![]() |
رواية لعنة الخطيئة الفصل الثامن عشر 18 بقلم فاطمة أحمد
الفصل الثامن عشر : غدر آخر.
____________________
بعد انطلاق السيارات من المنزل بساعة واحدة توقفت سيارة آدم عند وصوله للجهة الغربية من القرية وترجل بوقار وخلفه نيجار التي دارت بعينيها في المكان تتأمله كان عبارة عن تلالٍ ممتدة على طول الأراضي الزراعية الواسعة وتعرج طريق طويل عبر الحقول والغابات، وانعقد على نفسه مع دغل من شجر الصنوبر ثم عبر حقول القمح حيث تشرف عليه شجيرات صغيرات لم يشتد عودها بعد ، لينزل إثر ذلك نحو وادٍ صغير ينهمر ماؤه سريعا في غدير فينبع من الغابة ويعود إليها من جديد.
وتردد صوت الهواء البارد مع ضحكات الأطفال الراكضين خلف مُهر بني مكتنز، وركض خروف صغير على الطريق يتبع القطيع الذي حاد عنه أما الرجال فكانوا يعملون بجد و ضراوة تارة يتوقف أحدهم لأخذ أنفاسه ثم يتابع وتارة يتلكأ الآخر ليمسح عرقه ويعود من جديد ...
لمعت عينا نيجار باِنبهار وهمست :
- المكان ده بيجنن سحر بجد.
سمعها آدم ولم يعلق عليها بل أشار لفاروق ومساعديه بإتباعه ودخلوا فاِنتبه لهم الأهالي وانشرحت وجوههم فجأة عند رؤية آدم وهرعوا نحوه في البداية توجست نيجار من التجمع واعتقدت لوهلة بأنهم سيتهجمون عليهم لكنها أخذت نصيبها من الدهشة حين رأتهم يهللون ويرحبون به بحرارة !
ابتسم آدم وبدأ يصافحهم باِحترام مجيبا على عبارات ترحيبهم :
- السلام عليكم ... اهلا بيكو ... ده نوركم شكرا.
هتف أحد العمال ببهجة :
- يا نهار ابيض حلت علينا البركة يا آدم بيه نورتنا والله يا سيد الرجالة.
هرع لتقبيل يده لكن الآخر سحب كفه سريعا وقال :
- استغفر الله ايه ده يا عم اسماعيل مينفعش كده.
- قليل يا بيه مهما عملت مش هوفيك حقك نسيت انك ساعدتني عشان اقدر اعمل العملية لإبني ده انا لولاك بعد ربنا كنت دفنته من زمان.
رد عليه بعينين ممتلئتين بدموع الاِمتنان فربت آدم على كتفه بمؤازرة وسار معهم وهو يسأل عن أحوالهم وسير العمل ومن خلفه تسير نيجار مراقبة ما يحدث بتعجب وحيرة هذه أول مرة ترى فيها الناس يتجمعون حول أحدهم ووجوههم مشرقة إحتراما وليس خوفا ولكن ماذا فعل لهم آدم حتى يكسب محبتهم فهي لم ترَ من قبل شخصا استقبل صفوان بهذه الطريقة وفي الحقيقة حتى ابن عمها لم يعاملهم بلين أو يبتسم في وجوههم لطالما أخبرها بأن السيد لا ينزل إلى مستوى من هو أقل منه وأنها لن تحظى بالإحترام ان تساهلت مع العامة.
لكن هذه المرة هي ترى شيئا مختلفا تماما عما سمعته وتربت عليه ...
وصلوا للمنازل وبدأ المساعدون بتوزيع الأكياس والحاجيات على كل واحد منهم وحرص آدم على تقديم المساعدات الإضافية للعائلات التي ليس لها معيل وعندما فرغ من هذا القسم تكلم أحد الرجال وهو كبير في السن ويكن له آدم معزة خاصة :
- كتر خيرك يابني ربنا يجزيك على حسب نيتك ويفرحك زي ما فرحت اليتامى دول ... بما انك خلصت تعالو تتغدو.
كاد أن يرفض بأدب ويخبره بأنه لن يطيل المكوث لكن الآخر قاطعه مبتسما :
- انت عايز خالتك أم جميل تزعل منك ولا ايه ديه مقعدتش من الصبح وهي عماله تعملك الأكلات اللي بتحبها.
