رواية مملكة سفيد الفصل السادس عشر 16 بقلم رحمة نبيل
ورغم أن الفراغ حولهم في هذا الوقت لم يكن يساعد على حدوث صدى صوت أو ما شابه، لكن هي شعرت وكأن كلماته التي نطق بها منذ ثواني رنت في أذنها مرات متتالية وكأنها تتعمد اخبارها أنها كُشفت .
اتسعت أعين كهرمان وقد شعرت أن قلبها توقف لثواني معدودة، ثواني قليلة فقط حتى تمالكت نفسها واستطاعت التنفس وهي تقول بصوت خافت وما تزال تخفض رأسها باحترام شديد :
” عفوًا مولاي لا افهم ما تقصد ”
ابتسم وكأنه يقول حقًا :
” بلى تفعلين، أليس من العجيب أن تسكن أميرة أسفل سقف قصري، وتعمل به ؟؟ هل تحبين تجربة الحياة العادية، أم أن مملكتك ارسلتك جاسوسة على مملكتي ؟؟”
تنفست كهرمان بصوت منخفض كي لا ينتبه لتوترها، ثم رفعت رأسها ببطء تقول بنبرة جادة هادئة:
” في الحقيقة مولاي أنا لا اعلم سبب استنتاجك لأمر كوني أميرة، لكنني أؤكد لك أنك مخطئ جلالتك ”
رفع إيفان حاجبه وهناك بسمة جانبية قد ارتسمت على فمه ثم قال ببساطة شديد :
” أوه حقًا ؟؟”
” نعم ”
كلمة صغيرة نطقت بها وهي تشحن عقلها بمائة سبب وحجة تثبت بهم أنها ليست أميرة وأنها مجرد فتاة عادية، تنتظر منه رفضًا لكلمتها كي تنطلق في الدفاع عن هويتها المزيفة، لكن كل ما خرج من إيفان هو هزة كتف بسيطة وكلمات أبسط :
” حسنًا، كنت امزح فحسب ”
كلمات بسيطة جعلت أعين كهرمان تتسع بشكل قوي وهي ترفع وجهها لها، بهذه البساطة ؟؟ كان يمزح ؟؟ كان سيتسبب في توقف ضربات قلبها لأنه فقط …يمزح ؟؟
لكن مهلًا ما سبب تلك البسمة التي ارتسمت على فمه، هل كان يمزح حقًا أم فقط يسخر منها أم ماذا !! ذلك الرجل داهية كما وصفه أرسلان سابقًا، ما تزال تتذكر كل أحاديثه عن إيفان في اجتماعه مع والدته أثناء وجودها .
” إيفان هادئ ؟؟ أشفق على من يعتقد ذلك، إيفان داهية ماكر وتفكيره مرعب، صمته يرعب أكثر من حديثه، لذا لا إن سألتني رأيي فلا أنا لا اطمئن لبسماته ونظراته بمقدار حبة خردل، ذلك الرجل ورث عن والده وأجداده عقل سام”
كلمات كانت تتردد على مسامعها، لكنها لم تكن تهتم بها كثيرًا، فما حاجتها لتعلم صفات كل ملك من الملوك؟! كان يكفيها أن تعلم صفات ملك واحد، وهو شقيقها، أفضل رجال العالم في عيونها، ذكي وقوي وحنون، رجل بكل ما للكلمة من معنى .
خرجت من شرودها بشقيقها وإيفان على صوت إيفان وهو يردد :
” إذن اعتقد أنكِ مضطرة الآن لتعودي إلى القصر آنستي، فبقائك في هذا الوقت خارجًا مرفوض تمامًا ”
نظرت له كهرمان من خلف غطاء وجهها، تحمد الله أنه لا يرى ردات فعلها ولا شرودها به ولا ملامحها التي تتغير مع كل كلمة منه .
تنهدت بصوت مرتفع، ثم أمسكت أطراف ثوبها :
” اعتذر منك مولاي، سأعود حالًا للسكن الخاص بي”
كانت أعين إيفان تراقب أناملها تلك وبسمته ما تزال ثابته أعلى فمه، انحنى لها برأسه في خفة شديد، ثم تنحى جانبًا يسمح لها بالمرور، وهي سارت بهدوء مبتعدة عنه بخطوات حريصة وطريقة سير يعلمها هو تمام العلم ..
وثقت بجهله، وهذا أكبر خطأ ارتكبته .
