رواية مملكة سفيد الفصل الثالث عشر 13 بقلم رحمة نبيل
ظلم_قديم_وتار_مُبيت؟
قبل القراءة متنساش تعمل لايك على الفصل …
“أخي ما بَالُ قلبكَ ليسَ يَنقَى؟!
كَأنَّكَ لا تَظنُّ المَوتَ حَقَّا!
أَلا يَا ابنَ الذينَ فَنوا وبَادُوا
أَمَا وَاللّٰهِ مَا ذَهبُوا لِتبقَى!”
- أبو نواس.
صلوا على نبي الرحمة
_________________________
توقف بخيله على حدود المملكة بعدما انتهى من أمور جنوده داخل القصر وجاء لتفقد الحدود المشتركة مع مشكى، الحدود التي أصبحت حدود شائكة بعدما كانت مجرد حدود بالاسم فقط، نظر بأعينه صوب مشكى يرى جنود بافل يدورون على بعد صغير منه، يتمخترون على رمال مملكة ما كان لهم أن يطئوها يومًا سوى بوجوههم حينما تدفن فيها .
رفع عيونه بقوة يبصر قصر مشكى الملكي الذي يعلو أحد الجبال، وعيونه تنير بضوء مختلف وصوت داخل عقله يهمس بكلمات رفيقه :
” أنظر يا سالار، هذه مشكى ارضي وارض أبائي جميلة بكل ما فيها، وإن مت يومًا، اتمنى أن أكون شهيدًا مدافعًا عنها ”
ابتسم سالار بسمة صغيرة يحرك عيونه صوب الجنود الذي يتضاحكون أمامه بصوت صاخب ينظرون صوبه بنظرات ساخرة وكأنه مجرد مهرج يسليهم، وهو منحهم بسمة لطيفة يرفع كفه لأجلهم، لتبهت وجوه الجميع وتعلو نظرات التعجب وجوههم .
هبط سالار عن خيله يتقدم صوب الحدود بينهم يراقب أنهم تداركوا فاجعة ما فعل هو ودانيار وتميم واحضروا جنود كثر، وهذا متوقع فهم يمتلكون عداد ضخم، كالحشرات تمامًا يتكاثرون بشكل مخيف .
توقف سالار بينما جنوده كانوا مستنفرين جواره ظنًا أنه سيشن هجومًا أو ما شابه، لكن سالار فقط نظر لهم نظرات يقول بصوت هادئ وكأنه عابر سبيل مر بهم بالصدفة :
” السلام عليكم ..سمعت أنكم أتيتم لمشكى منذ فترة وجيزة، ولستم من شعبها صحيح ؟!”
نظر له الرجال بجهل، يتعجبون أن يقترب أحد رجال الممالك الأخرى والتحدث معهم بهذا الود، نظر له أحد الرجال يقول ببسمة ويبدو أنه لم يتواجه يومًا لا هو ولا أي واحد منهم مع سالار في ساحة الحرب ليجهلون محدثهم :
” نعم صحيح، ومن أنت ؟؟”
حركّ سالار رأسه وعيونه ينظر لمحيطه بهدوء :
” عبدٌ فقيرٌ إلى الله، دعكم مني واخبروني ما الذي تفعلونه في بلاد ليست لكم، ووطن ليس وطنكم ياقوم؟؟ ما بالكم استحللتم الدماء والأرض والعرض؟؟ لا يعقل أنكم ولدتم منبوذين، أعلم أنكم كنتم قبل ذلك مسلمين، لكن نبذتم أنفسكم عن دينكم وتركتم ارضكم واتبعتم أنفسكم فاصبحتوا منبوذين ”
على الغضب ملامح الرجال وغلت المراجل في صدورهم وانتفض أحدهم بقوة يدافع عن تلك الأرض التي لا يعلم عنها شيئًا على أية حال :
” من قال أنها ليست لنا يا هذا، نحن اخذناها وفزنا بها، إذن نحن الآن أهل هذه البلاد وهذه أرضنا ووطننا ”
ابتسم لهم سالار بسمة خفيفة، وجنوده حوله ينظرون له بصدمة وعدم فهم لسبب هذا الحوار، لكن سالار لم يهتم وهو يقول بهدوء شديد ونبرة تشع بالسلام :
” إذن، إن أخبرتك أنني قائد جيوش سفيد وعلى استعداد لمنحك منزل داخل بلادي، وأعطيك من الأموال حتى تكتفي واضمن لك ألا تجرفك امواج الحرب العاتية وأحفاظ على حياتك، هل تنضم لجيشي وتساعدني ؟؟”
