رواية مملكة سفيد الفصل الرابع 4 بقلم رحمة نبيل
المنبوذون
“تنهدم كل مُخططاتنا لمسارات حياتنا في اللحظة التي نُوقن فيها بحقيقة التسليم لله، عندما نُتقن حُسن التوكل عليه، نعلم أن الخطط والاستعداد كلها ناقصة إلا بقدرته وهو وحده يخلق الأسباب ثم يجعل الأسباب ممكنة ويجعل مما لا يمكن قد يمكن برحمته.”
صلوا على نبي الرحمة
_____________________
خطى قاعة التجمع بخطواته المهيبة، واعينه جامدة لا يظهر شيء على وجهه، فقط ملامح منقبضة وقبضة مشتدة، وجسد منتصب يوضح لك كمّ الغضب الذي يملئ جسده في تلك اللحظة .
نهض جميع مستشاري الملك، ومعاونيه، باحترام شديد، في الوقت الذي عزف فيه بعض ملوك الممالك الأخرى عن ذلك..
فهم مثلهم مثل إيفان ملوك لممالك ليست بالهينة .
ابتسم إيفان لهم بسمة صغيرة يرتاح على مقعده في حين تبادل ملوك الممالك الأخرى نظرات غامضة، لكن إيفان والذي فهم ما يرمون إليه من تلك النظرات، قال بهدوء شديد :
” مرحبًا بكم في مملكتنا المتواضعة ”
ابتسم له آزار ( ملك مملكة آبى ) يجيب بسخرية مبطنة وكلمات غاضبة تظهر جيدًا ما يكنه داخل صدره :
” نعم متواضعة، ما بال تلك المتواضعة تحاول أن تتحكم في ممالكنا ملك إيفان ؟؟ ما شأنك وحدودي ؟؟”
رفع إيفان حاحب واحد يهز رأسه بهدوء، ثم قال دون أن يستدير صوب محدثه وبكل سلام نفسي وبسمة ناعسة بعض الشيء :
” هل وضعت جنود على حدود آبى دانيار ؟؟”
دار دانيار بنظراته داخل القاعة ثواني، ثم تركزت نظراته على آزار يقول بجدية وملامح قُدت من صخر :
” العفو مولاي، نحن لم نطأ رملة واحدة من رمال آبى، نحن فقط وضعنا الجنود في الجزء الخاص بنا من الحدود ”
حرك إيفان كتفه بهدوء شديد وقال ببساطة وعدم اهتمام بما يحدث حوله :
” جيد إذن، فنحن لا نطمح لبناء عداوات مع الجيران دانيار، تأكد ألا يمس الجنود حبة خردل داخل أراضي آبى ..”
صمت ثم قال بشبه ببسمة وصوت خافت شبه مسموع :
” إلا بأمرٍ مني ”
وعند نطقه لتلك الكلمة انتفض آزار ومعه ولي عهده يصرخ بصوت جهوري مرعب رجّ القاعة بأكملها وتسبب بتحفز أجساد جميع مستشاري الملك وجنوده :
” إيفان التزم حدودك واعلم مع من تتحدث ”
نهض إيفان يجابهه طولًا بل يتفوق عليه بالبنية الجسدية الشابة_ على عكس ملك آزار _ وقد نهض كذلك جميع جنوده يقول بصوت جهوري قذف الرعب في قلوب الآخرين :
” أنا التزم حدودي المعروفة ملك آزار ولم اتخطاها، هذه أرضي وأرض ابائي أفعل بها ما أشاء واضع جنودي حيثما أريد ولا يحق لك أو لأيًا كان التدخل في سياسات مملكتي ”
بُهت وجه آزار، وعلى التعجب وجه ولده الذي قال بتسائل مستنكر :
” ما الذي ترنو إليه ملك إيفان؟؟ نحن لسنا بأعداء ولسنا هنا لنتقاتل معك، بل فقط جئنا لنتناقش بشأن ما حدث لمشكى ”
اجاب إيفان بملامح سوداوية مخيفة وصوت يقطر ظلامًا، وهو ما يزال يحدق في وجه آزار :
” أسأل والدك يا عزيزي ما الذي يرنو إليه هو من خلف كلماته التي يلقيها في وجهه وتعديه عليّ داخل مملكتي، احضرتكم هنا لنعلم القادم، لا لنتقاتل ”
اشتدت جميع الأعين وتحركت صوب آزار الذي كان ينظر بأعين إيفان بشكل مرعب، وايفان لم تتحرك منه عضلة واحدة يستمتع بتلك الهمسات التي علت جوار أذنه.