ضحك بقلة حيلة مستسلما للدعوة :
- لا كله الا زعل الحجة ماشي انا هجي معاك.
نظر لنيجار التي كانت صامتة طوال الطريق وأشار لها بالإقتراب منه فلبت الطلب سريعا وهمست له :
- مين ام جميل ديه خلينا نمشي انا مبطمنش لما اقعد مع ناس مبعرفهاش.
رد عليها بنظرة محذرة لتسكت ثم أخذها الرجل لمنزل قديم منعزل قليلا وأدخلهم وبمجرد أن رأته السيدة انتشرت معالم البهجة على محياها وتقدمت منه مهللة :
- يازين من زارنا يامرحب بيك حلت علينا البركة.
قبل جبينها باِحترام متمتما :
- اخبارك يا أمي عامله ايه.
- بقيت احسن بشوفتك يا زينة الشباب ده البلد نور بوجودك والله ... الأمورة ديه مراتك ؟
سألته أم جميل وهي تطالع نيجار فأومأ بإيجاب لتتقدم منها متلمسة شعرها بحنو :
- بسم الله ماشاء الله عليكي زي القمر ياحبيبتي والله وعرفت تختار يا ابني.
احمر وجهها وهمست بكلمات شاكرة بالكاد وصلت لأذن آدم الذي تأمل حرجها باِستغراب وفكر بأنها تتقن تمثيل دور الفتاة الخجولة أيضا لكن نيجار لم تكن تمثل هذه المرة فهي حقا لا ترتاح في وجود أناس جدد وترتبك حينما تشعر بنظراتهم عليها خاصة نظرة آدم الآن والتي تكاد تحرق بشرتها.
بعد تبادل عبارات السلام والترحيب جلس آدم مع فاروق ومساعديه للمائدة المخصصة لهم أما السيدة فأخذت نيجار لمائدة النساء وعرفتهن عليها بسعادة :
- هي ديه مرات الغالي زينة الشباب.
رحبن فيها باِحترام زاد من استغرابها وجلست معهن لتهمس متسائلة :
- هي ليه الناس هنا بتحب آدم اوي كده.
ردت عليها أم جميل بهمس مماثل :
- لأنه راجل بجد وخيره مغرقنا كلنا الناس بتحترمه من كتر جدعتنه ورحمته هو اللي كان بيجي يطمن ع احوال الكبير والصغير هنا وساعدهم وقت اتضررو من الاعصار ده غير انه متكفل باليتامى والعايلات المعتازة حتى المدرسة اللي ع اول الطريق ديه عمل مجهود كبير عشان يوافقو تنبنى والعيال تدرس.
فغرت فاها بذهول وعدم تصديق وأحست بأن المرأة تبالغ وللعجب توقعت الأخرى ما تفكره به فضحكت هاتفة :
- في ناس بتعمل خير ومبتتكلمش عليه بيبقى بينها وبين ربنا وجوزك واحد منهم طول عمره بيهتم بالأهالي وبيعمل الواجب معاهم لما ابني الوحيد استشهد فضل آدم يجي كل فترة يطل عليا ويسأل عن احوالي ويقولي اعتبريني زي ابنك يا أمي.
تفاجأت بتصريحها عن استشهاد ولدها الوحيد وتساءلت بداخلها عن مدى قوة هذه المرأة وهي تتحدث عنه لدرجة أنها تضحك بعد خسارتها لفلذة كبدها فهل هي قوية إلى هذه الدرجة لو كانت هي مكانها لربما جُنت أو ماتت من شدة الحزن.
وللمرة الثانية تشعر والدة الشهيد بما تفكر به نيجار فتنهدت واستطردت من دون التخلي عن ابتسامتها الودودة :
- أم الشهيد بتقلب صفحة الحزن وبتبدل قهرها لعزة وفخر بيه كفاية ان ابنها توفى في سبيل بلده وناسه وانا مش اول ولا آخر واحدة بيدخلولها ابنها في صندوق ملفوف بالعلم يابنتي.
سقطت دمعة من عينها تأثرا بقوة إيمانها وصبرها فهمست بنبرة متحشرجة :
- حضرتك ست جميلة اوي يا خالة ربنا يجمعكم مع شهدائكم في الجنة.