اتسعت أعين الجميع وعلت نظرات متفاوتة أعينهم، لا يصدق أحدهم أنهم أمام قائد جيوش سفيد الذي كان بافل منذ أيام على وشك إحراق المكان لأجل ما فعل بهم، تبادل الجميع النظرات وقد بدأ الطمع يعلو عيونهم، والتردد يزين ملامحهم، وسالار منحهم بسمة واثقة ينتظر منهم ردة فعل وقد كانت حين تقدم أحدهم يقول بريبة :
” أنت تحاول خداعنا أليس كذلك ؟؟”
” لا عزيزي أنا لا اتبع نفس أساليب قائدك، فأنا لا اتحايل أو اخدع أحد ”
لمع الاستحسان على ملامح الجميع وقد بدت فكرة الانضمام لسفيد وتأمين حياتهم في مملكة آمنة مستقرة فكرة جيدة، لكن مستعبدة فهم ما كان لهم أن ينسلخوا عن حقيقة كونهم منبوذين، الأمر صعب، وهذا الرجل أمامهم لا بد أنه يسخر منهم فقط، وإن كان جادًا ما كان ليعرض أمر كهذا بهذه النبرة الساخرة وهذه البساطة، وقبل أن يحسم أحدهم تردده ويبدي رأيه بشأن عرض سالار، اعتدل سالار في وقفته يقول بجدية :
” حسنًا هذا ما كنت انتظره، إن كنتم على استعداد بالتفكير فقط مجرد تفكير في عرض لترك تلك الأرض التي تقفون عليها مقابل امتيازات أكثر مما تقدمها لكم، فهذا يعني أنها ما كانت يومًا وطنًا لكم، أصحاب هذا الوطن هم أنفسهم من يعانون ويُقتلون ويُعذبون على أيديكم ولم يفكروا لحظة في التخلي عنها لأجل شيء، وانتم تعيشون مرفهين ورضيتم تركها لأجل رفاهية أكبر، لا يستوون ..”
ختم حديثه يتحرك بعيدًا عنهم ساخرًا وقد زرع داخلهم ما كان يرنو إليه من حواره ليسمع صوت رجل مرتفع :
” لكن هذا يعني أنك خدعتنا، مثلك مثل بافل ”
ابتسم سالار بسمة جانبية وعيونه قد ألتمعت بسواد قاتم وهو يقول دون أن يستدير لهم :
” جيد أنك تعلم ما يفعله بكم بافل، وفيما يخصني فأنا لم أكن اخدعكم بشيء، بل كنت أظهر لكم أنكم مجموعة مرتزقة لا وطن لكم ولا أرض ولا ذمة، أنتم حمقى تبيعون أنفسكم لمن يدفع أكثر، وأنا يومًا لن أقبل امثالكم داخل أرض سفيد، ولن أسمح أن يمس أحدهم ذرة رمال منها ”
ابتسم أحدهم بسخرية يتقدم الجميع صوب الحدود الفاصلة بينهم والتي كانت عبارة عن قطع حديدية كبيرة، تخطى ذلك الجندي الحدود يتحدث بصوت ساخر متحدٍ :
” ها أنا لمست رمال سفيد وإن أردت أن اتمرغ بها سأفعل”
استدار سالار ببطء يرمق قدم ذلك الرجل الذي يحركها على الأرض أسفله كما لو كان يدهس حشرة، ثم رفع عيونه صوب وجهه بهدوء شديد :
” حسنًا أمر التمرغ لا جدال عليه، فأمثالك من الخنازير اعتادوا التمرغ بالوحل، لكن نسيت أن هذه سفيد وليست بركة الوحل خاصتك، والآن امنحك ثلاث ثواني لتعود حيث كنت وإلا اعتبرت وجودك على ارضي تهديدًا ”
” وإن لم افعل ؟؟”
نظر له سالار ثواني ثم قال بملامح جامدة :
” لا انصحك ”
ضحك الرجل وتبعه أصدقاؤه بصوت صاخب وهم يراقبون ما يحدث وقد رنّ صدى ضحكاتهم في الأجواء، لكن فجأة تلاشت تلك الضحكات وعلت صرخات حادة عند تناثرت الدماء عليهم وقد شق سيف سالار معدة صديقهم دون أن يرف له جفن ..