وآزار أظهر شرًا واضحًا و وقد على الغضب ملامحه، هو جاء ليتناقش معهم في أمر مشكى، ما الذي فتح كل تلك الأمور والنقاشات التي تحدث ؟؟
ابتسم لهم إيفان جميعًا ثم قال بصوت مرتفع وكلمات صارمة لا مزاح بها وبلهجة شديدة التوعد وبكلمات مقصودة تخفي خلفها الكثير، فصمته لا يعني جهله لما يُحاك خلف ظهره :
” لا تعتقدوا يومًا أنني غر يمكنكم خداعه كما فعلتكم مع ملك مشكى فقط لصغر عمره، أنا صغير لكنني افوقكم جميعًا بالتفكير، واظن أن هذا توضح لكم العديد من المرات؛ لذلك إياكم أن يجرأ أحدكم على تجاوزي أو التقليل من شأني وإلا أعلنتها حربًا على الجميع ولن اهتم ….”
صمت ثم همس له بصوت مخيف :
” فأنا اشتقت لساحة المعركة، وتتوق قبضتي لحمل السيوف كأيام الخوالي، ولا أعتقد أن سالار سيمانع أن يقود الحرب بنفسه، أنت تعلم أنه يحب تجميع ارقام جديدة ويحصي انتصارات أكثر وقد تمثل له حربًا مع مملكتك اغراءً لا يقاوم خاصة بعد آخر حديث لك معه ملك آزار”
ابتسم آزار بسمة لا تبشر بالخير، ومتى كان الخير خيارًا في عصر ذلك الملك الذي حكم مملكته بقبضة من حديد، تجبر وقسى، لكنه في المقابل صنع مملكة تنحني لها أعتى الروؤس، ومقابل ذلك ما جنى يومًا شكرًا أو كلمة حسنة من شعبه الجاحد الناكر لجميع افضاله، فهو أول من وضع قانون الإعدام لمن يرفض تسليم نصف امواله سنويًا للبلاد، وكان يأخذ نصف محصول الفلاحين جميعهم للجنود، ويُلزم شعبه أن يعملوا ويكدوا ليلًا نهارًا فقط لأجل بناء الدولة ولأجل اسعاد رجاله وجنوده ايضًا.
يطالبهم بالتنازل، وهو يومًا لم يتنازل لاجلهم، لم يدفع فلسًا واحدًا من جيبه، ببساطة هو حوّل شعبًا حرًا لعبيد له ولجنوده .
بنى جيشًا قويًا، لشعبٍ سقيم…
اهتم بالجدار، وتناسى العمدان…
هز آزار رأسه يقول بهدوء وبسمة جانبية غريبة :
” لك ما تريد ملك إيفان، لنتحدث في أمور مشكى ”
ومع انتهاء كلماته جلس الجميع مجددًا، وعلى الهدوء قاعة الاجتماعات مجددًا، ليقطع ذلك الهدوء صوت ملك مملكة ” سبز ” الذي قال بصوت خافت هادئ :
” وصل لي ما حدث بمملكة مشكى بأكملها، وقتل جميع أفراد الأسرة الحاكمة وهذا يجعل مشكى في يد المنبوذين ”
صمت ثم نظر لايفان وقال :
” ما رأيك ملك إيفان ؟!”
ابتسم له إيفان بسمة غامضة يجلس بكل راحة ينظر له بود شديد، فقد كان ذلك الملك من اوائل حلفائه، بل وكان صديق لوالده منذ القديم ..