وأثناء مراقبته لها وهي ترحل، وقبل أن يقرر صعود حصانه للذهاب حيث الرجال ليجلس معهم كعادته، سمع صوتًا جعل جسده يتحفز بشكل غريب، صوت يعلمه جيدًا .
ارتفعت أعينه بسرعة صوب السماء يبصر قذائف عديدة تتطاير في الأجواء مبددة سكون الليل لتتسع عيونه بقوة ينظر صوب كهرمان التي كانت تتحرك ببطء شديد والقذائف تتطاير في المكان .
فجأة أطلقت كهرمان صرخة اخترقت سكون الليل حين شعرت بيد إيفان تجذبها بعنف صوبه، اتسعت عيونها برعب وكادت تصرخ، لكنها تفاجئت حين حملها دون مقدمات يلقي جسدها على حصانه يقول بصوت مرتفع :
” لغرفتك ولا تخرجي منه ”
نظر للحصان يضربه بخفة صارخًا :
” تحرك بسرعة، هيا ”
وفي ثواني وكأنه فهم ما يريده إيفان هرول الحصان بسرعة كبيرة بكهرمان التي اطلقت صرخات مرتفعة وهي لم تستوعب بعد ما يحدث، لكن وبردة فعل غير إرادية من يدها امسكت لجام الفرس تتحكم بجسدها أعلى الفرس بكل براعة وقد أبصرت للتو القذائف لتضرب خصر الحصان بقدمها وهي تصرخ برعب :
” اسرع ”
راقب إيفان بأعين مذهولة سرعة تداركها للموقف وجلستها أعلى ظهر حصانه وكأنها وُلدت فارسة، ابتسم بسمة غريبة غير مصدقة ساخرًا :
” نعم فتاة عادية بالكامل ..”
تجاهل الأمر وهو يركض في المروج بسرعة يصرخ بصوت مرتفع جهوري يستل سيفه من غمده :
” هجوم على المملكة، هجوم على المملكة ”
وعلى صوت الملك انطلقت أبواق الانذار بشكل مثير للفزع وقد انتفضت قوات الجيش بأكمله..
وعند الرجال كان أول من انتبه لصوت القذائف هو سالار الذي اتسعت عيونه، ينهض عن مقعده يركض بسرعة كبيرة وخلفه جميع الرجال في حالة استنفار كبيرة وصوت سالار هز جدران المملكة القصر بأكمله :
” كلٌ يحمل سلاحه، احملوا اسلحتكم ”
قال وهو يركض بسرعة صوب المبنى الرئيسي للقصر الرئيسي :
” دانيار اذهب لتفقد الرماة واستعد، تميم تفقد المجموعة الثانية من الجيش، مهيار للمشفى بسرعة ولا تتحرك فكل ثانية قد تحدث فارقًا في حياة جندي ما ”
أنهى التعليقات يركض وهو يرفع سيفه صارخًا في جنوده الذين يركضون من حوله بشكل مرعب وكأنها نهاية العالم :
” لا أريد تهاونًا، لا اريد رحمة من ترونه تخلصوا منه”
________________________
خرجت تبارك منذ دقائق لتتنفس بعض الهواء النقي علها تهدأ من اضطرابات صدرها .
وفي ظلام الليل تسير، تناجي السماء وتشكو للنجوم، لكن مهلًا ما هذا الصوت، هل هناك من جاء ليشكو غيرها، هكذا ستزدحم السماء بالشكوى وتمتلئ الأجواء بالتذمرات، نظرت حولها تحاول البحث عن صاحب الصوت، لكن فجأة اتسعت عيونها حينما رأت ذلك الجسد الضخم يحمل سيفه ويركض بشكل مخيف صوب أسوار القصر، نظرت حولها بخوف ولم تكد تفقه ما يحدث حولها حتى سمعت صوتًا جهوري يصدر من برج المراقبة الخاص بالقلعة :
” هجـــوم من مملكــة مشــكى، كلٌ يحمل سلاحه، توجهوا صوب البوابات وجهزوا المدافع، حاملي السهام استعدوا ”
وبعد تلك الكلمات شعرت بصفاء السماء يختفي خلفة سحابة من الدخان، والنجوم تحترق بتلك النيران التي بدأت تتطاير في الجو من خارج أسوار القلعة صوب …صوبها .