سحب سالار السيف من معدته يرى جسده يتهاوى ارضًا، ثم رفع عيونه لباقي الرجال الذين شحبت ملامحهم بقوة وقال بهدوء شديد موجهًا حديثه لرجاله :
” ألقوا جسده لهم ولا تدعوا أحدهم يطأ رمال سفيد وإلا الحقتموه بصديقهم… وأنتم لديكم عشرون دقيقة لللحاق به، فإن كان محظوظًا لن يموت بسرعة ”
تركهم سالار يتحرك بهدوء شديد بعدما ألقى لهم نظرة مشتعلة يلوح بيده في الهواء :
” تحياتي لبافل وملاعينه ”
صعد سالار حصانه يرمق جنوده يحملون جسد الرجل يلقون به في مشكى ثم عادوا وتمركزوا في أماكنهم بملامح قدت من صخر، هز رأسه بهدوء يتحرك صوب القصر ليكمل عمليات التدريب التي تركها .
” لعنة الله على الكافرين”
_________________________
طالت نظرات إيفان صوبها وهي تتكأ بهذا الشكل على الشجرة، تنظر له بتحدي وكأنها تدعوه أن يتجرأ ويقترب لنزع اللثام عن وجهها .
رفع حاجبه لها لترفع هي خاصتها وكأنها تخبره ( ماذا ؟؟)، لكن إيفان ابتسم لها بسمة ساخرة يتقدم منها خطوات معدودة لتعود هي نفس عدد خطواته التي تقدمها، أطلق ضحكات مستنكرة :
” أنظروا من خرج صباحًا في تحدي سافر لي، لكنه يخشى اقترابي منه ”
” ومن قال أنني اخشاك ؟؟”
نظر لها إيفان ثواني قبل أن يشير بعيونه صوب كفها الذي يحمل السيف :
” لا أدري، ربما أصابعك التي تتحرك على قبضة السيف بشكل متوتر، أو ارتجافة يدك نفسها، أخبريني أنتِ يا ترى ما الذي يجعلكِ تخشينني ؟؟ ”
” أنا لا أفعل ”
هز رأسه باستهزاء :
” نعم صدقتك، إذن يا ….أنتِ لم تخبريني اسمك صحيح ؟؟”
نظرت له بشك لتحدثه معها بهذه البساطة، هذا الأمر جعلها تخشاه أكثر من تعامله معها بحذر أو صرامة، هذ الرجل كل ما به يخيفها ويستفزها وبشدة .
” لا بأس سنتجاهل الاسم وادعوكِ الملثمة الغبية”
اتسعت عيون كهرمان بقوة وشعرت بالغضب يندفع بين أوردتها بعد كلماته وهو تجاهل كل ذلك يقول ببسمة :
” يليق بكِ الغباء، فأي امرأة تلك التي ترتدي ثياب جندي وتحمل سيفًا وتأتي الملك لتقاتله دون سبب وهي تعلم أنها في أي لحظة ستسقط أسفل قبضته وحينها سيسقيها من المر كؤوسًا ”
ابتسمت كهرمان بسمة انعكست في عيونها وهي تتخلى عن مكانها تتحرك صوبه بخطوات حذرة بغرض إثبات أنها لا تخشاه :
” ومن أخبرك أنني افعل ذلك دون سبب ؟؟”
” حسنًا لا أجد سببًا لتلك الأفعال الرعناء، ولا مبرر لها سوى الغباء ومحاولات يائسة لإثبات شيء في نفسك، أو ربما …تحاولين لفت انتباهي لكِ ”
ختم حديثه ببسمة عابثة في قمة السخرية، لكنها بدل الغضب أو الانتفاضة محاولة الدفاع على نفسها أطلقت ضحكة فلتت منها دون وعي ولم تغير صوتها كما المعتاد، لتعلو نظرات غامضة عيون إيفان الذي اطال النظر بها يسمعها تردد بنبرة غريبة :
” ولِمَ لا تقول أنه ربما الدافع وراء كل هذا هو الكره، والعداوة ”
صمت إيفان ثواني ثم قال بصدمة كبيرة :
” أوه، كره وعداوة من امرأة ؟؟ ؟”
ثواني قبل أن ترتسم بسمة واسعة فخورة على فمه يقول بشكل مستفز لكل خلية داخل جسد كهرمان :
” هذا رائع يبدو أن نجاحي لم يصب الرجال فقط بالحقد والكره بل امتد ليشمل النساء كذلك الأمر، هذا أمر يُحسب لي”