لكن وقبل أن يبادر بالرد سمع الجميع صوت الملك آزار يقول بهدوء شديد وبنبرة قوية لا يُستهان بها، بل وغاضبة أشد الغضب لضياع مملكة صديقه وحليفه الأول، فمملكة مشكى هي الأقرب له من بين الممالك :
” ماذا تعتقد أنت ؟! مملكة بحجم مشكى تسقط بكل سهولة من مجموعة حفاة عراة لا عدة لهم ولا عِداد، بل ويقتلون جميع من بها بكل سهولة، بالله عليكم من الواضح أن هناك من ساعدهم في ذلك ”
كان آزار يتحدث بغضب جحيمي وهو ينظر صوب إيفان، بينما إيفان نظر له متحديًا وبقوة لا يحيد بنظراته عنه :
” الصراحة من شيم الرجال ملك آزار، توقف عن التلميح وألقى ما بجعبتك ”
ضرب آزار الطاولة بقوة مخيفة حتى كاد الخشب المصنوعة منه يتحطم تحت قبضته :
” جميع من بالقاعة هنا يعلم بعداوتك مع مملكة مشكى وخلافاتك مع ملكها، حتى أنك توعدت له يومًا بالقتل والخراب ”
اعتدل ملك سبز في جلسته يرى أن الحديث سيأخذ منحنى آخر لن يعجب احدهم، وقد حدث ما اعتقده، إذ انتفض دانيار بقوة يصرخ بوجه آزار دون وضع اعتبار أنه ملك ..
” هل تتهم ملكنا بالتواطؤ مع هؤلاء الخنازير ملك آزار ؟؟ تتجرأ وتلقي هكذا تهمة في وجهه وفي عقر داره؟”
نهض آزار كي يجابه كل ذلك وداخل صدره احتراق من حقيقة أن مملكة صديقه سقطت وجميع أفراد عائلته كذلك :
” أنا أقول لكم ما يعلمه الجميع ”
وفي ثواني كانت العديد من السيوف تحيط بآزار الذي احمرت عيونه غضب يرى انتفاضة جسد ولده جواره والذي صرخ بجنون :
” هذا تعدي منكم على ملكنا، وهذه بمثابة حرب ملك إيفان ”
نظر إيفان بهدوء مثير للأعصاب جنوده يأمرهم بالتراجع، ثم قال بكل بساطة :
” لا بالطبع نحن لا نطمح للحرب أمير نزار، لكن يبدو أن الملك آزار يفعل، أن تتهمني في مملكتي بالتعاون مع أعداء الله فقط بسبب وجود خلافات بيني وبين مشكى لهو أمر مرفوض لي، أنا لم اجعلكم تتكبدون عناء المجئ هنا كي نتقاتل ونلقي بالاتهامات أعلى رؤوس بعضنا البعض، رجاءً اجلسوا كي نتحدث بهدوء ”
ختم حديثه يشير لجنوده بالتراجع كليًا، ثم حدج دانيار بتحذير والأخير انحنى بعض الشيء يجلس مجددًا، وحينما استقر الجميع تنهد ملك سبز يقول بهدوء وقد كان هو أكثر الملوك ميلًا للسلام، فما كانت دولته يومًا دولة قتالية، بل هي دولة زراعية من الدرجة الأولى :
” إذن نحن هنا للتحدث بأمور مشكى ومعرفة ما سنفعل، علينا إعادة المملكة والبحث عن فرد من أفراد العائلة المالكة كي نسلمه العرش، كل ذلك قبل أن تسوء الأمور أكثر وربما تفشل جميع النقاشات، و نضطر للحرب مباشرة.”
هز إيفان رأسه ببسمة واسعة مخيفة :
” نحن لا نضطر للحرب، بل نختار الحرب بكامل إرادتنا مولاي، فمثل هؤلاء الشراذم لا حديث لنا معهم، ولن تجمعنا بهم طاولة نقاش”
ابتسم له الملك يرى ملامحخ الهادئة والباردة بشكل يدعوك للفخر به وبتفكيره، ليمازحه بخفة :
” إذن اقترح أن تُسرع من عودة سالار، فلا أظن أنه سيحب تفويت حرب كتلك ”
اتسعت بسمة إيفان يقول :
” أنت تعلم مولاي أن لا أحد يستطيع التحكم بكامل قوات الجيش عدا سالار، لذلك بالطبع لن نتخذ خطوة دونه، فقط يعود ونرى بشأن مشكى ومن بها، الآن لندعو أن ينتهي من مهمته على خير، وأن يعود بملكتي قطعة واحدة دون إصابات صعبة العلاج ….”
