رواية وانحنت لاجلها الذئاب الجزء الثالث من (سلسلة الذئاب) الفصل الثالث عشر
في مشفى الجندي الخـــاص ،،،
لم يترك أوس المجـــال لأبيه مهاب لكي يضيف كلمة أخــرى تحمل الإهانة إلى زوجته ، فأولاه ظهره ، وقبض على كف تقى بأصابعه أكثر ليضمن عدم إفلاتها منه ، وتحرك نحو باب الغرفة بخطوات قوية ساحباً إياها خلفه ليترك والده بمفرده في حالة عصبية شديدة يسب ويلعن بسخط جلي ....
ورغم الوخــزات التي تحدث آلماً في صدره ، إلا آلم إهانة زوجته أكبر من أي شيء ..
تحامل على نفسه حتى وصـل بها إلى المصعد .. فإلتقى به الطبيب مؤنس وسأله متوجساً :
-رايح فين يا أوس باشا ؟
رمقه بنظرات محتقنة، ولم يجبه ، فعاود سؤاله بصيغة أخــرى :
-ماينفعش تمشي وانت في الحالة دي ، كده ممكن آآآ...
قاطعه بصوت غاضب وهو يجز على أسنانه بقوة :
-ششش .. مش هاستنى لحظة واحدة هنا ، حتى لو كان فيها موتي !
انقبض قلب تقى ، وزادت رجفته عقب تلك العبارة الأخيرة ..
ونظرت له بخوف واضح في عينيها الدامعتين .. ثم أطرقت رأسها للأسفل في خزي ، وابتلعت في حلقها مرارة القهر و الخزي .. فهي دوماً تجد من يشعرها بدونيتها وحقارتها ..
وصـل المصعد إلى الطابق ، وفتحت أبوابه على مصرعيها ، فدلف أوس داخله وهو ممسك بتقى التي كانت مستسلمة في حركاتها ..
نظر نحوها فوجدها على حالتها الحزينة تلك ، فأدرك مدى تأثير كلمات والده الموجعة عليها ، فنفخ بتنهيدة حارقة ، وإستدار قليلاً بجسده ليقف قبالتها ، ثم رفع كفه نحو ذقنها ليرفع رأسها نحوه ، وهمس لها قائلاً بحذر :
-انسي اي كلام اتقال جوا ، محدش هايقدر يلمسك طول ما أنا موجود
وكـــأن كلماته كانت القشة التي منحتها الفرصة للبكاء أمــامه بقهر أكثر ، وظلت تشهق بأنين موجع ..
شعر بآلمها ، وبروحها التي تحترق من الذل والمهانة ، فلف ذراعه الأخر حولها ، وقربها أكثر إلى أحضانه ، وألصق صدرها في كتفه لتبكي عليه ، ومسح على ظهرها بنعومة .. وهو يحاول السيطرة على أعصابه المشتعلة أمامها ..
قبل كفها قبلة مطولة ، وكـــز على أسنانه قائلاً بحرص في محاولة يائسة منه للتهوين عليها :
-ماتعيطيش يا تقى ، متخليش حد يهزك ، انتي مراتي ، وكرامتك دلوقتي من كرامتي ، وأي حد هايتعرضلك كأنه جه عليا !
صمت لثانية ليحدق أمامه بنظرات مميتة ، وتابع بوعيد :
-وأنا مش بأسامح في اللي يخصني !
..............................
في نفس التوقيت كان عدي يقف أمـــام المصعد الموجود في طابق الإستقبال لكي يصعد للإطمئنان على أوس .. فإذ بـــه يتفاجيء بوجوده بداخله حينما فتحت أبوابه ..
نظر له مدهوشاً وهو يردد بصدمة :
-أوس !
لاحظ إحتضانه لتقى ولبكائه الشديد ، فتسائل متوجساً وهو يوزع أنظاره بينهما :
-حصل ايه ؟
رد عليه أوس متسائلاً بجمود ، ونظراته أدعى للقلق :
-عدي ، معاك العربية ؟
أومـــأ رفيقه برأسه قائلاً بإيجاز :
-ايوه
تابع قائلاً بصوت صـــارم وهو يخرج من المصعد وزوجته مستندة إلى صدره :
-هاتها قدام البوابة ، ووصلنا على بيتي !
تسائل عدي بصوت منزعج رامقاً الاثنين بنظرات غامضة :
-انت .. انت هتسيب المستشفى في حالتك دي ؟
حدجه أوس بنظرات قوية ، وهتف بنفاذ صبر :
-عدي ، أنا مش هارغي كتير ، هات العربية !
ضغط رفيقه على شفتيه ، وتشدق قائلاً :
-اوكي .. اللي انت عاوزه !
ثم أســـــرع في خطواته ليحضر سيارته الخاصة ..
