رواية فوق جبال الهوان الفصل السابع عشر
مجرجرًا خفي حنين، عاد "فهيم" إلى منزله، وهو يكاد لا يصدق أنها فرط في غاليته بهذه السهولة، تخلى عنها مرغمًا ومذعنًا، لأنه ببسط عجز عن حمايتها، ومنع هؤلاء الأشداء من أخذها قسرًا .. لم تقوَ قدماه على حمله، فاستند على زوج ابنته البكرية الذي واصل عدم لومه على موقفه المتخاذل، لتأتي الكارثة الكبرى بإخبار زوجته عما آلت إليه الأمور.
تولى "راغب" الكلام، فيما جلس حماه يدفن وجهه بين راحتي يده، لتصرخ "عيشة" بعدها في لوعةٍ وقهر:
-بقى دي أخرتها؟ بنتي تتجوز بلطجي ورد اللومان؟!
ثم توجهت باللوم إلى زوجها، فأفرغت فيه غضبها المشحون بعتابها الحـــارق:
-ليه سيبتها يا "فهيم"؟ ليه؟
أجاب عنه "راغب" بشيءٍ من البرود:
-وهو كان في إيده إيه يعمله يا حماتي؟ دول ناس جبابرة، عالم مفترية، ما يقدر عليهم إلا ربنا!
بينما اغتاظت "إيمان" من رده المستفز، وسألته في نبرة شبه استحقارية:
-وإنت كان دورك إيه في الحوار ده كله؟
تحولت عيناه تجاهها، وفهم ما ترمي إليه بكلماتها الموحية، ليرد من بين أسنانه:
-مش وقت تبكيت...
ثم دنا منها ليهمس بالقرب من أذنها في امتعاضٍ:
-أنا حكايتكم كلها على بعضها ما تخصنيش، وروحت مع أبوكي علشان محدش يتكلم ويقول إني قصرت.
نظرت له شزرًا قبل أن تعقب بتعبير ازدراء مرسوم على محياها:
-لأ فيك الخير.
أخبرها بعدها بغير مبالاةٍ وهو يخرج هاتفه المحمول من جيبه:
-شوفوا هتعملوا إيه وكلموني.. أنا مصالحي متعطلة.
توجه بعدها إلى حماه وزوجته ليخاطبهما في وديةٍ مصطنعة، وتعاطفٍ زائف:
-أنا أسف يا عمي، بس هما طالبني في البنك، الظاهر في مشكلة هناك، وأنا مضطر أروح.
رفع "فهيم" وجهه إليه ليحدق فيه بعينين كسيرتين، فيما ردت عليه "عيشة" بصوتٍ مختنق:
-كتر خيرك يا ابني، إنت ملكش ذنب.
قال مجاملًا، وهو يلصق بثغره تلك الابتسامة المتكلفة:
-ما تقولوش كده، "دليلة" أختي الصغيرة، وكل حاجة هتتحل...
ليوجه بعدها كلامه إلى زوجته في لطافةٍ مصطنعة:
-خليكي إنتي يا "إيمان" مع أهلك، ما تسيبهومش، وأنا هبقى أكلمك.
كزت على أسنانها في حنقٍ، فأسرع بالمغادرة لتصفق الباب من ورائه بقوةٍ، راحت بعدها تكلم أمها بجديةٍ وهي تشير بيدها:
-ما تعوليش عليه يا ماما، احنا بقينا في مصيبة.
مسحت بكفها دمعها المسال على خديها متمتمة في حزنٍ:
-وهو احنا طايلين حد يقف معانا؟
استمعوا بعدها إلى صوت الدقات على الباب، فتساءلت "إيمان" في وجومٍ:
-وده مين اللي جاي لينا السعادي كمان؟
لم تترك الأمر يحيرها كثيرًا، فعاودت أدراجها إلى الباب لتفتحه، لتتفاجأ بوجود تلك الجارة المتطفلة عند أعتابه، وقبل أن تبادر بقول شيء، وجدتها تدفعها بقدرٍ من القوة لتزيحها عن طريقها، وتلج إلى الداخل وهي تقول بسعادة مبالغ فيها:
-إزيك يا حبيبتي، ألا صحيح الأخبار اللي مالية الحتة؟
نظروا إليها حيرى، فتابعت بنفس اللهجة المتحمسة:
-أنا قولت جاية الريس "زهير" لحد هنا وراها إنَّ، وظني ما خبش أبدًا.
انفجرت "عيشة" فيها صائحة بالتياعٍ:
-اسكتي يا ست "إعتدال"، احنا في مصيبة!
تطلعت إليها باسترابةٍ وهي تسألها:
-بقى حد يسمي الجواز مصيبة؟
جاء ردها منطقيًا:
-لما يكون من واحد زي ده!
