائلة كاميليا في منزلهم وكارم ووالدته، والذي أعجبه الإطراء فقال يرد: -، عقبالك يا ستي إنتِ كمان لما نفرح بيكِ
ردت رباب تدعي البؤس: - ياااه معقول دا يحصل؟ ادعيلي بقى الاقي عريس زيك كدة، مع إني أشك.

أطلق كارم ضحكة منتشية يقول لها: - ولا تزعلي يا رباب أكيد هتلاقي، ولو مكانش موجود أجيبلك انا يا ستي ولا إنتِ فاكراني هين في البلد دي يعني ولا إيه.
هللت رباب بجملته لتكمل بمزاحها المرح: - ايوة بقى، وياريت كمان يكون حليوة وشبهك، عشان يبقى بيرفكت بجد.

قالتها وانطلقت ضحكات الجميع مرة أخرى، فخاطبه والد كاميليا بلهجة جدية وهو يشير بيده نحو أكياس الملابس والعطور الموضوعة أمامهم على الطاولة: - بس مكانش في داعي للمصاريف دي كلها يا بني، الحكاية في بيتها يعني.

اطرق كارم بوجهه قائلًا بدماثة اخلاق واحترام يثير الأندهاش: - ما تقولش كدة يا عمي، كاميليا أميرة وما يلقش بيها إلا كل شئ غالي، وان كان ع الهديا والهدوم فدي حاجات والدتي هي اللي اشترتها لوحدها عشان تقدمهم لمرات ابنها.

انتبهت كاميليا بوقع جملته التي أقرأها كواقع قبل حدوثه ولم تنتبه لكلمات والدته وهي تتحدث بمودة مع أبيها، اندماج بين الأسرتين يدعو للإعجاب، كارم يوزع ابتسامته وكلماته المنمقة توحي بتهذبه الدائم، والدته هي أيضًا لا تفرق عنه الكثير سوى أنها تبدوا طبيعية عنه قليلًا في تعبيرات وجهها وضيقها لو رأت ما لا يعجبها عكس ابنها ذو الصفحة المغلقة دائمًا؟!

انتبهت بعيناها على وقوف شقيقها الصغير بالقرب منهم بوجه واجم يتطلع إليهم بصمت.
- ميدو واقف مكانك ليه يا حبيبي؟ مش تيجي تقرب كدة وتبارك لكوكي حبيبتك.
قالتها تدعوه فاتحة ذراعيها، تقبل دعوتها وخطا ليرتمي في أحضانها قبل أن يقول لها بتردد: - الف مبروك يا كوكي.
- يا قلب كوكي إنت.
قالتها وهي تشدد عليه بذراعيها وتزيد من قبلاتها على رأسه ووجنته، فاجئها كارم بجذبه منها مرددًا لها: - يا ستي اديلوا نفسه شوية،.

أجلسه بجواره على الاَريكة ولف ذراعه حول الصغير يخاطبه بلطف: - إيه يا حبيبي مش ناوي تباركلي أنا كمان.
استجاب له ميدو يرد بابتسامة شاحبة لم تصل لعينيه: - مبروك يا عمو.
داعبه كارم بطرف سبابته على ذقنه يشاكسه: - طب ومالك بتقولها كدة من غير نفس، مش تفك كدة وتهزر معانا يا بطل.
- إن شاء الله.
قالها ميدو بروتينية عادية وهو ينهض ليكمل باستئذان: - معلش عن إذنكم أصل انا جاي من الدرس تعبان وعايز اريح شوية.

تابعت كاميليا انصرافه بقلق، جعلها لم تقوى على إكمال الجلسة دون أن تطمئن عليه، ولحقت به داخل غرفته
وجدته جالسًا على طرف تحته مطرقًا برأسه وهو يتلاعب بأصابع يده برتابة توحي بشروده.