نظرت له كهرمان بصدمة وقد أصابها إيفان للتو بخرس، لقد جاءت كي تثير استفزازه وتخبره أنه ليس صالحًا كما يظن وأنه مجرد حقير ظلم شقيقها، لكنه ببساطة اصمتها، بالله هل هناك من يرى نفسه بمثل ذلك الشكل مثله !؟
وإيفان تلقى صدمتها ببسمة وسعادة يهنئ نفسه على هدفه، ثم قال يفرك ذقنه بتفكير :
” إذن أنتِ تكنين لي كرهًا وحقدًا، وكأي امرأة طبيعية نالها ظلمٌ من رجلٍ ما، ارتديتي ثياب رجل وجئتِ لمبارزتي، أمر تقليدي معروف صحيح ؟؟ جميع النساء الكارهات يفعلن هذا بالطبع ”
نظرت له بعدم فهم لكنه بصق في وجهها كلماته حانقة :
” ألم يخطر بعقلك أن تأتي لقاعة العرش وتشتكي لي من أي ظلم تعرضتي له ؟؟ ”
” ومن أخبرك أنك ظلمتني أنا ؟؟”
نظر لها بعدم فهم يبصر اشتعال عيونها بغضب شديد :
” من ظلمته بين يديّ الله الآن، وأنا لن آتي واتذلل لك أسفل عرشك لاحصل على حقه، وأنا لا اريد أخذ حقه منك، بل سأترك عقابك لرب العالمين، أما عما افعله أنا فربما يمكننا تسميته وسيلة لتفريغ كرهي وغضبي منك، أن أراك امامي وسيفي بين قبضتي، يمنحني نشوة وأمل أنني قد أتخلص منك يومًا ”
كانت تتحدث وهي تنظر لعيونه بعيون بدأ اللون الابيض بها يتحول للأحمر من الغضب أو ربما من كبتها لدموعها، بينما إيفان في تلك اللحظة شعر بالصدمة لمقدار الكره الذي يقطر من بين حروفها، هل بالفعل ظلم إنسانًا في حياته ولم يرد عنه مظلمته حتى مات ؟؟ هو لا يتذكر أنه ظلم يومًا أحد.
اطال النظر في وجه كهرمان التي كانت دموعها متلألئة بالدموع، ثم تراجعت ببطء للخلف تقول :
” ربما لا تتذكره، لكن أخي كان يحترمك يومًا ما، كان يقدرك ويراك شخصًا عظيمًا، لكنك …لكنك خيبت أمله وظلمته، مات دون أن يسامحك، وأنا هنا مضطرة أن أراك تتمختر أمامي كل يوم تتباهى بعدلك أمام الجميع وأنت الظالم، تتغنى بصلاحك وأنت الفاسد ”
سقطت دموعها تتنفس بعنف وإيفان ما يزال صامتًا دون كلمة واحدة، الذهول هو كل ما يمكن أن تراه أعلى ملامحه، تنفس بصعوبة يحاول معرفة ما فعله، لكنها لم تسمح له تمسح دموعها ببساطة :
” ربما تكون تلك المبارزة لك نوع من أنواع الترفيه، لكنها تعني لي الكثير، من يدري ربما يحالفني الحظ وتنتهي المبارزة بموتك ”
راقبها إيفان تبتعد عنه ببطء ولم يتحرك أو يركض ليعلم من هي عكس ما كان يخطط، تركها تتحرك بعيدًا عنه ببطء شديد ولم يصدر منه سوى قول :
” لكِ ما تريدين ”
توقفت كهرمان بتعجب ليقول ببسمة لا معنى لها :
” ستستمر المبارزة بيننا حتى يسقط أحدنا، إما أنا أو …أنتِ ”
ابتسم كهرمان له بسمة صغيرة تنحني نصف انحناءة له :
” يبدو هذا عادلًا …مولاي .”
ختمت كهرمان حديثها تمنحه بسمة صغيرة ثم تحركت بعيدًا عنه وهي ما تزال تراقبه وحينما أصبحت على بعد منه استدارت وركضت بسرعة وإيفان ما يزال يحدق في ظهره وقد اضحت تلك المبارزة مع هذه الملثمة أكثر من مجرد لعبة، سيعلم من هي ومن هذا الذي ظلمه لتأتي هي وتبغضه بهذا المقدار، سيصل له، وحينها سيقف أمامها ينتزع اللثام ويخبرها بكل قوة أنه لم يظلم أحدًا ولن يفعل …
وفيما يخص الظلم عليه الآن ترك تلك المدعية تخرج من أسوار سجنه مع وطردها خارج أسوار قصره بالكامل، هذا يبدو عادلًا له .