كذلك صُدم معظم المتواجدين في الإستقبال بوجود أوس سائراً على قدميه ، ومحتضناً لزوجته ، وكأنه يحميها منهم .. فصدرت همهمات جانبية عنهما ، ولكن لم يجرؤ أحد على الوقوف في طريقه أو حتى ســؤاله ..
...............................
بعد أقل من دقيقتين ، كان أوس يجلس في المقعد الأمـــامي في سيارة عدي ، وفي الخلف تقى وهي عابسة الوجـــه ..
تحرك رفيقه بها نحو وجهته دون أن يضيف أي أسئلة تزيد من توتر الأجواء ..
ضغط أوس على أصابعه بقوة محاولاً التنفيس عن غضبه ..
وتسائل بصوت متحشرج :
-معاك سيجارة ؟
نظر له عدي مصدوماً ، وسأله بإستغراب شديد :
-انت هتدخن الوقتي ؟
زفــــر بصوت مسموع وهو يجيبه بنبرة محتدة :
-أنا مش طايق نفسي
مط عدي فمه ليضيف بنبرة منزعجة :
-ما انت لو تفهمني حصل ايه وآآ..
أشـــار له أوس بعينيه بنظرات ذات مغزى نحو تقى ، ففهم الأخير على الفور أن الأمر يخصها .. لذا اقتضب حديثه ، واكتفى بالتعليق بحذر :
-مافيش داعي وانت لسه في حالتك دي
نفخ أوس من الضيق ، وأدار رأسه للجانب لينظر للطريق عبر زجــاج نافذته ..
.......................................
في منزل عبد الحق بالزقـــاق الشعبي ،،،
مدت إحســـان يدها بكوب الشاي الساخن إلى القابلة أم نجـــاح ، وأردفت قائلة بمعاتبة زائفة :
-بقى كده ماتجيش يا ولية ، وتسيبني ملطوعة أستناكي !
تناولته منها ، وأسبلت عينيها لتقول مبررة :
-وحياتك يا ست إحسان مافضيت خالص ، العيال قاطمين وسطي وآآ...
قاطعتها بنبرة جادة وهي محدقة بها :
-سيبك من الكلام اللي لا هيودي ولا هايجيب ، أنا كنت عاوزة أسألك في حاجة كده !
قطبت أم نجاح جبينها ، وتسائلت بهدوء :
-خير يا ستي ؟
ردت عليها بنبرة لئيمة وقد تحولت نظراتها للقتامة :
-البت بطة
ازدردت أم نجاح ريقها ، وتبدلت ملامح وجهها للقلق والإنزعـــاج ، وتسائلت متوجسة :
-مــ... مالها ؟
أخفضت نبرة صوتها لتتابع بخبث :
-مخابيش عليكي ، ابني قالي على كلام كده مفهمتوش ، فقولت اسألك انتي
فغرت فمها مصدومة وهي تردد بقلق :
-هـــاه .. آآ..
سألتها إحســـان بصوت قاتم دون أنترمش بعينيها :
-ايه حكايتها معاكي بالظبط ؟
تلعثمت أم نجاح وبدت مضطربة وهي تحاول إختلاق أي كذبة مقنعة ..
-آآآ..هو .. مش سقطت وآآ..
قاطعتها إحســـان بصوت غليظ :
-بصي من الأخــر كده ، أنا ابني مابيخبيش عني حاجة تخصه حتى لو كانت ايه !
ثم زادت من صلابة نبرتها وهي تتابع بثقة :
-وحكايتك معاها أنا كشفتها
تعرقت أم نجـــاح بشدة ، وجف حلقها .. فقد وقعت بسهولة في فخ جارتها التي خدعتها بكلماتها الواثقة .. وهتفت محتجة :
-أنا .. أنا ماليش دعوة ، وحذرتها من الأول !
أدركت إحســـان أن هناك ملعوباً خفياً قد صــار من وراء ظهرها ، فتشنجت قسمات وجهها ، وصرت على أسنانها لتصيح بغضب :
-انطقي يا ولية ، عملتوا ايه سوا ؟
..........................................
عند مشفى الجندي الخـــاص ،،،،
استطــــاع أحمد أن يدلف بسهولة إلى داخل المشفى دون أن يمنعه أحد ، فشعر بالإرتياح لقرب تحقيق غرضه ..
ولكن سريعاً ما تلاشت أحلامه حينما عرف برحيل أوس المفاجيء ، فأسند كفي يده على السطح الرخامي لمكتب الإستقبال ، وهتف مصدوماً وهو جاحظ العينين :
-مشى !! امتى ؟
ردت عليه الممرضة بهدوء وهي تسند سماعة الهاتف على كتفها :
-من شوية
أكمل قائلاً بذهـــول وهو يفرك فروة رأســـه بعصبية :
-كده عادي ، من .. من غير ما حد يمنعه !