، جلست بجواره لتسأله بحنان: - مالك يا قلبي؟ إيه اللي مزعلك بقى ومغير حالك كدة؟ لتكون بجد زي ما قال والدي وفاكرني هاسيبك؟ أوعى يا حبيبي تصدق إن دا ممكن يحصل، أبدًا والله، عمري ما هاسيبك ياقلب كاميليا، هافضل كده متبعاك دايمًا، وعمرك ما هاتغيب عن عيني...
قطع استرسالها يباغتها بسؤاله: - إنتِ ليه رفضتي عمو طارق؟

أجفلت وعادت برأسها للخلف تستوعب قليلًا قبل أن تجيبه بارتباك: - إنت بتقول كدة ليه؟ حد قالك إن طارق إتقدملي؟
أجابها بسأم وهو يتكتف بذراعيه: - لأ ماحدش قالي، بس انا بحب عمو طارق قوي وهو بطل ما يجي بيتنا زي الأول، هو انتِ زعلتيه في حاجة؟

رفررت بأهدابها تطالعه بازبهلال ثم ما لبثت أن تجيبه وهي تنفي بهز رأسها تقول: - لا طبعا، لا هو زعلني ولا انا زعلته، الحكاية حكاية نصيب، عمو كارم اتقدم وانا وافقت بس كدة، يبقى تبارك يا حبيبي لاختك وبلاش نجيب سيرة فلان ولا علان تمام.
سمع مها ثم مط بشفتيه وهو يشيح بوجهها عنه قائلًا: - تمام، بس انا برضوا بحب عمو طارق وما بحبش الراجل ده.

في رواق المشفى كان يدور حول نفسه بدون هوادة يجئ ويذهب، في انتظار خروج أحد ما يطمئنه على حالة أبيه التي اخذت كل هذا الوقت في الفحوصات وتناوب الأطباء على رعايته بداخل العناية المشددة، وفي الناحية الأخرى كانت لمياء منزوية على نفسها تبكي بصمت، تتاَكل داخلها من القلق على زوجها شريك عمرها الذي لم كادت أن تفقده بغباءها في لحظة تهور منها جعلتها تنطق بالكلمات المؤذية له،.

إنتبهت على وجه ابنها الذي أشرق وعينيه تتلفت للبعيد خلفها، التفت هي الأخرى برأسها نحو ما ينظر إليه، فوجدتها تخطو بخطوات مسرعة نحوهم، ومعها سائقها العجوز.
- إيه اللي جابك بس يازهرة دلوقتِ في الوقت المتأخر ده؟
قالها جاسر وهو يتلقفها من وسط المسافة، أجابت بقلق وهي تلتفت نحوه ونحو الدته: - مقدرتش استنى يا جاسر بعد من غير ما اطمن بعد ما عرفت من إمام، أخبار عمي عامر إيه دلوقتِ؟

تنهد يجيبها باستسلام ويده تسحبها معه: - لساه في غرفة العناية يازهرة، والدكاترة بيقولوا إنه هايفضل تحت الملاحظة لحد ما يطمنوا عليه.
هتفت بحزن: - لدرجادي هو حالته صعبة ياجاسر؟
أومأ له بعيناه وقربها من والدته، فتقدمت تصافحها بدعم قائلة بمواساة: - عاملة إيه دلوقت يا ماما، ربنا يطمن قلبك ويطمنا معاكِ.

أومأت لها لمياء هي الأخرى، ولكن بدون صوت، فخاطبها جاسر، احنا ممكن نطول هنا جمبه على ما يفوق، يعني انتِ شوية كدة وتروحي،
نفت برأسها على الفور قائلة: - لا طبعًا انا مش ماشية من هنا غير ورجلي على رجلك بعد ما نطمن على عمي.
- يا زهرة بلا...
قاطعته بقوة وهي تجلس على أقرب المقاعد أمامه تردد: - أنا قولت مش ماشية يعني مش ماشية.

زفر جاسر بيأس من عنادها، قبل أن يستسلم ويشاركها الجلسة بجوارها في انتظار الإطمئنان على أبيه.