_______________________
تقف جواره في منتصف الساحة حيث يتدرب دانيار عادة، وأمامه على أحد الأشجار هناك رسومات لدوائر تمثل هدفًا له، تنهد دانيار بصوت هادئ قبل أن ينظر لتبارك والتي كانت تضع لثامًا تخفي به جزء ليس بالهين من وجهها، وتقف بثياب محتشمة وحجاب طويل بعض الشيء تحمل بيدها سهم وبالأخر قوس، تنتظر تعليمات دانيار لها .
” حسنًا مولاتي، الأمر في غاية البساطة، كل ما عليكِ فعله هو تثبيت قدميكِ في الأرض، تشديد قبضتيك حول القوس والسهم، ضعي كامل قوتك في ذراعيكِ وكتفك، ركزي على هدفك واتركي السهم ليصيبه، واضح ؟؟”
هزت تبارك رأسها وقد حفظت تعليماته بالكامل تركز عيونها أمامها صوب الهدف تشعر بالخوف أن تصاب أثناء استخدام السهام، لذلك رفعت رأسها لدانيار تتساءل :
” هذا لن يؤذيني ؟؟”
” ماذا ؟؟ لا لا بالطبع لن تتأذي، فقط نفذي كل ما أخبرتك به، وسترين أن الأمر ابسط بكثير مما تعتقدين ”
هزت تبارك رأسها تتنفس، ثم شرعت تسمي الله قبل البدء في أي شيء، أمسكت القوس ووضعت به السهم، ثم رفعته وهي تحاول أن تتحكم بهما، لكن ما كادت يدها تستقر في الهواء حتى سقط منها السهم يسبب مسكتها الخاطئة، ابتسمت له بسمة صغيرة خجلة :
” اعتذر لك، أنا … أنا لا اعلم كل تلك الأمور ”
ورغم أنه لم يكن من النوع الهين في التدريب أو الصبور، إلا أنه لم يغضب أو يصرخ، بل نظر لها باحترام يقدر محاولاتها للنجاح في الأمر :
” لا بأس، دعيني اساعدك ”
ختم حديثه يميل ارضًا ليأخذ السهم، ثم نزع منها القوس يريها كيفية حمله وهي تراقبه باهتمام شديد وانبهار أكبر، ثواني حتى وجدت دانيار يعطيها القوس موضوعًا به السهم مشيرًا للهدف :
” والآن حاولي مجددًا ”
هزت رأسها تنظر للهدف تحاول أن تصيبه بدقة، ركزت وركزت حتى شعرت أنها على أتم الاستعداد لترك السهم، جذبته أكثر لتكون الضربة قوية، وما هي إلا ثواني حتى تركت السهم لينطلق في الهواء، ثم وضعت يدها أعلى رأسها لتخفي الشمس عن عيونها تراقب السهم، لكن للعجب لم يكن هنا شيء في الهواء ولا في الهدف، ضيقت ما بين حاجبيها بعدم فهم وهي تدور حولها..
ودانيار ينظر لها بصدمة وهو يقول :
” إلاما تنظرين ؟!”
” السهم لا أدري أين اختفى ؟!”