أمنت خلفها سريعا ثم غيرت الموضوع ممازحة :
- اتكلمنا كتير ونسينا الوكل يلا سمي الله ومدي ايدك قبل الغدا ما يبرد.
قضت وقتا جيدا مع النسوة واستمعت بصحبتهن وبعد ساعة خرجت باحثة عنه فسمعت أصوات الرصاص من خلف المنزل ذهبت باتجاههم ووجدت آدم واقفا بإستقامة يحمل البندقية ويطلق على الكرات المطاطية التي تنطلق من بعيد بسرعة فائقة باتجاه السماء فيصيبها واحدة تلوَ الأخرى من دون أن يخطئ في هدف واحد حتى.
هلل زوج السيدة وفاروق وصفق الصغار باِنبهار طفولي فاِبتسم هو ووضع مابيده على الطاولة بجانبه مغمغما :
- انا ملعبتهاش بقالي فترة والتدريب ده نفعني.
- طول عمرك بتصيبها من أول مرة ومبتخيبش ماشاء الله عليك.
قالها الرجل بإعجاب وهنا لمح آدم مجيء نيجار فحدث نفسه ساخرا :
- إلا عندها هي غلطت وخيبت.
رشقها بنظرات حادة وأشار لها بالمغادرة لكنها ادعت بأنها لم تنتبه وتنحنحت مقتربة منهم بروية ثم قالت بنبرة رقيقة :
- تسمحلي اقف معاكم يا عمو.
نظر لها بضحكة :
- مفيش مشكلة بالنسبة ليا يابنتي بس اسألي جوزك الأول.
نقلت بصرها لآدم مطالعة إياه بنظرة قطة أليفة وكأنها حقا زوجة مطيعة لا تتحرك إلا بإذنه فكتم فاروق ضحكته أما آدم ضغط على أسنانه متوعدا لها فيما بعد ثم أجاب :
- وانا كمان مفيش مشكلة بالنسبالي بس متتحركيش.
هزت نيجار رأسها موافقة ووقفت بجواره تراقبه وهو يملأ خزان السلاح بالرصاص حتى نطق أحد الأطفال مخاطبا إياها :
- حضرتك بتعرفي تعملي زي عمو يا ابله هو ضربهم كلهم ومعملش غلطة واحدة.
فتحت فمها لتجيبه لكن هذا الأخير تولى الإجابة بدلا عنها :
- الابله بتعرف تضرب بالخناجر بس ملهاش في الحاجات التانية.
حمحم فاروق وقلبت هي عيناها بضيق من مقصده وصمتت بينما تابع الآخر مضيفا :
- لو عايز تتأكد من قدراتها جيبلها خنجر وشوف بنفسك.
لم يكن الطفل يفهم تلميحاته على أي حال لكن نيجار التي أحست به يريد اغضابها التقطت البندقية من يده متشدقة بثقة :
- خلينا نجرب ونشوف لو بعرف العب بالخنجر بس ولا في اسلحة تانية.
رمقها بتهكم واستخفاف إلا أنها سرقت دهشة لحظية من عينيه حين وجدها تأخذ الوضعية الصحيحة للإطلاق وتثبت السلاح معتمدة على يدها وطول ذراعها وكتفها فبدأ العامل الذي يقف بعيدا عنه بإطلاق الكرات المطاطية من الآلة.
واحد ... اثنان ... ثلاثة ... عشرة !
انطلقت واحدة تلوَ الأخرى وشرعت نيجار تطلق النار مصيبة إياهم بجدارة ورغم أنها فشلت في بعض المحاولات لكنها أصابت الباقي وجعلت الحضور يندهش من هذه المرأة التي تجيد التصويب ليتكلم الرجل هاتفا :
- ماشاء الله هي ديه حرمة آدم الصاوي بحق.
تقدم فاروق بضع خطوات وهمس في أذنه بجدية مضحكة :
- ديه طلعت بتصاوب كويس كمان انا بقول لازم تاخد بالك اكتر من بعد كده.
حدجه آدم برفعة حاجب جعلته يتراجع للخلف فورا ثم نقل نظره لنيجار التي ابتسمت بثقة وقال بخفوت :
- مين علمك التصويب.
ردت عليه بنفس النبرة :
- بابا الله يرحمه كان بيوديني ع اماكن زي ديه من وانا عيلة وهو اللي بدأ يدربني بس بعد وفات صفوان كمل تدريبي.
