رواية مملكة سفيد الفصل التاسع 9 بقلم رحمة نبيل
كان القتال مستمرًا بينهما، صوت اصطدام السيوف والانفاس العالية هو ما يمكن سماعه، وبسمات سالار وحركاته الرشيقة هي ما يمكن رؤيته في وسط كل تلك المعمعة، وربما يتفوق سالار على إيفان قليلًا، ليس لأنه اقوى منه، بل لأن سالار لم يدع سيفه من يده يومًا سوى في تلك المهمة.
بينما إيفان، والذي يحتم عليه عمله كملك يدير البلاد ويحكم بين شعبها، لا يحمل سيفه سوى لمامًا حينما يقرر أن يتدرب، ولا يخوض حروبًا سوى في الحالات الخطرة وبشدة وهذه الحالات لم تحدث منذ سنوات طويلة في حربهم الأخيرة مع المنبوذين، وحينها يكون الملك هو القائد الاول للجيوش ثم يأتي القائظ الفعلي في المرتبة الثانية بعده..
” يبدو أنك يا مولاي تحتاج لتدريبٍ مكثفٍ ”
ختم سالار حديثه يدفع بسيفه في قوة غاشمة صوب إيفان والذي تصدى له، لكن لقوة الضربة مال جسده للخلف وهو ما يزال يقاوم ويحاول دفع سالار عنه يتنفس بصوت مرتفع :
” ومن يا ترى سيكون معلمي سالار ؟؟ أنت ؟!”
ابتسم سالار بسمة جانبية يبتعد عنه مانحًا إياه فرصة كي يلتقط أنفاسه، وما كاد إيفان يفعل حتى دار سالار بجسده مباغتًا إياه بعنف :
” لا أظن ذلك، ربما في الوقت الحالي نكتفي بدنيار مدربًا لك، وحينما نرى تحسنًا في مستواك، يمكنني أنا أن أكمل معك ”
أطلق إيفان ضحكات صاخبة، يدرك جيدًا أي لعبة يلعبها سالار معه، هكذا هو سالار يحب، بل يعشق استفزازه ..
” آه إن هذا لكرم كبير منك قائد سالار، حقًا لا يسعني شكرك في هذه اللحظة ”
ابتسم له سالار، ثم في ثواني تلاشت بسمته يهجم عليه مستغلًا انشغاله في حالة السخرية الخاصة به، وقد أسقط إيفان دفاعه، ليسقط سالار سيفه ارضًا تحت صدمة إيفان مرددًا بصوت هادئ :
” عدوك لن ينتظرك حتى تنتهي من سخريتك، والافضل ألا تسخر منه قولًا، بل يمكنك أن تسخر منه فعلًا ”
صمت يبتسم بسمة جانبية :
” نعم، تمامًا كما فعلت معك مولاي ”
كان إيفان يحاول أن يستوعب ما حدث منذ ثواني، هل أسقط سالار سيفه للتو؟! هناك من غلبه للمرة الثانية في نزال ؟؟ نفسه الشخص الذي هزمه المرة الأولى ..
تنهد بصوت مرتفع، حسنًا هو يعترف أن لا أحد يستطيع أن يتغلب على سالار، ليس لأنه مقاتل شرس، بل لأن خبرته في القتال والحروب تخطت شراسته، فمهما كنت قويًا، لن تهزم رجلًا نشأ على ذكرى حروب الرسول وقصص معارك خالد ابن الوليد، وعاش سنوات في ارض المعركة .
سالار رجل كرس حياته بالكامل للدفاع عن الوطن ولرد كل الحقوق، لذا هو شاكر أن سالار في صفه وليس في صف عدوه .
لكن إيفان ليس بالخصم السهل ولن يستسلم بهذه السهولة، لذلك مال سريعًا في غفلة من سالار يحمل سيفه ثم عاد للقتال معه وحركات يده كانت سريعة بشكل جعل سالار يبتسم بسمة واسعة مستمتعة، واخيرًا خصم قوي بعد أيام من القتال مع صامد وصمود _ إن سمى ذلك قتالًا _
وبعد ساعة تقريبًا من كل ذلك وحينما لم يصل الإثنان لفائز ألقوا السيوف ارضًا مكتفين بتعادل مؤقتًا .