أطلقت تبارك صرخة مرتفعة تركض بجنون في ساحة القلعة، تصيح باسم من تعرف، تصرخ باسمه في جنون وهي تركض بين الجنود المستنفرين :
” يا قائد…يا قائد ”
وحينما كادت تخطو لبوابة القلعة شعرت بمن يجذب جسدها بقوة أطلقت على إثرها صرخة رنت بين جدران المكان ليعلو صوت منادي بين صفوف الجنود صارخًا بجنون :
” الملكـــة …أمّنوا الملكـــة ”
وعند تلك المسكينة التي منحوها لقب ملكة التي لا تعلم له معنى سوى أنه نوع من أنواع المعكرونة التي كانت تقتات عليها طوال فترة حياتها السلمية والتي كانت تسوءها قديمًا..
سخر منها عقلها _ وهي محمولة بين ذراع ضخمة قوية كالدجاجة التي كادت تفر من صاحبها فامسكها من قدمها يجرها خلفه عقابًا لها_ الآن أضحت حياتك سلمية رائعة ؟؟ ألم تكن هي نفسها من كنتِ تقنطين منها وتصرخين أنكِ تتمنين لو تتغير، لكِ ما تمنيتي إذن.
سقطت دموعها تحاول أن تفلت من تلك اليد التي تكاد تحطم قفصها الصدري وعظام جسدها من قوة جذبه، وصيحات الجنود حولها تزداد بشكل جنوني يبحثون عنها .
حاولت الصراخ ولم تستطع وفجأة وجدت الاصوات تتلاشى ورائحة الدخان تختفي شيئًا فشيء، والصيحات تخفت، ولم يتبقى في المكان سوى رائحة البخور التي تتميز بها أجواء القصر، وصوت انفاس ذلك الوحش الخاطف خلفها .
فجأة شعرت به يدفعها داخل غرفة صغيرة لا تدري مخزنًا كان أم قبرًا، لكنها فقط تأوهت وسبت ولعنت حتى شعرت بالراحة، وقبل أن تستدير وتعتدل سمعت صوته المميز خلفه يهمس بصوت حانق غاضب كعادته :
” ألم أخبرك أن تتوقفي عن اللعن ؟؟ ”
اتسعت عيونها تستدير بسرعة مخيفة صوبه تتبين ملامحه أسفل اضواء المكان الخافتة، نفس الهيئة الساحرة والملامح الـ…مرعبة وبحق، سيفه مستقر في غمده، وسهامه تستريح على ظهره..
فتحت فمها للحديث، لكن قاطع كل ذلك ينحني صوبها قائلًا بتحذير :
” إن سقطت السماء على الأرض، اياكِ …اياكِ أن تتحركِ خارج هذا المكان، سمعتي يا فتاة ؟؟”
نظرت له تخاف تحذيراته وترهب نبرة صوته، ابتلعت ريقها تحاول أن تقول له نعم، تخبره أنها ستنفذ ما يقول فقط ليتركها وشأنها، لكن كل ما خرج منها هو :
” أنا ….عايزة اروح الحمام ”
اتسعت عينه ببلاهة يقول :
” ماذا ؟؟”
وقبل أن تعيد كلمتها سمعت صوت انفجار قوي في المكان لتطلق صرخات عالية وهي ترى الجدار الجانبي للقبو يتحطم ويظهر لها ممر القصر المعروف وصوت الصرخات تعلو، لعن سالار بصوت مرتفع مخيف :
” لعنة الله على الكافرين ”
في هذه اللحظة انفجرت دموع تبارك برعب وجسدها يرتجف بقوة تخفي الاصوات عن أذنها:
” فيه ايه ؟؟ فيه ايه ؟؟ أنا خايفة ”
انحنى سالار يجلس القرفصاء أمامها وهو يخرج خنجرًا من حاملة أسلحته يضعه في كفها ينظر لعيونها بقوة :
” اسمعيني جيدًا مولاتي ”
” لا لا أنا مش عايزة اسمع حاجة، أنا عايزة امشي مشيني من هنا زي ما جبتني ”
قال بصوت قوي كي يصمت بكاءها :
” اسمعيني …أنتِ لستِ بضعيفة لتجلسي هنا باكية دافنة رأسك أسفل أقدامك، الله اصطفاكِ من بين نساء هذا الكوكب لتكوني ملكة سفيدة، لذلك حتى وإن كان الجميع واولهم أنا نراكِ مجرد فتاة باكية ضعيفة، فعليكِ إثبات العكس ”