__________________
تتحرك بشكل قوي بين يديه تحاول الإفلات والركض صوب الطابق الخاص بشقتها حيث تقف جارتها، تمد يديها بقوة في محاولة بائسة للامساك بسور الدرج ليساعدها في جذب نفسها وثيابها من بين أنامل ذلك الضخم، تقول ببكاء وخوف :
” بالله عليك لتسبني، أنا متنازلة والله، أنا أساسا مش هنفع، والله ما هنفعكم ابدا، أنتم لو ناويين تخربوا البلد بتاعتكم دي مش هتسلموها ليا ”
جذب سالار ثيابها صوبه زافرًا بقوة وقد ملّ كل ذلك :
” أنتِ يا امرأة عنيدة ومزعجة، ولولا أنكِ الملكة هنا لكنت تخلصت منكِ”
تحدثت المرأة التي تقف في الاعلى تستند على سور الدرج وهي تلوي ثغرها في كل الاتجاهات بشكل جعل سالار يحدق فيها بأعين متسعة منبهرًا بتلك القدرة العجيبة عندها، وشعر كما لو أنه يشهد اعجازً أمامه.
” يعني حوار حلمك برجالة مطلعش كلام، وطلع حقيقة مش حلم ؟؟ ”
رمقها سالار بعدم فهم، عن أي حلم تتحدث تلك المرأة، هل تحلم ملكتهم بالرجال ؟!
نظر صوب تبارك التي كانت ترتجف بغضب وعيونها تتقد غضبًا وهي تسمع حديث المرأة :
” مين ده يا منيلة وماسكك كده ليه؟ والله أنا طول عمري اقول عليكِ واحدة ملاوعة ومش مظبوطة ”
اتسعت عيون تبارك بصدمة من حديثها، وهي من كانت تستجير بها منذ ثواني، بالله كانت تستغيث بها، تطالبها بمساعدة وهي تدري أن تلك المرة إن وجدتها مقتولة على يد رجل، ستترك الجريمة والرجل وتلوي ثغرها مستنكرة أنها لم تجد سوى الرجل لتمت على يده، وهل انعدمت النساء ليعجزن عن قتلها ؟!
فجأة انفجرت في الصراخ وقد شعرت بالقهر والحسرة ترتفع في نفسها والعيظ يملئ صدرها :
” أقسم بالله أنك ست مش محترمة، يعني بستنجد بيكِ وشيفاه بيجرجرني من هدومي زي الدبيحة وتقولي عليا ملاوعة، الملاوعة دي تبقى امـ”
وقبل أن تكمل تبارك كلمتها صرخت بصوت مرتفع وهي ترى صمود قد وصل في ثواني عند السيدة ورفع عليها سكينًا ينظر للعملاق خلفها قائلًا :
” هل اتخلص منها سيدي ؟؟”
نظر لها سالار ثواني، ثم نظر لتبارك يتساءل :
” ما رأيك مولاتي، تريدين التخلص من صاحبة الفم المتموج تلك ؟؟”
لكن تبارك كانت ما تزال غارقة في صدمتها مما حدث، وفجأة، ابتسمت وهي تمسح دموعها بسرعة كبيرة كطفلة حازت حلواها المفضلة بعد ساعات من البكاء :
” هو أنا يعني لو قولتلك تقتلها هتقتلها عادي ؟!”
هز سالار رأسه بكل بساطة ونسي أنه ليس في مملكته لتسير قوانينه هنا على الجميع يقول :
” إن كانت سيئة أو مخطئة تستحق الموت فنعم سنفعل”
ابتلعت تبارك ريقها تبتسم وقد اعجبها الأمر كثيرًا :
” طب هو …هو أنا لو قولتلك تقتل حد عشاني، هتعمل كده ؟؟”
نظر لها بعدم فهم، لكنه أجاب ببساطة :
” من ؟”
اتسعت بسمة تبارك تتنفس بلهفة :
” كل اللي في الحارة، عايزة اخلص عليهم كلهم، واولهم الست دي وعم متولي ”
” هل هم مذنبون أو ارتكبوا إحدى الكبائر ؟؟
فكرت تبارك لثواني، هي حقا لا تعلم، لكنها تكرههم، تكرههم من اعماق اعماق قلبها :
” معرفش ”
” إذن لا يمكننا، حينما نتأكد يمكننا تنفيذ الحد عليهم، لكن دون شهادة حق أنهم اذنبوا فلا يمكننا، دعها صمود ولنرحل فلدينا رحلة عودة طويلة ”
ختم حديثه يتحرك على الدرج يسحب معه تبارك التي أشارت على السيدة التي سقطت ارضًا ترتجف من هول الموقف :