طال الإنتظار وزهرة التي مُصرة على مرافقتهم، أصابها الوهن والتعب مع الجلسة المتعبة وعدم أخذ جسدها لقسطًا ولو قليلًا من الراحة والنوم، فغلبها النعاس على كتف زوجها الذي ظل جالسًا بجوارها ولم يطاوعه قلبه على إيقاظها، بل وخلع سترته ودثرها بها، حتى أشرق الصباح عليهم، لمياء والتي كانت مراقبة من الناحية الأخرى، تخلت عن كبريائها قليلًا تخاطبه بهدوء: - بدل ما هي نايمة على كتفك كدة، خليها تروح وترتاح في بيتها أحسن.

رمق والدته بنظرة غير مفهومة ثم قال: - ما انتِ شوفتي بنفسك، أنا حاولت معاها كتير، وهي مش راضية، أعمل إيه بقى في دماغها الناشفة؟ حتى وهي تعبانة مصممة تفضل جمبي.

وصلها مغزى كلماته على الفور، لتشيح بوجهها عنه مبتلعة الباقي من حديثها، أما هو فانتظر قليلًا متابعًا لها ليتأكد من فهمها للرسالة بهذا التوتر الذي اكتنفها، وبعد أكتفائها منها تركها ليعود لهذه الرقيقة التي أصابت كتفه بالتخدر من ثقل رأسها عليه، ابتسم بداخله وهو يربت على وجنتها برفق هاتفًا بهمس: - زهرة، زهرة فوقي ياقلبي، زهرة فوقي بقى، كتفي وجعني بجد.

هممت قليلًا قبل أن ترفع رأسها إليه، وهي لم تعي بعد على وضعها: - أيوة يا جاسر في حاجة؟
ابتسم بجانبية يشاكسها: - لا قلبي مافيش، كتفي بس نمل وماعدتش حاسس بيه.
استفاقت شاهقة تبعد رأسها عنه على الفور قائلة باعتذار: - أنا اَسفة يا جاسر، بس بجد والله ماحسيتش بنفسي.
رمقها بابتسامة مشبعة بعشقه وهو يقول: - لا يا ستي ولا يهمك، فداك كتفي ودراعي كمان دا كفاية قعدتك جمبي يا شيخة.

شعرت بالخجل من كلماته حتى ابتسمت عفويًا وقضمت شفتها السفلى بدلالها اللطيف الذي كاد ان يذهب بعقله حتى أنساه وضعهم، انتقلت عيناها بغير قصد للجهة الأخرى فانتبهت على السهام الخصراء وهي تحدجهم بضيق، خبئت ابتسامتها على الفور بحرج وهي تعتدل بجلستها، وقد غفل جاسر عنها لرؤيته الطبيب المعالج لأبيه، اَتيًا نحوهم بابتسامة مبشرة يخاطبهم: - تقدروا تطمنوا يا جماعة، عامر باشا فاق والحمد لله.

بعد قليل كان طارق أول الوافدين للمشفى بعد ان علم من صديقه بالذي أصاب عامر الريان، بحث حتى وجدهم أمام غرفته في انتظار الدخول بعد خروج فريق الأطباء من عنده، وصل إليهم يخاطبهم بلهفة: - السلام عليكم يا جماعة إيه اللي حصل؟
أجابه جاسر بعد ترديد لمياء وزهرة التحية: - الحمد لله يا طارق عدت على خير، كانت أزمة شديدة بس ربنا لطف بينا.
تمتم بكلمات الحمد ثم تابع بالسؤال: - كويس قوي يعني اقدر ادخل معاكم؟

اومأ له جاسر بعيناه وبعد قليل دلفا اربعتهم بخطوات مترددة بحرص نحو عامر المعلقة بيده الأنابيب الطبية، وشحوب وجهه مع المرض أذهب عن بشرته لونها الطبيعي.
تقدم جاسر أولهم ليتناول كف يده يقبلها بشوق قاتل يخاطبه بحرقة: - الف سلامة عليك يا والدي، انا كنت هاموت من قلقي عليك.
أومأ له عامر بابتسامة من تحت قناع ألاكسجين الذي يتنفس به.