نظرت لعيونه ثم حدقت بالخنجر في يدها ومازال ارتجافها قائمًا :
” أنا.. أنا مش ..مش بعرف اعمل أي حاجة من دي، أنا مش كده ولا بفهم في كل ده ”
” بلى أنتِ تفعلين ”
صرخت في وجهه غاضبة حانقة من إصراره :
” أنت هتعرفني اكتر مني ؟! أنا بقولك اني مش هعرف ”
نظر لعيونها بقوة يتجاهل صوت الصرخات في الخارج، يعلم أن الجنود يتولون الأمر الآن، لكن هذه أمامه تكاد تنهار رعبًا، وهو يعلم بأن لها كامل الحق في ذلك، تنهد وهو يهمس بكلمات متلهفة كي ينتهي من ذلك ويخرج :
” نعم اعلمك أكثر مما تفعلين أنتِ، انظري إليّ أنا لستُ غرًا أو ساذجًا كي أخطأ في وجهة نظري، أنا لطالما علمت الشخص من نظرة واحدة، وأنتِ مولاتي قوية أنا أثق بكِ، خلف كل تلال الضعف وبحار الدموع تلك هناك جبار قوة وأمواج عزيمة عاتية ”
مسحت دموعها تستحسن كلماته :
” أيوة بس أنت كنت بتقول عليا ضعيفة على طول ”
قال وهو ينظر للخارج بسرعة ثم عاد بنظره لها :
” نعم وما زلت عند رأيي، أنتِ ضعيفة حتى الآن ”
نهض يخرج سيفه من غمده يقول بقوة :
” وأنا سأعمل على التخلص من ضعفك هذا، فقط ننتهي من كل هذا، والآن اصمدي حتى تسمعين صيحات الجنود تهلل بالنصر، إن اقترب منكِ أحدهم اغرزي خنجرك في قلبه ولا تأخذك بالكافرين رحمة ”
نظرت تبارك له وهي ترتجف من مجرد التخيل :
” الأمر… الأمر صعب، أنا لن استطيع ”
نظر لعيونها بقوة يقول وكأنه يأمر جنديًا له :
” بلى تستطيعين والأمر سهل، فقط ارفعي يدكِ حاملة الخنجرؤ ثم اهبطي بها عليه”
صمت ثم مال بجسده يقول ببسمة يحاول بها تخفيف رعبها :
” اعتقد أن عملك يؤهلك لمعرفة مكان القلب صحيح ؟!”
هزت رأسها بنعم ليقول هو بجدية :
” جيد اجعليه هدفًا لخنجرك إذن”
ختم كلماته وهو يستيقم، ثم نظر لها نظرة أخيرة يهتف :
” أثق بكِ …”
ورحل بسرعة كبيرة تاركًا إياها تنظر لاثره وصوت أنفسها يعلو وقد ارتفع معه وجيب قلبها، تضم نفسها برعب وهي تهمس كل ما تحفظ من آيات الله، كي تطمئن وتستكين ..
” ألا بذكر الله تطمئن القلوب”
___________________________
ها هي مرة من تلك المرات القليلة التي يتخلى فيها عن عرشه ويهبط لساحة القتال بنفسه، وكم أسعده هذا وبقوة .
كان إيفان يهرول بسرعة كبيرة صوب بوابة القلعة وخلفه العديد من الجنود يهجمون على هؤلاء المعتدين الذين كانوا يرتدون ثياب الجيش الخاص بمشكى، لكنهم كانوا من رجال بافل .
توغل إيفان بين الجميع يسقط من يسقط دون رحمة، وقد أصبح وجهه ملوثًا بالدماء وصوته الجهوري يصرخ في الجنود حوله، فجأة أبصر جسد سالار يخترق الجمع حاملًا سيفين وقد كان كالجزار يجز عنق كل من يمر بهم وصوته يرشد الجنود :
” لا تدعو قدم حقيرٍ منهم تطأ ارض القصر، الكتيبة الثانية تتحرك للقصر لحمايته ولا تسمحوا لأحد بالخروج أو الدخول له ”
ختم حديثه يصرخ بصوت مرتفع :
” أنتم أصحاب الحق يا رجال، فلا تخشونهم، إن متم كنتم شهداء وإن عشتم اصبحتم أبطال، الله أكبر ”
تبع صوت سالار صوت تكبير قذف في قلوب جنود بافل الرعب وهم يرون سيل من الرجال يندفع صوبهم بشكل معين .