رمقته الممرضة بنظرات حادة لتجيبه بصوت شبه منزعج :
-والله هو حر في تصرفاته !
ضرب بقبضته على السطح الرخامي ، وأولاها ظهره ليقول بضجر :
-يادي النحس ، مش عــارف أقابله خالص ! أووف ، مقدميش دلوقتي غير أفضل قدام الشركة لحد ما أوصله ، ده الحل الوحيد اللي قصادي ...!
......................................
في منزل أوس الجديد ،،،،
أوصــل عدي أوس وتقى إلى البناية الحديثة التي يقطنان بها ، وما إن تأكد من صعودها إلى المنزل حتى استقل سيارته عائداً إلى الشركة ..
بدى التعب والإنهـــاك ظاهراً عليه ، ولكنه تحامل أكثر حتى لا يسبب القلق لتقى التي كانت في حالة يرثى لها ..
مد يده داخل جيبه ليخرج ميدالية مفاتيحه ، ومن ثم دس مفتاح المنزل في موضعه لينفتح الباب ..
تنحى جانباً ، وأشـــار بيده لتقى وهو يقول بهدوء :
-تعالي ..
ترددت في الدخـــول .. وإنكمشت على نفسها أكثر ..
شعور بالرهبة يسيطر عليها من الآن ..
لاحظ إرتباكها ، فتابع قائلاً بتنهيدة :
-احنا هنا بُعاد عن أي قلق .. اطمني
مـــد كفه نحوها ، فنظرت له بتوتر ، ثم سلطت أنظارها مدخل المنزل المظلم ..
لم يمهلها الفرصة للتفكير ، فإلتقط كفها بأصابعه ، وسحبها ببطء للداخل ..
جابت تقى بعينيها المكان ، وحبست أنفاسها بترقب ..
تأملها أوس بحذر ، وبحث بأصابعه عن مفتاح الإنارة ليضيء بهو المنزل ..
أُضيئت الصـــالة ، فرمشت هي بعينيها لتعتاد على الإضاءة القوية ..
وابتلعت ريقها بإرتباك بعد أن سمعت صوت غلق الباب من خلفها ....
ألقى أوس بالمفاتيح على الطاولة القريبة ، وتحرك للأمـــام نحو أقرب أريكة ..
ظلت هي متسمرة في مكانها محاولة إستجماع شجاعتها للتحرك خلفه ..
لم يحــــاول الضغط عليها ، أو جبرها على اللحاق به ..
اكتفى فقط بإختلاس النظرات نحوها ليخمن شعورها نحو بقائهما بمفردهما في المنزل ..
جاهدت تقى لصرف تفكيرها عن أي أفكـــار مزعجة .. وتنفست بعمق وهي تجوب بعينيها أرجــاء الصالة الخارجية ..
ظلت تطمئن نفسها بأن كل شيء على ما يرام ...
احنى أوس رأســـه للأمام ، وأغمض عينيه للحظات .. فقد أنهكته الحركة الزائدة ..
زادت حدة الوخــزات في صدره ، فأسند قبضته المتكورة عليه ، وضغط على شفتيه مقاوماً الآلم به ..
وقعت عينيها عليه ، فخفق قلبها بقوة وهي تراه على حالته تلك ، واقتربت منه بحذر لتسأله بصوت مرتبك :
-انت .. انت كويس
لم يرفع رأســـه ، ولم يعلق وظل على وضعيته الصامتة تلك .. فزاد قلقها أكثر عليه ..
اقتربت منه بخطوات بطيئة ، ومع هذا كانت دقـــات قلبها في تســـارع حتى كادت أن تخترق أذنيها ..
تقلصت المسافة بينهما بدرجة كبيرة حتى أصبحت على بعد إنش منه ..
مدت يدها المرتجفة نحوه ، وأسندتها على كتفه لتضغط عليه برفق .. وسألته بخفوت وهي تبتلع ريقها :
-انت .. انت تعبان ؟
هــــز رأســه قليلاً وهو يجيبها بهمس :
-شوية
ربتت على كتفه بحنو ، وتابعت قائلة بقلق بادي في نبرتها ونظراتها :
-طب .. طب ادخل ارتــاح جوا
تنهد بعمق ، وأجابها بصوت منخفض وشبه متقطع وهو مغمض العينين :
-أنا .. أنا مش عاوز أسيبك لوحدك
هتفت قائلة بإصرار وهي تتطلع إليه بريبة :
-أنا كويسة ، خش ارتاح انت
هز رأســـه مجدداً ، ثم أنزل قبضته ليستند على مسند الأريكة ، وحاول النهوض بمفرده ، لكنه أخــذ وقتاً مطولاً ليفعل هذا ، فإرتفعت نسبة القلق لديها ..