مصمصت شفتيها مرددة بتصعبٍ مفتعل:
-يا ريت كان عندي بنت، وربنا ما كنت أعزها عليه...
اشتعلت نظرات "عيشة" غضبًا من أسلوبها هذا، وكادت تثور في وجهها حينما أضافت بطريقة موحية:
-وبعدين ده أخدها جواز، مش سد خانة!
قطبت جبينها مستفهمة لتتأكد مما وصلها من مغزى غير محمودٍ:
-قصدك إيه؟
أخبرتها صراحةً:
-يعني حلال ربنا، في النور، والكل بقى عارف بده! إنها هتكون مرات "زهير الهجام" مش واحدة مرافقها.
هنا هبت فيها صائحة بانفعالٍ:
-إنتي بتقولي إيه؟
لم يستطع "فهيم" تحمل ما يُقال، فاستأذن بالذهاب، وهو بالكاد قادرٌ على صلب جسده المتخاذل، لتساعده ابنته على السير نحو غرفته، بينما تابعت "عيشة" لومها لجارتها اللزجة:
-بقى عايزاني أرمي بنتي الرمية دي؟!!
للغرابة، أخبرتها في تفاخرٍ عجيب:
-وهي دي أي رمية؟ ده إنتو بقيتوا في حماية عيلة "الهجام" بذات نفسهم.
صاحت بها باستنكارٍ جلي:
-واحنا مش عايزين الشبكة دي؟
سألتها في استعتابٍ مستهجن:
-بقى حد يرفس النعمة برجليه؟
أخبرتها ببساطةٍ شديدة:
-لو كانت منهم، فبناقص!
في لهجةٍ محذرة أنذرتها "إعتدال" وهي ترفع حاجبها للأعلى:
-لأ إنتي غلطانة، والأحسن ما تقوليش الكلام ده قصاد حد، وإلا هيتفهم غلط، وبدل ما تكسبوا حمايتهم، تاخدوا عداوتهم...
حملقت فيها "عيشة" بنظرات نارية، لتستأنف جارتها كلامها الناصح إليها:
-وبعدين إن كان كوبارتنا هو العضلات واللي بيحمينا، فالريس "زهير" هو العقل، وده ما شاء الله عليه عقله يوزن بلد، فبنتك خدت كنز، فبلاش تضيعه من إيدها!
همت بالاعتراض عليها؛ لكن الحروف لم تغادر جوفها لأن الأخيرة استكملت حديثها بتحذيرٍ أشد:
-وخدوا بالك حكايتكم اتعرفت، ولو الجوازة اتلغت ولا حصل حاجة تعطلها، فده مش هيعدي بالساهل.
تحول غضبها إلى الخوف في غمضة عين، وسألتها بتوجسٍ:
-يعني إيه؟
رمقتها بهذه النظرة المفهومة وهي تخبرها بعبارة أخرى، معناها وصل إليها دون الحاجة للمزيد من التفسير:
-يعني احنا ولايا، وربنا أمر بالستر!
..................................
رغم خطأ تصرفه، إلا أنه كان حريصًا على إبعادها عن موضع الخطر بشكل سري، ودون أن يثير شكوك من حوله، لهذا ادعى "زهير" بطريقة مقنعة إذعانه لرغبات شقيقه في نيل مآربه منها، وذلك باختطافها جهرًا وقسرًا، ليبدو تحت طوعه.
كل ما كان عليه فعله أن يتأقلم ببساطة مع المستجدات الطارئة، ليقينه التام بردة فعل "كرم" غير المتسامحة فيما يخص شئونه، فما إن يعلن عن قبوله، واستحسانه بما فرضه عليه، سيكف عن ملاحقة الأمر بهذا الإصرار العنيد، وحين يتأكد من هدوء الأوضــاع وعودة الأمور لاستقرارها، لحظتها فقط يمكنه أن يتخلى عنها، ويدعها لشأنها، مدعيًا أنه لم يعد يكترث بأمره، ولم تعد تستهويه كما كان الأمر في السابق.
بالطبع لم يظهر نواياه لأحدهم، وطمرها في نفسه مثلما اعتاد أن يطمر ما لا يحبذ البوح به، تاركًا غيره يظن فيه ما يظنه، كان ببساطةٍ لا يهتم ولا يبالي!
والوضع كان على النقيض معها، حيث استنفر كل ما فيها عقب جملته التهديدية السابقة، وصاحت فيه بزمجرةٍ غاضبة:
-إنت مش بني آدم! إيه اللي بتقوله ده؟ بتهددني بحياة أبويا؟
نظر إليها مليًا، فواصلت "دليلة" هجومها اللفظي عليه:
-أنا لا أعرفك ولا إنت تعرفني، يبقى إزاي عجباك وعايز تتجوزني؟!!
