رواية لعنة الخطيئة الفصل الواحد والاربعون 41 بقلم فاطمة أحمد

 




رواية لعنة الخطيئة الفصل الواحد والاربعون 41 بقلم فاطمة أحمد

 الفصل الواحد والأربعون 

_________________


"تمر الحياة بتقلبات عديدة...

بعضها تجعل الإنسان يتكيف مع متغيراتها ويتقبلها ...

وبعضها لا تلقى القبول فيسعى لتغييرها حتى ولو بالقوة ...

وبين هذا وذاك تضيع الروح بين الوفاء والخيانة، اللين والقسوة، الجحود والعاطفة...

فتتلون هذه الروح بسواد الدنيا والطمع بمُغرياتها ثم تصبح مؤذية فلا تهتم إذا ما كان الأذى سيمتدّ لأحبائها ..."

أطرق مراد مهمهما وشردت عيناه مجددا وهو يفكر في عرضها حتى عاد ينظر إليها وتمتم بلهجة جادة :

- طيب و ايه هو المقابل انتي عاوزة مني ايه بالظبط. 


تنهدت حكمت باِرتياح ولمعت عيناها باِنتصار ثم أسندت يدها على سطح المكتب الفاصل بينهما ورفعت حاجبها مغمغمة :

- عاوزاك تبقى إيدي اليمين يا مراد يعني تكون زي عيوني بتنفذ طلباتي وبتعمل اللي بقولك عليه مهما كان ... أنا عاوزاك تكون ظلِّي !! 


استمر لحظات الصمت المشحونة وكل واحد منهما ينظر إلى الآخر بصلابة حتى بدأت ملامح مراد الجادة تنبسط شيئا فشيئا وانشقت شفتاه في ابتسامة واسعة قد امتدت وتحولت إلى ضحكة انزلقت منه دون حساب !


تفاجأت حكمت وعقدت حاجبيها بتعجب خاصة حين واصل الضحك العالي حتى زنته فقد اتزانه فضربت سطح المكتب بغضب ساخط :

- انت بتضحك على ايه شايفني بهزر معاك يا ولد !


- ده انتي لو بجد بتهزري معايا مكنتش هتضحكيني للدرجة ديه يا حكمت هانم جاية لعندي وبتطلبي مني ابقى الظل بتاعك مقابل اني ادخل للعيلة ... انتي بتتكلمي من كل عقلك ؟


زمت شفتاها بعينين ملتهبتان بالشر فهدأت ضحكاته ودنى منها هامسا بشماتة :

- سيبك من اسم الصاوي ... انتي لو وعدتيني بالدنيا نفسها مكنتش هقبل اتعامل معاكي. 


- احترم نفسك ومتنساش نفسك انت بتكلم مين. 


- وهكون بكلم مين أنا مش شايف قدامي غير واحدة بدأت تفقد السيطرة على الناس اللي حواليها عشان كده جاية تشحت حلفاء جدد لأنها خايفة تخسر مكانتها ... واحدة بائسة وفاقدة الأمل لدرجة انها تبيع حفيدها وتلجأ لابن الست المنبوذة. 


- اللي بيسمعك بيقول ان آدم صعبان عليك انت نسيت عمايلك معاه الماضي مش ناقص غير انك تقولي ده اخويا. 


- لا مش لأنه صعبان عليا بس أنا مستغرب منك ازاي حفيد العيلة المبجل اللي بينفذ كل أوامرك وبيحترمك قادرة تتخلي عنه بالسهولة ديه ... ولا استني هو اللي تخلى عنك مش كده لقيتي ان دماغه مبقتش مغسولة زي الأول ومبتقدريش تتحكمي فيه علشان كده جيتي لحفيدك التاني عاوزاني ابقى آدم تاني وانفذلك كل أوامرك. 


أخرسها مراد بالحقيقة الصادمة في وجهها وتابع مضيفا : 

- تعرفي أنا متأكد ان في حاجة حصلت وخوفتك لدرجة تغلطي وتلجئي ليا بس ايا كان اللي اتسبب في خوفك أنا بوجهله شكر كبير. 


