رواية وانحنت لاجلها الذئاب الجزء الثالث من (سلسلة الذئاب) الفصل العاشر
في السجن النسائي ،،،،
هبت ناريمان واقفة من مقعدها مصدومة في القاعة المخصصة للسجينات لمشاهدة التلفاز ، وفغرت فمها لتصيح بنبرة عالية وغاضبة في آن واحد :
-يا بن الـ *** يا مهاب ، خربتها وأعدت على تلها !
وبختها سجينة أخــرى قائلة بحدة :
-اسكتي يا ولية خلينا نشوف ، مش ناقصين ولولة على المسا
رمقتها ناريمان بنظرات متأففة ، ثم عاودت الجلوس على مقعدها ، وتمتمت مع نفسها بضجر :
-انت ورا أي شر بيحصل يا مهاب
ضيقت عينيها بشدة ، وتابعت بهمس عدواني :
-بس أنا مش هاخليك تتهنى ، والله لأخلي رقبتك تتعلق على حبل المشنقة !
عقدت ساعديها أمـــام صدرها ، وكزت على أسنانها بشراسة لتضيف بوعيد :
-وزي ما رميتني هنا اتبهدل وأتمرمط ، أوعدك إنك هتترمي قريب في المزبلة دي !
......................................
في مشفى الجندي الخــاص ،،،
إشتعلت عيني أوس بنيران متأججة بعد أن رأى وسمع ما صــرح به والده عبر ذلك البرنامج الحواري .. وسريعاً ما تلون وجهه بحمرة محتقنة للغايـــة .. وبرزت عروقه المتصلبة من جميع أنحاء جسده ، وكاد يعتصر الهاتف المحمول بقبضته ...
نظر عدي نحوه بتوجس رهيب خاصة بعد أن إستمع لتلك النبضات العنيفة التي يبثها جهاز قياس نبضات القلب ، وشعـــر بما هو عليه ، وحاول أن يهدئه قائلاً بحذر :
-أوس .. اكيد د. مهاب مايقصدش وآآ.. وده كلام بيقوله عشان يخرس الألسنة !
لم ينطق أوس بكلمة واحدة أو يعقب عليه ، ولم تتبدل ملامح وجهه المنذرة بقنبلة على وشك الإنفجار والإطاحة بالجميع ، بل ظلت نظراته النارية مسلطة على وجه أبيه البارز في شاشة الهاتف ..
وفجـــأة قذف بالهاتف بكل عنف ، وأدار رأســـه في إتجاه عدي لينطق بتشنج بادي في نبرته وهو يرمقه بنظرات مظلمة :
-هاتلي رقم منتج البرنامج ده بسرعة
ابتلع عدي ريقه بقلق واضح حتى في نظراته ، ورد عليه بحذر :
-ماشي .. أنا هاتصل بالسكرتارية وهما يتصرفوا ، إهدى انت بس
صرخ فيه بصوت مخيف :
-مش هاهدى قبل ما أرد على مهاب باشا وأكدبه قصاد الناس
-طيب
هاتف عدي مكتب السكرتارية ، وطلب من السكرتيرة البحث فوراً عن رقم منتج هذا البرنامج الشهير .. وبالفعل لم تمر دقائق إلا وكان الرقم معه ..
قــــام عدي بالإتصــال بمنتج البرنامج وطلب بصوت آمـــر :
-معاك عدي عبد الرحمن مدير مكتب الباشا أوس الجندي ، وهو بنفسه هايكلمك
ثم مــد يده بالهاتف قائلاً بتوتر :
-اتفضل يا أوس
أمسك أوس بالهاتف ، وضغط على شفتيه لينطق بغلظة شديدة :
-ألو ، معاك أوس الجندي ، ابن الدكتور مهاب ، وأنا عاوز أدخل في مداخلة الوقتي معاه !
لمعت عينيه بوميض شرس وهو يهدر بغضب جلي :
-يعني ايه ممنوع ، انت فاهم انت بتكلم مين ؟
صمت للحظة ليستمع إلى رد المنتج ، ثم هتف بإهتياج وعينيه المشتعلتين تبرزان من محجريهما :
-نعم مهاب الجندي هو اللي مانع بالأمر المباشر أي مداخلة هاتفية .. طب اسمع بقى ، احسنلك تدخلني معاه على الهوا ، وإلا قسماً بالله لهاقفلك القناة والبرنامج وأشردك انت وكل اللي معاك !
راقب عدي ردود فعله بقلق بالغ .. فهو يخشى عليه من تهوره المصحاب لإنفعاله ، وكذلك من تصرفاته الجريئة والغير متوقعة ...
تابع أوس قائلاً بتهديد صريح :
-اتحمل بقى نتيجة رفضك ده
ثم أنهى المكالمة وهو ينظر في إتجاه عدي ، وأردف قائلاً بصوت متصلب :
-تجيبلي مراتي هنا حالاً ، وإلا آآ...
ابتلع عدي ريقه متوتراً وقاطعه بنبرة جادة وهو يشير بيده :
-اعتبرها جت ! أنا رايحلها الوقتي !
ثم أخذ الهاتف ، ودســـه في جيبه ، وأســــرع في خطواته ليتجه نحو الباب وهو يدعو الله في نفسه ألا يتهور أوس ويرتكب أي حماقات أثناء غيابه ، ولكنه تسمر فجـــأة في مكانه ، وأدار جسده للخلف ليهتف بنزق :
-أوس أنا عندي فكرة يمكن تخدمك ..!
.............................
في منزل تقى عوض الله ،،،،
ســـــاد على جميع من في المنزل حالة من الصدمة الممزوجة بالرعب بعد تصريح مهاب المميت ..
لم تستطع فردوس الوقوف على قدميها ، وجلست على الأريكة في حالة ذهــــول تــام ، وأخذت تلطم على فخذيها قائلة بخزي :
-يادي الفضايح ، يادي الجرس ، مش بنلحق يا ناس ! يالهوي ، أعمل ايه ، أدراى فين ؟ خلاص .. احنا فضحيتنا بقت على كل لســـان ، يالهوي !!
شهقت تهاني بصوت مرتفع ، ووضعت يدها على فمها ، ونظرت إلى تقى بإشفاق حقيقي ..
هي تعلم مدى دناءة مهاب ، ولكنها لم تتخيل بشاعة وضاعته ، ولا خسته التي لا حدود لها ليفعل هذا دون ذرة ندم واحدة .. ظلت تهز رأسها مستنكرة ما سمعته ابنة اختها البائسة ، ورأت تعابير الإحباط تكسو قسماتها ، وعلامات الإنكســـار تعاود للظهور بكثافة لتنذر بفاجعة قريبة ..
تجمدت نظرات تقى على شاشة التلفــاز .. وبدت مغيبة عمن حولها .. حدقت أمامها بنظرات خاوية من الحياة ..
تلاشى كل شيء حولها ، وحل مكانه ضباب مظلم وعلق بذهنها فقط صورة مهـــاب ونظراته الشيطانية لها .. وإخترق آذانها صوته المهدد بتدميرها ..
إنسابت العبرات الساخنة – عفوياً - على وجهها الشاحب لتحفر طريقها حتى شفتيها المرتجفتين ..
نهضت تهاني بتثاقل من على الأريكة وقلبها يخفق بقوة خوفاً عليها ، وجلست إلى جوارها ، ومدت يدها لتهزها قائلة بصوت مختنق :
-مش هايحصل الكلام ده يا بنتي ، أوس استحالة يعمل كده
ثم لفت ذراعيها حولها لتضمها إلى صدرها ، وأسندت رأسها على كتفها ، وتابعت بصوت شبه باكي وهي تمسد على شعرها بعطف :
-ده راجل مفتري ومش بيهمه حد ، بس أوس غيره ، هو بيحبك واستحالة يسيبك !
-ما خلاص سابها واللي كان كان
قالتها فردوس بصوت محتقن وهي ترمق الاثنتين بنظرات متحسرة
حدجتها تهاني بنظرات محذرة ، وهتفت بتحدي :
-متقوليش كده ، ابني غير ابوه ، هو بيحب تقى وعاوزها ، إنتي ماشوفتيهوش كان عامل ازاي هنا وآآ...
وضعت فردوس يديها على رأسها ، وقاطعتها وهي تندب حظها بيأس :
-معدتش يفرق ، أل جت الحزينة تفرح مالقيتلهاش مطرح !
شعرت تهاني ببرودة تنتاب ابنة اختها ، وبإرتجافة تصيبها ، فتوجست خيفة عليها ، وصاحت بإنفعال :
-فردوس كفاية بقى ، إنتي مش شايفة حال بنتك
رمقتها فردوس بنظرات ساخطة ، وتابعت بحنق :
-حالها ! قولي حالتي أنا .. ليهم حق النسوان يتلمذوا عليا ويتكلموا في سيرتنا .. هو أنا هاقدر أرفع عيني في وش أي حد .. ما البت بقت مطلقة وآآ...
قاطعتها تهاني بصوت محتد :
-لســـه محصلش !