” طب والست أم بؤق متموج ؟! على الاقل عم متولي أنت فاكرة الراجل الخرفان بتاع المكتبة اللي لسه عايش في جلالة الماضي ده ”
لكن لم يستمع لها يدفعها للخارج وخلفه مرشديه، وهي فقط تسير بخيبة أمل كبيرة، هل سترحل هكذا بكل بساطة قبل أن ترى بعيونها هلاك ذلك المكان القذر بمن فيه ؟؟
فجأة توقف الأثنان بصدمة بسبب امرأة قاطعت طريقهم تقول ببسمة واسعة وهي تجذب خلفها طفل ضعيف البنية طويل القامة بملامح غير مهتمة :
” تبارك كويس إني لحقتك، تعالي ادي الواد انور الحقنة لاحسن المفروض كان ياخدها امبارح وملقتكيش قالوا أنك كنتِ مبيتة في المستشفى ”
نظرت لها تبارك بملامح حانقة كارهة لكل شيء واولهم ذلك العملاق الذي يحدق فيهم بعدم فهم وكأنه يتساءل عما يفعلونه، زفرت ولم تعلم بما تتحجج، فقاطعت أم أنور كل ذلك تمد يدها بالابرة تدسها بين يديها، ثم جذبت ابنها توقفه بينهما وهي تقول :
” يا ختي خلصينا هي كيميا ”
وبمجرد انتهاء كلمتها مدت يدها لتسحب ثياب ابنها كي تنتهي من الأمر وترحل، لكن فجأة أطلق سالار صرخة جهورية يجذب تبارك خلفه يضع كفه أعلى عيونها قائلًا بصدمة مما يحدث أمامه :
” يــــالـلــه يا مــــغــــيــــث …”
______________________
كانت تتحرك بين حدائق القلعة براحة شديدة، ليس وكأنها لم تنتهي بعد من عملها في الداخل، بل وأن رئيسة العمال تبحث عنها لإتمام ما وكّل لها، لكن هي هكذا تعشق الحرية، وتحبها أكثر إن كانت في وسط معمعة العمل، لكم هي محبة لتلك النشوة الداخلية وهي ترى الجميع يعمل وهي تهرب منهم ..
ابتسمت تتذكر ما حدث معها منذ ساعات حينما كادت تلك الفتاة الغريبة المسماه زمرد أن تجز عنقها، حمدًا لله أنها كانت من التعقل كفاية لتهرب منها.
فجأة وخلال شرودها أبصرت من بعيد أحد الفرسان يعتلي خيله ويركض به بسرعة كبيرة بين المروج وكأنه يمتلك الكون بأسره، يمارس الحرية مثلها، لكن حريته كانت أكثر متعة من خاصتها…
التمعت عيون برلنت وهي تنظر حولها بأعين حذرة، ثم وفي حركات متمردة، خلعت غطاء الرأس، ثم شرعت تخلع عنها تلك الطبقات الإضافية من الملابس والتي كانت خاصة بزي العاملات، وتركض بفستان رقيق بسيط جدًا مكون من طبقتين، صوب ذلك الخيّال الذي جعلها تبتسم بانبهار لفروسيته الواضحة، تركض بين المروج وحينما أصبحت في محيطه نظرت حولها بفضول شديد وقد قررت أن تراقبه علها تتعلم ما يفعل ويومًا ما تأتيها الفرصة لتعتلي فرسًا مثله .
فجأة التمعت عيونها بقوة وهي تصعد الشجرة المجاورة لها بسرعة كبيرة متمرسة، إذ كانت متمرسة في ذلك منذ طفولتها حين مساعدتها لوالدها في الحصاد .
وحينما استقرت فوق الشجرة ابتسمت تراقب بأعين منبهرة ذلك الفارس الذي كان يقود الفرس بمهارة منقطة النظير، عيونها فضولية وهي تراقب جسده القوي :
” لا عجب أنه بمثل هذا التمرس ”
وعند ذلك الفارس.
كان العرق يتصبب على جبين تميم بقوة كبيرة يسرع من ركض فرسه أكثر وأكثر، يجبره على الوقوف على قوائمه الخلفية متحكمًا فيه بكل مهارة .
لكن فجأة وهو بذلك الوضع لمحت عيونه الرمادية التي تتوسط وجه قمحي اللون، جسد صغير يختبأ بين الأشجار على مقربة منه، ضيق عيونه بتعجب كبير وفي ثواني غير طريق الفرس بسرعة كبيرة متحركًا صوب ذلك الجسد بسرعة مرعبة .