تقدمت لميا هي الأخرى تخاطبه باكية بعتب وهي لا تصدق فرحتها بسلامته: - سلامتك يا عامر، بس انا برضوا زعلانة منك، عشان خبيت عليا تعبك، لكن وديني يا عامر لو عملتها تاني لتشوف اللي يحصلك
- قلبك أبيض يا ست الكل، دا احنا مصدقنا اطمنا ع الراجل.
قالها طارق ضاحكًا من خلفها قبل أن يقترب هو الاَخر ليسأله عامر بتفكه: - إيه يا عم الشباب ما تقوم كدة وشوف الناس النكدية دي، عليا النعمة انا من فرحتي هاين عليا أزغرط.

قالها طارق وارتسمت ابتسامة واسعة بمرح على وجه عامر كما استجاب له جاسر ولمياء وزهرة التي وقفت بزواية قريبة منهم مع خجلها للتقدم، انتبه لها عامر ليشير إليها بيده مع نظرة مشجعة منه، فاقتربت تتناول كفه هي الأخرى تقبلها قائلة بصدق حبها لهذا الرجل الذي لم تقابله سوى عدة مرات معدودة ولكن يغمرها إحساس الابوة منه: - الف سلامة عليكِ يا عمي، ربنا ما يحرمنا منك أبدًا يارب.

تبسم لها بمودة ليربت بكفه على وجنتها بحنانه، مما أثار الغيرة بقلب لمياء التي لم تجد هذا الترحيب ولا هذه الإبتسامة منه.

كانت تعدو بخطوات مسرعة نحو مقر عملها بعد أن أوصلتها وسيلة المواصلات العامة بالقرب من المبني، وجدته فجأة يظهر لها من العدم ويتصدر بجسده الضخم أمامها يقطع عنها السير بوجه متجهم يبدوا خاليًا تماما من هزله الدائم كلما قابلها، حدجته بنظرة كارهة تزفر بفمها متأففة تقول بتهكم: - يا صباح يا عاليم يا رزاق يا كريم، هو انا اصطبحت بوش مين بس النهاردة ع الصبح؟

رد ساخرًا: - إكيد بوشك طبًغا، لهو انتِ بتسيبي المراية أساسًا؟
كزت على اسنانها غيظًا من وقاحته وتبجحه معها في الحديث، ودت لو تمطره بالسباب ولكن فضلت تجاهله لمغرفتها التامة بعدم مقدرتها على مجاراة لسانه الحاد، تحركت خطوتين فخطا هو أيضًا يتصدر لها مرة أخرى، فهتف بوجهه غاضبة: - إبعد عن وشي يا جدع انتِ بدل ما اصرخ والم عليك الشارع كله.

تجاهل تهديدها وقال سائلًا من تحت أسنانه: - بتخرجي مع الواد الأصفر وتروحي اماكن زي دي ليه يا بت؟ مالكيش اهل يربوكي؟
وكأنها ضُربت بمقلاة غليظة على وجهها جحظت عيناها وانفغر فاهاها بصدمة لتجادله صائحة بانفعال: - وانت مالك انت الله يخرب بيتك؟ أهلي ربوني ولا سابوني من غير تربية، اروح ولا مروحش، كنت خطيبي ولا جوزي عشان تراقبني وتيجي تحاسبني كمان؟ مين اداك الحق ده؟

رد غير عابئ بانفجارها: - ما حدش اداني يا عين امك، بس انتِ خليكِ مكاني، لما تشوفي بهيمة قدامك مغمية عنيها وبتجري حدف على طريق الترعة وانتِ شايفاها هاتغرق قدامك، تصعب عليكِ بقى وتحاولي توقفيها ولا تسبيها تغرق وتروح في داهية بقى مع نفسها؟

جحوظ عيناها ازداد حتى كاد أن تخرج مقلتيها من محجريهم، فكها الذي تدلى بشدة من هول كلماته، حتى أصبح وجهها يشبه الرسوم الكرتونية، فخرج صوتها اخيرًا تردد بعدم استيعاب مشيرة بسبابتها نحوها: - أنا بهيمة؟ إنت بتقول عليا أنا بهيمة؟
أكد لها بقوله: - أيوا بهيمة، طول ما انتِ مقفلة عقلك ده وسيباه بعفاره وترابه كدة من غير ما تنضفيه وتفهمي بقى من نفسك، تبقى بهيمة.