نهضت فردوس عن الأريكة ، وهتفت بنبرة قوية وهي تلوح بذراعيها :
-انتي مصدقة نفسك ، المحروس أبو الباشا قالها وفي التلافازيون لكل الناس ، عاوزة ايه تاني ؟!
ثم اتجهت نحو ابنتها ، وأمسكت بها من ذراعيها لتجبرها على الوقوف ، ونظرت لها شزراً ، وهزتها بعنف وهي توبخها قائلة :
-مبسوطة ياختي ، أديكي الوقتي بقيتي مطلقة ومفضوحة ، كلام الناس عنك طلع صح !
صدمت تهاني من كلمات فردوس اللاذعة ، وهتفت محتجة :
-فــــردوس !
ظلت أنظار فردوس المحتقنة مسلطة على ابنتها ، وردت عليها مبررة موقفها العدائي قائلة بإحباط :
-بس يا تهاني ، سيبني أطلع الغلب اللي جوايا انتي معندكيش حاجة تعيبك ، لكن أنا بنتي بقت في نظر الناس خاطية ومطلقة وآآآ...
قاطعتها تقـــى بصراخ متشنج وهي تزيح قبضتي والدتها :
-كفــــــــاية .. حرام عليكي ، ليه بتسمعيني كل شوية الكلام ده ؟! أنا معملتش حاجة ! معملتش حاجة !
وضعت تهاني يدها على كتف تقى ، وأدارتها في إتجاهها ، ثم إحتضنت وجهها براحتيها ، ونظرت لها بأسف ، وتوسلتها قائلة :
-اهدي يا تقى ، بلاش تنفعلي
إنتحب صوت تقى أكثر وصرخت بمرارة :
-ليه كل حاجة أنا السبب فيها ؟ ليه أمي مش بتحسي بيا ؟
توسلت لها تهاني برجـــاء أكبر :
-تقى عشان خاطري ، بلاش تكلمي ، اهدي .. ده في خطر عليكي !
صرخت بعصبية مفرطة وهي تهز رأسها مستنكرة بصورة هيسترية :
-حـــرام ، بتعملوا فيا كده ليه ؟ ليـــه !
ثم وضعت قبضتيها على يدي خالتها لتبعدهما عنها ، وأشاحت بوجهها أسفة على حالها ، فأصرت الأخيرة على التمسك بها ، وهتفت بإستعطاف :
-بصيلي يا تقى ، اسمعيني يا بنتي !
تقطع صوتها وزاد أنينها وهي تتابع بنبرة مختنقة :
-ولو هو مش عاوزني مرة ، فأنا .. أنا .. مش عاوزاه مليون مرة !
لاحظت شحوب وجهها ، وإرتجافة أوصالها .. فخفق قلبها بخوف واضح عليها ، وصاحت برجـــاء :
-بس.. اهدي .. الانفعال وحش على حملك
شهقت فردوس مرددة بصدمة وهي تلطم بيديها على صدغيها :
-يا نصيبتي .. هي .. هي حــــبلى كمان !
........................................
في الاستديو ،،،،
أنهت المذيعة حلقة برنامجها الساخنة والتي أثارت ضجة كبيرة .. ونهضت عن مقعدها ، وسارت نحو مهاب الجندي الذي كان ينتزع المايكروفون عنه ، ومدت يدها لتصافحه قائلة بإمتنان:
-ميرسي يا د. مهاب على الحلقة دي ، أنا مش قادرة أقولك نسبة المشاهدة كانت عاملة ازاي !
رد ببرود قاتل وهو يبادلها المصافحة :
-على ايه .. ده انا اللي المفروض أشكرك على تعبك معايا
ابتسمت له لتضيف برقـــة :
-يا ريت يا فندم لو تشرفنا في حلقة تانية بس طبعاً نتكلم فيها عن انجازاتك في المجال الطبي
تقوس ثغره بإبتسامة ماكرة ليجيبها :
-أكيد هايحصل
إنضم إليهما منتج البرنامج ، وهتف بصوت مرتفع وهو يتحرك بجسده المترهل قائلاً بقلق :
-مهاب باشا لو ممكن لحظة
رمقه مهاب بنظرات متفحصة لهيئته البدينة ، ورد بفتور :
-ايوه
أردف المنتج قائلاً بإنزعــاج :
-أنا منتج البرنامج ده
هز مهاب رأسه وهو يقول بخفوت :
-اها
تنحنح بصوت خشن وتابع بنبرة شبه مرتجفة :
-كان جالي أثناء بث الحلقة اتصال من ابن حضرتك ، وآآ.. وأنا رفضته بناءاً على تعليماتك !
ترقب المنتج بتوتر شديد ردة فعله ، ولكنه تفاجيء به يرد عليه بجمود :
-خير ما عملت
أشـــار بيده قائلاً بنبرة متوجسة :
-أتمنى مايكونش في مشكلة
ربت مهاب على كتفه ، وإبتسم ابتسامة باهتة وهو يجيبه :
-لا عادي .. اطمن ، وشرفني التعامل معاك !
تنفس المنتج الصعداء قائلاً بتنهيدة مطولة :
-وأنا كمان يا دكتور مهاب !
.............................
في مشفى الجندي الخــــاص ،،،،
انتبه أوس إلى عدي الذي حدق فيه بنظرات جادة وهو يتحرك صوبه قائلاً بهدوء :
-ليه مانسجلش فيديو ليك ونرفعه على موقع مشهور تنفي فيه الكلام اللي قاله أبوك
ضيق أوس عينيه فأصبحتا حادتين كالصقر ، بينما أكمل عدي بنبرة ثابتة :
-كده هاتكون انت رديت على كلامه، وفي نفس الوقت لحقت الموقف قبل ما يتطور أكتر
صمت أوس ليفكر ملياً فيما قاله رفيقه ، فربما يكون اقتراحه مفيداً إلى حد ما في رد إعتبار زوجته ، رغم إعتراضه على المساس بما يخصه إعلامياً ...
راقبه عدي بدقـــة ، وتمنى أن يقتنع رفيقه بإقتراحه حتى ينفث القليل عن غضبه دون أن يتهور ..
قطع تفكيره العميق سؤال أوس بصوت قاتم وعينيه محدقتان في الفراغ :
-وده مين هايعمله ؟
رد عليه عدي بتلهف :
-أنا هاصورك ، وهاتصل بأشهر موقع إخباري ، وزي ما اتعمل دعاية لحلقة د. مهاب ، هانعمل دعاية محترمة للفيديو بتاعك ، اطمن
تقوس فم أوس بضيق ، وزفــــر بحرارة حارقة ، فشعر عدي بإنزعـــاج رفيقه ، وربما برفضه لإقتراحه ، فحاول أن يبرره قائلاً بهدوء :
-أنا عـــارف إنك مش حابب الظهور في الإعلام ولا غيره ، بس طالما لمصلحة مراتك ، فأكيد إنت مش هتمانع ، وآآآ...
قاطعه أوس بصرامة وهو يرمقه بنظرات جافة :
-سجل الفيديو الوقتي
إندهش عدي من قراره الصــادم والذي خالف توقعاته ، وسأله وهو قاطب جبينه :
-من غير ما تظبط نفسك ؟
رد عليه أوس بجمود وهو يطالعه بنظراته النارية
-مش محتاج ، أنا هاطلع زي ما أنا كده !
ثم صمت لثانية قبل أن يتابع بصوت قاسي يحمل العناد :
-وبعدها هاروح بنفسي أجيب مراتي !
انفرج فم عدي مندهشاً :
-هـــــاه .. بنفسك !
..............................
في مقهى ما ،،،،
فغر أحمد - الحارس الأمني السابق - ثغره مصدوماً بعد مشاهدته لحلقة البرنامج الحواري ، ورمش بعينيه غير ما صدقه هذا الرجل ، وهتف بسباب قوي :
-يخربيتك راجل ، ايه اللي عملته ده !
حك طرف ذقنه بكفه ، وتابع بضجر :
-مش ممكن ، ده كده بياكد الكلام بتاع المحامي إياه انها آآ....
توقف عن إتمام جملته ، وكز على أسنانه بإنزعـــاج .. ثم زفر بصوت مسموع ، ونظر حوله بإستنكار ...
ظل صامتاً للحظات وهو يتمتم بكلمات مبهمة ..
وفجـــأة أردف قائلاً بإصرار :
-مش لازم اسكت عن الظلم ده !
نهض عن مقعده ، وحدث نفسه بتحدٍ عجيب :
-أنا هابلغ أوس الجندي باللي أعرفه واللي يحصل يحصل !
.................................
في مقهى الحـــــارة الشعبي ،،،،
فرك منسي ذقنه الحليقة بحنق بادي في قسمات وجهه ، فقد شاهد ذلك البرنامج الحواري ، وحدث نفسه بصوت محتد :
-ست خضرة الشريفة طلعت مأرطسة الحارة كلها ومقضياها .. وأنا المغفل اللي كنت مفكرها بنت ناس وقطة مغمضة !