رفعت رأسها للسماء تبحث عنه لربما كانت قوتها مبالغ بها وقذفته بعيدًا، لكن صوت دانيار جذب انتباهها وهو يقول بصوت به غضب مكتوم :
” أين تنظرين مولاتي، السهم لم يتحرك خطوة بعيدًا عنكِ”
نظرت له بعدم فهم ليشير هو على السهم الذي سقط من يدها أسفل أقدامها بدلًا أن تقذفه، نظرت له بصدمة ثم رفعت عيونها لدانيار الذي كانت ملامحه مزهولة، ابتسمت له تحاول ايجاد شيء لقوله وهي تنحني لتحضر السهم :
” أوه ها هو ذا، يبدو أنه أفلت مني بالخطأ، سأعيد رميه”
صمت تحاول وضعه داخل القوس، لكن حينما فشلت مدته إلى دانيار تقول بهدوء وبسمة صغيرة :
” هل يمكنك وضعه لأجلي ؟؟”
جذب منها دانيار القوس والسهم يضعه بشكل معين، ثم مده لها :
” حسنًا ضعي كامل قوتك في ذراعيكِ، وركزي وإياكِ وافلاته بضعف، كما جذبتيه بقوة اتركيه بقوة ”
هزت رأسها تستمع لحديثه ثم جذبت السهام بقوة شديدة، ومن بعدها تركته بسرعة كبيرة كما قال، لتشعر أن جسدها اندفع مع السهم للإمام بشكل جعل دانيار يصرخ برعب وهو يمد يديه وكأنه سيتدارك الأمر :
” يا ويلتي”
سقطت تبارك ارضًا بقوة تشعر بوجع شديد في أكتافها وذراعها بسبب السقطة، لكنها لم تهتم لذلك، بل كل ما اهتمت به هو السهم :
” هل أصبته ؟؟”
نظر دانيار للسهم الذي أصاب فرع الشجرة بعيدًا جدًا عن الهدف فإن كانت مثلا تصوب على رأس رجل، بهذه الطريقة قد تصيب أنف رجل آخر خلفه :
” لا بل اصبتني أنا باليأس، انهضي مولاتي رجاءً، دعينا ننظر للجانب المشرق، لقد تحرك السهم بعيدًا عن محيط قدميك ”
ابتسمت تبارك تنهض تنفض ثيابها، ثم نظرت بحماس صوب الشجرة تبحث عن سهمها :
” أين هو ؟؟ أين اصبته ؟؟”
” هناك بجوار عش ذلك العصفور المسكين ”
رفعت تبارك عيونها أكثر لا تبصر ما يشير عليه لكنها لم تهتم، بل نظرت له تقول ببسمة :
” إذن هل سيأتي يومًا وأصبح رامية سهام بارعة!!”
تنحنح دانيار لا يود أن يحبط من عزيمتها :
” حسنًا لتصبحي رامية سهام اولًا، ثم نفكر في أمر بارعة، والآن لنكمل نحن نتقدم بشكل جيد ”
ابتسمت تبارك وقد شعرت بالأمل، هذا الرجل جوارها هادئ ومتفهم، يبدو أنها ستستمتع بالتعلم معه، أمسكت القوس والسهم ومدتهم له كي يجهزه لأجلها وهو امسكهم يقول ببسمة باردة :
” أوه يبدو أنني نسيت اخبارك، أن وضع السهم في القوس من مهام الرامي، فلن تأتي لي كي أضعه لكِ كلما اردتي استخدام سهم، تخيلي أن نكون في حرب وتركضين صوبي كلما اردتي وضع سهم، وقتها ستموتين قبل تبديل السهم الاول ”
نظرت له تبارك بتسائل ليضع لها السهم وهي امسكته منه تقول بجدية :
” هل تقول أنني ربما اشترك في حرب ما ؟؟”
” من يعلم ؟؟ لربما تحدث غارة على المملكة وقتها ستكونين في حاجة لتأمين نفسك ”
شعرت تبارك بالرعب من التفكير في الأمر، هي لم تأت هنا كي تفقد حياتها بطرق غريبة كأن تقع أسيرة أو تصاب بضربة سيفًا أو يخترقها سهمٌ، هي توقعت ميتة أكثر تطورًا كأن تضربها سيارة حديثة يرفض صاحبها التنازل وانقاذها فتموت على الطرقات، أو أن يتم اغتيالها في المشفى حينما تكتشف أن عبير وسميرة يعملون بشكل غير قانوني، أو تذهب ضحية أهالي حارتها حين تبلغ عنهم الشرطة لتسببهم لها في امراض نفسية عديدة، اسباب كثيرى لم تكن الحرب أحدهم..
تنفست بصوت مرتفع وهي تكمل تدريبها مع دانيار والذي لم يستمر صبره معها طويلًا، فبعد نصف ساعة كاملة من الفشل في الاقتراب حتى من الهدف صرخ دانيار بجنون :
” بالله عليكِ أين تنظرين؟؟ ها هو الهدف في منتصف الشجرة، ليس في الفروع ولا في الأرض ولا في الأوراق وبالطبع ليس في السماء، الهدف أمام عينيكِ مباشرة، أين تصوبين أنتِ يا امرأة ؟؟”
نظرت له تبارك بغضب شديد من صراخه :
” أنت لا تصرخ في وجهي بهذا الشكل، أنا الملكة في هذا المكان ”
تنفس دانيار بقوة وهو يتحرك صوب الهدف يشير له بيده :
” معذرة مولاتي، هيا انظري هذا هو الهدف، هذا هو، داخل تلك الدائرة الصغيرة و…”
فجأة توقف بصدمة حينما رأى السهم يصيب الشجرة جوار رأسه تحديدًا وعلى بُعد صغير من الدائرة الأكبر في الهدف.