لذا سألته عفوياً وهي تمد يدها نحوه :
-تحب أساعدك ؟
رفع رأســـه ببطء لينظر نحوها بحنو .. ورسم ابتسامة هادئة على ثغره وهو يجيبها هامساً :
-أنا كويس ، متقلقيش
أخفض رأسه للأسفل ، وكـــز على أسنانه بعد أن تشنجت تعابير وجهه وهو ينهض عن الأريكة ..
أصرت تقى على مساعدته ، وهتفت بجدية استغربها :
-طب هات ايدك ، أنا هاسندك !
ضاقت عينيه بإندهـــاش ، ونظر إلى أصابعها الممدودة نحوه بدقة .. وزادت إبتسامته الهادئة إشراقاً ، وقبل بعرضها ، وأمسك بكفها ..
وضعت تقى كفها الأخــر أسفل مرفقه لتتمكن من إيقافه ، ولكنها لم تتوقع قدر القوة التي تحتاجها لفعل هذا وهي في حالتها الواهنة تلك ، فسقطت عفوياً بجسدها عليه ، فإرتطمت بذراعه وصدره .. فتأوه متألماً من تلك الحركة المباغتة ، ومع هذا أسندها بذراعه الأخـــر .. وتلمس جبينها شفتيه ، فرفعت رأسها لتنظر نحوه ، فرأته عينيه عن قرب شديد تغازلان عينيها بشغف صـــادق ...
توردت وجنتيها حرجاً منه ، وهمست معتذرة بتلعثم وهي تعتدل في وقفتها :
-أسفة .. أنا ..آآ.. مقصدش
مازحها أوس قائلاً بمرح وهو يطالعها بنظراته الشغوفة :
-من أولها كده .. حملك عليا ، أنا مش هاقدر على الحركات دي !
أجفلت عينيها لتتجنب نظراته المحدقة به .. وأمسكت بكفه ، وهمست بجدية زائفة :
-يالا ..!
ابتسم لها متنهداً بشوق :
-ماشي
وبالفعل نهض من على الأريكة ، وظلت هي ممسكة بكفه ، ومسندة إياه وهما يتحركان سوياً نحو غرفة النوم ..
تعمد أوس السير ببطء لينعم بأكثر وقت بقربها وهي لا تهابه أو تخشـــاه ..
شعور طاغي بالسعادة يتخلل كيانه وهو يرى لهفتها الواضحة في تصرفاتها معه ..
تنهد بإرتيـــاح لقراره الصائب بالبعد عن أي مصدر للتوتر في هذا الوقت الحرج ليبدأ معها مرحلة أخرى جديدة تعيد ترميم العلاقة بينهما .................................
في منزل أوس الجديد ،،،
تحرك أوس بخطوات بطيئة وحـــذرة في إتجـــاه غرفة النوم ، وكانت تقــى تسنده من ذراعه الأيمن ، أو هكذا ظنت ..
تنهد بعمق ، وأردف قائلاً بصوت شبه متحشرج :
-شوية وهاكلم عفاف وأرتب معاها تيجي هنا ، وهابعت لماريا عشان تقعد معاكي وأنا مش موجود
هزت رأسها لتردد بخفوت :
-أهــا ..
فتح أوس باب غرفة النوم .. فترددت تقــى في الدخـــول ، وشعر بإرتجافة أصابعها على مرفقه ، فنظر لها بطرف عينه ، فلمح نظرات الخوف في عينيها ، وفهم سريعاً سبب رهبتها تلك .. فعض على شفته السفلى بضيق ، وأخذ نفساً عميقاً ، وحبسه في صدره ليسيطر على هدوئه أمامها .. ثم سحب جسده بهدوء ، وهتف قائلاً بصوت خافت :
-أنا هادخل لوحدي !
ولم ينتظر منها أي رد حيث تحرك فـــوراً للأمـــام ، ودلف إلى داخل الغرفة بمفرده ..
أطرقت رأســـها خجلاً منه .. هو فهم مرادها دون الحاجة للتبرير ..
وضمت أصابع يديها معاً لتفركهما في حيرة ..
ثم ضغطت على شفتيها وغمغمت مع نفسها بتوبيخ :
-خشي يا تقى ، مافيش حاجة تخوف جوا !
جلس أوس على الفراش وهو يستند بكفيه عليه ، وتــأوه بصوت خافت وهو يحاول الإنتصاب بظهره ..
فتلك الوخزات لا تزال تسبب له الوجع ..
وضع يده على قميصه ليبدأ في حل أزراره .. وما إن انتهى حتى حـــاول إنتزاعه من عليه بحذر ، لكنه لم يتمكن بسبب الآلم الشديد ..
فاحنى رأسه للأمـــام .. وأغمض عينيه مجدداً
شعـــر بلمسة رقيقة على كتفه ، ففتح عينيه ببطء ليجدها واقفة أمـــامه ، وترمقه بنظرات عادية ..