شعر بالغيظ لأنه كان أبلهاً في ظنه ببراءتها ، وأراد أن ينتقم لرجولته الزائفة منها ، فهتف بصوت مسموع :
-إخصص على الرجالة اللي بشنبات ! هاتسيبوا بنت عوض كده من غير ما آآآ...
قاطعه رجل ما بالمقهى قائلاً بعدم اكتراث :
-يا عم مالناش دعوة
صـــاح منسي بغضب وهو يلوح بذراعه :
-الله مش سمعتها من سمعة الحارة وبناتها
رد عليه أخـــر بفتور :
-تصطفل مع أهلها
هدر منسي بصوت محتقن وهو يرمق من حوله بنظرات حادة :
-دي جابت العار للحتة كلها
أردف أخـــر قائلاً بعدم إهتمام وهو يزفر دخـــان الأرجيلة ( الشيشة ) :
-مالناش دعوة ، أهلها يربوها
سأله منسي بحنق وعينيه تطلقان شرراً :
-يعني احنا هنسكت ؟؟؟
هـــز الشخص كتفيه في عدم مبالاة ، وسأله قائلاً
-هنعملها ايه ؟!
رد عليه منسي بجدية شديدة :
-المفروض يتطردوا من هنا
مسح الرجل بلسانه أسنانه السوداء ، وأكمل محذراً :
-بنقولك ايه انت مش عارف الجدع جوزها ومعارفه ممكن يعمل ايه لو آآ....
قاطعه منسي بصوت حاسم :
-ماهو ابوه قال طلقها على الهوا بعد فضيحتها النجسة !
رد عليه الرجل بجدية :
-يقول اللي عاوزه ، خلينا بعيد أحسن ، بدل ما الراجل القادر ده يودينا ورا الشمس
صـــاح منسي بتحدٍ سافر وهو يشير بيده :
-على نفسه ، هو بس محمي في شوية الرجالة اللي معاه ، غير كده وربنا مايسوى
...................................
في النادي الشهير ،،،،
قهقه سامي عالياً ، وبدت السعادة العامرة على تعابير وجهه ، وظل يضرب كفاً على كف غير مصدق ما فعله أخيه ..
ارتشف القليل من قهوته السادة ، وأردف قائلاً بإعجاب :
-لازم أكلمه بنفسي أهنيه ، دي ضربة معلم بصحيح !
وبالفعل عبث بهاتفه المحمول ، ثم وضعه على أذنه ، وهتف
قائلاً بفرحة :
-والله برافو عليك يا مهاب مالكش حل.. !
قهقه مرة أخـــرى بصوت مسموع ، وتابع قائلاً بحماس :
-كده انت قفلتها في وش أي حد يتكلم ..
هز رأسه قليلاً وهو ينصت لأخيه عبر الجانب الأخــر ، وأضاف بإعجاب :
-الصراحة متوقعتش تعمل كده خالص ، حقيقي إنت دماغ !
خرج صوت أخيه من الهاتف قائلاً بثقة :
-عشان تعرف يا سامي
حرك سامي كتفيه ، وإنتصب في جلسته ليكمل بإطراء :
-بجد .. مش لاقي كلام أقوله
رد عليه أخيه مهاب بصوت مغتر :
-ماتقولش حاجة ، أنا بأحب أنفذ على طول !
................................
في منزل تقى عوض الله ،،،،
أمسكت فردوس بتقى من ذراعيها ، ورمقتها بنظرات نارية ، وهزتها بعنف وهي تسألها بإهتياج :
-اتكلمي ، انتي حبلى يا بت ؟
نظرت لها ابنتها بأعين باكية .. وإنتحبت بأنين يحمل مرارة الظلم والقهر .. ولم تجبها .. فقد أنهكها الحزن والإنكســــار ..
أشفقت تهاني عليها كثيراً ، وصاحت بعصبية في وجه أختها :
-ايوه .. حامل من جوزها ، ايه العيب في كده ؟!
ثم أبعدت تقى عنها ، وضمتها إلى صدرها ، وظلت ترمق أختها بنظرات يائسة من أسلوبها الفظ والقاسي في التعامل مع ابنتها الوحيدة ...
هزت فردوس جسدها بصورة غريبة ، وأخذت تلطم على صدرها وحجرها قائلة بحسرة :
-يا نصيبتي .. أل كنا ناقصين ، كده الناس هاتقول حبلت في الحرام وآآآ....
قاطعها عوض بصوت متحشرج وقوي رغم عجزه :
-اسكتي يا فردوس ، تقى مش كده !
إلتفتت فردوس برأسها نحوه ، وهتفت بنبرة مخزية :
-عــوض ، شوفت الجرسة اللي بقينا فيها !
صرخت تهاني بنبرة مغلولة وهي تشير بيدها :
-اخرسي بقى ، أنا سامعة من الصبح اللي بتقوليه ومش راضية أتكلم ، كله إلا شرف تقى ، دي متجوزة ومحافظة على نفسها !
وكأن صوت والدها هو الملجأ ، وطوق النجاة لروحها المعذبة ، فرفعت تقى رأسها نحوه ، وهتفت بيأس جلي :
-بـ .. بابا !
ثم تركت خالتها ، وركضت نحوه لترتمي في أحضانه ، فلف الأخير ذراعه حولها ، وأردف قائلاً بحنو أبوي صادق :
-تعالي يا بنتي معايا
انتظرت تهاني على أحر من الجمر إبتعاد تقى وأبيها حتى انفجرت في اختها بغضب واضح في نبرتها ونظراتها :
-اييييه يا فردوس انتي لا بترحمي ولا بتسيبي رحمة ربنا تنزل ، بدل ما تطيبي خاطر بنتك بكلمتين ، عمالة تديها في جنابها وكأنها عملت الحرام .. دي متجوزة وحامل من ابني
لوت فردوس فمها لتقول بسخط وهي تشيح بنظراتها الباردة بعيداً عن اختها :
-مش لما نتأكد !
قبضت تهاني على ذراعي أختها ، وهزتها بعنف وهي تصرخ بإستنكار :
-انتي اللي بتقولي كده ؟ ليه حق الغريب يصدق فينا العيبة طالما انتي بتشجعيهم على ده !
ردت عليها أختها بتهكم :
-عاوزاني أنا أخرس لسان الناس ؟ ولا آآ..
قاطعتها تهاني بنظرات قوية ، ونبرة حــــادة :
-ايوه .. بدفاعك عن بنتك هتخرسيهم للأبد
أبعدت فردوس كفي أختها عنها ، وتابعت بنبرة مستفزة :
-معدتش ينفع ، وهو احنا هايكون لينا عين نتكلم أصلا ولا نوري وشنا للناس بعد اللي اتقال !
استشاطت تهاني غيظاً من ردود أختها ، وهتفت بجموح :
-منك لله يا شيخة ، انتي اللي كسرتي بنتك بنفسك ........................................................!!!
❤️❤️❤️❤️❤️
في مشفى الجندي الخـــاص ،،،
لم يتحمل أوس البقاء في المشفى أكثر من هذا ، ودمائه الثائرة تكاد تقتله ...
لذا أزاح كل الأسلاك الموصولة به ، وانتزع الإبر الطبية المغروزة فيه ، ونهض بحذر وتثاقل من على الفراش
في البداية شعر بتنميل في قدميه ، وبآلم فظيع يهاجم صدره ، لكنه لا يقارن بذلك الآلم الذي يعتصر قلبه ...
لقد حدد والده مصير علاقته الزوجية دون الرجوع إليه ، وفرض عليه واقعاً بغيضاً لن يقبل به أبداً ..
حاول عدي إثناء رفيقه عن التحرك ، فإعترض الأخير بإصرار جلي :
-مش هافضل راقد في مكاني وعاجز .. مراتي أنا هاجيبها بنفسي ، حتى لو كنت بأموت !
أمسك به عدي ، وعاونه على الوقوف ، وهتف قائلاً بإعتراض :
-يا أوس مش هاينفع ، ده خطر عليك ، إنت مش قادر والجرح لسه آآآ..
قاطعه أوس بنظرات قاتلة ، وضغط على شفتيه ليسأله بجمود :
-هتساعدني ولا لأ ؟
مط عدي فمه ليجيبه بإستسلام :
-أنا معاك ، بس خايف عليك
-متخافش
قالها أوس وهو يمد يده ناحية خزانة الملابس ليسحب منها ثيابه ...
في نفس اللحظة دلف الطبيب مؤنس لداخل الغرفة ليتفقد أحـــواله ، فصدم حينما رأه يبدل ملابسه ، وضاقت عينيه عندما لمح هاتفه محطماً .. تنهد بحذر ، ورفع رأسه في اتجاهه ، وسأله متوجساً :
-رايح فين يا باشا ؟
رد عليه أوس بإصرار قاتل وهو يغلق زرار السحاب الخاص ببنطاله :
-مش هاقعد هنا ثانية
هتف الطبيب مؤنس بإنزعـــاج وهو يقف قبالته :
-ده في خطر على حياتك
تابع أوس قائلاً بعدم إكتراث وهو يدخل ذراعه في قميصه بحذر :
-حياتي ماتهمنيش السعادي
أردف مؤنس قائلاً بقلق بالغ :
-ماينفعش والله يا باشا ، كده هايحصل مضاعفات وآآآ...