دقق نظراته عليها مفكرا بأن هذه الفتاة تتقن ركوب الخيل واِستعمال الخناجر وهذا النوع من التصويب الصعب بمهارة أيضا ولبرهة تساءل بداخله إن كان قد تم تدريبها خصيصا من أجل جعلها عنصرا فعالا في مؤامرات عائلتها أو أنها هي من تميل لهذه النشاطات.
قطع سيل تفكيره مجيء أحد الأطفال راكضا وكان يعرف هويته جيدا فإقترب آدم مقللا المسافات بينهما وجثى على إحدى ركبتيه فاتحا ذراعاه ليحتضنه مرددا :
- ايه المفاجأة الحلوة ديه يا سليم اخبارك يا بطل.
رد عليه "سليم" بسعادة :
- بقيت كويس لما شوفتك انا فرحت اوي يا عمو لما عرفت انك جاي لعندنا.
داعب وجنته المكتنزة وقال :
- وانا كمان فرحت بشوفتك قولي عامل ايه في مدرستك.
أجابه متفاعلا مع أسئلته تحت نظرات نيجار التي مالت شفتها في ابتسامة تلقائية هامسة :
- يعني حتى العيال بتحبه هو آدم عاملهم سحر ولا ايه.
لكن سرعان ما بهتت ابتسامتها وانكمش وجهها حينما رفعت رأسها وأبصرت فتاة ترتدي ثوبا زهريا بسيطا قادمة من بعيد على عجلة مقتربة منهما جذبت يد أخيها وأبعدته عن آدم موبخة :
- انت بتعمل ايه هنا مش قولتلك متجيش تضايقه وتعمله دوشة ... عدم المؤاخذة يا بيه انا نبهته بس سلبم مسمعش كلامي ومعرفتش امسكه لما جري مني.
نهض عن الأرض ورسم ابتسامة زادته وقارا وهو يطمئنها بروية :
- لا أخوكي مضايقنيش بالعكس انا بحب وجوده ... المهم ازيك يا آنسة حياة عامله ايه.
احمر وجهها ذو البشرة البيضاء ونظرت إلى الأرض بخجل بينما تجيبه وهي تحاول إدخال خصلات شعرها الأشقر داخل الطرحة :
- بخير الحمد لله يا آدم بيه أحوالي اتحسنت من وقت بدأت اشتغل في المدرسة وكل ده بفضل حضرتك.
- ده بفضل ربنا يا حياة انتي مُدرسة شاطرة والعيال حابين وجودك معاهم.
ابتسمت وقد زادها مديحه خجلا ورفعت رأسها تطالعه بعينان ملتمعتان ظهرتا لنيجار بوضوح فـ انتفضت ممسكة ذراعه وقطعت وصل النظرات وهي تردد باِبتسامة مصطنعة :
- أهلا وسهلا.
حدقت فيها حياة بتساؤل لتجيبها هذه الأخيرة معرفة عن نفسها :
- أنا نيجار مرات آدم.
خبُت إشراقها تدريجيا وأومأت برأسها مهمهمة :
- متشرفين وأنا حياة.
ثم أمسك يد شقيقها الصغير واستأذنت مغادرة ليسحب آدم ذراعه منها هامسا :
- انتي اتعودتي بقى ع كلمة مراتي ديه.
ردت عليه ببساطة :
- ماهي ديه الحقيقة انا مش بكدب.
ثم عضت على شفتها وتمتمت بدلال متعمد :
- وبعدين مش انت امبارح قولتلي اني مراتك وهتوريني بنفسك ايه طبيعة علاقتنا مع بعض ولا نسيت.
زفر بحنق من لسانها الطويل وردِّها على كل كلمة منه بكلمة أخرى من دون أن تجد رادعا ... إنها حقا ماكرة خبيثة لا تعرف معنى الخجل.
تنحنح منهيا الحوار واستدار لفاروق قائلا بصوت عالٍ :
- أنا مروح للأرض اللي هناك بقالي زمان مشوفتهاش.
هز رأسه بإيجاب وتحرك ناحيته لكن آدم أوقفه مستطردا :
- مفيش داعي تجو معايا انا هروح لوحدي.
- بس يا آدم بيه.