سخرت حكمت منه وقالت :

- أنا فعلا غلطت عارف ليه لأني اعتبرتك بني آدم يعتمد عليه افتكرتك بتقدر تطلع من المستنقع بتاعك وشوفت ان ممكن تكون بتستحق تاخد اسم أبوك بس طلعت غلطانة ... انت مبتجيش في ظفر آدم حتى. 


انتفضت واقفة بعنف والتفت كي تغادر لكن مراد أوقفها مرددا وهو يريح ظهره على المقعد خلفه :

- حكمت هانم ... على سيرة المستنقعات أنا عماله افكر الأيام ديه ايه نوع المستنقع اللي وقعتي فيه زمان وقاعدة تتحاسبي عليه دلوقتي من طرف واحد مجهول وكنت بقول يا ترى مين اللي بيكره عيلتك العظيمة لدرجة تخليه يكسر محلاتكم ويتهجم على مزرعتكم بالرصاص ... بتعرفي أنا بفكر فـ ايه دلوقتي ؟ ان هوية الشخص ده هي اللي خلتك بالشكل ده. 


- قصدك ايه !! 

استجوبته وقد احتدت عيناها بخطورة مفكرة في أنه ربما لديه فكرة عن سرِّها فهز الآخر كتفه ببساطة معقبا :

- قصدي واضح أكيد الشخص المجهول ظهر وهددك بالقتل أو بحاجة تانية أسوء من الموت بالنسبالك وده خلاكي تخافي على مكانتك وتطلبي مساعدتي ايه رأيك. 


- رأيي انه من مصلحتك تنسى المقابلة ديه وتعمل نفسك مشوفتنيش لان لو حرف واحد اتقال ما بيننا طلع لبرا هضيِّق الدنيا عليك ومحدش هينجدك مني ... يا ولد فردوس سليمان. 


- ده فخر ليا اني ابن ست محترمة وقلبها نظيف عمرها ما طمعت في الفلوس ولا ظلمت غيرها الدور والباقي على سلالة الصاوي. 


استعرت النيران في قلب حكمت ولو كانت النظرات تحرق لأصبح مراد محترقا بسعيرها في الحال لكن هذا الأخير لم يبالي بغضبها على العكس كان مستمتعا بالعجز الذي يتوارى خلف حدقتيها الحادتين، العجز الذي جعلها تلجأ إلى الحفيد المنبوذ معتقدة في أنها تستطيع شراءه بعرض رخيص إلا أنه فهم مقصدها جيدا وأغدقها بالإهانات التي تناسبها كي تدرك بأنه ليس بإمكانها وضع الجميع بين قبضة يدها. 


هذا ما فكر فيه مراد وهو يطالع حكمت التي فتحت الباب على مصراعيه وغادرت بإنفعال عكس الثقة التي دخلت بها منذ قليل، ثم رسم ابتسامة استهزاء على وجهه ودمدم بصوت خفيض :

- آدم قضى سنين حياته وهو بيحبها وبينفذ كلامها بالحرف في الاخير طلعت مستعدة تستبدله بكل سهولة هي ديه عيلة الصاوي كل اللي بيهمها مصلحتها.


اعتدل جالسا يتابع عمله بتدقيق حتى أنهاه وتوجه إلى المقبرة كي يزور والدته جثى على الأرض متحسسا الشاهد المكتوب عليه اسمها بحسرة وقال :

- الدنيا اسودت في وشي من بعدك يا أمي مهما حاولت املي يومي وادفن نفسي في الشغل عشان محسش بالفراغ بفشل وبكتشف ان كل يوم بيعدي وانتي غايبة عني بينهش من قلبي اكتر يمكن لأني عشت على أمل انك تخفي وترجعي زي الاول. 

بس بموتك يا أمي أنا خسرت الشخص الوحيد اللي حبني وحاربت علشانه. 