واعلى القصر كان يقف دانيار يراقب ما يحدث وخلفه عدد مهول من حاملي السهام، ضيق عيونه وهو ينظر خارج ابواب القصر ليرى تدفق آخر من رجال بافل يتحرك صوب البوابة .
رفع يده وهو يقول :
” مع ثلاثة ….”
صمت يراقب اقتراب الرجال أكثر وأكثر حتى أصبحوا في مرمى السهام ليصرخ بصوت جهوري قوي :
” ثلاثة ”
وبعد هذه الصرخة لم يبصر أحدهم سوى امطار من السهام تتساقط بقوة على أجساد الرجال مسقطة إياهم ارضًا بقوة، وقد أخرج دانيار سهامه يضع ثلاثة سهامل في قوسه وهو يسقط المزيد من الأجساد :
” لعنة الله عليكم اجمعين ”
وفي الأرض وبنظرة من سالار وحركة إصبع معروفة، تحرك تميم بكتيبة من الجيش في شكل خفي صوب الابواب الجانبية للقصر كي يخرجوا منها ويلتفوا حول رجال بافل محاصرين إياهم من الخارج، فيصبحوا بينهم وبين جيش سالار .
تسألونها ما فائدة التمارين المسائية الخاصة بها ؟! تخبركم أنها فرصة جميلة لرؤية كل تلك المتع أمام عيونها، اتسعت بسمة زمرد وهي تراقب ذلك القتال بين رجال سفيد وبافل، صدرها يعلو ويهبط، ولولا أن سيفها مع ذلك الرامي المستفز لكانت الآن تشارك في قتالًا على عشيرتها، تساهم في تقليل اعداد سلالتها القذرة..
وعلى عكس زمرد، هي لم يكن لديها ما يمنعها من المشاركة في هذه الحرب، السيف معها، وزي الجندي كذلك معها، وها هي تتحرك بين الجنود وهي تقتل رجال بافل بكل الغضب الكامن في صدرها، ترى أمامها حرب شبيهه بهذه، يوم سقوط مملكتها ومقتل شقيقتها .
مشاهد جعلت غضب كهرمان يشتعل وهي تركض بشكل جنوني تلقي بنفسها بين القتال وقد اعماها الغضب والحقد في صدرها .
لا يهم إن قُتلت الآن فستلحق بأخيها ووالدتها، وإن عاشت فستنتقم لهم .
اثناء قتال إيفان للجنود فجأة ابصرها، شعر لثواني أنه يتخيل، لكنه لا يفعل فهو لا يخطأ طريقة القتال تلك ولا هذه الحركات أو هذا الجسد، شعر بالصدمة وهو يراها قد انضمت للقتال ليتحرك بسرعة كبيرة صوبها كي يأمنها لتلك الغبية .
وما كاد يفعل حتى وجد سيف يتحرك صوبه، لكنه مال بسرعة في اللحظة الأخيرة يتلاشى ذلك السيف الذي مر من فوق جسده، مدّ إيفان قدمه يسقط الرجل ارضًا، ثم غرز سيفه في صدره وهو يضغط على أسنانه بغضب، وقبل أن يستدير شعر بجسد يصطدم به في قوة كبيرة، استدار بسرعة ليبصر جسد قتيل يسقط عليه ويبدو أنه كان يحاول التخلص منه، لولا أنها انقذته .
رفع إيفان حاجبه لها بريبة لتبتسم عيونها غامزة له :
” لا شكر على واجب ”
تنفس إيفان بصوت مرتفع يقول :
” ظننت أنكِ تكرهينني ؟؟”
” نعم، لكنني اكرههم أكثر منك ”
ختمت حديثه وهي ترفع سيفه تضرب به أحد الرجال بغضب شديد، ثم استدارت لايفان الذي ابتسم عليها بسمة جانبية يسمعها تقول :
” يمكننا أخذ هدنة إلى أن تنتهي الحرب ”
ورغم عبيثة تلك الكلمات، فما كانت للهدنة أن تجتمع بالحرب، لكن غرابة الجملة لم تكن تضاهي غرابة العلاقة بينهما، إذ ابتسم لها إيفان بسخرية يطيل النظر في عيونها بشكل غريب، ينحني نصف انحناءه :
” لكِ ذلك أنستي ”
وبمجرد أن استقام رفع سيفه بسرعة يضرب به رجلًا جاء بسرعة من خلف كهرمان مسقطًا إياه ارضًا وهو يردد ببسمة :
” هكذا نحن متعادلان ..”