قاطعه أوس بصوت غاضب :
-ابعد عن وشي
توسل له مؤنس برجاء :
-ارجوك ، عشان مصلحتك ، صدقني والله أنا مش هاضرك
دفعه أوس بقبضته بقوة من صدره ليسعل مؤنس ، وهدر فيه بغضب جم :
-بأقولك ابعد عن وشي
أمسك عدي بالطبيب قبل أن يسقط على وجهه ، وهتف بضيق :
-اهدى يا أوس ، برضوه الدكتور مؤنس خايف عليك
أخـــذ أوس نفساً عميقاً وحبسه في صدره محاولاً التحكم في أعصابه ، وتابع قائلاً بصوت شبه متشنج :
-شوف يا دكتور مؤنس ، من الأخر كده أنا هامشي يعني هامشي ، فالأفضل إنك تشوف شغلك بعيد عني
أشـــار الطبيب مؤنس بيده وهو يحاول إقناعه قائلاً بحذر :
-يا أوس باشا آآآ...
لم يكمل عبارته لأخرها حيث رن هاتف عدي المحمول ، فتشدق الأخير قائلاً بجدية وهو يخرج هاتفه من جيبه :
-ثانية واحدة
نظر عدي إلى شاشة هاتفه ، ومن ثم سلط أنظاره على أوس ، وهتف بإستغراب وهو رافع حاجبيه للأعلى :
-ده الدكتور مهاب !
تشنج وجـــه أوس ، واحتقن صدغيه سريعاً بحمرة الغضب وتحولت عينيه لجمرات مشتعلة ..
نظر له عدي بتوجس .. ووضع الهاتف على أذنه ليجيبه بصوت قلق :
-ايوه يا دكتور مهاب
هتف مهاب قائلاً بنزق :
-ادي الموبايل لأوس ، أنا عارف انه معاك
ازدرد عدي ريقه بسرعة ، ومــد يده بالهاتف ليعطيه إياه وهو يقول بتوتر :
-هو .. هو عاوزك
تناوله أوس منه ، وقربه من أذنه ولم ينطق بكلمة .. لكن وجهه كان كافياً للتعبير عن النيران المتأججة في كيانه بأكمله ...
قهقه مهاب بنبرة خبيثة ليثير حنق ابنه أكثر ، ثم صمت لثانية ليردف قائلاً بخبث :
-أنا عــــارف إنك سامعني كويس ، ومتأكد إنك شوفت الحلقة كمان
صــــر أوس على أسنانه بشدة ليهتف بشراسة :
-عملت كده ليه ؟
أجابه مهاب بهدوء لئيم :
-عشان أعفيك من الحرج وأريحك من المشاكل
ثم قهقه بتفاخر ، قبل أن يضيف بنبرة مراوغة :
-بس إيه رأيك فيا ؟ متوقعتش أعمل ده ، صح ؟!
هــــدر أوس بصراخ جامح هز صداه أركـــان الغرفة :
-حتى لو طلعت في مليون برنامج وعلى كل القنوات مش هاتمنعني عنها يا مهاب باشا ، تقى مراتي وهاتفضل مراتي غصب عنك وعن الكل !
ســأله مهاب بنبرة لئيمة وهو يتعمد إستفزازه :
-إنت واثق من ده ؟ معتقدش ، يا ابني يا حبيبي أنا عاوزك تتعلم مني اللعب على أصوله !
رد عليه أوس بتحدٍ قاتل :
-هاتشوف يا مهاب باشا ابنك هايعمل ايه !!!
ثم ألقى بالهاتف على الفراش دون أن يضيف كلمة أخـــرى .. فإقترب منه عدي وسأله بحذر :
-في ايه ؟
حدجه أوس بنظرات شرسة ، وهدر بعنف :
-عربيتك جاهزة ؟
هز عدي رأسه ليقول :
-اهــا
تحرك أوس بخطوات شبه بطيئة ، وأسند يده على صدره المتآلم .. ولكن هذا الآلم لا يقارن بالآلم القاتل الذي يعتصر قلبه حزناً وكمداً على ما تعانيه زوجته في غيابه .. فهو أكثر الأشخاص إحساساً بحالتها وبروحها المتهالكة .. ويعلم مدى حاجتها لوجوده ليطمئنها وتستعيد سكونها ..
فأكثر ما يخشـــاه هو إنهيارها تماماً وهي بمفردها ..
اقترب الطبيب مؤنس من عدي ، وتشدق بجدية :
-خلي رقمي معاك يا عدي بيه ، ولو حصل أي تطورات أو مضاعفات في حالته كلمني على طول ، أنا هاكون جاهز
ابتسم له عدي قائلاً بإمتنان :
-شكراً يا دكتور ، وآآ.. وسوري على الموبايل ، أنا هاجيبلك مكانه
بادله إبتسامة مجاملة وهو يتابع :
-ولا يهمك .. تتعوض ، المهم عندنا سلامة الباشا
ربت عدي على ظهر الطبيب ، ثم أسرع في خطواته ليلحق برفيقه ......
.........................
عند مدخـــل الحارة الشعبية ،،،،
وصلت عدة سيارات للشرطة عند المدخل الرئيسي المؤدي للحارة .. وترجل أفرادها منها ومعهم عدد من العســـاكر
نظر إليهم أهالي الحارة بإندهاش غريب ، وتعالت الهمهمات الجانبية حول سبب قدومهم ..
صــاح ضابط ما بنبرة رسمية آمــرة :
-فين بيت تقى عوض الله
رد عليه أحد الأشخـــاص وهو يشير بيده نحو بناية قديمة :
-هناك يا باشا
لوح الضابط حسان بيده ،و قائلاً بلهجة قوية :
-يالا بسرعة
تسائلت إحدى السيدات بفضول وهي تراقب الوضع من شرفة منزلها :
-هو في ايه ياختي ؟
ردت عليها أخرى من النافذة المقابلة :
-مش عارفة ، هو بيسألوا عن البت تقى بنت فردوس !
أمسكت الجارة بفكها بإصبعيها ، وتسائلت بغموض :
-تكونش ياختي عملت نصيبة تانية ؟
أجابتها الأخرى بعدم إكتراث :
-جايز ، أهوو يا خبر بفلوس ، بعد شوية يبقى ببلاش !
....................................
في منزل تقى عوض الله ،،،،
تمددت تقى على الفراش إلى جوار أبيها ، وأسندت رأسها على صدره وهي تجهش بالبكاء المرير ..
مسح والدها على رأسها ، وتنهد قائلاً بحزن :
-أنا عارف إني تايه عن اللي بيحصل حواليا في الدنيا ، ومخي مابقاش زي زمان ، بيفتكر حاجات وبينسى حاجات أكتر .. وآآ..
ابتلع غصة في حلقه ليتابع بأسف :
-ويمكن عاجز مش في ايدي حاجة أعملها ،بس اللي أقدر أقولهولك يا بنتي " قـــل لن يُصيبنا إلا ما كتب الله لنا " !
همست بصوت مختنق قانط:
-اشمعني الحياة جاية عليا أنا ؟ ليه دايماً أنا اللي آآ...
قاطعها والدها بعتاب :
-متقوليش كده يا بنتي ، اوعي تعترضي على حكم ربنا ، ده نصيب ، فاصبري واستحملي
إختنق صوتها أكثر وهي تضيف بأنين :
-بس أنا تعبت .. وآآآ.. ومابقتش قادرة أستحمل ، كتير بتمنى الموت
عاتبها بصوته الدافيء وهو يربت على رأسها :
-متقوليش كده ، خليكي مؤمنة بقضاء الله ، مش يمكن ده فيه الخير ليكي ؟
ســألته بمرارة وهي تمسح عبراتها بأناملها :
-إزاي وكل حاجة جاية عليا
نظر له بحنو ، وهمس بخفوت :
-يا بنتي .. أحسني الظن بالله !
قاطع حديثهما صوت دقــــات عنيفة على باب المنزل ، وكذلك قرع للجرس بصورة متتالية ..
ابتلعت تقى ريقها بخوف ، وإعتدلت من نومتها على الفراش ، وتسائلت بنبرة شبه مرتجفة :
-هو .. هو في ايه ؟
هتف عوض بتوجس وهو ينهض من على الفراش :
-استرها يا رب
.......................
فتحت فردوس الباب لتتفاجيء برجـــال الشرطة يسدون عليها المدخل ، فتطلعت إليهم بقلق واضح في نظراتها، وإزدردت ريقها وهي تتسائل بتوجس :
-خير .. انتو .. انتو عاوزين مين ؟
فحصها الضابط حســـان بنظرات شبه إحتقارية ، وسألها بجمود :
-ده بيت تقى عوض الله ؟
ردت عليه بتلعثم :
-آآ.. أه هو
صاح بها حسان بقوة وهو يندفع للأمــــام :
-طب وسعي شوية يا ست !