انتحرت دمعة من عينه فمسحها سريعا وتابع بصوت متحشرج :

- أنا وعدتك اني مش هنزل دموعي من لما زورتيني في الحلم وطلبتي مني اكمل حياتي من غير انتقام وقولتيلي مبحبش أشوفك بتعيط، رغم ان ده صعب عليا اوي بس عارفة بقيت بحس ان ربنا بياخد حقك من حكمت لوحده من غير ما اعمل أنا مجهود لو شوفتيها النهارده كنتي هتعرفي قد ايه اتغيرت وبقت ذليلة وضعيفة وبتمنى من قلبي ان حالتها تبقى أسوء ويجي اليوم اللي تفضل وحيدة وملهاش سند أما آدم فهو ... 


عض مراد باطن شفته بشرود ثم استطرد بلهجة متزنة :

- هو شخص كويس وبيهتم اوي بعيلته أنا لسه فاكر نظرة الشر في عيونه لما اقتحم بيتي عشان يؤذيني بس اول ما شافني شايلك وموديكي للمشفى اتراجع حتى يوم العزا نسي عمايلي وجه يعزي شاب خسر والدته وكل ده حصل قبل ما يعرف اني اخوه. 

انا بعترف دلوقتي اني غلطت لما كنت بهاجمه وبتعاون مع اعدائه عشان اؤذيه آدم راجل قوي وبيستحق نواجهه في وشه وبيستاهل الاحترام كمان يمكن لو القدر جمعنا بطريقة تانية كنا هنحب ونحترم بعض بس مع الأسف اسم الصاوي هيفضل حاجز مابيننا.  


ظل يتكلم معها لبضع دقائق أخرى يفرغ مكنونات قلبه ثم نهض مستعدا للمغادرة وبينما كان يستدير التقت عيناه بعيني فتاة مألوفة تمعن النظر لها حتى رفع حاجباه بإدراك واقترب منها مستفسرا :

- مش انتي البنت اللي جت لعندي قبل كده وو...


ابتسمت الأخرى وأومأت بإيجاب :

- اديتك طبق محشي اه، اسمي زينب. 


تنحنح وهزَّ رأسه معرفا عن نفسه هو أيضا :

- وأنا مراد جاركم. 


- متشرفين. 


- الشرف ليا ... جاية تزوري قبر واحد من قرايبينك. 


غامت عينا زينب بحزن وتنهدت مجيبة :

- ايوة قبر بابا مكناش بنزوره في الفترة اللي غبنا فيها عن البلد. 


- ربنا يرحمه أنا كمان جيت ازور والدتي. 

أشار للقبر فَدعت لها بالرحمة وخرجا سويا ليعرض عليها مراد أن يصطحبها في سيارته بما أنهما يقصدان نفس الوجهة، وبالفعل ركبت معه وظلت طوال الطريق هادئة حتى قطع وصلة الصمت وهو يستفهم :

- طالما والدك مدفون هنا يبقى انتو كنتو عايشين في القرية ديه من الاول صح ... بسأل لان بقالي سنتين عايش هنا ومشوفتكمش قبل كده. 


رمقته زينب بنظرات معتدلة وردَّت عليه :

- قضيت طفولتي في البيت ده قبل ما ننتقل عشان شغل بابا وبعد ما توفى دفنناه هنا لانها كانت وصيته يندفن في الأرض اللي اتولد فيها وفضلت انا وماما عايشين كام سنة في مكان تاني ودلوقتي رجعنا. 


رمقها مراد بطرف عينه دون كلام فاِبتسمت قائلة :

- في ايه انت مستغرب وبتسأل نفسك ايه العيلة ديه اللي عماله تغير مكان الاقامة. 


حرك رأسه نافيا بينما يجيبها بجدية :

- لأ خالص حتى أنا ووالدتي فضلنا ننقل من مكان للتاني كل فترة بسبب ظروف صعبة عشناها لحد ما استقرينا. 


- عيلتك عايشة هنا في البلد عشان كده استقريت فيها ؟

استفسرت زينب بفضول لم تستطع السيطرة عليه وهي تتساءل بداخلها عما جعله يأتِ لهذه القرية بالذات وهو لم يعش فيها من قبل وحين لم يصلها جواب تنحنحت بحرج وأردفت :

- اسفة مش قصدي ادخل في خصوصياتك واضايقك. 