تهدجت أنفاسها وهي تضغط على أسنانها بقوة لتكبح جام غضبها من هذا المستفز الذي يمطرها بالإنتقاد والتشبهات الاَزعة دون وجه حق، وحينما غُلبت على أمرها وجدت نفسها تتكتف بذراعيها تبتغي إهانته، فقالت تدعي الامبالاة: - أنا حرة واعمل اللي انا عايزة اعمله، إنت مالك انت، ياللي اَخرك حتة بودي جارد لا روحت ولا جيت.

اطلق ضحكة ساخرة غير مكترث لردها وقال: - أنا حتة بودي جارد وانتِ اَخرك إيه ياست البرنسيسة؟ ولا تكونيش اتعشمتي بالواد الأصفر، لا بقى يا حبيبتي فوقي نفسك، دا كلها يوم ولا اتنين وتلاقيه مع واحدة غيرك، يعني هو بس مستني ياخد غرضه منك.
- انت قليل أدب.

هتفت بها بغير سيطرة على انفعالها: - لا يا اختي مش انا اللي قليل أدب، دا انتِ اللي هبلة وسادة ودانك عن النصيحة وعيونك الواسعة دي بتبص كدة ع الفاضي من غير ما تشوف كويس، صدق اللي قال، عيون بقر من غير نظر.

صارت دمائها تغلي منه بقهر وفاض بها حتى أنها زامت بفمها أمامه ترفع قبضتيها في الهواء تود افراغ شحنتها الغاضبة بضربه، وصاحت بعنف: - عليا النعمة يا إمام لو ما لميت نفسك لكون مسلطة عليك اللي يربيك ويعلمك الأدب.
- هههه
صدرت منه بسخرية ليكمل: - مش انا ياما اللي عايز الرباية، دا انت ناقصك اللي كفين عشان تتعلمي الأدب وتمشي ع الخط ماتعوجيش.

قالها بغضب وأعين حمراء أجفلتها منتفضة، فاستغلت هفوته وركضت هاربة من أمامه بجزع، تابعها ينظر في أثرها مرددًا بغيظ رافعًا قبضته في الهواء: - اه يانا بس لو اتلم عليها، إيدي بتاكلني يا ناس!

ظلت تسرع بخطواتها هربًا منه بخوف تملكها من نظراته الغاضبة والمتحفزة ضدها، لاتدري ماذا تفعل مع هذا الشخص الكريه، يتدخل فيما لا يعنيه وكأنه يحاول فرض وصايته عليها بغير صفة!
تفاجأت بخروج ميرفت أمامها وذهابها نحو سيارتها، لاحقتها حتى قبل أن تدلف لداخل السيارة: - ميرفت ميرفت، كنت عايزاكي في موضوع مهم.

قالتها لاهثة بلهفة وهي تفاجأها بحضورها، فالتفت رأس الأخرى يمينًا ويسارً تخاطبها بتحفظ وصوتٍ خفيض: - أهلًا يا غادة، واقفة كدة ليه؟
أجابتها بصوت لاهث
- كنت عايزة أقعد معاكِ واتكلم شوية واقولك عن الواد اللي اسمه إمام، دا بيعاكسني في الرايحة والجاية وكمان بيقول...
- خلاص يا غادة مش وقته انا ورايا مشوار مهم، خلي الكلام دا بعدين.

قالتها ميرفت تقاطعها بنزق، فتابعت الأخرى وكأنها لم تسمع: - طب انا كنت عايزة أسألك، هو صحيح اخوكي بتاع نسوان زي ما بيقولوا؟
فاض بها ميرفت واستشاطت غيظًا منها فاقتربت برأسها تهمس من تحت أسنانها: - أنا مالي ومال الكلام دة، دي حاجة بينك وبينه واعرفيها منه، إبعدي بقى عن الباب ووسعيلي عشان امشي، عامر الريان تعبان اوي عايز اروح اشوفه.