ليميل إيفان قليلًا وكأنه يرحب يملك يقول بصوت خافت :
” كان قتالًا رائعًا سالار، ذكرني أن نكررها ”
” حينما ترتقي لمستوى القتال معي، ربما نفعلها مجددًا ”
حدق به إيفان بسخرية شديدة وهو يجفف عرق وجهه، يفكر في كيف تحملته الملكة أثناء تلك الرحلة حقًا، فضول شديد اعتراه لمعرفة كيف مرت تلك الرحلة عليهما .
ارتشف سالار بعض رشفات من المياه يرى نظرات الملك له، والتي كانت تبدو غامضة غريبة مما جعله يسخر بمزاح :
” لو أنك امرأة مولاي لكنت قدرت نظراتك حقًا أو لحظة …لم أكن سأفعل، لكن نظراتك لي تلك لا أستسيغها، لذا رجاءً انزع عيونك عني ”
ارتسمت بسمة مخيفة على وجه ايفان الذي كان يفكر في شيء سيثير جنون سالار، وقبل أن يتحدث سمع صوت أحد الجنود يخترق الساحة :
” سيدي هنا معركة في منطقة النساء ”
نظر له إيفان بعدم فهم :
” معركة ؟؟ أليست المشرفة هناك ؟؟ دعها تفصل بين الفتيات ومن ثم ارسلهن لـ ..”
وقبل أن يكمل جملته قاطعه الجندي قائلًا بخوف :
” بل يا مولاي معركة بين أحد الرجال والملكة وفتاة أخرى”
وعند سماع تلك الجملة بصق سالار المياه ارضًا يهمس بعدم فهم :
” الملكة ؟! أي ملكة تلك ؟؟ من أخرجها من جناحها بالله عليكم ؟!”
لكن إيفان لم يتوقف ليطرح كل تلك الاسئلة فهو لن ينتظر حتى يعلم ما يحدث، ركض بسرعة كبيرة وسالار ينظر لاثره بصدمة، قبل أن يلحق به حاملًا سيفه وهو يفكر فيمن تجرأ وتعدي على حرمه نسائهم …
_____________________
كانت تواجهه وهي تحاول أن تخيفه بعدما قررت أن تتبع الخطة البديلة في خطط حياتها، وفي ثواني وقبل أن يستوعب ذلك الرجل شيئًا مالت تبارك ارضًا تحمل حجرًا تلقيه بعنف شديد على قدمه ليطلق الرجل تأوهًا عاليًا هاتفًا بكلمات غير مفهومة لها، لكن هي لم تتكبد عناء محاولة فهمها، وهي تحمل حجرًا آخر اضخم من الاول تنقض به تزيح الفتاة من بين يديه، ثم هبطت به فوق رأسه صارخة :
” لا يحق لك لمسها بهذه الطريقة .”
أطلق الرجل صرخات صاخبة أثارت الرعب في صدر تبارك التي تراجعت للخلف تستوعب ما فعلت، لتقرر الآن أن الوقت قد حان لتهرب، لكن وقبل أن تفعل جذب الرجل حجابها بقوة صارخًا :
” أيتها القذرة سأريكِ كيف تتجرأين وتفعلين ما فعلتي للتو”
وبعد هذه الكلمات شدد قبضته على حجاب تبارك ليخرج في يده، ثم أمسك خصلات شعرها بقوة يصفعها صادمًا رأسها في جدار المبنى الخشبي جوارهم، وصوت صرخات تبارك قد بدأ يعلو ويعلو، والفتاة التي نجت من يد ذلك المعتدي ركضت لتحضر الحرس ..
نظر لها الرجل يبتسم بسمة مقززة وهو يتأمل ملامح تبارك :
” سوف أريكِ الجحيم يا حقيرة ”
بصقت تبارك في وجهه تهتف باشمئزاز :
” رؤيتي للجحيم افضل من رؤيتي لوجهك عن قرب يا حقير”
اشتعلت أعين الرجل بشدة وشعر بجسدة يرتجف غضبًا وهو يرفع يده عاليًا، ولم يكد يهبط بها على وجهها للمرة الثانية حتى اتسعت عيونه بقوة وأطلق شهقة متوجعة .
نظرت له تبارك بعدم فهم، تشعر به يخفف قبضته على شعرها، ابتعدت بسرعة لترى فتاة تقف خلفه وهي تحمل خنجرًا وقد قامت بغرزه في ظهره دون أن يرجف لها جفن، ثم مالت على الرجل وهمست له بكلمات لم تصل لتبارك..