سألته بتخوف وهي تتراجع بجسدها للخلف :
-ليه ؟ انتو عاوزينها في ايه ؟
رد عليها بصلابة وهو يجوب بعينيه صالة المنزل :
-معانا أمـــر ضبط واحضـــار ليها
شهقت بصوت مصدوم وهي تلطم وجهها :
-ايييه ؟
أسرعت تهاني نحوه لتســـأله بإستغراب وهي تسلط أنظارها عليه وعلى من معه :
-فـ .. في ايه يا حضرت الظابط ؟
نظر لها الضابط حسان بطريقة مشمئزة ، ثم صــاح في رجاله بصرامة :
-فتشوا البيت ، وهاتوا اللي اسمها تقى !
وقفت تقى على عتبة باب غرفتها وهي متمسكة بأبيها ، وتسائلت بصوت مرتعش :
-انتو .. انتو عاوزين مني ايه ؟
رمقها حسان بنظرات متفحصة ، وأشـــار بيده بصورة مهينة قائلاً بصوت جاف :
-انتي تقى ؟!
ضمها عوض إلى صدره أكثر بذراعه الواهن ليحميها منهم ، وهتف بصوت متحشرج :
-بـ.. بنتي .. عاوزين منها ايه ؟
أشــــار حسان بإصبعيه لرجاله وهو يقول بصوت قــوي :
-هاتوها
تحرك أفراد الشرطة نحوهما ، فإنتفضت تقى مذعورة في مكانها ، وتشبثت بصدر والدها أكثر ، ودفنت رأسها فيه وهي تهمس له بتوسل :
-بابا ، احميني منهم ..!
صرخت فردوس بصوت مرتفع وهي تتجه نحو الضابط :
-عاوزين من بنتي ايه ؟ سيبوها في حالها
هتفت تهاني هي الأخـــرى بصدمة وهي تفرد ذراعيها لتسد عليهم الطريق :
-مالكم ومال الغلبانة دي ؟
أمسك بها أحد الضباط ، ودفعها بقسوة للجانب وهو يصيح بجمود :
-ابعدي يا ست
كادت تهاني تسقط على وجهها من إثر الدفعة ، وصرخت مصدومة :
-آآآه .. لأ .. !!
قبض أحد الضباط على ذراع تقى وحــاول إبعاده بشراسة عن حضن والدها المتمسكة به .. فصرخت بإهتياج :
-ابعدوا عني ، معملتش حاجة
ألقى عوض بعصاه التي يتكأ عليها ، ولف ذراعه الأخر حول ابنته ليدافع عنها ويحميها من بطش غيره ، وصرخ بوهن :
-سيبوا بنتي !
صـــاح الضابط حســــان بقســـوة :
-هاتوها يالا ، مش هانقضي اليوم كله هنا
أمسك فرد أخـــر بعوض ، وحل ذراعيه عنها ، ونجح الاثنين معاً في فصلها عن أبيها ، وقاما بجرها نحو الضابط ...
صرخت تقى بجنون وهي تتلوى بجسدها محاولة تحرير نفسها من قبضتهم المحكمة عليها ..
اعترضت فردوس طريق الضابط ، وصاحت بصوت منفعل :
-انتو واخدينها على فين ؟
رد عليها حسان بتهكم وهو يحدجها بنظرات مهينة :
-على القسم !
ثم لكزها في كتفها وهو يتابع بصوت عدائي :
-يالا وسعي يا ولية بدل ما أعملك محضر إعتراض للسلطات !!!
حاول عوض التدخل ، ولكن لكزه فرد أمن بشدة فسقط على الأرض ، وتأوه صارخاً من الآلم ، فأسرعت فردوس نحوه وصرخت بجنون :
-حرام عليكم ، الراجل هايموت ، انتو مافيش في قلبكم رحمة
وبالفعل سحب أفراد الشرطة تقى خلفهم وهي ترتدي عباءتها المنزلية – ذات النقوش الوردية الزرقاء - وحجاب بسيط وردي يغطي غالبية شعرها .. ودون إمهالها الفرصة لترتدي ملابس أخــرى مناسبة ليزيد هذا من إذلالها وكسرها .....
دلفت تهاني إلى داخـــل الغرفة لتجذب عباءتها وترتديها على عجالة في محاولة يائسة منها للحاق بإبنة أختها ، وإلتقطت حافظة نقودها ووضعت بداخلها الهاتف المحمول وبعض النقود ..
ثم ركضت للخارج وهي تلف حجابها على رأسها وصاحت بصوت شبه مبحوح :
-أنا رايحة ورا تقى ، خليكي مع عوض يا فردوس
نظرت لها فردوس ، وهتفت بنبرة قلقة :
-الحقيها يا تهاني ، ماتسيبهاش لوحدها
...................................
راقب أهــــالي الحارة رجـــال الشرطة وهم يضعون تقى في السيارة المصفحة ، وتنوعت نظراتهم ما بين الفضول والشماتة ..
ولكن لم يعترض أي أحد طريقهم .. وتابعوا ببرود ما تعانيه تلك التعيسة حتى انصرفوا تماماً ، فعاد الجميع إلى أشغالهم وكــأن شيئاً لم يحدث ..
إعتلى ثغر منسي ابتسامة متشفية ، وأردف قائلاً بشماتة :
-يالا في داهية ، خلي الحارة تنضف ..!
..........................................
في مخفر الشرطة ،،،،
وقف المحامي نصيف بجوار باب المخفر ، ووضع هاتفه المحمول على أذنه ، وتابع حديثه المتباهي قائلاً :
-كله تمام يا د. مهاب ، خلاص البوليس اتحرك وزمانتها متجرجرة على النيابة
ســـأله مهاب بجدية :
-البلاغ اتعمل ؟
اجابه نصيف بثقة :
-أكيد يا باشا ، ده بلاغ رسمي متوصي عليه ، وبعدين دي جناية تحريض على القتل ، مش جنحة !
رد عليه مهاب بإعجاب :
-برافو يا نصيف ، ومش هاوصيك
أكمل نصيف قائلاً بهدوء :
-اطمن ، حبايبنا كتار في القسم يا باشا وبيحبوا يخدموا ، هيروقوا عليها على الأخــــر !
رد عليه مهاب بهدوء :
-عظيم .. شكراً يا نصيف ، وبلغني لو في جديد
ارتسمت ابتسامة ماكرة على ثغر نصيف وهو يرد قائلاً :
-عينيا يا باشا
وصلت سيارات الشرطة إلى المخفر ، وسحب الضابط حسان تقى معه إلى الداخــل ، ثم دفعها بقسوة نحو الحائط ، وأردف قائلاً بصرامة :
-اترزعي هنا
إستندت تقى بكفيها على الحائط ، وتأوهت متألمة بصوت مكتوم ، ونظرت إلى الضابط بحنق .. ولكنها لم تستطع أن تنبس بكلمة واحدة لتعترض على طريقته القاسية في التعامل معها ..
أضـــاف حســــان قائلاً بغلظة :
-خليك يا عسكري واقف جمب البت دي ، عينك عليها لحد ما أبلغ وكيل النيابة
أدى العسكري التحية العسكرية له ورد بنبرة رسمية :
-تمام يا باشا
اقترب منه ، ومــال عليه برأسه ليهمس له :
-وروقلي عليها
هز العسكري رأســـه ليجيبه بجمود :
-حاضر معاليك
نظرت تقى إلى كليهما بتوجس ، وإزدردت ريقها بخوف واضح ومسيطر عليها ..
أشــــار العسكري لزميله ليحضر متهمة أخرى جالسة القرفصاء لتجلس إلى جوار تقى ، وهمس له بكلمات خافتة ، فأومأ الأخير برأسه موافقاً ، واعتلى ثغره ابتسامة لئيمة ، ورد هامساً :
-وماله ، خلينا نتسلى شوية
لكــــز العسكري الأخـــر المتهمة – ذات المظهر الإجرامي الجلي – في ذراعها صائحاً بصرامة وهو يغمز لها :
-انقلي يا متهمة جمب البت دي !
فهمت المتهمة نظراته ، وإلتوى فمها بإبتسامة شيطانية ، وهتفت بخنوع زائف :
-ماشي ، بس متزوءش يا باشا
وبالفعل جلست إلى جوار تقى ، وضربتها بكوعها بقسوة في صدرها ، ثم رمقتها بنظرات حادة وهي تصيح فيها بصوت خشن لا يليق بها :
-ما توسعي شوية يا بت ، أخدة الحتة كلها
نظرت لها تقى بخوف ، وتلاحقت أنفاسها وهي ترد بتلعثم :
-أنا .. أنا آآ..
قاطعتها المتهمة بنبرة عدائية :
-انتي هتموأي ، بصتك مش مريحاني ، لا تكوني متسقرفاني يا بت
حاولت تقى أن تستجمع شجاعتها وتدافع قائلة :
-هو آآ...