ابتعدت لها غادة وفور أن اعتلت ميرفت سيارتها، هتفت عليها: - طب ممكن تاخديني واروح اشوفه انا كمان معاكِ.
تطلعت لها ميرفت بغيظ وهي تقضم شفتها السفلي بقوة لتكبح نفسها عن رد قاسي لها، ثم اكتفت بتشغيل المحرك والتحرك بسيارتها بعيدًا عن محيطها.

خرج الجميع بأمر الأطباء بعد اطمئنانهم عليه، إستأذن طارق للذهاب لمتابعة عمله وتبقى جاسر وزهرة ولمياء التي جلست بزاوية تفور وحدها شاعرة بضيق يطبق على أنفاسها، بعد معاملة عامر الجافة لها رغم، كل ما حدث له وقلقها عليه طوال الساعات الماضية، ثم هذا الشعور بالغيرة الذي أصابها الاَن، نحو هذه الفتاة التي حظيت بحنان زوجها في أشد اوقاتها هي إحتياجًا له، وقبل ذلك كان ابنها الذي سرقته عن العالم أجمع، إنها حتى لا تصدق هذه المعاملة التي يعاملها بها، جاسر المتجهم الغاضب دائمًا، يدلل ويحنو ويبتسم، وهذه الزهرة لا تعلم ما بها، هل هذه طيبة وبراءة التي تحيطها أم أنها مسكنة وإجادة جيدة لتأدية دورها في الحصول على ما تبتغيه؟

ظلت على شرودها في مراقبة الزوجان الوقفان أمامها في إحدى زوايا المشفى، حتى استفاقت على لمسة خفيفة على كتفها. لتجفل برؤية ميرفت تخاطبها: - هاي يا طنت، عمو عامر عامل إيه؟

أومأت لها لمياء تتقبل تحيتها والإجابة عن سؤالها بعد أن جلست بجوارها ميرفت والتي كانت تتحدث بموساة: - أنتِ ما تعرفيش أنا زعلت قد إيه يا طنت بعد ما عرفت بالخبر، أقسم بالله خرجت من الشركة طوالي، وما قدرتش أكمل اليوم، عمو عامر دا معزته عندي كبيرة أوي.

ردت لميا بابتسامة ودودة لها: - ما تحرمش منك ومن سؤالك يا حبيبتي، احنا الدكاترة طمنونا لكن بقى هو لسة في دايرة الخطر، وعايز رعاية طول الوقت، لكن انت عرفتِ منين؟
- عرفت من كارم، أصله وصل النهاردة الشركة يمسك مكان جاسر بصفته مدير أعماله.

قالتها وهي تهزهز رأسها تدعي التأثر قبل أن ترفع عيناها نحو جاسر وزهرة فقالت بمكر: - بس أنا بجد زعلانة على حال عمو عامر، عشان اتحرك بمشاعره وقطع رحلة علاجه بسبب جوازة، الله أعلم هاتوصلنا لحد فين بنحسها؟
سمعت منها لميا وعيناها اتجهت نحو الجهة المقصودة ولكنها أثارت الصمت.

وفي الجهة الأخرى كان التعب قد بلغ مبلغه منها، فكانت تشعر بأقدامها على وشك السقوط، ومازالت تنكر أمامه: - يا جاسر بقولك كويسة انت قلقان ليه بس؟
تجهم وجهه يأمرها بحزم هذه المرة، وقد ضج من الجدال معها دون فائدة: - اسمعي الكلام بقى وروحي، أنا مش فاهم إيه لزوم إصرارك العجيب ده وانتِ مش قادرة تصلبي طولك أصلًا؟

تنهدت ترد بقنوط: - مش حكاية جدال، بس انا بصراحة مش بلعاها، ازاي يعني اروح البيت واكل وانام وانتوا هنا على أعصابكم؟ ما ينفعش يا جاسر.
أكمل بحزمه غير راضي عن مجادلتها له: - لأ ينفع وبطلي بقى، انا ووالدتي متعودين ع السهر، انما انت شكلك تعبان بجد. روحي ياللا وكفاية كدة.
- طب إنت إمتى هاتيجي طيب؟ ما انت كمان تعبان والست والدتك برضوا تعبانة؟