ولم تكن تلك الفتاة سوى كهرمان التي كان جسدها يرتجف، يرتجف غضبًا ورعبًا، ترى الوشم الذي يعلو رقبة ذلك الحقير القاتل، نعم هو واحد منهم، هو أحد المنبوذين الذين قتلوا عائلتها، ودمروا وطنها وحياتها .
ارتجفت يد كهرمان بقوة وهي تسحب الخنجر، ثم مجددًا غرزته وهي تصرخ :
” أوصل سلامي للقذرين امثالك، اقسم أن أجعل جميع ذريتك يلحقون بك ”
سقط الرجل ارضًا بقوة لترتعد تبارك وتعود للخلف مطلقة صرخة مرتعبة، يا الله هي شهدت مقتل رجل للتو، لقد طعنته، كانت أعين تبارك متسعة فزعًا وهي تراقب جثة الرجل ارضًا ..
وكهرمان التي لم تكتفي بعد أخذت تطعن به وهي تصرخ بقهر بكلمات غير مفهومة لتبارك التي شهقت وهي تضع يديها أعلى فمها، ترى الفتاة تنقض عليه بالطعنات وهي تصرخ باكية .
” هذه لأجل امي وأخي، لعنة الله عليكم جميعًا، لعنة الله عليكم يا كافرين، لتتعفنوا في الجحيم، لعنة الله عليكم ”
كانت تصرخ منهارة وتبارك ترتجف، ولم تشعر بشيء سوى بمن يجذبها للخلف، ومن ثم اندفع صوب الفتاة يصرخ فيها :
” كهرمان توقفي، توقفي ما الذي تفعلينه، توقفي لقد مات، لقد قتلتيه توقفي ”
ارتجفت كهرمان بقوة وهي ترفع عيونها لزمرد التي كانت مصدومة أن تتلوث يد الأميرة الناعمة والتي نشأت على حمل الاكواب الخزفية والورود، بالدماء وأي دماء ..دماء رجال بافل.
انتزعت زمرد الخنجر من يد كهرمان تتعجب حصولها عليه، في الوقت الذي وصل به حراس الملك يصرخون بهم أن يبتعدوا عن الرجل .
أبعدت زمرد كهرمان خلفها، ثم حملت هي الخنجر وجسدها يرتجف بقوة مما سيحدث، هذه جريمة قتل، ربما معرفتهم أنه من رجال بافل سيخفف العقوبة، نعم ستخبرهم، لن تدع مكروهًا يصيب كهرمان .
في تلك اللحظة كانت تبارك تحاول أن تستوعب ما يحدث، نهضت من مكانها تمسح دموعها بصعوبة ثم اقتربت من جثة الرجل تقاوم رغبتها في القيء في الوقت الذي سمعت به صوت جهوري يهتف :
” لا أحد يقترب الملكة بلا حجاب، عودوا جميعًا للخلف ..”
ارتعش جسد تبارك في تلك اللحظة تستوعب ما يحدث، تحسست شعرها بسرعة كبيرة وهي تشهق مرتعبة، تبحث بعيونها عن الحجاب حتى سمعت صوت زمرد تقول :
” أنه هناك بجوار الجدار ”
ركضت صوبه تخفي شعرها وهي ترتجف، وفكرة أنه شاهد شعرها تصيب جسدها برجفة، رجفة قوية، القائد رأى شعرها ..
كان سالار يركض خلف الملك، لكن زادت حدة ركضه وسرعته أكثر حينما سمع صرخات الملكة تعلو، اشتد غضبه والتهبت أنفاسه ينتزع سيفه مقتحمًا منطقة النساء يتحرك صوب تلك الصرخات ليبصر فتاة تطعن رجلًا بغضب شديد.
كاد يصرخ بها أن تتوقف، لكن صدمته لرؤية تبارك بلا حجاب وخصلاتها مسترسلة خلف ظهرها جعل كلماته تتوقف في حلقه بصدمة، تنفس بعنف وما كاد يبعد عيونه عنها صارخًا بها أن تغطي شعرها، حتى أبصر بطرف عيونه ركض الجنود والملك نحوهم ليصيح بغضب يعطي تبارك ظهره :
” لا أحد يقترب الملكة بلا حجاب، عودوا جميعًا للخلف ..”