سرعة جعلت جسد برلنت يختض وينتفض بسرعة صارخة من ذلك المشهد وكأنه على وشك اختراق الشجرة وجسدها بحصانه، لكن ما لم تحسب له حسابًا هو أن اختضاض جسدها تسبب في ابتعادها عن فروع الشجرة وتهاوي جسدها بقوة..
أطلقت برلنت صرخات عالية مرتعبة تغمض عيونها، تستعد للاصطدام والذي كانت تدرك أنه لن يكون سهلًا، لكن ثواني مرت …ولا شيء ؟
ما الذي حدث ؟! هل أنقذها ذلك الفارس المقدام الشجاع ؟! هل تتحقق أحلامها الآن وحازت فارسًا شجاعًا وسيمًا ؟؟
فتحت عيونها بخجل شديد وقد بدأ وجهها يتورد شيئًا فشيء تهمس وهي تشعر باشتداد ثيابها من الخلف وقد خرج صوتها هامسًا خجلًا تحاول الإفلات من قبضته:
” خفف قبضتك أيها الفارس فثيابي رقيقة قد تتمزق بين أناملك ”
رفع تميم حاجبه وهناك بسمة جانبية ارتسمت على وجهه، حك طرف أنفه في حركة معتادة منه، يراقب تلك الواهمة التي منعت الشجرة سقوطها، حينما علقت ثيابها في أحد فروعها لتظل معلقة كالخروف عند سلخه ..
” حسنًا أيتها القردة، يمكنني تخفيف القبضة لأجل ثيابك العزيزة ”
ضيقت برلنت ما بين حاجبيها تشعر بأن صوته مألوف، مألوف للغاية على آذانها، ذلك الصوت الذي لم تسمعه سوى مرتين، وفي كلتا المرتين لم يكن لخير .
فتحت عيونها ببطء لتتحطم أحلامها على صخرة الواقع حينما ابصرته، ذلك المخبول الذي ألقاها بقنبلة في لقائهم الاول ..
وقبل أن تبادر بقول كلمة واحدة كان تميم قد أخرج سيفه وفي ثواني معدودة قطع الجزء العالق بالفرع مسقطًا إياها بقوة مرعبة جعلت صدى صرخاتها يرن في المروج حولها ..
وهو فقط ابتسم بلطف يقول :
” لا داعي للشكر ”
تنفست برلنت بوجع وهي تمسك ظهرها تطلق تأوهات ولعنات وسبات ومن ثم رفعت وجهها لتميم الذي كان يراقبها بكل هدوء تصرخ في وجهه بجنون :
” أنت….. أنت أيها المخبول، ما الذي فعلته ؟! لقد مزقت ثيابي، كيف …كيف سأعود الآن ؟؟”
نظر لها ثواني ثم هز كتفه بجهل :
” لا ادري بشأن ذلك حقًا، أنا فقط ساعدتك وهنا ينتهي دوري ”
وقبل أن يتحرك أوقفته بسرعة وبانفاس لاهثة :
” لا لا مهلًا انتظر أيها الـ ..”
نظر لها تميم شذرًا لتصحح ما كادت تقذفه في وجهه:
” أيها القائد، انتظر ارجوك، أنا فقط لقد ..”
أشارت على الطريق الذي جاءت منه تقول برجاء وتوسل :
” هناك بجانب ذلك المبنى الصغير تركت ثياب العمل العلوية، هلّا تكرمت واحضرتها لي كيف اخفي القطع في ثيابي ”
” ولِم من المفترض أن أفعل هذا ؟!”