صمت ثم أشار لها يقول :
” إذن أريني إن كانت دروسي الأخيرة لكِ أتت ثمارها أم لا”
رفعت كهرمان سيفها أمامه تقول بنبرة هادئة :
” بل أنا من سيعطيك دروسًا الآن، شاهد وتعلم ..مولاي ”
وفي ثواني استدار الإثنان بسرعة كبيرة يقاتلان وكلٌ منهما يحمي ظهر الآخر في لفتة غريبة ولحظات استثنائية لاثنين كانا في الامس متنافسين، واليوم حلفاء …
_________________________
كانت تجلس في ذلك المخبأ الذي تركها به سالار وهي ترتجف، تخشى أن يحدث ويباغتها أحد المعتدين هنا وهي لا تملك من أمرها شيئًا .
تنفست بصوت مرتفع تكمل تلاوة بعض الآيات، والرعب تلبسها بالكامل، ربما في هذه اللحظة يكون أحدهم قد قُتل، أو أُصيب وهي هنا تختبأ دون أن تقدم شيئًا لهم، وماذا تستطيع التقديم هي ؟؟
تناهى لمسامعها صوت صياح مرتفع يأتي من الخارج لتتنفس بصوت عالٍ مرتعبة وبقوة منا يحدث، تحاول أن تتمالك نفسها وهي تردد :
” قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا ”
ثواني حتى ازدادت تلك الصرخات وسمعت صوت امرأة تقول برعب شديد :
” ليساعدنا أحدكم ستموت الفتاة، ليحضر أحدكم الطبيبة بسرعة ”
نظرت تبارك للباب بريبة وقد كان هذا الصوت كمئات الاصوات التي كانت معتادة على سماعها في فترة المشفى، لماذا إذن أضحى مرعبًا أكثر الآن؟!
ازدادت الصرخات والبكاء والعويل، حتى جعل جسدها يتحرك دون إرادة منها للخارج تشدد قبضتها على الخنجر، تخرج من ذلك النفق المظلم بعض الشيء وهي تتلمس الجدار بحذر .
وحينما وصلت للممرات المعروفة ركضت بسرعة كبيرة دون أن تدرك سبب ذلك، كانت تركض بكل قوتها صوب مصدر الصرخات، وحينما وصلت وجدت العديد من الفتيات يلتففن حول فتاة أخرى مصابة بسهم في ذراعها .
اتسعت عيونها بقوة تقترب منهم بخطوات مترددة، هي ليست طبيبة، لكنها عاصرت العديد من الحالات أثناء خدمتها في طوارئ المشفى، وهي ستتعامل مع هذا، فإن لم تستطع المساعدة في الحرب فعلى الأقل تكون ذات فائدة .
” ابتعدن، دعوني أمر رجاءً، أنا استطيع مساعدتها ”
وفورًا انفض الجميع من حول تبارك التي جلست ارضًا جوار جسد الفتاة ونظرت لها ثم قالت بسرعة :
” احتاج أربطة نظيفة ومطهر للجروح ولاصقة طبية وبعض الأدوية الخاصة بالحمى ”
نظر لها الجميع ولم تتحرك منهم فتاة لتقول لهم تبارك بغيظ :
” ماذا بكن لتتحرك واحدة وتحضر ما طلبت ”
” لكن …لكن كل ما طلبته خارج القصر بالفعل، أنه في المشفى ولا أحد يستطيع الخروج الآن وسط تلك المعركة في الخارج ”
نظرت لهم تبارك بملامح لا تُفسر تسمع صوت تأوهات الفتاة وصرخاتها التي تخرج كل ثانية والأخرى، لتقرر فجأة أن تنهض وهي تتمسك بخنجرها :
” أنا سأذهب لإحضار ما احتاجه، يحب عليّ اسعافها قبل أن تسوء حالة الجروح ونضطر لفعل ما لا نريده، احملنها صوب أي غرفة حتى اعود ”
اتسعت أعين الفتيات بقوة وهن يبصرن ركض تبارك بقوة في الممرات وواحدة تصرخ بفزع :
” لا مولاتي غير مسموح لأحد بالخروج ”
لكن تبارك لم تسمع لأحد ولا تعلم سبب إصرارها على معالجة الفتيات، لكن ربما هذا بدافع الواجب الإنساني قبل واجبها المهني .