توقف الجميع بمن فيهم الملك الذي اتسعت عيونه بصدمة لكلمات سالار، بينما سالار تلاشى النظر لهم جميعًا ولم يتحدث بكلمة حتى سمع صوتًا خافتًا يتحدث خلفه :
” أنا… أنا لبست الطرحة يا قائد ”
استدار سالار ببطء شديد وكأنه لا يثق في كلماتها، قبل أن يتنهد ويتأكد من الأمر، استدار مجددًا يشير للحراس بأمر :
” خذوا جثة ذلك الرجل بعيدًا، واحضروا الفتاتين والملكة، بكل هدوء صوب القاعة ليتولى الملك الحكم في شأنهم ”
ختم كلماته يترك الجميع متحركًا بعيدًا عنهم دون كلمة إضافية، بينما تبارك تحسست حجابها بخجل شديد وقد شعرت برغبة عارمة في البكاء على تفكيرها الغبي في هذه اللحظة، لكنها لم تستطع منع نفسها من الشعور بالخزي لأنها لم تمشط شعرها منذ ايام وقد كانت خصلاتها هائجة ومتشابكة بشكل …سييء، وهو رآها هكذا، هل هناك موقف آخر سييء لم يرها به القائد ؟؟
لا ينقصها سوى أن يراها نائمة يسيل لعابها حتى يكتمل البوم الصور المخزية في عقله لها ..
_____________________
لا تدري ما الذي جاء بها لهذا المكان، هي ممنوع عليها أن تخطو لمكان خارج صلاحيات عملها، وبالتأكيد مشفى الجنود ليست من ضمن تلك الصلاحيات، لكنها مرتعبة، منذ التهديد الاخير للقائد دانيار والذي أوضح به جيدًا أنه سيتخلص منها إن أثبت أن لها يدًا في إصابة رفيقه وهي مرتعبة، ونعم هي ليس لها يد، لكن ذلك المختل صانع الأسلحة هددها وبشكل مباشر قبل اغماءه أنه سيريها الويل ..
ابتلعت ريقها تتوقف في منتصف المشفى تنظر يمينًا ويسارًا بحثًا عن غرفته، لكن لا تدري أيهما كانت، لذلك فكرت في التراجع والاختفاء عن الأعين فترة و…
توقفت فجأة وهي تسمع صوت مقابض الابواب تتحرك مما جعلها تركض لتختبئ تراقب دانيار يخرج من إحدى الغرفة وهو يتحدث مع الطبيب بجدية كبيرة :
” حسنًا مهيار انتبه له وأنا في المساء سآتي لزيارته مجددًا، والآن سأرحل لاتحدث مع القائد بشأن عقابي ”
أمسك مهيار يد دانيار يردد :
” وأنا كذلك يا دانيار أخبره أن لا قِبل لي بمثل تلك الأمور يا أخي”
هز دانيار رأسه متنهدًا بحنق، قبل أن يربت على خصلات مهيار كما لو كان طفلًا وليس شابًا في الثامنة والعشرين :
” رغم علمي أن حديثي لن يغير ايًا من قراراته، لكن لا ضير في المحاولة ”
وهكذا تفرق الأثنان وابتسمت برلنت بسعادة كبيرة إذ أُتيحت لها فرصة الدخول وتوسل ذلك المختل ليتناسى ما قالته في غمرة رعبها .
دخلت الحجرة تاركة الباب مفتوح خلفها، فهي خالفت القوانين بالمجئ للمشفى، ولا تود أن تزيد من طينتهًا بلًا بالاختلاء برجل داخل حجرة مغلقة ولو كان ذلك الرجل طريح الفراش .
اقتربت منه بريبة وهي تنظر للخلف كل ثانية، ثم تكمل تقدم صوب الفراش بحرص، واخيرًا حينما أصبحت جواره مالت تجلس على ركبتها مبتعدة بشكل مناسب عن الفراش وهي تراه ساقطًا في غيبوبته، المسكين الحقير لا بد أنه يعاني من الوجع .
” سيدي مرحبًا جيتك للإعتذار، هذه أنا، أقصد، حسنًا ربما لا تعلم لي اسمًا، لكنني هي نفسها الفتاة التي ألقيت عليها قنبلة سابقًا واسقطتها عن الدرج بعدما حدت تفجرها للمرة الثانية، واسقطتها عن فرع الشجرة بكل حقارة، ثم هددتها و…”
صمتت برلنت فجأة وكأنها للتو استوعبت كل ما فعله معها، كل مرة قابلها يكون على وشك قتلها، وهي لأنها سبته فقط أثناء خروج روحه يهددها ويرعبها؟؟ ذلك الحقير .