تفاجيء من حضورها بالغرفة ، واعتلى وجهه نظرات مصدومة ..
أشــارت بإصبعها قائلة بهدوء :
-أنا هساعدك
نظر لها غير مصدق وجودها ، ورد عليها بصوت خافت :
-مش مشكلة ، الوقتي هاقلعه
تابعت قائلة بإصرار :
-انت مش هاتعرف
ابتسم لها ابتسامة باهتة ، واعترض بهدوء :
-متقلقيش ، هاتصرف !
عبست بوجهها ، وأردفت قائلة بجدية :
-خلاص بقى
استسلم أوس لإصرارها الذي فاجئه ، وراقبها في صمت .. بينما مدت تقى كفها ، وأمسكت بمرفقه الأيسر ، ورفعته للأعلى ، وقامت بحل زرار ساعده ، ثم قامت بثني ذراعه لتتمكن من إخــراج كم القميص منه ..
ركزت تقى كل تفكيرها فيما تفعله ، ولم تنتبه لنظراته الممعنة التي تنطق صراحة بحبه الشغوف لها ، وإشتياقه الرهيب للاستمتاع بملمس بشرتها ..
ود لو أخفضت رأسها قليلاً ، وأسندته على صدره ، لتستمع إلى دقــات قلبه التي تهتف بإسمها ، فتتأكد من استعداده التام ليفتاديها بروحه لأجلها ..
بحــذر شديد أزاحت قميصه عن كتفه الأيسر ليبدو أمامها صدره بجراحه المضمدة ، وتلمست دون قصد صدره وكتفه .. فزادت رغبته فيها .. وشوقه إليها .. وجاهد ليصرف عن تفكيره أي أفكـــار قد تفسد تلك الأجواء المميزة بينهما .. وظل يتنهد بحرارة وهو يتحاشى النظر نحوها حتى لا تكشفه نظراته المتلهفة إليها ......
.....................................
في منزل عبد الحق بالزقـــاق الشعبي ،،،،
شهقت إحســــان مصدومة ، واتسعت حدقتيها بذهـــول كبير ولطمت على صدرها بقوة بعد أن سردت لها القابلة أم نجــاح ما اتفقت عليه مع زوجة ابنها بطة ..
نهضت عن الأريكة ، ورمقتها بنظرات مميتة وهي توبخها بعنف :
-بقى انتي يا أم نجاح تسلمي دقنك لحتة بت زي دي
نهضت أم نجاح هي الأخرى من مكانها ، وهتفت مدافعة :
-يا ست أم عبده ، أنا ماليش دعوة هي قالتلي إنـ ..آآ....
قاطعتها بنبرة حـــادة وهي تلوح بذراعها :
-متكمليش ، اشحال مكوناش اكلين عيش وملح مع بعض
بررت لها أم نجــــاح بإصرار :
-هي كان غرضها آآ...
قاطعتها بصوت غاضب وهي توليها ظهرها :
-بس مش عاوزة اسمع حاجة ، كفاية اللي عرفته
وقفت خلفها ، وإستأنفت حديثها بقلق ، خاصة بعد أن أدركت المشكلة التي تسببت في إحداثها :
-اهدي بس يا ست أم عبده ، ماتخديش الأمور كده ، هي عيلة وغلطت ، وإنتي برضك حماتها ، وهتعرفي تربيها
ضاقت عيني إحسان بنظرات شيطانية مخيفة ، وغمغمت بنبرة عدائية :
-ده أنا هوريها على اللي عملته فيا !
ثم أمسكت بخصلة من خصلات شعرها ، وتابعت بتوعد وهي تهزها :
-وحياة مقاصيصي دول لأندمها
ابتلعت أم نجــــاح ريقها بتوتر ، وحركت ثغرها للجانبين بحركة منزعجة ، وهمست لنفسها:
-ربنا يستر من اللي جــاي !
.................................................
في منزل أوس الجديد ،،،،
انتهت تقــى من نزع الجانب الأول من قميصه ، وتحركت خطوتين للخلف لتتمكن من الإستدارة للجانب الأخــر لتكمل عملها معه ..
نظرت إلى أوس الذي تحاشى النظر إليها ، ورأته محدقاً بالأسفل .. فقطبت جبينها في إستغراب منه .. وشعرت بسخونة حارة تنبعث من جسده لتؤثر عليها ، فأصابها القلق ، وســألته بإهتمام وهي تتطلع إليه :
-انت .. انت كويس ؟
هـــز رأســـه بخفة ، ولم ينظر نحوها .. فشعرت بالغموض ..
عضت على شفتها السفلى بحيرة ، وســألته مجدداً بفضول وهي تتحسس جبهته :
-في حاجة تعباك ؟
دبت قشعريرة قوية هزت جســـد أوس بإحســـاس رهيب بعد حركتها المباغتة والعفوية تلك ..