رفع دانيار عيونه بصدمة صوب تبارك يرمقها بتشنج وكأنه يسألها ( الآن رأيتيه ؟؟) حينما كدتي تجزين عنقي؟؟ وتبارك لم تهتم لكل ذلك، بل ابتسمت بسمة واسعة تقول بسعادة وهي تضم القوس لصدرها :
” ها أنظر لقد فعلتها، يبدو أنني بالفعل امتلك قدرات داخلية جيدة ”
نظر لها دانيار بصدمة، لكن رغم ذلك تنهد يقول بجدية :
” حسنًا سنعتبر هذا انتصارًا كبداية، رغم أنني أتعجب أنكِ حتى الآن لم تصيبي الهدف مرة واحدة ولو بالصدفة، الأمر ليس صعبًا لهذه الدرجة، فقط تخيلي أن المكان حولك مظلم ولا بصيص ضوء واحد سوى الهدف فقط ”
نظرت له تبارك ثواني ثم قالت ببسمة :
” هذا يبدو سهلًا، لكنني لم احضر نظارتي الطبية، في المرة القادمة ربما استخدمها فهذا قد يساعدني لارى الهدف من الأساس ”
نظر لها دانيار بعدم فهم :
” عفوًا ؟؟”
ابتسمت له تبارك تقول بجدية وهي ما تزال تحدق في سهمها الاخير بفخر كبير تخبره متأخرًا بعض الشيء :
” أنا أعاني قِصر نظر ”
صمتت ثم أضاف :
” يعني أنني لا أرى بعد بُعدٍ معين، تصبح الأمور البعيدة نسبيًا مشوشة لعيني، لذلك لا أرى أي علامات واضحة على الشجرة ”
نظر لها دانيار بصدمة كبيرة، هل قضى كل ذلك الوقت يحاول تعليمها التصويب على شيء لا تراه ؟؟ هل تمزح معه ؟؟ يحتاج الآن لإخفاء تلك المرأة من أمام عيونه بسرعة كبيرة قبل أن يتخلص منها في فورة غضبه .
” أه صحيح هذا رائع، احسنتي مولاتي، والآن انتهى التدريب ”
” إذن هل بدايتي جيدة ؟؟”
” بل رائعة، يوم اضافي وتأخذين مكاني في الجيش ”
ويبدو أن ذلك الأمر اعجب تبارك التي ضحكت بخفة تدرك مجاملته لها وهي تسير بعيدًا عن الساحة :
” حسنًا لا تقلق، فلن افعل، والآن اسمح لي بالذهاب ..”
وبمجرد أن رحلت تنهد دانيار متنفسًا الصعداء يلقي جسدها ارضًا وهو يرمق السهم بحنق :
” احيانًا اكره كوني ذو فائدة في شيء …”
_______________________
وعدتُكَ
أن أتجاهَلَ عَينَيكَ مهما دعاني الحنين
وحينَ رأيتُهُما تُمطرانِ نجومًا
شَهَقت
وعدتُكَ
أنْ لا أوجِّهَ أيَّ رسالة حبٍ إليكَ
ولكنني رغم أنفي
كتبت…….
«مقتبس»
وعودًا قطعتها في لحظة يأسٍ بيني وبين نفسي، بنود خططتها كي اوقف الحرب بين قلبي وعقلي على حبك، تعهدت أن أتوقف عن تتبعك، لكنني اخلفت، وها هي بعدما أخبرته مئات المرات أنها لن تطأ معمله عادت إليه مجددًا، لا ليست دون كرامة، بل هي دون إرادة، عاشقة بائسة سقيمة وما لها من دواء سوى رؤيته .
ابتلعت برلنت ريقها تدور بعيونها في المكان تطمئن أنه خرج اتتنفس الصعداء حينما وجدت المكان خالي منه، لكن ليس من رائحته .
بدأت تنظف المكان رافضة أن تمس امرأة أخرى شيئًا يمسكه هو، تأتي يوميًا منذ جاءت للعمل بالقصر كي تنظف معمله بنفسها حتى وإن لم يعلم ذلك .
بائسة ؟؟ قليلة الصفة في حقها، هي في غاية البؤس واليأس أن تعود له مجددًا.