أو لشعور داخلها أن ترى فائدة لها، أن تشعر أنها ذات قيمة هنا، ليست مجرد عالة على الجميع، أو اسم يكملون به اللوحة الملكية .
وصلت لباب القصر لتبصره مغلقًا، تنفست بصوت مرتفع وهي تفكر في سبيل للخروج من هنا، وفورًا خطرت لها فكرة القفز من الشرفة فهي قريبة من الأرض على أي حال، وبالفعل ركضت صوب الشرفة بسرعة كبيرة وحينما وصلت لها وضعت الخنجر في فمها، ثم تعلقت في الشرفة كي تهبط ..
وفي الاسفل حيث الرجال .
حاصر سالار ورجاله جيش بافل من داخل القلعة، بينما حاصرهم تميم ومن معه من الخارج فأصبحوا بين المطرقة والسندان .
تقدم سالار جميع رجاله وهو يرى جيش بافل يتقدمهم رجل يعلمه جيدًا، كان جميع الرجال متحفزين وقد أدركوا أنهم خسروا هذه المرة، ابتسم لهم سالار وهو يتوقف أمامهم متقدمًا عن رجاله .
الصمت المميت الذي عم الأجواء كان غريبًا على مثل تلك المعارك، وكأن الجميع ينتظر أن يصرخ أحدهم ليلحقه في الصراخ .
وفي ثواني كان صوت صفعة عنيفة هو ما قطع هذا الصمت، صفعة هبطت على وجه قائد رجال بافل لتسقطه ارضًا من شدته، صفحة جعلت وجهه يدمى وهو يتنفس بصوت مرتفع .
وسالار يراقبه باحتقار شديد، ثم رفع قدمه يضعه يضرب معدته يقول بشر :
” لقد كان يثق بك أيها القذر، وثق بك وقلدك أمور جيشه ”
رفع الرجل عيونه بصعوبة ينظر لوجه سالار الذي صرخ بجنون فيه :
” خنت ارسلان وبعته لبافل ؟؟ كان أنت، كان أنت من خانه داخل قصره ليسقطه في شِرك بافل ”
تنفس الرجل بصوت مرتفع ولم يتحدث بكلمة واحدة، ورجال بافل جميعهم ينظرون لما يحدث والرعب قد ملئ صدورهم، في هذه اللحظة أدركوا أنهم ألقوا أنفسهم في الجحيم .
بينما وبين صفوف جيش سفيد كانت تقف هي تراقب كل ذلك بأعين كارهة، كانت تراقب ما يحدث بشر، هذا الحقير قائد جيوش مشكى، كان هو الخائن، هو من باع شقيقها وتسبب في مقتله ؟؟
شعرت بطاقة كره قوية وغضب اقوى يكاد ينفجر في جميع المحيطين بها، وعيونها أضحت حمراء وهي ترى أمامها شقيقها يقاتل وهو يصرخ باسم القائد ليحمي النساء، ويؤمن ظهره .
وبدلًا من حماية ظهره، طعنه به …
ابتسم إيفان بسمة واسعة وهو يراقب ما يفعل سالار باستمتاع شديد، فإن كان يحب شيء غير رؤية أعدائه راكعين يرتجون منه رحمة، هو أن يرى نفس الأعداء يرتجون من سالار رحمة يعلم أنهم لن ينالوها .
قال سالار بصوت جهوري كي يسمع جميع من بالجيشين:
” بافل ارسلكم هنا لاحتلال سفيد صحيح ؟؟ لماذا لم يأت معكم إن كان الأمر كذلك ؟!”