رفع رأسه تلقائياً نحوها ليتأملها عن قرب ، فزادت نظراته العاشقة إليها بريقاً وإشراقاً .. وتأججت مشاعره نحوها بصورة جامحة ..
أكملت حديثها قائلة بنعومة :
-لو حاسس إنك عاوز دكتور قول !
تنهد بصوت مسموع وهو يهز رأسه نافياً ليقول بصعوبة موجزة محاولاً كبت مشاعره بأقصى ما يستطيع :
-لأ ..
أضافت قائلة بهدوء :
-موبايلك وحاجتك عند ماما ، أنا .. هبقى أرجعالك
نظر لها بإستغراب ، وسألها محاولاً فهم ما لفظته تواً :
-حاجتي ؟
هزت رأسها عدة مرات بصورة متتالية وهي تجيبه بلا تردد ومشيرة بيدها :
-ايوه ، يوم الحادثة ، كانوا معايا ، بس أنا سبتهم في البيت ، ومكونتش اعرف اننا هنشوف بعض تاني عشان أجيبهم وأديهوملك
التوى فمه بإبتسامة مغرية لعفويتها في الحديث ..
شعرت تقــى بدوار يصيبها نتيجة تلك الحركة الزائدة في رأسها ، فأغمضت عينيها للحظة ، ورفعت إصبعيها للأعلى لتمسك بجبينها .. فتبدلت نظرات أوس للخوف ، وتسائل بتلهف :
-تقى ، مالك ؟
لم تتناول تقى أي شيء منذ الصباح ، وتأثيرات هرمونات الحمل وتغيراتها انعكست بصورة قوية عليها .. فلم تتمكن من الحفاظ على اتزانها ، وبدت على وشك فقدان وعيها ..
نظر لها أوس بهلع ، وأسرع بمد ذراعه ليمسك بها قبل أن تسقط .. فهوت مغشية عليها في أحضـــانه ..
أحاطها أوس بذراعيه ، وكافح ليتغلب على آلمه حتى يتمكن من رفعها على الفراش ..
وبالفعل أسندها بحذر عليه ، وجلس إلى جوارها ، وأمسك بكفها براحته ، وبكفه الأخـــر ضرب وجنتها برفق محاولاً إفاقتها وهو يهمس لها بخوف بائن في نبرته :
-تقــى .. تقى ، سمعاني يا حبيبتي .. ردي عليا ، في ايه ؟
أدار رأســـه في أنحاء الغرفة محاولاً التفكير في حل سريع ..
وقعت عينيه على التسريحة ، ولمح زجاجات العطر المتراصة عليه ..
فهب واقفاً من على الفراش ، وضغط على شفتيه بقسوة نتيجة تلك الوخــزة القوية التي أصابته بسبب حركته المفاجئة ..
تحامل على نفسه ، وأســرع في خطواته ليمسك بالزجاجة ، وعــاد ليجلس على الفراش ، ثم نزع الغطاء عنها ، ورش العطر على أصابع يده ، ثم قرب كفه من أنفها ، وحاول دفعها لإستنشاقه وهو يرفع رأسها نحوه بيده الأخــرى ..
لحظات عصيبة مرت عليه وهو يُفيقها ..
استجابت له ، وتأوهت بخفوت ، وفتحت عينيها بتثاقل لتجد نفسها ممددة على الفراش ، وهو محني عليها برأسه ، فتسائلت بصوت ضعيف وهي تحاول إستيعاب الموقف :
-هو في ايه ؟
وجدته يتطلع إليها بأعين شبه دامعة ، فإستأنفت قائلة بتلقائية وهي تشير بإصبعها :
-مش انا كنت واقفة هناك ، وانت كنت أعد وآآ..
لم يصغْ إلى بقية حديثها ، بل مـــال أكثر على رأسها ، واحتضن وجهها بكفيه ، ثم طبع قبلة مطولة على جبينها ، وهمس لها بحرارة :
-يــــاه ، خضتيني عليكي ! متعمليش فيا ده تاني !
تعجبت مما فعله ومما يقوله ، وتسائلت بحيرة مع نفسها عما حدث ليردد تلك العبارات ..
أرجع رأســه للخلف ، وأوضح لها قائلاً بإبتسامة خفيفة :
-انتي اغمى عليكي ، وأنا كنت بأفَوَقك !
بدت كالبلهاء وهي تستمع إليه ، وفغرت شفتيها قليلاً ، فزادت إبتسامته إشراقاً ، وأخذ نفساً عميقاً ، وزفره مرة واحدة .. ثم مسح بإبهامه على شفتها السفلى ، وتابع قائلاً بمزاح :
-شكل حملك هيطلع عليا أنا ..!
...................................................