قاطعتها مجدداً وهي تشمر ساعديها لتفتك بها :
-لأ باين عليكي متنططة ، وأنا هأعدلك
إعتدت المتهمة بالضرب على تقى ، وجذبتها من حجاب رأسها بشدة لتصرخ الأخيرة مستغيثة :
-إلحقوني ، آآآآه
هتفت المتهمة بصوت غاضب وهي تشدها بعنف من شعرها :
-انتي بتشتميني يا بت ! وربنا لأشرحك
قاومت تقى ضرباتها بقدر المستطاع ، وأكملت متوسلة :
-آآآه .. ابعدوها عني .. آآآه ..
هتف العسكري بهدوء وهو يرمق كلتاهما بنظرات متسلية :
-بس يا متهمة منك ليها
صرخت تقى بصوت شبه مخيف بعد أن سددت المتهمة لكمة قوية في صدرها :
-آآآي.. كفاية ، آآآآآآآآآآآآآآه
خرج على إثر صوتها وكيل النيابة من غرفته ، وتسائل بصوت شبه محتد وهو يسلط أنظاره على الجميع :
-في ايه اللي بيحصل هنا ؟!
انتصب العسكري في وقفته ، وأدى التحية العسكرية قائلاً بتوتر :
-أسفين يا باشا
أبعد العسكري الأخـــر المتهمة عن تقى ، فوقعت عيني وكيل النيابة عليها ، ونظر لها بإشفاق بعد أن رأى حالتها المزرية ، وصاح بغضب :
-دي اسمها مهزلة ،
مسحت تقى بأناملها قطرات الدمــاء المتجمعة على شفتيها ، وكفكفت بكفها عبراتها ..
تسائل وكيل النيابة بإهتمام :
-ومين دي كمان يا عسكري ؟
رد عليه العسكري بنبرة شبه منزعجة :
-دي يا فندم المتهمة اللي جابها الباشا حسان من شوية
اقترب منها وكيل النيابة ، ونظر لها بدقـــة متفحصاً إصابتها ، وسألها بجدية :
-انتي تقى عوض ؟
هزت رأسها وهي تجيبه بصوت ضعيف :
-ايوه
تنهد بضيق ، وأشـــار بيده قائلاً بهدوء :
-تعالي جوا ، هاتها يا عسكري
شعرت تقى بالمهانة والإذلال وهي تحاول الوقوف على قدميها ..
تملكها إحســـاس القهر ، وسيطر عليها .. ولم يعد لديها الرغبة في الإستمرار في تلك الدائرة التي لا تنتهي من المعاناة والغلب ...
.........................
في نفس التوقيت وصلت تهاني إلى المخفر ، وبحثت بعينيها عن تقى بين المتواجدين ، ثم ركصت في إتجاه صــول ما ، وسألته بتلهف :
-الله يكرمك يا شاويش متعرفش تقى عوض الله جت هنا ولا لأ ؟
رد عليها متسائلاً :
-دي مسجونة ولا متهمة ؟
أجابته بصوت قلق وهي تتطلع إليه بنظرات راجية :
-لا دي ولا دي ، هما جوم خدوها من البيت على هنا
مط الصـــول فمه ، وأردف قائلاً ببرود :
-يبقى جالها استدعاء من وكيل النيابة
فغرت فمها قائلة بإندهاش :
-هـــه ، استدعى !
تابع الصــول قائلاً بنفاذ صبر
-ايوه ، ده احتمال كبير ، واديني سكة عشان مش فاضي
تلعثم صوتها ، وتراجعت للخلف قائلة بتوتر :
-شكراً يا شاويش
وقفت تهاني حائرة في مكانها ، تلفتت حولها بقلة حيلة ، فهي لا تعرف سبب إستدعاء تقى للمخفر ، ولا حتى كيفية الوصــول إليها .. وبلا لحظة تردد هتفت بإصرار :
-الموضوع ده مش هايحله إلا عدي ، هو اللي ممكن يعرف يتصرف !
أمسكت بحافظتها لتخرج الهاتف منه ، وتنهدت قائلة :
-الحمد لله إني جبت المحمول معايا !
........................
في الحــــارة الشعبية ،،،
وصـــل عدي بسيارته لمدخل الحارة ومعه أوس الذي ظل صامتاً طـــوال الطريق ولم ينطق بكلمة .. فكل تفكيره منصب على زوجته واستعادتها في أحضانه ..
راقب عدي الطريق من مرآته الجانبية ، وغمغم مع نفسه بتمني :
-يا ريت ماتكونش شافت الحلقة !
ثم نفخ بضيق ، وأوقف المحرك وتابع تفكيره المضطرب مع نفسه بـ :
-على الله تكون مدام تهاني موجودة تساعدني ، أنا محتار ، ومش عارف أفكر كويس !
ومـــا إن أوقف سيارته حتى ترجل منها أوس على الفور ، وســـار بخطوات بطيئة ومتآلمة نحو مدخــل البناية ..
تعلقت أنظاره بالأعلى ، وأغمض عينيه بإشتياق إليها .. وتنهد قائلاً بعمق :
-انتي ليا وبس .. محدش هايقدر يمنعني عنك ، ولا يبعدك عني !
أمســك بالدرابزون ، وأسند يده الأخــرى على صدره .. وكز على أسنانه متآلماً ، فقد إشتد وجعه ، ولكنه قاومه بأقصى ما يمكن تحمله
لحق به عدي ، ووقف خلفه وسأله متوجساً بعد أن رأى تشنجات وجهه ، والعرق المتجمع على جبينه :
-انت كويس يا أوس
رد عليه بإيجاز دون أن ينظر نحوه :
-ايوه .. !
ثم أكمـــل صعوده على الدرج ..
ومع كل خطوة يخطوها للأعلى تزيد خفقات قلبه شوقاً إلى حبيبته ..
شعـــر بروحها النقية معلقة في المكان ، بنسمات عطرها تسيطر على جدرانه ، وبتلهف عجيب لرؤيتها أمامه ..
رن هاتف عدي في جيبه ، فأخرجه لينظر إلى شاشته ، فقرأ اسم تهاني ، وتسائل مندهشاً :
-هي بتتصل ليه ؟
......................................
في منزل تقى عوض الله ،،،،
دثرت فردوس زوجها عوض الذي أصابه الوهـــن بعد طرحه أرضاً ، ونفخت بضيق وهي تمط شفتيها للجانبين ..
جلست على طرف الفراش ، وحدقت أمامها ، وأخذت تفكر ملياً فيما صــار مع ابنتها ، ومدى عجزها عن الدفــاع حتى عنها ..
زفرت بإنهاك ، وتمتمت مع نفسها قائلة بهمس :
-طول ما احنا مشبوكين الشبكة السودة دي مش هنرتاح أبداً ، لا هنلاقي مكان يلمنا ، ولا حد يشفق علينا ! وهنفضل كده ملطشة للي يسوى واللي مايسواش !
رفعت بصرها للسماء وتابعت حديث نفسها :
-منكم لله يا بعدة ، خربتوا بيتنا وحياتنا وفضحتونا ! ربنا يهدكم !
سمعت قرع الجرس ، فإنتبهت حواسها له ، وهبت مسرعة وهي تهتف متعشمة :
-تقى ، اكيد تهاني جابتها ، يا رب يا كريم
ســـارت بخطوات أقرب إلى الركض في إتجاه باب المنزل ، وفتحته لتتفاجيء بأوس بهيئته المهيبة أمامها ، فإتسعت عينيها بذهـــول ،
وشهقت مصدومة وهي تقول :
-إنت !
نظر لها بجمود ، وصـــاح بصوت جاد :
-فين تقى ؟!
لوت فمها لتجيبه بإزدراء :
-مش هنا
أخـــذ نفساً عميقاً ، وحبسه في صدره ليحافظ على ثباته الإنفعالي أمامها ، وصر على أسنانه قائلاً بحذر :
-ناديلي مراتي بالذوق
ردت عليه بحنق وهي تنظر له شزراً :
-قولتلك مش موجودة
كــــان أوس على وشك الإنفعال عليها ، ولكن أوقفه صوت عدي قائلاً بإنزعاج :
-تقى فعلا مش هنا يا أوس
إستدار أوس برأسه ناحيته ، وهتف غاضباً :
-انت بتقول ايه ؟
ابتلع عدي ريقه ليجيبه بصوت لاهث :
-تقى محجوزة في القسم للتحقيق !
إعتلى وجــــه أوس صدمة جلية ، وجحظت عينيه بفزع كبير .. وصـــاح بإندهاش يكسوه الغضب :
-ايييييه !!!!!
........................................
في مكتب وكيل النيابة بالمخفــــر ،،،،
ارتشفت تقى القليل من المـــاء البارد بعد أن أرسل وكيل النيابة في طلبه رأفةً بحـــال تلك المرأة ..
عقد أصابع كفيه معاً ، ونظر لها بدقة متفحصاً تعابير وجهها ، وسألها بهدوء :
-الوقتي بقيتي أحسن
أومــأت برأسه موافقة وهي تعيد وضــع الكوب الزجاجي على الصينية ..
إلتفت وكيل النيابة برأســـه للكاتب الجالس إلى جواره ، وتابع بجدية :
-افتح المحضر في ساعته ، وتاريخه .. !