- خلاص يا فاروق قولت محدش يلحقني انت شوف العمال هنا وانا مش هطول.
وافق فاروق على مضض والتقط آدم سلاحه وهاتفه ثم فتح فمه كي يأمر نيجار بالعودة لمنزل السيدة أم جميل لكنها قاطعته بلهفة قبل أن يتكلم :
- انا هجي معاك.
تغضن وجهه بضيق رافضا :
- اظن اني قولت محدش يلحقني يلا ادخلي لجوا ومتضيعيش وقتي.
رفضت بإستماتة وتعلقت به متشدقة :
- مش عايزة اقعد لوحدي في مكان مبعرفش حد فيه وعلى فكرة حتى لو دخلتني غصب هتلاقيني جاية وراك.
رشقها بنظرات حادة غاضبة وأوشك على توبيخها لكنه لاحظ تركيز الآخرين عليهما فتنهد بكبت جازا على أسنانه :
- هتفاهم معاكي بعدين يلا قدامي دلوقتي.
انشرحت أساريرها واندفعت لجواره بحماس كأنه لم يهددها للتو وذهبا سويا للأرض التي تحدث عنها وحين وصلا طالعت نيجار المناظر الطبيعية المحيطة بهما وتنهدت متحدثة بصوت عال نسبيا :
- حلو الواحد يشوف المناظر ديه قدامه صح، الريف جميل اوي بجد.
لم يعقب آدم عليها وصمت فاِلتفتت إليه متسائلة يإستدراك :
- صحيح هما ليه الناس هنا بيحبوك اوي دول كانو فرحانين بيك جدا ونفسهم يفرشولك الارض ورد انت عملتلهم ايه.
توقعت أن يغتر ويتفاخر بإنجازاته التي أخبرتها بها تلك السيدة لكن خاب ظنها حينما رد عليها بجمود :
- معملتش حاجة غير واجبي والمحبة الصادقة ديه بتجي من ناس قلوبهم بيضا زي اللي شوفناهم هنا يعني انا مليش أي فضل عليهم.
شحب وجه نيجار فجأة عندما ذكر المحبة الصادقة وأحست بأنه يرمي عليها اتهامات مبطنة ويعيد عليها ما اقترفته بحقه في السابق فاِلتزمت الصمت هذه المرة وخطت باتجاه بعض الشجيرات الصغيرة تتلمسها وهي تشد معطفها عليها كي تقي جسدها من لفحات البرد، وقف آدم بعيدا يحدق فيها بشرود ثم أدار عيناه لقطعة الأرض المقصودة وفجأة صدع صوت رنين هاتفه وكانت جدته هي المتصلة ففتح الخط :
- ايوة يا ستي.
وصله صوتها المتجهم من الناحية الأخرى :
- انت فين دلوقتي.
- في الأرض اللي كلمني العمدة عليها امبارح ليه في ايه.
زفرت حكمت بعمق وقالت بنبرة ممتعضة :
- مكنتش هكلمك وانت برا واعكرلك مزاجك بس في حاجة حصلت وشغلتلي بالي ... واحدة من الحريم اللي كانو حاضرين في بيت العمدة جت من شويا تقعد معايا وفي نص الكلام قالتلي انها شافت بت الشرقاوي مع ابن عمها واقفين امبارح مع بعض.
أظلمت عيناه واحتشدت أنفاسه على حين غرة مستمعا لها وهي تضيف :
- انا قلت فنفسي عادي ولاد عم واخوات وكانو بيطمنو مع بعض بس الست قالتلي ان صفوان كان متوتر وعماله يبص وراه وهو بيتكلم بشويش جدا علشان كده انا مقدرتش اتجاهل الموضوع واتصلت بيك بسرعة ... أنا حاسة انهم كانو بيخططو يأذوك وخايفة الكلب ده ياخدك ع خوانه ... الو ... آدم انت سامعني.
الشيء الوحيد الذي سمعته حكمت في هذه الأثناء هو صوت متقطع يدل على إنهاء المكالمة من طرف ذاك الذي اشتعل غضبا وجنونا بسبب معرفته بأن زوجته المزعومة التقت مع عدوه اللدود في الخفاء فتحرك ينهب الارض نهبا حتى وصل إليها وجذبها بعنف من ذراعها لتشهق متأوهة :
- ااه في ايه.