في مشفى الأمراض النفسية ،،،
ظل عــدي يهز ساقيه بعصبية واضحة وهو جالس على المقعد المقابل لمكتب الطبيب المعالج لزوجته ليـــان ..
تلفت حــوله ليدقق في اللوحات المعلقة على الحوائط ..
دلف الطبيب إلى الداخل ، وهو يرسم على ثغره ابتسامة مصطنعة ، وأردف قائلاً بهدوء وهو يشير بيده :
-اتفضل ، هاتقدر تقابلها الوقتي
انتفض من مقعده ، وتنفس بعمق وهو يسير في إتجاهه ..
تابع الطبيب محذراً :
-اهم حاجة حضرتك ماتنفعلش أو تبين تأثرك لو صدر منها حاجة عكس اللي انت متوقعه
رد عليه بتلهف واضح في نبرته ونظراته :
-مش مهم اي حاجة تعملها ، أنا عاوز أطمن عليها بس
أومـــأ برأســه مكملاً بجدية موجزة وهو يشير بكفه :
-تمام .. اتفضل معايا
...........................................
كانت ليــــان جالسة على المقعد الخشبي في الحديقة المزهــرة عاقدة لساعديها أمام صدرها ، ومحدقة أمامها بنظرات هائمة .. وتاركة لخصلات شعرها العنان ليعبث بها الهواء كيفما يشـــاء ..
رأهــا عدي من على بعد ، فخفق قلبه تلهفاً إليها .. لقد مرت فترة منذ رأهــا عن قرب .. وتلك هي المرة الأولى التي سيجلس فيها معها بعد فترة ليست بقليلة من العلاج النفسي المكثف ..
رفـــع يده ليمسح على فروة رأســـه بتوتر .. وأخــذ نفساً عميقاً حبسه لثوانٍ في صدره ، ثم أطلقه دفعة واحدة وهو يخطو نحوها ...
وقف خلفها .. وتأملها مطولاً دون أن يصدر أي جلبة ..
ثم تحرك بحذر للجانب ليجلس إلى جوارها ..
لم ينبس بكلمة واحدة ، وظل محدقاً بها ..
كم إشتاق إلى رؤية ابتسامتها ، وإشراقة عينيها ..
أدرك اليوم بحماس حقيقي لماذا شقيقها ورفيقه أوس متعلقاً بزوجته بجنون ..
انتبهت ليـــان لوجود شخص ما على مقربة منها ، فأدارت رأسها في اتجاهه لتجده مسلطاً أنظاره عليها ..
كانت نظراتها جافة وتعابير وجهها جامدة ..
ورغم هذا بدت مهتمة للحديث معه ..
سألته بقسوة أرهبته :
-جاي ليه ؟
ورغم كلماتها المقتضبة إليه ، إلا أنها تحمل اللوم والتوبيخ الشديدين له ..
ابتلع غصة مريرة في حلقه ، ورد عليها بحذر :
-عشان اطمن عليكي
إلتوى ثغرها بإبتسامة استخفاف ، وأشاحت بوجهها بعيداً عنه ، وتابع بفتور :
-اطمن ! أنا عايشة لسه ، ومش محتاجة لحد !
آلمته كلماتها ، وتشدق قائلاً بحرص :
-ليــان ! أنا عارف إني .. إني خدعتك وآآ.. وعملت عليكي ملعوب عشان تتجوزيني ، بس أنا .. أنا مكونتش أعرف إنك ضحية فعلاً لشوية الـ ...آآآ
قاطعته بصوت بــــارد وهي تنظر أمامها بنظرات خاوية :
-ششش .. مش عاوزة أسمع حاجة ، أنا رميت كل ده ورا ضهري !
أخـــذ نفساً عميقاً ليسيطر على هدوئه .. وتذكر كلمات طبيبها المحذرة من ردود فعلها الغير متوقعة إن تجاوز في حديثه معها وإنفعل بلا مبرر ..
أطرق رأسه للأسفل ، وفرك أصابع كفيه بعصبية وهو يكمل بخفوت :
-حقك تعملي أكتر من كده .. أنا عاذرك ! وحاسس باللي جواكي ناحيتي
نهضت من على المقعد ، وســارت إلى الأمـــام ، فسلط أنظاره عليها ، ونهض خلفها ليتبعها ..
توقفت أمـــام وردة حمراء تتوسط عدة شجيرات .. وظلت تتأملها بتمعن شديد ..
ثم مدت أصابعها لتلمسها بحذر ..
راقبها عدي بإستغراب .. وقطب جبينه محاولاً فهم ما تفعله ..
وفجـــأة إقتلعتها من مكانها ، وأطبقت عليها بكفها لتتمزق أوراقها المزهرة ، وإستدارت نحوه لتصيح بصوت شبه محتد وهي ترفعها أمامه :
-انا احساسي معاك بالظبط زي الوردة دي !