قال إيفان بصوت خبيث :
” ربما لأنه لا يحب أن يقضي المتبقي من عمره في سجون مملكتي، خسارة فنحن نعامل أسرانا معاملة افضل من معاملته لرجاله ”
قال قائد جنود مشكى بصوت مرتفع يحاول إيجاد مبرر لما يحدث :
” بل هو سيلحق بنا بجيش الدعم، لا بد أنه الأن في طريقه لهنا وسيفتح الجحيم على سفيد ومن بها ”
قال تميم بصوت ساخر وهو ما يزال يقف خلفهم من جهة خارج القلعة :
” يا ويلي جسدي ارتجف للتو …اشمئزازًا ”
ختم حديثه يبتسم للرجل، ثم قال بهدوء :
” لا بد أن عزيزك بافل الان نائم قرير الأعين وأنتم هنا القيتم أنفسكم بكل حمق بين الظلمات ”
ابتسم له سالار يقول بهدوء :
” وبما أننا لسنا مثلكم فها أنا امنحكم الفرصة للاستسلام والقاء سيوفكم ارضًا، وسنعاملكم معاملة الأسرى، أو أن نستأنف القتال ونفترش أرضية سفيد بأجسادكم كما فعلتم بأهل مشكى، أي الخيارين تفضلون ؟؟”
نظر الجميع لقائدهم الملقي ارضًا والذي اخفض رأسه بخزي ينتزع سيفه ملقيًا إياه ارضًا، فهو يدرك أنه يفضل أن يلقى منهم معاملة الأسرى على أن يتلقى معاملة الأعداء .
نظر الجميع لبعضهم البعض ليبدأوا واحدًا تلو الآخر في إلقاء سيوفهم ارضًا وسالار يراقب ذلك ببسمة واسعة، ثم تراجع للخلف وقد انتهى دوره كقائد جيش، والآن حان دور الملك كقائد للملكة بأكملها .
راقب إيفان ما يحدث أمامه برضى، ثم ضم يديه لصدره يقول بأمر نافذ وصوت جاد :
” خذوا الجميع للسجون وكثفوا الحراسة عليهم، حتى نودعهم ”
وبالطبع لم يفهم أحدهم شيئًا، بل فقط قادوا الرجال صوب القصر، وفي ثواني ارتفعت التهليلات والأصوات السعيدة .
ومن أعلى القصر أنزل دانيار سهامه التي كان يجهزها متحفزًا لأي شيء يبتسم بسمة واسعة :
” كان هذا اسهل مما اتوقع ”
نظر لجيشه خلفه يقول :
” تكبير يا رجال …”
بدأ رجاله يكبرون ليبتسم لهم، وقبل أن يتحرك ليهبط عن السطح أبصر جسدًا في مكان خلف القصر جعله يرفع حاجبه متعرفًا على صاحبته :
” آه من تلك المرأة التي لا تعترف بالغرفة مسكنًا ليلًا”
_________________
وعند تبارك وبعدما هبطت عن النافذة ركضت بسرعة كبيرة تبحث بين المباني عن المشفى متجنبة النظر صوب مكان المعركة كي لا تضعف وتخاف، وحينما رأت بعض الرجال يحملون اجسادًا ويتحركون بها صوب مبنى ما خمنت أنه المشفى لتعدو له بسرعة أكبر مبتسمة .
وصلت له ودخلت صُدمت من عدد الرجال المترامين ارضًا وهناك طبيب واحد يشرف عليهم ومعه بعض الرجال يساعدونه.
فتحت تبارك عيونها تقول بصوت مرتفع دون شعور :
” يا الله يا مغيث …”
استدار مهيار بسرعة صوب الصوت الأنثوي ليطيل النظر في وجه تلك الفتاة يحاول معرفة متى رآها سابقًا، بينما تبارك سارعت له تقول بسرعة :
” بسرعة أريد ادوية مخدرة وأخرى مطهرة وغيرها لعلاج الحمى، ولاصقة طبية وابرة لخياطة الجروح ”
نظر لها ميهار بصدمة يحاول فهم ما تريد، لكنه فجأة استوعب الآن من تكون يهمس بعدم تصديق :
” الملكة ؟؟”
” بسرعة أريد تلك الأشياء هناك فتاة أُصيبت بسهم في القصر ”
فتح عيونه بتحفز، ثم أشار لبعض المساعدين يقول بسرعة :
” اذهبوا بسرعة مع الملكة واحضروا تلك الفتاة هنا لعلاجها بسرعة ”
قالت تبارك وهي تراقب بعض الحراس يقتربون منها :
” لا أنا استطيع فعل ذلك بنفسي، يكفيك ما أنت به ”
” تستطيعين ؟؟”
” أنا ممرضة، اساعد الأطباء و…حسنًا هذا ليس وقت لشرح وظيفتي، أين تلك الأدوات ”
نظر لها مهيار ثواني قبل أن يصرخ بصوت مرتفع :
” ليحضر أحدكم ما تطلبه الملكة من اعشاب وأدوات بسرعة ”
وبالفعل ما هي إلا دقائق لتحمل تبارك ما جاءت لأجله، ثم