زفر مراد وتابع النظر للطريق أمامه مجيبا برتابة :

- مفيش داعي تعتذري بس أنا مش عارف ارد ع سؤال العيلة ده ازاي. 


استشعرت زينب من البلادة في صوته أن لديه علاقات معقدة من الصعب الإفصاح عنها فأماءت بتفهم وهمست بداخلها :

- أحيانا مبنقدرش نقول على العيلة أنها عيلة بجد. 


دخلا للشارع المنشود وهمّت بشكره لولا أنها انتفضت فجأة وهي تلمح رجلا بعينه يغادر منزلها ففتحت باب السيارة وترجلت سريعا تحت نظرات مراد الذي توجس ولحق بها بعدما رأى قلقها، وقف خلف زينب التي شرعت تطرق الباب بقوة وسألها :

- خير في حاجة ؟ 


كادت ترد عليه لولا أن الباب فُتح وظهرت والدتها من خلفه متسائلة :

- في ايه انتي نسيتي المفتاح بتاعك عشان تخبطي بالطريقة ديه. 


تجاهلت زينب تعليقها وعقبت بصوت منخفض :

- ده كان بيعمل ايه هنا. 


في هذه الأثناء لاحظت والدتها وجود مراد فتنحنحت وابتسمت :

- اهلا بيك يابني. 


استوعبت زينب أمر حضوره فضربت جبينها وتداركت نفسها بينما تردد :

- اه نسيت أنا تقابلت مع الاستاذ مراد في المقبرة وعرض عليا يوصلني شكرا لحضرتك. 


- يا خبر معقوله متشكرة يا بني أنا اصلا كنت خايفة عليها تتأخر في الرجعة ... اتفضل عشان نضيفك. 


- مفيش داعي يا حاجة عندي شغل لازم اخلصه في البيت شكرا. 

ودعهم مراد برسمية وتحرك بضع خطوات للأمام قبل أن يقف ويفكر مستغربا في تصرف زينب لكنه شتت تفكيره وواصل طريقه لمنزله ....


_________________


 بعد غروب الشمس وصعود القمر ليتوسط السماء مكانها ...

خرج من منزلهم المتواضع ودار حوله ليجد أخاه الأصغر في الخلف جالسا على إحدى الدعامات الخشبية وهو يعبث بالحصى فأخذ مكانا بجواره يطالع وجهه الواجم ثم سأله :

- محمد، انت قاعد هنا ليه مسمعتش الحاجة وهي بتناديلك عشان تتعشا. 


- أنا مش جعان.  

أجابه محمد بنفس التعبيرات ودون أن ينظر إليه فتنهد فاروق ووضع يده على كتف شقيقه مبرطما بجدية :

- انت زعلان مني ؟


- لا يا ابيه. 


- اومال ليه بقالك كام يوم مبتبصش في وشي ... من يوم شوفتك مع ليلى. 


زمَّ محمد شفته ممتعضا وقد ازداد وجومه ليقول فاروق مستنتجا :

- يعني انت طلعت بجد معجب بيها ... من امتى. 


هدر بعينين غائمتين بلمعة الشوق الممزوجة بالحسرة وهو يزفر بحسرة مثقلة :

- من كام شهر، في الأول مكنتش بتعامل معاها خالص يعني حاطط حدود ما بيننا بس بعدين غصب عني بدأت انجذبلها صدقني يا ابيه انا حاولت كتير اني اسيطر على نفسي وفشلت انت بتعرفني مليش في الصياعة وجو اللف والدوران وطبعا مكنتش هبص على اخت الراجل اللي مشغلني عنده بس مقدرتش اتحكم في مشاعري ... فجأة لقيت نفسي واقع. 


- طب وهي عندها نفس مشاعرك ؟


- احنا لسه متواجهناش مع بعض مباشرة ولا حكيتلها عن اللي بحسه ناحيتها يعني يدوب بنتكلم مع بعض ساعة ما بوديها وبجيبها من الجامعة بس غالبا ايوة يعني مش متأكد لكن لو هي مش حاسة بحاجة مكنتش هتقبل هديتي صح. 