” هذا لأنك فارس شهم وذو مروءة وضميرك لن يسمح لك بترك فتاة شابة مثلي تسير بثياب ممزقة داخل جدران مليئة بالرجال ”
نظر لها تميم ثواني وهو يضيق عيونه، ثم تحرك بخيله في بساطة شديدة يحرك كتفه :
” بلى سأفعل ”
وبالفعل ابتعد عنها تاركًا إياها تنظر في أثره بأعين متسعة وقد شعرت بالصدمة من تصرفاته، يا الله من أين ينحدر امثال ذلك الحقير القذر عديم المروءة والرجولة؟؟ لِم يوقعها حظها طوال الوقت مع امثال ذلك الرجل ؟؟
_ لا سامحك الله أيها الاحمق الفاشل، ويسمونك صانع أسلحة، بل انت صانعٌ للخيبة والـ …”
وقبل أن تكمل كلمتها وجدت فجأة ثياب العمل تسقط فوق رأسها بقوة وصوت من بعيد يهتف بنبرة عالية وقد قذف لها الثياب من مكانه:
” لنعتبر هذا تعويض صغير عما نالك من قنبلتي يا قردة، واحرصي ألا اقابلك مجددًا ”
ختم تميم كلماته ببسمة يتحرك بفرسه تاركًا إياها تزفر بصوت مرتفع تضم الثياب لصدرها وقد شعرت بشعلة غضب كبيرة تتلبسها :
” أيا ليت تتقاطع طرقنا، فاقطعك بأسناني يا فاشل ”
_________________________
حسنًا هي لا تبتأس، حقًا لا تفعل، فلأول مرة منذ لمحت وجه ذلك الاصهب العملاق يعجبها شيئًا فعله، أن ترى أم أنور ترتجف رعبًا بعدما وبخها لفعلتها، بل وتمسك يد ابنها وتهرول صوب منزلها وكأن الشياطين تركض في أثرها، لهو مشهد مستعدة لمشاهدته يوميًا دون كلل أو ملل.
ورؤية نساء الحارة اللواتي تحدثن في الأمس عنها بالسوء يرتجفن خيفة رفع عيونهن في وجهها، لهي متعة خالصة تستطيع تذوقها دون شبع .
شريرة ؟؟ نعم بل في غاية الشر حينما يتعلق الأمر بأهالي حارتها..
شاهدت المنقطة التي عاشت بها سنوات طويلة وهي تلوح لها من بعيد، وداخلها مشاعر عدة، لا تدري سعادة أنها تخلصت من منطقة كانت تسبب لها خنقة وتعب نفسي، أم حزنًا لترك ما خزنته من ذكريات في منزلها الدافئ الصغير، أم هو خوف من مستقبل مجهول غريب مع أشخاص في غاية الغرابة، أم ندم أنها لم تصرخ وتخبر الجميع أنها خُطفت ؟؟
حسنًا ربما تفكر في إجابة لكل هذا حينما تستيقظ من تلك الغفوة التي تُلح على عقلها برفع رايات الاستسلام لها، ومن هي لتعاند أو تقاوم، ولِم تقاوم من الاساس وهي تود الهرب من كل ذلك بالنوم ؟
تنفست بصوت مرتفع تشعر بالسيارة تتهادى فوق الارض الغير متساوية، ولا تدري من أين احضروها حتى أو كيف تدبروا أموال لاجلها، هي فقط تستمتع بهذه الغفوة قبل أن تستيقظ لتواجه العالم، والآن نامي تبارك وغدًا تواجهين العالم بكل قوتك .
كان سالار يراقبها بأعين غامضة تعلوها سحابة من السواد يخفي خلفها كل ما يفكر فيه وما يريده، يشعر نحوها بالتشتت، فهو يومًا لم يكن بالهين اللين، ولو كانت امرأة أخرى كان أخرج سلاحه وانتهى منها ومن كل ما تفعله من كوارث، لكنها وللاسف الشديد ملكة لمملكته .
تنهد يريح ظهره للخلف يراقب ذلك الرجل الذي أرسله حليفهم في هذا الجانب كي يتحركوا للعودة، العودة التي لن تكون سهلة أبدًا خاصة بوجود امرأة ضعيفة كالملكة .