فجأة تراجعت برلنت عن كل ما جاءت لأجله بعدما شعرت بنيران تشتعل داخل صدرها حينما أدركت كل ما فعله معها :
” أيها الحقير تهددني بالهلاك وأنت لم ترني يومًا، إلا وانتهى يومي بالخراب ؟؟ لقد كدت تقتلني في كل مرة قابلتني به، يالله للتو أدركت الأمر ”
نظرت له بتشفي كبير وهو متسطح بملامح شاحبة أعلى الفراش، لتبتسم بكره شديد وهي تقف تراقبه من الاعلى :
” ما تعانيه في تلك اللحظة هو عقاب الله لك، لتذهب إلى الجحيم لن اعتذر لك، وهذا المدعو دانيار اقسم أنني سأشتكيه للملك بسبب تهــ….”
” هل خرقتي القوانين وغامرتي بحياتك فقط لتؤرقي منامي وراحتي يا امرأة ؟؟”
أطلقت برلنت صرخة مرتفعة تتراجع خطوات للخلف، وقد بدأ جسدها يرتجف برعب شديد، وهو تنفس بحنق ينتفض عن فراشه ليس وكأنه منذ ساعات كان ينازع الموت، تحرك عن فراشه وهبط منه يراها تنظر له بأعين متسعة …
ابتسم يقول :
” والآن ما الذي كنت تهزين به وقت تسطحي على الفراش؟!”
” أنا… أنا سيدي … أنا فقط جئت كي …اعتذر ..نعم جئتك اعتذر عما بدر مني منذ ساعات أثناء احتضارك ”
رفع تميم حاجبه بسخرية وهي ابتسمت له، وحينما رأته يقترب منها خطوات مثيرة للرعب أطلقت صرخة مرتفعة جعلت أعين تميم تتسع :
” أيتها الغبية توقفي عن الصراخ سيظن الجميع بنا سوءًا وسنحاكم سويًا ”
بكت برلنت برعب تشير له أن يبتعد :
” ارجوك ارحمني أنا لست سوى فتاة يتيمة مسكينة جئت هنا للعمل لأجل ايجاد منزل يأويني، لقد عشت ليالي دون أن أتمكن من تناول كسرة خبز عفنة حتى، كنت التحف بالسماء وانام على الرمال، اكلت الحشائش و…”
كانت برلنت تسهب في سرد معاناتها عبر السنين السابقة، تبكي بحزن وقد بدأ جسدها يرتجف بقوة وهو يراقبها بملامح بلهاء لا يفهم ما تفعل تلك الغبية، ومن بين كل تلك الحوادث المأساوية أشار لها تميم يقول بعدم فهم :
” يا فتاة أوليس والدك بائع اقمشة ؟؟ ووالدتك ربة منزل ؟؟ ومنزلك يقبع في المقاطعة الشمالية ؟؟ ”
اتسعت أعين برلنت بقوة وقد ثقب تميم لتوه فقاعة البؤس التي كانت تدفع نفسها داخلها، تنظر له بصدمة. هامسة من بين دموعها بصوت مذهول :
” كيف علمت ؟؟”
” كيف علمت ماذا أيتها الحمقاء ؟؟ جميع من بالقصر يعلم الأمر فأنتِ نفسها من تشاجرتي مع فتاة منذ شهر تقريبًا وجئتِ تشتكين للملك وتقصين عليه حكايتك ”
مسحت برلنت دموعها وقد فشلت خطة الاستعطاف التي تتبعها في مواقف عدة، ثم نهضت تنفض ثيابها ومن بعدها نظرت له ببسمة صغيرة تقول بريبة وقلق :
” إذن أنت لن تكون وقحًا وتنتقم مني حينما تصبح بخير ؟؟”
رفع تميم حاجبه مبتسمًا بسخرية، وهي ابتسمت أكثر تنتظر منه إشارة أنه لن يمسها بسوء، وهو فقط أشار صوب الباب يقول بملامح جامدة :
” اخرجي من هنا ”
” هل هذا يعني أنك سترحمني لأجل عائلتي المسكينة على الأقل؟؟ ”
نظر لها بغضب وحنق شديد :
” إن لم تخرجي سأتناسى كل شيء يمنعني من الأمر واتخلص منكِ”
اتسعت بسمة برلنت أكثر وقد شعرت أنه لن يؤذيها، لذلك ركضت صوب الباب تقول بصوت مرتفع :
” حسنًا وأبعد عني ذلك الرجل المسمى بدانـ …”
ولم تكمل جملتها حتى وجدت جسد ضخم يمنعها عن الخروج من الغرفة، رفعت عيونها بصدمة لتجد أمامها الطبيب مهيار والذي أخذ يحرك نظراته بينهما، ثم ضيق حاجبيه يقول :
” امرأة بين جدران مشفايّ ؟؟”