قالتها وقد بدا انها بدأت تستسلم، فقال يربت على ذراعيها بحنان: - ما تقلقيش احنا بس مستنين الدكتور الألماني اللي متابع حالته، هو أكتر واحد عارف بيها، خلاص طيارته ساعتين وتوصل. يعني مش هاتأخر عليكِ كتير.
أومأت وتحركت تتصل بسائقها ليأتي وياخذها معه، ولكنها استدركت بالمكان المتواجدة فيه، فومض عقلها بفعل ما تأخرت عنه منذ أيام، وذهبت لتسأل موظفات الأستقبال في الطابق عن معمل التحاليل في المشفى.

بعد قليل.

وقد أنتهت زيارتها ومواساة لمياء عن مرض زوجها، وقد فاجئها جاسر كالعادة بجفاء كلماته رغم فعلها للواجب معه، فاضطرت للتسريع بالذهاب، كانت تتحدث وهاتفها على أذنها وهي تقطع الرواق الطويل في اتجاه المصعد: - يا بنتي افهمي بقى، جوز خالتك في العناية وانا كان لازم اشوفه، جوزك خالتك مين؟ عامر الريان يا ميري، هو انتِ فقدت الذاكرة؟، ماشي يا ستي براحتك، انا بس حبيت اقولك لو عايزة تعملي الواجب، طب خلاص يا حبيبتي ما تزوقيش، هو انا ضربتك على إيدك، تمام يا قلبي اشوفك بقى بالليل.

أنهت المكالمة لتضع الهاتف في حقيبتها ولكنها تفاجأت برؤية زهرة ما زالت في نفس الطابق ولم تغادر، مع تغير اتجاه سيرها، عقدت حاجبيها قليلًا باستغراب قبل أن تصل لمصعدها، قبل أن تكمل طريقها ماطة بشفتيها.

وإلى ميري التي أنهت أتصالها مع ميرفت بنزق، لتعود غير مبالية لتشغيل الموسيقى الغربية الصاخبة وترقص عليها بتهور وجنون كعادتها، أو بترديد الأغنية الهادئة نسبيًا مع تأدية الكلمات والتعبير بجسدها ويديها أمام المراَة، باندماج شديد جعلها تشرد مع كل حرف وكأنها على منصة غنائية أو على مسرح تتفاعل لًتبهر متابعيها، أخذتها الحماسة حتى تفاجأت بصاحب الجسد النحيل خلفها تمامًا، شهقت صارخة بارتياع وهي تلتف نحوه: - بابا خضتني، انت هنا من إمتى؟

رمقها والدها بنظرة مشمئزة رافعًا طرف شفته بصمت لعدة لحظات اربكتها، ثم ما لبث أن يتمالك غضبه وهو يشير لها بيده: - اقفلي الزفت ده، وتعالي عايز اتكلم معاكِ.
سمعت منه واتجهت لتغلق مشغل الموسيقى، ثم جلست أمامه.
اومأ لها بذقنه نحو ملابسها يخاطبها بضيق: - قاعدالي بالشورت والبيت كله خدم، ما ينفعش تلبسي حاجة عدلة تحفظي بيها مقامك قدامهم.

اعتدلت أمامه لتضع قدمًا فوق الأخرى ترد بتعالي: - ودول إيه دول إللي هاعملهم قيمة ولا حساب كمان؟ انا ميري مش محتاجة اعرف حد مقامي.