ثم ألقتها في وجهه ، ورمقته بنظرات قاسية قبل أن تتركه بمفرده وتركض مبتعدة ...
أغمض عدي عينيه نادماً ، واستشعر بقلب حقيقي إحساسها نحوه ..
أنبه ضميره على فعلته .. ومنع نفسه من الإنفعال ..
ثم انحنى بجذعه للأسفل ليلتقط الوردة من على الأرضية العشبية .. ونظر لها بأسف .. وتمتم مع نفسه بغصة مريرة :
-أنا أسـف يا ليان ! انا كنت السبب في اللي وصلتيله !
............................................
في منزل تقى عوض الله ،،،،
اتجهت فردوس إلى باب منزلها لتفتحه بعد أن استمعت إلى قرع الجرس ..
تأملت وجـــه المرأة الأنيقة التي تقف أمام عتبتها ، وسألتها بجمود :
-عاوزة مين ؟
أدارت هياتم عينيها متأملة المنزل من الداخل بإهتمام وهي تجيبها متسائلة بهدوء :
-ده بيت الست تهاني ؟
لوت فردوس فمها وهي تسألها بإمتعاض :
-اه هو ، انتي مين بقى ؟
ردت عليها بتساؤل أخـــر :
-هي موجودة ؟ ينفع أقابلها ؟
أردفت فردوس قائلة بتهكم وهي تنظر لها شزراً :
-هو كل اللي جاي البيت ده يسأل عليها بس ؟ مالكم في ايه ؟
تنحنحت هياتم بخفوت ، وأضافت قائلة بنبرة رقيقة :
-أنا عارفة إني جاية من غير ميعاد ، بس إذا سامحتي ممكن تناديلها اكلمها ضروري
سألتها فردوس بإمتعاض وهي ترمقها بنظرات متفحصة لهيئتها :
-ومين الهانم بقى ؟
ردت عليها بإبتسامة هادئة :
-قوليلها مدام هياتم ، هي هتعرفني !
تنحت فردوس للجانب لتفسح لها المجال لكي تمر ، وأشارت بيدها قائلة :
-اتفضلي
-ميرسي !
دلفت هياتم إلى الداخل ، وجابت بعينيها المكان متأملة الشكل العام له ..
بدت حذرة للغاية وهي تتحرك نحو أقرب أريكة لتجلس عليها ..
غابت فردوس في الداخل عدة دقائق لتخرج بعدها أختها تهاني وعلى ثغرها إبتسامة عريضة وهي تهتف قائلة :
-ازيك يا مدام هياتم ؟ عاش من شاف حضرتك
لمحت هياتم أختها وهي تتحرك خلفها لتراقبهما ، فنهضت من على الأريكة ، وبادلتها المصافحة والتحية ، وأكملت قائلة بجدية :
-ازيك انتي يا ست تهاني ، أنا مش هاعطلك كتير ، بس لو سمحتي محتاجة أتكلم معاكي على انفراد في موضوع مهم
سألتها تهاني متوجسة :
-موضوع ايه ده ؟
ردت عليها بإيجاز وهي تشير بعينيها :
-هاتعرفي ، بس لوحدنا !
تجهم وجــــه فردوس ، وعبست ملامحها ، وهتفت بضجر وهي تتحرك في إتجاه المطبخ :
-هاعملكم شــاي !
رسمت هياتم ابتسامة سخيفة على ثغرها لتقول بإقتضاب :
-ميرسي
هتفت تهاني بقلق :
-تعالي نتكلم جوا احسن
-أوكي
وبالفعل ولجت الاثنتين لداخل غرفة تقى ، وأوصدت تهاني الباب لتعود بعدها لتجلس إلى جوارها على الأريكة العريضة ، وتسائلت بإنزعاج :
-خير يا مدام هياتم ؟ في حاجة حصلت ؟
ضمت هياتم ساقيها معاً ، وجلست بطريقة رسمية وهي مسندة حقيبة يدها على حجرها ، وردت بجدية بالغة دون أن يهتز لها جفن :
-بصراحة كده وبدون مقدمات ، أنا جاية ابلغك رسالة مهمة !
عقدت تهاني ما بين حاجبيها ، وهتفت بإندهاش :
-رسالة !
أومـــأت هياتم برأسها ايجاباً ، وقالت :
-أيوه .. الموضوع خطير ، ومش محتاج التأجيل
سألتها تهاني بتلهف وهي ترمقها بنظرات قلقة :
-ايه هو ؟
أجابتها هياتم بصوت جـــاد وخطير :
-ناريمان هانم عاوزة تقابلك ضروري في السجن
اتسعت حدقتيها مشدوهة ، وصاحت بصدمة بادية عليها :
-بتقولي مين ......................................... ؟؟؟