_____________________
الأمر جاد وبشكل خطير تدرك ذلك، الملك على عرشه والفتاتين برؤوس منكوسة أمامه والجنود يحيطون بهما، والمستشارين يحدون الملك من الجانبين، حسنًا ستكون سخيفة إن قالت إن هذا المشهد اعجبها، ليس وكأنها سعيدة بالمأزق الذي سقطت به الفتيات، لكن …حسنًا هي قديمًا كانت دائمة النقد على المشاهد التافهة التي لا يتم الترتيب لها بشكل جيد، وهذا المشهد أمامها كامل متكامل، ربما لأنه ليس مشهدًا بل حقيقة …
فجأة شعرت بجسدها ينتفض حين سماع صوت الملك يتحدث بنبرة لغت في عقلها ذلك الراقي الهادئ الذي كان يتحدث معها سابقًا :
” اريد معرفة كل ما حدث داخل المزارع و…”
سارعت تبارك تبرر ما حدث بسرعة كبيرة رافضة أن يُظلم أحد وهي شهدت بعيونها ما جرى، وعند تذكرها للأمر لا إراديًا ارتجف جسدها من مشهد قتل الرجل :
“سيدي القاضـ…الملك، رجاءً لا تظلم أحدًا منهما، اللوم لا يقع على عاتقهما بل ذلك الحقير كان هو السبب فيما حدث، لقد حاول أن يتهجم على فتاة أمام مرأى ومسمع من الجميع ولم يكتفي …هي يكتفي ولا يكتف ؟؟ مجزومة صح ؟؟”
كانت تتحدث بجدية تدرك أنهم يعلمون أكثر منها في تلك الأمور إن كانت تلك لغتهم الرسمية، لكن نظرات الريبة والصدمة حولها والأعين المتسعة التي تحيط بها جعلتها تدور في مكانها وهي تفكر فيما فعلت :
” ايه مش مجزومة ؟؟ ”
كان إيفان يحدق بها في ذهول كبير، كيف تقاطع حديثه بهذه البساطة، ممنوع منعًا باتًا أن يتجرأ أحدهم ويقاطع حديث الملك دون أن يأمره هو بالحديث .
ابتلعت تبارك ريقها تحاول التفكير فيما قالت، هل أخطأت في قول شيء ليرمقها الجميع بهذا الشكل .
فجأة لمحت بطرف عيونها سالار يتقدم للمكان بكل هيبة وقوة لتنتفض وهي تهم بالركض له لتحتمي به، لكن وكأنه شعر بذلك إذ نظر لها نظرة جمدتها يأمرها بعيونها أن تلتزم مكانها جوار الملك، وهو توقف في منتصف القاعة أمام كهرمان وزمرد يقول :
” هل تسمح لي بالحديث مولاي ؟؟”
نظرت له تبارك باستنكار لما يقول، هل هم في فصل دراسي ليستأذن بالحديث، وما كادت تخبره أن يتحدث مباشرة، حتى قاطعها صوت إيفان يقول :
” لك حرية الحديث قائد سالار ”
هز سالار رأسه يقول بصوت هادئ وهو ينظر للجميع قبل أن يرى وجهها الشاحب لا يفهم ما فعلت تلك الكارثة :
” مولاي لقد اكتشفها أن ذلك الرجل الذي تم قتله بواسطة العاملة هو أحد المنبوذين وقد تسلل لمملكتنا خيفة في ذلك اليوم الذي هجموا به وهرب منهم وظل طوال ذلك الوقت هنا و…”
ومجددًا قاطعت تبارك حديثه مستنكرة لما يقول، وقد مثل جهلها بما يدور حولها كارثة ستدفع بها للهاوية :
” أرى أنه ليس من الجيد وصفه بالمنبوذ، هو الآن بين يدي الله حتى ولو أذنب، فلا يجوز لك أن تصفه بهذه الصفة العنصرية و…”
توقفت عن الحديث حينما أبصرت أعين سالار التي اسودت بشكل مرعب، لتنكمش على نفسها تسمع صوت الهادر يقول :
” ذلك الرجل كافر، مغتصب وقاتل، لا اعتقد أن امثال هذا الحقير تجوز عليهم الرحمة مولاتي ”
حسنًا هذا مفاجئ لها، بُهتت وهي تشعر أنها تلقت لتوها صفعة، هي ظنته أحد الرجال الذين راودتهم أنفسهم على ارتكاب معصية، هزت رأسها تهمس بصوت منخفض :
” أوه، هذا يفسر الكثير إذن، لعنة الله عليه ”
ابتسم سالار بسمة جانبية ساخرة، ثم نظر لايفان بنظرات أقرب للتشفي والشفقة، وإيفان المسكين نظر له نظرة المغلوب على أمره يحاول أن يضع لها حجج في رأسه كي يتغاضى عن أفعالها .