غرز آدم أصابعه في لحمها بقسوة أكبر حتى صاحت نيجار ملء صوتها محاولة بيأس التحرر منه وهي لا تعلم ماسبب تحوله هذا وفي ثواني دفعها هو بنفسه بعيدا عنه لتترنح وتصرخ :
- انت اتجننت ايه اللي عملته ده.
تأوهت مجددا بينما تدلك ذراعها لكن آدم الذي كان يناظرها بوحشية إجرامية لم يكترث بألمها بل ازدادت عيناه قتامة مغمغما بصوت لا يحمل أدنى معالم التحضر :
- هسألك سؤال واحد ومش هكرره واوعى تفكري تكدبي ... انتي وقفتي مع صفوان وكلمتيه امبارح ولا لأ.
تلاشى الغضب من وجهها تدريجيا وحلت مكانه الصدمة من سؤاله ومعرفته بالأمر فاِرتجفت يداها وزادت نبضات قلبها بعنف وكأنها في سباق، وشعرت بنظراته تحرقها كليا وهو ينتظر الإجابة منها ولعله لا ينتظرها حقا فهو يسألها وكأنه يعلم ماهي الحقيقة فعلا لذلك آثرت نيجار عدم تضييع جهدها في الإنكار فأخفضت عيناها مومئة بتنهيدة :
- ايوة كلمته.
وكأنها قضت على آخر ذرات تعقله !
حذرها عديد المرات لكنها التقت به في الخفاء، التقت بالرجل الذي حاك المؤامرات ضده وضحك عليه وهو يرسل ابنة عمه كي تلعب معه لعبة الحب، نفس الوغد الذي حاول قتله ومازال يخطط كي يفسد عمله ويخسر مالديه.
وعند توالي هذه الأحداث في عقله شدها نحوه ثانية باصقا عليها كلماته الصارخة بجنون :
- شوفتيه ليه اتكلمي كنتو بتخططو لـ ايه عشان تؤذوني مكفاكمش الشر اللي عملتوه من قبل انطقي يلا انتي ازاي تتجرئي تعصي كلامي وتشوفي الـ*** قالك ايه بالضبط ووعدك بـ ايه ... ولا استني نغير السؤال انهي طريقة اقترحها صفوان عليكي المرادي عشان توقعيني انك تغريني وترسمي عليا دور الشريفة تاني ... يبقى ليلة امبارح كانت من تخطيطك انتي ووياه صح استفزتيني علشان اتعصب واقرب منك مش كده.
حدجته نيجار بدهشة من تفكيره بها لكنه لم يمهلها الفرصة للدفاع فدفعها مجددا باِزدراء متمتما :
- بجد معرفتك هي أسوء حاجة حصلتلي في حياتي، انا بقيت اقرف من نفسي لأني حبيتك في يوم من الأيام.
قتلها بكلماته ونكَّل بجثتها ... هذا ماشعرت به نيجار وهي تنكس رأسها بخزي متجرعة قسوته بمرارة لقد طعنتها نظراته في الصميم وأدركت كم هو يمقتها ولسبب ما لا تعرفه شعرت لوهلة وكأن العالم أصبح مظلما دفعة واحدة ...
وتذكرت لقاءها مع صفوان ليلة البارحة ...
Flash back
( لاحظت ملامحه المتصلبة ولم تستطع منع نفسها من الشعور بالحزن عليه لأنه خسر المنصب الذي لطالما طمح إليه ففتحت فمها كي تواسيه لكن صفوان قاطعها بنبرة لا تحتمل الجدال :
- انا عارف هتقولي ايه كويس بس وفري كلامك لان الوضع ده مش هيستمر كتير.
زفرت أنفاسها المهتاجة متسائلة بتوجس :
- ازاي يعني انت ناوي ع ايه بالظبط.
- ناوي اخلص ع آدم والمرة ديه اتأكد من انه يموت بجد.
نطق الجملة بنبرة إجرامية وملامح لا تمت للإنسانية بصلة فلم تكد نيجار تزن الكلمات في عقلها حتى وجدته يكمل وعيناه تقطران شرا :
- وانتي هتساعديني وبكامل إرادتك المرة ديه !