ازداد شعور الإمتعاض بداخله منها، ليغمض عينيه عنها ويغمغم بالسباب مع نفسه وهو يحاول حفظ صحته عن الإصابة بجلطة دماغية أو شلل رباعي من حماقات ابنته التي لا تنتهي، ثم عاد إليها برأسه مقررًا الدخول في الحديث مباشرةً، فقال بأمر: - إنت يا بنت، عايزك تقومي تاخدي شور وتزوقي نفسك، عندنا مقابلة مهمة.
تجعد جبينها باستغراب تسأله: - وانا مالي بمقبلاتك؟ من امتى انا بحضر حاجات زي دي أصلًا؟

اعتدل بجلستة هو الاخر، ينفض السيجار الكوبي الكبير، ليرد على كلماتها بنزق: - عشان انا عايز كدة النهاردة، دا مش عشان الشغل او الوزارة، دي مقابلة خاصة، السفير فوزي شريف وابنه رائد هايحضر معاه واحتمال نتغدا مع بعض كمان.
تسمرت قليلًا أمامه بوجهها دون رد تستوعب وتتذكر تخمين ميرفت، فقالت: - والدي هو الموضوع دا فيه تلميح لخطوبة ولا جواز.

مال بوجهه أمامها بجيب بحدة: - تلميح! لا يا روح قلبي دا أكيد هايحصل وانا واثق، بس اهي أمور شكليات وخلاص، ولا هما يستجروا كمان يرفضوا نسبي؟
ابتعلت ريقها تقول بتوتر: - طبعًا هما مش هايرفضوا، بس حضرتك ناسي بقى ان انا كمان لازم يبقالي رأي ولا تجوزني عمياني؟
رد بنبرة هادئة مريبة: - وانت ها ترفضيه ليه يا ميري؟ عشان الشكل ولا عشان الشخصية؟

- دي أو دي المهم إنك تاخد رأيي، عشان دي حاجة تخصني أكيد. ، ثم انا كمان ماخلصتش عدتي، لزوموا إيه الاستعجال بقى؟
قالتها ميري لتفاجأ بعاصفة غاضبة من أباها الذي هدر عليها بصيحته: - لزوموا إني عايز ارفع راسك من تاني بعد ما بن الريان ماخلى شكلك زبالة وطلقك عشان بنت سكرتيرة ولا تسوى؟

أشاحت بوجهها عنه وقد اَلمتها حقًا كلماته فتابع يردف: - جوازك هايتم من رائد تاني يوم عدتك بعد ما تخلص، انا مضمنش الظروف، خصوصًا والوزارة دلوقت بقت على كف عفريت، انا بيوصلني معلومات وعارف ان دا ممكن يحصل في التعديل اللي جاي.
شهقت بدون صوت لتسأله بعدم تصديق: - يا نهاري، معقول يا دادي دا يحصل وترجع إنت إنسان عادي؟ ومبقاش انا بنت الوزير؟

كشر بوجهه أمامها يخطبها بضيق وابتسامة صفراء: - اه يا حبيبتي، ممكن اوي الكلام دا يحصل وفي اقرب وقت كمان، عشان كدة بقى احنا لازم نسرع بموضوع جوازك ده، وتبقي مرات السفير.
أومأت برأسها وهي تستوعب فحوى كلماته، تعلم أن والدها بإصراره بهذا الزواج لا يقصد مصلحتها وحدها، وإنما تاتي مصلحته هو أولًا، في تبيض وجهه بمصاهرة تعيده للصورة من جديد بعد ان تنطفئ عنه الأضواء، وتضيع منه السلطة.

خرجت ميرفت من المصعد لتضع النظارة السوداء على عينيها في طريق خروجها من المشفى، حتى تغادر وتعود لعملها وقد فعلت ما يقول عليه الواجب، أمام جاسر ووالدته، كانت تسير مسرعة بخطواتها ولكنها توقفت فجأة على سماع الصوت المألوف لأذنيها والذي صاحبه بعض الضحكات العالية ليزداد الشك بداخلها، فاستدرات بكليتها لتقطع الشك بالقين، وقد كان، حينما رأته أمامها يتضاحك مع بعض الرجال الموظفين في المشفى.

توسعت عيناها بتركيز شديد وعقلها ومض في كل الاتجاهات فور تذكرها كل الاَحاديث القديمة والأقاويل، فارتفعت عينيها غريزيًا نحو الأعلى ثم عادت تردد اسمه ببهجة نبتت على الفور بداخلها: - عماد!

الفصل الرابع والاربعون من هنا


 

تعليقات



×