أن يركض صوبها يفتح ذراعيه لها مبتسمًا أن تسمع لقب دلالها من بين شفتيه .
” بيــــرلــــي ”
استدارت برلنت الصغيرة بفزع حين أبصرت جسد تميم الذي يحدق فيها بشر واعين متسعة، وفجأة اشتد غضب عيونه وهو يركض صوبها صارخًا :
” أيتها المجنونة ما الذي فعلتيه ؟! ابتعدي، ابتعدي ”
جذب تميم جسدها بسرعة بعيدًا عن العربة الخشبية الخاصة بوالدها وهو يحاول أن ينقذ ما يمكن إنقاذه، وهي كعادتها وقفت جواره تنكس رأسها ارضًا وهي تبكي بصوت مرتفع :
” آسفة، أنا آسفة اقسم لم أقصد، لقد هربت الدجاجات من القفص وارتعبت من أن يشردوا بعيدًا، وبالخطأ اصطدمت بالسيارة لتنفلت عجلاتها وتصطدم بالجدار وتتحطم ”
نظرت للسيارة التي فسد جزء لا يُستهان به منها بسبب حيوانات والدتها التي تربيهم خلف المنزل، قبل أن تنفجر باكية بصوت مرتفع تقول بفزع ورعب استبد بها :
” أبي سيقتلني، يا ويلتي تميم سيقتلني، اقسم أنه سيقتلني ”
كانت مفزوعة بشكل كبير وهي تبكي تنكب على السيارة تحاول جمع القطع الخشبية وتصليحها مجددًا بشكل هستيري يائس، جعل تميم يجذبها بسرعة بين أحضانه وهو يحاول تهدأته :
” اهدأي بيرلي، لن يحدث لكِ شيء صغيرتي، لن يمسك العم بسوء اهدأي لا تبكي، لا تبكي ”
لكن برلنت لم تتوقف عن البكاء مرتعبة وزاد بكائها عنفًا حين سمعت صوت والدها الذي تلقى صدمته الكبرى حين رأى ما حدث لمزروعاته :
” ما الذي حدث هنا؟! ما الذي حدث لعربتي ؟!”
ابتعدت برلنت بسرعة عن احضان تميم تبكي بخوف شديد تحاول الحديث وهي تفرك يديها بتوتر في فستانها :
” أبي أنا…”
” هذا أنا عمي، لقد، لقد هرب حصاني من الاسطبل واقتحم ارضك بالخطأ وتسبب في كل هذا حتى أنه حطم الفخار الخاص بنا ودمر كل شيء و… أنا آسف حقًا ”
نظرت له برلنت بامتنان ولم تكد تتحدث بكلمة حتى أطلقت صرخة مرتعبة بسبب ضربة والدها التي أصابت تميم وهو يصرخ به أنه حطم مصدر رزقه بسبب طيشه وحصانه الأخرق .
ذلك اليوم تتذكر ما حدث، هرج أصاب المكان وشجار نشب بين العائلتين انتهى بتدخل تميم وقوله أنه سيتحمل خطأه وينقل ما يريده والدها بنفسه و بلا مقابل ليعوضه عن خسارته إلى جانب عمله مع والده، تحمل خطأ لم يرتكبه لأجلها ولم ينطق بكلمة واحدة يذكر فيها اسم برلنت ..
وفي النهاية وبعدما هدأت الأمور، لم يوجه لها سوى كلمات قليلة مصحوبة ببسمة لطيفة وهو يعطيها بعض الفواكه كي لا يبيكها :
” افديكِ بحياتي كلها بيرلي، وليس فقط مجرد أيام من العمل مع والدك صغيرتي، لا بأس طالما أن سوءًا لم يمسك ”
رفعت برلنت عيونها الباكية له بعدما اعتزلت الجميع في حديقة الحي بعيدًا عن الأعين وليس عنه بالطبع :
” شكرًا لك تميم ”
” عفوًا بيرلي …”
استفاقت برلنت فجأة من رحلة ذكرياتها التي تتمنى لو تُسجن داخلها بالقوة، أن يأبى الزمن إخلاء سبيلها، أو أن ترفض الحياة ابتعادها عن تلك النقطة …
تنهدت تعود بعيونها للمعمل، صوب حاضرها الذي يكفيها وجود تميم به لتبتسم وتسعد .
وأثناء تنظيفها انتبهت برلنت لشيء يلتمع أعلى الطاولة الخاصة بأدواته، اقتربت ببطء تحاول تبين هويته، وحينما لمس