” حسنًا بالاستناد إلى حديث القائد سالار وما حدث من قِبل ذلك القذر، فلن تتحمل ايًا منكما عقابًا جراء ما حدث، بل سيتم منحكما مكافأة مالية لإغاثة رفيقة لكما، وكذلك سيتم إسقاط عقاب فتاة الحظيرة عنها ”
اتسعت عيون كهرمان التي كانت تنظر ارضًا تحاول أن تهدأ بعد ما حدث معها، لكن فجأة رفعت رأسها بصدمة تستنكر ما سمعت :
” فتاة الحظيرة ؟؟ هل تمزح معي ؟؟”
اتسعت عين إيفان بقوة وهو ينظر لها بشر بينما هي صُدمت حين سمعت صوت شهقات في المكان لتدرك أن صوتها كان أعلى مما تخيلت .
ابتلعت ريقها تهمس بصوت خافت :
” أقصد أنني شاكرة لك ولكرمك مولاي ”
ابتسمت زمرد بسمة صغيرة، ثم نظرت ارضًا تقول :
” اسمح لنا بالمغادرة مولاي ”
تنحنح إيفان يحاول تمرير ما سمع منذ ثواني، يبدو أن اليوم ليس يوم حظه مع النساء، أشار لهما بكفه أن يرحلا، ثم نظر لسالار وقال بصوت غامض :
” تعلم ما ستفعله قائد سالار ”
هز سالار رأسه بهدوء شديد، ثم غادر دون كلمة أو نظرة واحدة حتى صوب تبارك والتي كانت تلوح له بيدها في محاولة بائسة لجذب انتباهه، تريد فقط أن تخبره بشيء و…
فجأة انتبهت لنظرات الملك المستنكرة لها، وهي ابتسمت بهدوء :
” أنا.. أنا آسفة على ما حدث، لم أكن أعلم ما يدور ومن هم المنبوذون ”
تنهد إيفان بصوت مرتفع ثم قال :
” ملكة تبارك ”
ورغم تعجبها لتلك الكلمة، وصعوبة ابتلاعها لها، إلا أنها اومأت له تنتظر أن يتحدث، ليبتسم هو قائلًا:
” رجاءً تحركي مع الجنود صوب مخدعك، وخذي قسطًا من الراحة حتى موعد الطعام ومن ثم نتحدث، حسنًا ؟!”
هزت رأسها بلا اهتمام :
” وماله، انا اصلا تعبانة ”
” ماذا ؟!”
نظرت له تتذكر كلمات سالار بشأن العامية :
” أقول لا بأس أنا أشعر بالتعب الشديد حقًا و…”
الآن نفذت جميع كلماتها الفصحى، حسنًا لا بأس ستهز رأسها وينتهي الأمر، وهكذا بدأت تهز رأسها له وإيفان شعر بالريبة الشديدة وهو يعود برأسه لخلف ثم ابتسم بعدم فهم لما تفعل :
” حسنًا … امممم ..سيرشدك الجنود لمخدعك ”
وخجلت هي أن تسأل معنى كلمة ( مخدعك ) لكنها خمنت أنها غرفة، لِم لا يقول غرفتك فقط، هل يود التفاخر أمامها بلغته الفصحى ؟؟ لا وألف لا، هي من جيل شباب المستقبل ومن أبناء سبيستون، ستريه كيف تكون الفصحى، لكن حينما تستيقظ لاحقًا، الآن ستذهب لترتاح حتى تستعد للمعركة .