تكلم ببرودٍ مستفز:
-أنا بعمل اللي فيه مصلحة الكل.
ازدادت غضبًا على غضب، وهدرت فيه بزئيرٍ حانق:
-نعم؟ هي دي بقى الكدبة اللي بتبرر بيها الجريمة اللي إنت عاملها؟!!!
ظل على جموده، وصلادته، فرفعت إصبعها في وجهه تهدده، وكأنها كالغريق الذي يتعلق بقشة تنجيه:
-يكون في علمك، البلد فيها قانون، وأنا هوديكم في داهية.
ابتسم هازئًا بها قبل أن يخاطبها بثقةٍ تامة تسودها لمحاتٍ من السخرية:
-القانون ده مش هيحمي حد فيكم، لأن قانون عيلة "الهجام" هو اللي ماشي، وبيسري على رقبة الكل، وأولهم عيلتك المبجلة.
هتفت فيه بانفعالٍ، وهي تطوح بيدها في الهواء:
-إنتو مفكرين نفسكم مين؟ الحاكم بأمره؟!!!
أجابها بغرورٍ:
-احنا أصحاب النفوذ والسلطة هنا.
برزت عيناها حنقًا، فأكمل متصنعًا الابتسام:
-ويمكن من سوء حظك إنك وقعتي في طريقنا.
تنفست بعمقٍ لتخنق نوبة غضب أخرى توشك على الانفجار في وجهه، واستطردت وهي تكز على أسنانها:
-تمام، إنت معاك حق، أنا فعلًا غلطانة، وبعترف إني كنت غبية لما فكرت إني بعمل الصح في يوم من الأيام، بس دلوقت عايزة أخرج من هنا وأرجع لأهلي.
انتصب في وقفته، ودس يديه في جيبي بنطاله معلقًا بهدوءٍ:
-للأسف ده مش هيحصل!
سألته بتحفزٍ، وقد تضرج وجهها بحمرة نارية مشتعلة:
-ليه؟
ألصق بثغره ابتسامة سخيفة قبل أن يجيبها:
-لأني هتجوزك.
هنا خرجت عن طور هدوئها لتثور في وجهه بهياجٍ:
-برضوه بيقول نفس الكلام اللي يفور الدم ده!
على عكسها كليًا كان باردًا في رده رغم ثمة التهديد الكائنة في حديثه:
-ما هو لو ده محصلش، أخويا مش هيرحم حد فيكم!
انتفخت أوداجها على الأخير، خاصة وهو يؤكد لها ما تجهله عنه:
-إنتي مش عارفاه كويس، زعله وحش جدًا.
ردت عليه بأنفاسٍ متهدجة:
-ومش عايزة أعرف حاجة، لا نزعله، ولا يزعلنا، احنا من عالم، وإنتو من عالم تاني خالص.
أعاد على مسامعها تحذيره بصياغةٍ أخرى، لعلها تستوعب حجم الكارثة المحيطة بها:
-صدقيني لو "كرم" حطكم في دماغه هتتمحوا كلكم.
-وأنا مش هقدر أحميكي إلا بالشكل ده.
داهمها الخوف، والذعر، وكل شيء يمكن أن يهشمها، فتوسلته بصوتٍ مال للاختناق:
-أنا عايزة أخرج من هنا، لو سمحت طلعني.
صمت للحظةٍ قبل أن ينطق أخيرًا:
-ماشي، هخرجك، وأرجعك بيت أهلك كمان...
لوهلةٍ ظنت أنه عدل عن قراره ليفاجئها بقوله:
-بس علشان تجهزي وتخرجي منه عروسة!
كانت على وشك الاحتجاج عليه، ورفضه مجددًا، إلا أنها تخلت عن هذه الفكرة المجنونة، وقررت مجاراته في أوهامه الواهية إلى أن تتمكن من الفرار من هذا الحصار، وبعدها يمكنها التفكير في أي شيء ينجيها منه، فقالت بتعجلٍ:
-ماشي، أنا موافقة.
نظرته إليها كانت غامضة، مريبة، وكأنه يكشف ما يدور في رأسها من أفكار تتعلق بما لا يحبذ الاعتقاد فيه، ومع ذلك التزم بوعده لها، ونادى على الخادمة يأمرها:
-خليهم يجهزوا العربية.
أتت على ندائه المرتفع، لترد في طاعةٍ:
-حاضر يا بيه.
فيما ظلت عيناه معلقتان بهذه العنيدة التي ترفض الإصغاء لصوت العقل، رغم تبريره لردة فعلها المنطقية في مثل هذه المواقف الصعبة.
......................................