طالعته وكأنه مختل لا يدرك مايقوله وبقيت صامتة تحدق في مدى جديته حتى رفعت يداها كي تبعده عنها وقالت :
- هعتبر انك مقولتش حاجة وانا مسمعتش خالص ابعد عن طريقي.
- تعالي هنا انتي رايحة فين.
أمسكها وأعادها لمكانه مردفا بهمس غاضب :
- فاكراني بهزر معاكي ولا ايه انا بتكلم جد اتفقت مع واحد خبرة وانتي اللي عليكي انك ااا...
قاطعته نيجار بسخط :
- انت اتجننت خلاص فاكرني مجرمة وماشية اقتل في الناس هو ده اللي كنت عايز تتكلم فيه وانا افتكرتك قلقان عليا وبتسأل عن حالي بس يا خسارة انت مش هتتغير وخلاصة الكلام أنا مش هأذي آدم نهائيا ولا اجي ناحيته مفهوم.
- ايه العنفوان ده كله خلاص حبيتيه نسيتي انتي بنت مين و ولائك بقى لعيلة الصاوي العيلة اللي سرقت حقنا مننا.
لمعت عيناها بقوة متهدجة :
- ديه مش مسألة حب ولا ولاء الموضوع هنا انك فاكرني أداة لتنفيذ جرايمك في الاول خليتني اضرب آدم بخنجر مسموم وولعت في البيت ودلوقتي جاي تقولي ببساطة اني هساعدك عشان تقتله وقاعد تشرحلي عن خطتك كمان ... بص يا صفوان انا من زمان ارتكبت غلطة كبيرة ولسه لحد دلوقتي بدفع تمنها بس مش هكررها تاني ومش هعمل أي حاجة زي ديه.
انا متفهمة قد ايه انت زعلان وحاسس نفسك مظلوم بس المواضيع ديه مبتتحلش كده لو ليك حق رجعه بنزاهة وشرف مش بالغدر.
أطلق ضحكة هازئة وعلق عليها :
- ايه كل المواعظ ديه حق ونزاهة وشرف معقوله آدم قدر يسيطر عليكي للدرجة ديه نسيتي عملتي ايه من قبل عشان توقعيه.
نفت نيجار برأسها مرددة :
- لا منستش ومحدش مخليني انساه اصلا بس اللي لازم تعرفه اني هقف معاك لما تطالب بحقك قدام الناس كلها ومتطعنش في الظهر غير كده لا يا ابن عمي.
- اوف تمام انا بطلت اعمل اللي في دماغي ومش هجي ناحية ابن سلطان بس اعرفي انك بتغلطي وبتنجرفي ورا مشاعر فاضية يا بنت عمي اوعى تقعي في المحظور وترجعيلي معيطة. )
Back
مدت اصبعها تمسح دمعتها التي نزلت كخط شلال رفيع وهمست بتحشرج :
- انا وصفوان ...
ولم تكمل، ولم ينتظر آدم إنهاء جملتها لأنه وبينما يقف مقابلا لها تماما تحرك للجانب الأيمن فاِرتد جسده للأمام بعنف وهو يشعر بلسعة نارية تخترق ظهره على حين غرة مخلفة آثارها على وجهه الذي احتقن فجأة...
أما هي فتوقفت عن الحديث بعدما سمعت صوت رصاصة يمزق السماء ثم لاحظت تصنمه الغريب الذي جعل أنفاسها تختنق وهي تتمنى لو يكون ما تفكر به خاطئا ولكنه مع الأسف ليس كذلك ..
رأته نيجار بأم عينيها وهو يترنح فصرخت ملتقفة إياه قبل أن يسقط لكنها لم تستطع إحكام توازنها بسبب جسده الثقيل فوقعت معه وصاحت بلوعة :
- آدم ... آدم رد عليا.
هدرت بفجع تناديه وحدقتاها تتبعان ملامحه الشاحبة، عيناه الواهنتان مرتكزتان عليها وشفتاه فقدتا معالم الحياة فهزت رأسها بذعر تضاعف عشرات المرات حين رفعت كفها الموضوع على ظهره الدافئ فوجدته أحمرا !
ولم تكد تستوعب مايجري تماما حتى رأت آدم يفقد وعيه كليا فأجهشت بالبكاء صارخة بأعلى صوتها :
- لا لا آدم متغمضش عيونك لاااا.
الفصل التاسع عشر من هنا