- مش لأنها قبلت هديتك بيعني أنها مغرمة بيك وبعدين خلينا نتفرض انها معجبة بيك كمان طب ايه آخرة العلاقة ديه هتوديكم لفين انت هتروح تخطبها طيب فاكر هيوافقو عليك لو عملت كده مش بعيد يرفدوك من شغلك ... أنا مش عايز اجرحك بس متنساش فرق المستويات ما بيننا وبين عيلة الصاوي. 


شرح له فاروق موقفه بجدية وثبات على أمل أن يفهم بأن الطريق الذي يمشي به آخره مسدود، لكن محمد الشاب الذي كان حديث العهد بالحب والهوى رفع رأسه يرسل له نظرات معترضة بينما يجلجل ثائرا :

- يعني انا مبتسحقش احب واتحب لأني قد حالي مبستاهلش اعيش مع البنت اللي بحبها في الحلال يا أبيه !! 


هز فاروق رأسه نافيا على الفور وبرطم بتأكيد :

- انت سيد الرجالة والمنطقة كلها بتشهد بأخلاقك وشطارتك في اي شغل بتدخل فيه بس يا محمد فكر بمنطقية البنت اللي بتحبها بتبقى بنت اكبر عيلة في البلد ياترى حكمت هانم هتوافق ولا تقوم الدنيا عليك ومتقعدهاش خلاص سيبك منها جاوبني بصراحة هل ليلى هتكون مستعدة تسيب العز والغنا وتجي لعندك طيب انت ممكن توفرلها نص الرفاهيات اللي عايشة فيها ؟


وللأسف الشديد كانت الاجابة على كل سؤال هي "لا" !!

شعر بتحطم قلبه إلى أجزاء وقظ احتشدت أنفاسه واعتصرت الغصة حلقه حتى كاد يغص بها وهو يصطدم بالحقيقة الموجعة فشهق ساحبا قدرا يسيرا من الهواء لداخله ثم استدرك بألم :

- عندك حق أنا مفكرتش في الموضوع من الناحية ديه قبل كده ... غالبا بالغت واتحمست زيادة أنا أصلا متأكدتش من مشاعر ليلى ولا عرفت هي بتبصلي ازاي يعني ممكن اكون الموهوم الوحيد في القصة ديه وخيالي مصورلي حاجات محصلتش. 


تهدَّل وجه فاروق بالأسى عليه الذي تعلق قلبه بفتاة بعيدة المراد وربما يقع الخطأ عليه هو فلقد شعر أحيانا بأن أخاه يتعامل مع ليلى بشكل خاص وربما وجب تحذيره في وقتها إلا أنه لم يتوقع تطور الأمر وهذا ما جعل قلب محمد ينكسر. 

لكن أن يتحطم قلبه الآن خير من أن يتحطم كبرياءه عندما يواجه عائلة الصاوي ويتلقى الرفض. 


ساد الصمت وقد غرق كل منهما في أفكاره حتى صدع صوت والدتهما الساخط وهي تصيح بتقريع :

- انا بعتك لأخوك تجيبه وتجي تتعشو ولا عشان تقعد جمبه انتو بتعملو ايه ؟ 


- كنا بنتكلم وخلاص يلا يا محمد قوم قبل الحاجّة ما تولع فينا. 


رسم الآخر بسمة باهتة على وجهه حتى لا تلاحظ والدته حزنه وأومأ موافقا وهو يدخل معهما وبداخله حسم قراره بأن يطمس ما شعر به يوما.


_________________

وبينما شعت السماء عند الأفق موشاة بألوان الغروب كأنها نافذة صغيرة مخرمة تقع عند آخر الممر مرسلة لمعة فريدة من نوعها على العشب والأزهار والنباتات الموزعة على طول السهول في هذا الوقت من فصل الربيع. 

وقفت عند باب الاصطبل بمنتصف المزرعة تداعب الحصان الأسود "سلطان" وتطعمه من حبات التفاح الموضوعة في السلة تحت نظرات آدم الذي أنهى عمله للتو واقترب منها هاتفا :

- بتعملي ايه عندك مش أنا قولتلك ان سلطان مبياكلش في أي وقت وخلاص وعنده مواعيد منتظمة لازم يمشي عليها. 