” طيب ”
وبهذه الكلمة تحركت عن مقعدها ترفع رأسها للأعلى تتحرك خارج القاعة دون أن تأبه بأحد حولها، أو تهتم لنظرات من يحيطها، فقط ابتسامة ثقة، ومشية مليئة بالرجولة هي كل ما صدر منها ..
تنهد الملك براحة متنفسًا الصعداء هامسًا :
” الآن فقط أدركت سبب بسمة سالار المتشفية ”
بينما تبارك خرجت من القاعة تشعر بالاختناق الشديد، لقد ملت حياة الملوك والقيود، ملتها قبل حتى أن تبدأها .
تنهدت بصوت مرتفع وهي تلمح رجل ذو شعر اسود وبشرة بيضاء وأعين ملونة يتحرك في الساحة يحمل حاوية سهام خلف ظهره لتتنهد بحنق :
” مش ده قليل الادب اللي زعق ليا الصبح ؟؟ اكيد واحد من رجالة سالار، لازم يعرف أنه قلل من احترامي”
انتبه دانيار والذي كان يتحرك صوب جناح سالار بعدما أرسل له جندي كي يحضره، لها وفجأة توقف حينما رأى الملكة تتحرك أمامه وهي ترمقه بنظرات غير مفهومة جعلته يتحدث بهدوء :
” هل يمكنني مساعدتك مولاتي ؟؟”
رمقته تبارك من أعلى لاسفل بعداء واضح وقبل أن تتحدث سمعت صوت سالار يقول بصوت جهوري :
” دانيار دعك منها وتعال بسرعة ”
راقبت تبارك المدعو دانيار يتركها ويتحرك صوب سالار الذي رمقها بشر قبل أن يختفي داخل المبنى الخاص بالغرف، وهي ما تزال تقف بذهول مما يفعل :
” ده أنا لو قاتلة ليه قتيل مش هيتعامل معايا معاملة العبيد دي، أنا مش فاهمة ملكة ايه دي اللي جايبني عشان اكونها؟؟ ده انا لو هشتغل جارية هنا اكرملي، على الأقل هقبض في الآخر، إنما أنا بتهزق من الرايح واللي جاي ببلاش ”
سارت صوب حجرتها بغضب وخطوات قوية وودت لو تركض بين الطرقات، والحنق يملئ صدرها بقوة وقد شعرت بالنقم من ذلك القائد والآخر دينار أو لا تتذكر ما اسمه، وكذا الملك الذي لا يساعد في اعطائها هيبة مستحقة لكونها الملكة هنا رغم احترامه وتقديره لها…
لعنة الله على مملكة لا تحترم ملكتها، تقسم أنها لو تعرف فقط طريق العودة لكانت عادت .
_____________________
” إذن ماذا ستفعلين ؟! ”
خلعت زمرد ثيابها المزعجة التي تقيدها في الحركة تحتفظ بسروال ضيق وثياب علوية قصيرة بعض الشيء، تتنفس براحة شديد :
” سأذهب لذلك الغبي قائد الرماة وأخبره أن يعيد لي سيفي، فبعد اهدارك لخنجري العزيز على ذلك القذر لم يعد لنا من أسلحة ندافع بها عن أنفسنا ”
نظرت لها كهرمان باعتذار شديد، لكن زمرد ابتسمت وهي تخبرها أنه لا بأس بما فعلت .
بينما برلنت والتي أصرت على أن تنتقل للمبيت في غرفتهم خوفًا أن ينتقم منها ذلك المختل تقول :
” ذلك المدعو دانيار، يا لطيف كم هو مرعب وحقير ”
” نعم برلنت هو حقير، جميع جنود الملك كذلك، وايضًا الملك نفسه حقير ”
كانت هذه جملة زمرد وهي تحرر خصلات شعرها بغضب شديد، بينما هزت كهرمان رأسها تؤيد ما قالته زمرد :
” صحيح الملك حقير، لكنني سمعت أن القائد سالار أفضل منه، دائمًا ما كان اخي يخبرني عنه وعن مروئته وقوته ”
وفورًا ارتسمت بسمة على فم برلنت تقول :
” القائد سالار ؟؟ يا فتاة هو رجل احلام أي امرأة، هو والملك، أنهما رائعان ”
رفعت زمرد حاجبها بسخرية، ثم ألقت نفسها على الفراش تنظر لبرلنت بشك :
” ما الذي