نظر صمود صوب صامد يهمس له بصوت مكتوم وعيونه ما تزال تحلق حول سالار وتبارك :
” إذن هل تعتقد أن تلك الفتاة ستصبح حقًا ملكة علينا ؟؟ أنها ضعيفة و…غبية ؟؟”
ابتسم صامد بسخرية لاذعة ثم نظر هو الآخر صوب تبارك يقول بحنق :
” يا عزيزي حينما تنضج ستكتشف أن الاغبياء فقط هم من يتقلدون مناصب داخل مملكتنا، أما الاذكياء أمثالنا مهدور حقهم ”
” نعم أنت محق صامد، أشعر بالظلم، لطالما تجاهلونا ولم يفكروا بنا إلا حينما يودون القيام بمثل تلك الرحلات المملة، لو أن هناك ذرة عدل في هذه المملكة لأصبحت اليوم قائد الجيوش ”
تحدث سالار بصوت منخفض وهو ما يزال يستند برأسه على المسند خلفه ونبرته خرجت هادئة مرعبة تحمل وعيدًا بالهلاك لهما بعدما استنزفا كامل فرصهم معه :
” نعم يا صمود، أنت محق، نحن مملكة قامت على الغباء والظلم، لأنه لو كان هناك ذرة عدل واحدة لكنتما الآن تتحاسبان في قبركما، لكن ماذا نقول وقد تفشى الظلم بيننا لدرجة أننا نترك بعض الاغبياء مثلكم احياء يرزقون”
ابتسم له صمود بسمة غبية يعتدل في جلسته :
” لا لا يا سيدي العفو، أنا فقط كنت افكر بصوت عالٍ”
ابتسم له سالار ببرود شديد وملامح جامدة تبث قشعريرة داخل صدورهم :
” حسنًا، احرص إذن على إخفاء اصوات افكارك الحمقاء تلك، وإلا حرصت أنا على إخماد صوتك من هذه الحياة كليًا ”
وبهذه الكلمات صمت الجميع ولم يعلو سوى صوت الأنفاس في السيارة التي يقودها أحد رجال معاونهم، وسالار ما يزال يجلس يحدق بالطريق في الخارج يتعجب مقدرة هؤلاء البشر على تعريض بيئتهم لمثل ذلك التلوث مستخدمين تلك القطعة الصفيح في التنقل، وهو من تسائل عن ثقل الهواء منذ وطأ تلك الأرض، لا ينسى صدمته حين ابتلعته تلك العلبة الصفيح الضخمة وتحركت به، الأمر أشبه يحصان لكن امتطاء الحصان افضل بكثير …
تنهد بصوت يمسح وجهه مفكرًا في القادم، بالله ما الذي أوقع نفسه به ؟؟ أما كان بقادرٍ على قول لا فقط وتجنب كل تلك المشقة ؟؟
نظر بطرف عيونه صوب تبارك يقول بحنق :
” وأنتِ تنامين براحة وكأننا في رحلة، ومنذ دقائق كدتي تقسمين رأسي من صراخك وبكائك ..”
وقبل أن يضيف كلمة لجملته السابقة، شعر بتوقف قلبه للحظات، لحظات قليلة اختبر جسده ولأول مرة كيف يكون شعور أن تمسه امرأة ولو كانت لمسة عابرة غير محسوسة، ابتلع ريقه مبعدًا عيونه عن الطريق، ثم استدار ببطء شديد صوب رأس تبارك التي استقرت أعلى كتفه، بلل شفتيه يفكر في طريقه لابعادها دون أن تستيقظ كي لا تصرع رأسه بالصراخ والعويل والنحيب بعدما واخيرًا توقفت عن كل ذلك.
واخيرًا هداه عقله أن يخرج خنجرًا من ثيابها، ويضعه بالجزء الخلفي على رأسها دافعًا إياها به ببطء شديد، لكن تبارك وكأنها استشعرت أن أحدهم يحاول تخريب راحتها فضربت يده بقوة دون شعور تعود مجددًا لذلك المكان المريح الذي تنام به .
وسالار ضم كفه الذي ضربته منذ ثواني له يرمش بقوة وصدمة شديدة، ابتلع ريقه وقد زاد إصراره على إبعاد تلك الرأس عنه وكأنها جرثومة أو ميكروب يخشى أن يتسربوا لمسامه ويتسببوا بكارثة في جهازه المناعي .
مجددًا وضع الخنجر على رأسها يدفع رأسها ببطء شديد وحذر، لكن فجأة فتحت تبارك عيونها بقوة لتبصر أول شيء أمامها هو خنجر موجه لرأسها، نظرت لسالار وهو نظر لها بصدمة وقد علم أنها الآن ستستغل ذلك وتصرخ مجددًا ..
ابتلع ريقه ولم يكد يتحدث بكلمة يبرر بها ذلك الوضع قبل أن تفكر هي في أنه يود التخلص منها وتقطيعها لبيعها أعضاء كما تردد، وهذا ما يجعله يفكر من يا ترى سيشترى أعضاء انسان ؟! وماذا سيفعل بها ؟؟ هل يتناولون لحوم البشر هنا ؟؟
نظرت تبارك للخنجر ثواني إضافية قبل أن تقول بصوت ناعس غير واعي لما يحدث :
” وصلنا ؟!”
نفى برأسه في هدوء شديد لتتنهد هي براحة وتعود للنوم، دافنة رأسها في ذراعه، ضاممة إياها