هزت نيجار كتفها موضحة :

- ماهو مكلش حاجة من العصر وتعب اوي يا عيني وهو بيجري في الساحة لازم يتغدا وبعدين دول يدوب حبايتين تفاح بس ولا تلاتة اللي اكلهم.  


همهم ممتعضا وتمتم بصوت منخفض :

- وانتي خلصتي الباقي ماشاء الله عليكي واضح ان مخزون التفاح هيخلص قبل ما ابيعه. 


التقطت أذنها ما يبرطم به فنظرت له ورددت بحنق :

- الكام حباية دول انا اللي جبتهم من الشجرة ونقلتهم في السلة من البستان لهنا يعني دول حقي ماشي واعتبرها مكافأة لأني عملت مجهود كبير النهارده مع الحصان بتاعك. 


- مقولناش حاجة ألف صحا وهنا.

اطرق آدم قليلا مستمعا لصوت صهيل قادم من بعيد فاِبتسم مستطردا برضا :

- بس لازم تزودي مجهوداتك من النهارده. 


قضبت حاجبيها بتساؤل عما يقصده لكن سرعان ما تحولت حيرتها إلى دهشة حينما استدارت خلفها فتجد السائس يخطو ناحيتهما ويسحب معه فرسا ... وليست أي واحدة فهذه "مُهرة" فرسها العزيزة !! 


شهقت نيجار بقوة واتسعت عيناها بذهول من هول المفاجأة غير مصدقة لما تراه قبل أن تصيح ببهجة طفولية وتقفز لفرسها محتضنة إياها بصخب :

- مُهرة انتي هنا معقوله أنا مش مصدقة ... يا حبيبتي وحشتيني وحشتيني. 


انهالت على كل إنش منها بوابل من القُبلات وهي تردد عبارات الدهشة والاشتياق بينما تسمع آدم يتحدث برصانة :

- أنا سألت صفوان عليها ولما قالي انها لسه في الاصطبل بتاع الشرقاوي طلبت منه يرجعهالك لاني عارف قد ايه بتحبيها وده سبب اهتمامك بالخيل في مزرعتي.


ارتجفت شفتاها من اللوعة وادمعت عيناها هاتفة بنبرة متحشرجة بينما ترشقه بنظرات امتنان :

- أنا مشوفتهاش من شهور وافتكرت صفوان باعها ولا بعتها لأي مكان تاني عشان كده انصدمت من شويا ... مش عارفة اشكرك ازاي يا آدم انت مش متخيل مدى فرحتي دلوقتي. 


مالت شفته في ابتسامة رصينة ودنى منها بضع خطوات حتى وقف أمامها مباشرة وهمهم بنبرة مثقلة :

- أنا مش مستني منك أي شكر. 


جُلُّ ما أراد رؤيته هو تعبير السعادة الناضح من عينيها كوردة تفتحت أوراقها في يوم ممطر وبعثت الروح في البقية، كتم آدم هذه الكلمات بداخلها واكتفى بمداعبة وجنتها فألقت نيجار نفسها عليه وتوسدت صدره برأسها ثم حاوطت خصره متنهدة :

- أنا بحبك اوي بجد. 


بادلها العناق بتربيتة يد خفيفة على ظهرها وانسلخ عنها لتتشدق الأخرى بحماس :

- شوف مهرة بتبصلي ازاي ديه منستنيش خالص ولسه فاكراني ... ايه رأيك كل حد مننا يركب على حصانه ونعمل سباق ؟


- ايه الهبل ده لأ طبعا. 


رفعت نيجار حاجبها وغمزته بشقاوة :

- خايف مني اكسب والناس تقول آدم الصاوي خسر قدام مراته. 


رمقها من الأسفل للأعلى مستخفا بها وأجاب :

- لا أنا بتكلم عشان الجرح اللي في ظهرك متفتكرنيش مش واخد بالي انك بتتوجعي من لما جيتي للمزرعة نبهتك تفضلي قاعدة في البيت بس كأني بكلم الحيط. 