نظرت تقى بحيرة إليه ، وظل تفكيرها مشغولاً في تخمين سبب حضورها ..
انتهت هي من الإدلاء ببياناتها الرسمية ، ثم سألها مجدداً بنبرة رسمية :
-ما قولك فيما هو منسوب إليكي من إتهام صريح بالتحريض على قتل أوس الجندي
إتسعت حدقتيها بصدمة كبيرة عقب عبارته الاخيرة ، وخفق قلبها بقوة ..
كما جف حلقها بشدة وهي تحاول إستيعاب ما قاله تواً .. وحاولت ترتيب أفكارها بصورة منطقية ..
هي موجودة في هذا المكان تحديداً بسبب إتهامها بتلك التهمة الباطلة والمجحفة ، وتم إستدعائها بتلك الطريقة المهينة ومعاملتها بعنف فقط للقضــاء على أخـــر ما تبقى من كرامتها المهدورة ..
لوهـــلة بدت عاجزة عن التنفس ..
فالصدمـــات اكثر من قدرتها على مقاومتها ...
عـــاود وكيل النيابة تكرار سؤاله بهدوء مراقباً إياها بإهتمام ..
ولكنه إنتبه إلى صوت دقات خافتة على باب مكتبه ، أعقبها دخــول عسكري ما قائلاً بنبرة رسمية :
-أسف يا باشا على الإزعــاج ، بس في واحد برا مصمم إنه يقابل سيادتك !
نهره وكيل النيابة بصوت شبه منزعج :
-في تحقيقات شغالة هنا ، ده مش آآآ...
لم يكمل الأخير جملته حيث إقتحم أوس الغرفة ، وبحث بعينيه عمن خفق لأجلها قلبه ، وبالفعل رأها جالسة تنظر أمامها ..فهتف بصوت متصلب :
-أنا أوس الجندي ..
رفعت تقى رأسها المنكسة للأعلى ، وتجمدت حواسها لوهلة ، وتخيلت أنها تتوهم صوته ..
ثم إستدارت برأسها ببطء نحوه ، وحدقت فيه بنظرات جامدة لتتأكد من وجوده ..
للحظة شعرت بخلو الغرفة ممن فيها ليبقى هو بهيبته التي إعتادتها معها ..
لم تنكر إحساسها الإرتياح لرؤيته كما كان من قبل .. واقفاً على قدميه ، شامخاً بجسده .. قوياً بسيطرته على الجميع ..
سلط أوس عينيه المحتدتين بتلهف بائن على زوجته التي إشتاق قربها ، وإرتخى إلى حد ما وجهه المتصلب بعد رؤيته إياها أمامها .. وشعر بسكون عجيب يتخلل إلى روحه المعذبة ببعدها عنه .. وبسلام داخلي يهديء من ثورته الغاضبة .....
أفاقت تقى من شرودها في ملامحه حينما هدر بصوت جاد يحمل القوة :
-ودي تبقى مراتي تقى !
اقترب منها بخطوات ثابتة ، ولم يحدْ بعينيه عنها ، وتابع قائلاً بصلابة أرجفتها :
-وأي بلاغ متقدم ضد مراتي أنا بأسحبه فوراَ
رد عليه وكيل النيابة بجدية :
-أها .. بس ده ماينفعش ، لأن اللي مقدم البلاغ المدعو مهاب الجندي .. والدك !
أدار أوس رأســه في إتجاه وكيل النيابة ، وإحتقن وجهه نوعاً ما وهو يهتف بشراسة :
-والدي يقدم اللي هو عاوزه ، لكن أنا قدامك أهوو بنفسي بنفي أي حاجة عن مراتي ، هي مالهاش دخل بحاجة
أضاف وكيل النيابة قائلاً بهدوء :
-بس في أصابع إتهام بتقول إنها آآآ....
قاطعه أوس بصوت شبه منفعل :
-لو مراتي كانت عاوزة تموتني كان الأولى انها تسيبني مرمي في الصحرا بدل ما تخاطر بحياتها عشان تنقذني
ثم عـــاود النظر إلى زوجته ، ورمقها بنظرات والهة وهو يكمل بنبرة هادئة لكنها تحمل مشاعر صادقة :
-تقى استحالة تسيبني ! لأني .. لأني بأحبها !
دلف إلى داخــــل الغرفة المحامي منعم ، وأردف قائلاً بهدوء :
-أنا الأستاذ منعم محامي المدام يا فندم ، وده الكارت بتاعي .. اتفضل !
تناول وكيل النيابة البطاقة منه ، وتطلع إليها .. ومط فمه ليقول بهدوء :
-أها .. ماشي يا أستاذ
هتف المحامي منعم قائلاً بجدية :
-تسمحلنا يا فندم ناخد المدام معانا ، اظن ان المشكو في حقه بينفي التهم عن مراته
رد عليه وكيل النيابة بهدوء :
-تمام .. أنا هاخلي سبيلها بضمان محل اقامتها .. بس لازم والدك يجي يتنازل بنفسه عن الشكوى ، ده أفضل !
لم ينتظر أوس اكثر من هذا ، حيث مــد يده ليلتقط كف تقى المسنود على حجرها ، وإحتضنه بقوة ، ثم جذبها من على المقعد ، وسحبها بخطوات حذرة إلى خــــارج الغرفة ، وســارت هي معه مستسلمة ، ولكن عقلها كان يأبى الخنوع للواقع الذي تعيشه جبراً ......
.............................
وقعت عيني تهاني على ابنها مصادفة .. ورقص قلبها طرباً ورمشت بعينيها غير مصدقة أنه بالفعل على مقربة منها ..
توارت عن أنظاره حتى لا يلمحها ، وحتى تتمكن من التطلع إليه بتمعن ..
غمر روحها فرحة جلية ، ووضعت يدها على فمها لتكتم شهقاتها السعيدة ..
نعم لقد عافاه الله ، وإستعاد صحته بعد أن كان قريباً من الموت ..
أدمعت عينيها غير مصدقة ، وتنهدت بسعادة ، وغمغمت قائلة :
-ألف حمد وشكر ليك يا رب .. الحمدلله إني شوفته حتى لو من بعيد
تركت لعبراتها الأمومية العنان لتنساب على وجهها .. فلا شيء يهم سوى أن يكون ابنها بخير ..
.......................
على الجانب الأخـــر ،
وما إن خرج أوس وتقى من الغرفة حتى إستدار هو بجسده نحوها ، ووقف قبالتها ، ونظر إليها بعشق بادي في عينيه ، ثم أرخى قبضته عنها ، ورفع كفيه نحو وجهها ليحتضنه بأصابعه .. ثم تلمس وجنتيها بحذر ليشعر بملمس بشرتها على أنامله الخشنة ، وهمس لها بصوت رخيم :
-يــــاه يا تقى .. أنا مش مصدق إنك قصادي !
رمقته تقى بنظرات فارغة فإستشعر غرابتها ، ووضعت يديها المرتعشتين على كفيه لتبعدهما عن وجهها ، وقاطعته بصوت قاتم :
-متكملش
نظر لها بإندهـــاش ، وإنقبض قلبه نوعاً ما من كلمتها المقتضبة ..
بينما تابعت هي متسائلة بنبرتها التي أخافته ودون أن ترمش بعينيها :
-إنت بقيت كويس صح ؟
هـــز رأســـه موافقاً إياها وهو مستمر في النظر إليها بإستغراب يكسوه القلق ..
أكملت تقى حديثها المريب قائلة :
-يبقى تنفذ وعدك و.. وتطلقني
كان لوقع كلماتها الصــــادمة أثراً قوياً على نفسه .. فإهتز كيانه ، وشحب وجهه ، وأصبحت تعابيره باردة ..
رمقها أوس بنظرات حادة مستنكرة ، ولم ينطق بكلمة من هول المفاجأة .. وكــأن الكلمات قد هربت منه رغماً عنه ..
لقد أهداها عقلها إلى ذلك القرار الحاسم والصـــارم .. تلك الحياة لا تناسبها بالمرة .. هي مهددة في كل وقت .. هي عانت وتعاني وستعاني إن استمرت معه .. لذا لزاماً عليها أن تنهي تلك الدائرة المفرغة للأبد ..
استجمعت شجاعتها لتكمل بصوت جاف :
-احنا استحالة نكمل مع بعض .. كده وصلنا لنهاية الطريق
هتف أوس بعد أن أفـــاق من صدمته بصوت معاند :
-مش هايحصل يا تقى !
إعتقد أن قرارها نابع مما تعرضت له أثناء رقوده في المشفى ، فحاول أن يقنعها بالعكس ، فهتف بحذر وهو يقاوم بكل قوة رغبته في الإنفعال أمامها :
-لو كان على اللي حصل في غيابي ، فأنا هاعوضك .. صدقيني ، أنا مش هاسمح لحد يمسك ولا يأذيكي .. !