تحولت ملامحها للامتعاض وقلبت عيناها بتملل حسنا هي تتألم بالفعل ولكن بقاءها في الخارج أفضل من وجودها تحت سقف واحد مع حكمت التي لا تتوانى عن تقريعها بكلماتها السامة. 


حمحمت مستفيقة من شرودها واستطردت :

- طيب مبعدناش اهو طالما مش خايف مني يبقى انت خايف عليا. 


أدرك آدم أنها تعبث معه وأوشك على مجاراتها لكن انحشرت الحروف في فمه تلقائيا حين أبصر صفوان قادما من بعيد وهو يمشي بثقة وتمختر كأن العالم بين يديه فمطَّ شفته ممتعضا لينتبه له الآخر ويبتسم بسماجة :

- أهلا يا ابن الصاوي ايه مش هترحب بيا وتقولي نورت مزرعتي.


رمقه ببرود معقبا :

- معلش اصلي مبحبش اكدب ... ايه اللي جابك لعندي. 


تجاوز جملته الأولى وركز على سبب قدومه فطلب منه التكلم بمفردهما لتعترض نيجار رغبة منها في أن تسمع ما يُقال لكن آدم أوقفها بحزم وابتعد مع صفوان الذي برطم بلهجة جادة :

- جاي عشان الموضوع بتاعنا انت فاكر لما قولتلي في احتمال ان الشخص اللي بيهاجمنا ده يبقى حد اتعامل مع العيلتين قبل كده. 


- ايوة فاكر. 


- تمام أنا قعدت ادور في سجلات التجارة بتاعت الصاوي و الشرقاوي وكل الأسامي المشتركة ما بيننا دورت عليهم وملقتش اي شبهة حواليهم. 

فروحت للعمدة النهارده الصبح وطلبت منه يديني اي معلومة عن حادثة حصلت في الماضي يعني أيام والدي ووالدك. 


تنبه آدم واعتدل في وقفته موليا اهتمامه الكامل وهو يقول بترقب :

-انت بتقصد أيام المجلس ؟ سمعت انهم هما الاتنين كانو مشتركين في مجلس القضايا اللي بتخص الأهالي. 


- ماهو ده اللي عاوز اتكلم عنه في فترة اشتراكهم في المجلس جتلهم قضايا سرقة ونهب وقتل وكانو بيحكمو ع كل واحد على حسب جريمته أنا بقى طلبت من العمدة يديلي السجلات اللي بتخص الموضوع ده وندور ع أسامي المحكومين عليهم وبكده هيبقى عندنا احتمال كبير اننا نوصله. 


- وفين السجلات ديه. 


- قالي انه هيبعتهملنا بكره وطبعا هيكون تحت اشرافه يعني لازم نعرفه بكل خطوة بنعملها ... ايه رأيك بقى. 


أطرق آدم رأسه وهرش ذقنه بخفة ثم عاد ينظر إليه هاتفا بمراوغة :

- مش بطال مستوى ذكائك بيتحسن وده طبيعي لأنك بتقضي وقت اكتر معايا الأيام ديه. 


كز صفوان على أسنانه بغيظ منه وشتمه بصوت منخفض فقطب الآخر حاجبه باِحتراز واستجوبه :

- سمعني كده انت بتقول ايه. 


ناطحه بحدة وتحدٍّ هاتفا :

- هسمّعك عادي هخاف منك يعني. 


رفع آدم قبضته عازما على تحطيم وجه هذا المستفز بيد أنه لمح نيجار التي تُطعم فرسها وتداعبها بلطف فتراجع مفكرا في أنه لا يريد افتعال مشاجرة أمامها وتمتم :

- احمد ربك لأني مليش مزاج اتخانق معاك والا كنت ...


قطع كلامه رنين هاتفه من رقم غريب فعاد للخلف قليلا وفتح الخط :

- ألو. 


- السلام عليكم يا باشا. 


- وعليكم السلام مين معايا. 


صدر تهكم من الطرف الآخر يتبعه كلامه :

- الشخص اللي عماله تدورو عليه ليل نهار ... الكابوس بتاعك انت وابن الشرقاوي.  

الفصل الثاني والاربعون من هنا

تعليقات