تراجعت مبتعدة بظهرها للخلف ، فتقدم عفوياً نحوها ، وهمس بصوت مختنق وقد لمعت عينيه بشدة :
-أنا عارف انهم جوم عليكي ، لكن أنا مصدقتش حاجة من اللي اتقالت ، أنا .. أنا بأحبك ! انتي مصدقاني صح ؟
ثم مد كفيه ليلتقط كفيها ، وضغط عليهما بأصابعه ، وأكمل بنبرة لاهثة وصـــادقة :
-تقى انتي ... انتي الحاجة الوحيدة اللي خليتني أعرف قيمة نفسي ، أنا .. أنا معاكي بأكون آآ...
قاطعته تقى بقسوة شديدة في نبرتها ونظراتها :
-من فضلك ماتكملش ، إحنا مش لبعض
ورمقته بنظرات لا حياة فيها وهي تضيف بجمـــود مخيف :
-صدقني انت يا أوس باشا ، احنا هاننفصل ، ولو محصلش النهاردة هايحصل بكرة أو بعده ، آآ.. احنا مش لبعض !
تعمدت هي أن تضغط في كلماتها على لقبه لتشعره بمدى الفارق الطبقي والمعنوي بينهما .. ونجحت في إيصال هذا الإحساس إليه ...
ثم سحبت كفيها من يديه ، وتراجعت أكثر للخلف ليتسمر مصدوماً في مكانه ..
أضافت بنبرة قاسية لتقضي على أخر ما تبقى لديه من أمل في إستعادتها :
-دي النهاية يا .. يا باشا !
هتف أوس متوسلاً وهو يرمقها بنظرات استعطاف من عينيه الدامعتين :
-انتي .. انتي بكده بتاخدي روحي معاكي
ردت عليه بجفاء واضح في نبرتها ، وبصلابة أعجب في نظراتها :
-وأنا روحي ماتت من كتر القاسية !
زاد آلم صـــدره ، ولكنه لم يقــــارن بذلك الآلم القوي الذي يعتصر قلبه ويكاد يقتلعه من مكانه بضراوة ....
شعور بالعجز الكامل تمكن منه .. وأصابه بالوهن
لم تشفع له نظراته الصـــادقة في إقناعها بالبقاء معه..
زفـــر العبرات أمامها لعل قلبها يرق إليه .. لكنها قاومت رغبتها في الإستسلام لإحساسه الصادق
ورغم ذلك الشعور الذي يقتلها ويزيد من صعوبة الموقف إلا أنها رفعت رأسها بكبرياء للأعلى .. وودعته قائلة :
-مع السلامة !
............................
تابعت تهاني المشهد من على بعد وهي تتحســــر على حـــال ابنها وابنة أختها ..
شهقت مصدومة ، وبكت بأسف جلي ..
فالإثنين ضحايا الظروف والحياة ..
ودت لو تمكنت من التدخل والحول دون حدوث هذا .. لكن من سيصغي إليها منهما ..
...........................
تعلقت عيني أوس الباكيتين بتقى التي أولته ظهرها ، وســـارت ببطء نحو الخـــارج لتبتعد عنه ، وترحل للأبد ومعها كل روحــــه ..
كان على إستعداد تـــــام لتحمل كل شيء ، ومواجهة أي شخص فقط لإرضائها وتعويضها عما فات ..
ولكن ما لم يستطع تحمله هو فراقها ..
نعم إلا رحيلها .. إلا خسارتها .. تلك هي الفاجعة الكبرى
كور قبضة يده ، ورفع ذراعه ليسنده على صدره ليشعر بدقات قلبه التي تتسارع من أجلها ..
تغير لون وجهه .. وزاد تعرقه ...
وفجــــأة خــــارت قواه تماماً ، وكـــأن روحه انتزعت نزعاً من جسده ، فسقط على ركبتيه ، وقبض على صدره بأصابعه الغليظة ، وأطلق صرخــــة عنيفة ومتألمة :
-آآآآآآآآآه ...!!!
وتمدد بجسده على الأرضية الصلبة ليدخــل في مرحلة من التشنج العنيف ...
صرخت تهاني صرخة مدوية أفزعت الموجودين وهي تركض نحوه بلهفة أم مفجوعــة على فلذة كبدها :
-أوس ، ابنــــــــــــــــي !!!
تسمرت تقى في مكانها على إثر الصرختين ..
وشعرت بهزة عنيفة تجتاح روحها قبل جسدها ..
تلاحقت أنفاسها بذعـــر ، وإستدارت ببطء للخلف ، وعقدت كفيها المرتعشين معاً بعد أن أغمضت عينيها جبراً ...
فتحت عينيها بحذر ، وشهقت مصعوقة حينما رأته مسجى على الأرضية ، وإتسعت حدقتيها بخوف حقيقي عليه ، وهتفت بإسمه :
-أوس ....!!!
ثم ركضت نحوه وهي تصرخ بجنون :
-أوس .. لأ.. ماتسبنيش وتروح ...!!
جثت على ركبتيها أمامه .. ومدت ذراعيها نحوه ، وأمسكت بجسده الذي يهتز بعنف وصاحت بصوت متشنج :
-انت بتعمل فيا كده ليه ؟
امتزجت عبراتها الحارقة بصوتها المختنق وهي ترفعه نحوها لتضمه إلى صدرها :
-ليه رابطني دايماً بيك ؟ ليه كل ما أخد قرار وأبعد بترجعني تاني ؟ لييييه ؟ رد عليا ليه ؟ قـــوم يا أوس وكلمني ! متعملش فيا كده
تمسكت تهاني هي الأخـــرى به ، وصاحت بصوتها الباكي :
-الحقوا ابني ، هايروح مني يا ناس
إنقلب المخفر رأســـاً على عقب ، وسادت حالة من الهرج في الرواق ..
ركض عدي نحو رفيقه ، ونظر بذهــول لحالته .. وجثى هو الأخر على ركبتيه ، وهتف بإهتياج :
-أوس .. رد عليا ، حصلك ايه ، أنا كنت واقف برا وسايبك كويس ، مالك ؟ أوس .. سامعني !
اخـــرج هاتفه المحمول ليهاتف الطبيب مؤنس على الفور ...
هتف وكيل النيابة الذي إنضم للمتواجدين بصوت صـــارم :
-الاسعاف بسرعة هنا !
فزع المحامي منعم من رؤية رب عمله على تلك الحالة ، وأصابته حالة من البلاهة وهو يتطلع إليه ..
مــــرت الدقائق على الجميع كأنها سنوات ..
احتضنت تقى أوس بذراعيها ، وأسندت رأسه على قلبها ، وهمست له بنشيج :
-ماتسبنيش الوقتي !
رمقتها تهاني بنظرات معاتبة ، وحملتها اللوم قائلة بصوت باكي :
-ليه قاسيتي عليه يا تقى ؟ ليه جيتي عليه وهو اتغير عشانك ؟
زاد عتاب خالتها من تأنيب ضميرها ، ومن شدة عبراتها ، ومن الآلم الذي يعذب روحها المنهكة ..
نعم خالتها على حق .. فهي لا تمهله الفرصة لإظهار شخصيته التي تغيرت ، وتصده عنها بقسوة كلما أتيحت لها الفرصة حتى قتلته تلك المرة بنفسها .....
........................
بعد لحظات حضرت سيارة الإسعاف ليترجل منها المسعفون على الفور ، وقاموا برفع جسد أوس بحذر ، ووضعه على الرافعة الطبية ، ثم ركضوا به نحو السيارة ..
لحقت بهم تقى ، وهمست بإستعطاف باكي وهي تقف خلفهم :
-خدوني معاه ، أنا .. أنا مراته
نظر لها المسعف بإشفاق ، وأشار بيده قائلاً :
-اركبي يا مدام
ثم عاونها على الصعود على متن السيارة ، وأغلق الباب خلفها ..
ركبت تهاني مع عدي في سيارته الخـــاصة ، وأدار الأخير المحرك لينطلق خلف سيارة الإسعاف ، وهاتف في الطريق الطبيب مؤنس ليبلغه بتطور حـــالة أوس للأســـوأ ...
جلست تقى على المقعد الجلدي الملاصق للتروللي الطبي ..
ومسحت بكفها عبراتها لتنظر إلى أوس بندم واضح من حدقتيها الحمراوتين .. ثم مدت يدها لتمسك بكفه المسنود إلى جانبه ..
نظر لها المسعف بأسف على حالتها ، وتنحنح قائلاً بصوت خشن :
-اهدي يا مدام ، احنا هانعمل اللي علينا !
لم تصغ إليه ، ولم تنتبه إلى حديثه .. فقد كانت محدقة بمن جرحته عمداً ، وقتلته بكلماتها ..
ضغطت بأصابعها المرتجفة على قبضته الباردة ، وهمست بنحيب لعله يسمعها :
-أنا معاك ومش هاسيبك .. خليك معايا ، وآآ...
رفعت كفه البارد إلى وجهها ، وتلمست به وجنتها الملتهبة و المبللة بعبراتها .. وأضافت بصوتها المختنق :
-ومع .. ابننا اللي جـــاي .. !!
أغمضت عينيها لتكمل بأنين واضح في نبرتها :
-ايوه ابننا .. أنا .. أنا حامل يا أوس ........................................ !!