امتدت يدها المرتعشة لتمسك بكوب الماء لترتشف القليل، فالمرارة التي تغلف جوفها تجعل شعورها بالعجز والهوان يتعاظمان. حانت منها نظرة جانبية نحو ابنتها حينما رأتها تخرج من غرفة نوم أبيها، فسألتها في اهتمامٍ رغم الإعياء الظاهر عليها:
-سألتي أبوكي عايز ياكل حاجة؟
هزت رأسها نافية:
-قالي مالوش نفس.
ردت عليها بحزنٍ:
-على رأيه، ومين فايق ياكل ولا يشرب بعد ما حلت علينا المصايب اللي بالكوم؟
جلست "إيمان" بجوارها، وسألتها:
-طب إنتي مش هتاكلي يا ماما؟ إنتي وشك أصفر!
جاء ردها مقتضبًا وقاطعًا:
-لأ...
ثم أخذت تنوح في تحسرٍ:
-كانت شورى مهببة لما جينا سكنا هنا.
تطلعت عليها ابنتها بقلة حيلة، فهي مثلها لا تملك من القوة أو النفوذ ما يخولها لفعل المستحيل. عادت "عيشة" تندب سوء حظ ابنتها في صوتٍ أقرب للبكاء، وهي تضرب بيديها على رأسها:
-يا ترى أختك عاملة إيه دلوقت؟ وفين أراضيها؟ منهم لله الظلمة اللي حرموني منها!
حاولت "إيمان" تهدئتها، فراحت تربت بترفقٍ على ظهرها وكتفها، وأخذت تواسيها بكلماتٍ مستهلكة، ربما لن تجدي نفعًا؛ لكنها قد تطيب خاطرها قليلًا، لتسمع كلتاهما صوت قرع الجرس مجددًا.
زفرت "عيشة" في استياءٍ عارم، وهتفت في انزعاجٍ متزايد:
-شوفي مين تاني، ما احنا مش هنخلص النهاردة!!
علقت ابنتها في تهكمٍ مزعوجٍ:
-الكل جاي يسمع ويعرف الأخبار، ما احنا بقينا حديث الموسم.
فتحت الباب وهي متحفزة للتشاجر مع من جاء؛ لكن تبدد غضبها دفعة واحدة حينما رأت شقيقتها الغالية أمامها، ارتعشت شفتاها وهي تهمس باسمها:
-"دليلة"!
ارتمت الأخيرة في أحضانها، ومرغت رأسها في كتفها وهي تبكي دموع الفرح لرؤياها، لتقفز "عيشة" من موضع جلوسها صارخة في سعادة كبيرة:
-بنتي، ضنايا.
هرولت ناحيتها لتسحبها من شقيقتها وتضمها إلى حضنها الأمومي، انهالت عليها بعشرات القبلات، وهي تهتف في لوعةٍ:
-حبيبتي يا بنتي، ربنا ما يحرمني من دخلتك عليا.
استمرت على تلك الحال لعدة لحظاتٍ، فيما تساءلت "إيمان" في تحيرٍ:
-معقولة سبوكي بالبساطة دي؟!
ليأتي الجواب سريعًا عندما ولج "زهير" إلى الداخل هاتفًا بابتسامةٍ سخيفة جعلت وجوههن تتحول لمزيجٍ من العبوس والذهول:
-مش هتقوليلي أتفضل يا حماتي؟!
.....................................
قبل برهةٍ، وردته مكالمة هاتفية من أحد معارفه القدامى، ممن تُدخل سيرته السرور على نفسه، لكونه ينتمي لتلك الفئة التي تعد على أصابع اليد ممن يثق بهم، ويمنحهم كامل احترامه .. دون ترددٍ أو استقصاءٍ لأي معلومات تخص اتصاله المفاجئ، أبدى على الفور ترحيبه بلقاء مرســاله، لينتظر قدومه في باحة منزله وهو يدخن نارجيلته.
تقدم أحد أتباع "كرم" ليميل عليه هامسًا في أذنه بكلماتٍ ذات مغزى:
-الفار وقع في المصيدة يا كوبارتنا.
احتلت ابتسامة راضية زاوية فمه، وقال وهو يضع المبسم بين شفتيه:
-سيبه على عماه للآخر، لحد ما يلبس، وساعتها ياخد جزاته.
هز رأسه مرددًا قبل أن يعتدل في وقفته:
-أوامرك يا كبير.
انصــرف بعدها ليأتي "عصفورة" إليه ركضًا، ارتكزت عينا "كرم" عليه، وسأله وهو ينفث الدخان في الهواء:
-في إيه ياض؟
أجابه بصوتٍ شبه لاهث:
-في حد طالب يقابلك يا سيد الناس!
بطرف المبسم أشار إليه قائلًا:
-هاته.
بعد عدة دقائق، تقدم أحدهم تجاهه، وهو يطوف بنظراتٍ مختلسة على الأرجاء، ليتأمل ما حوله مستكشفًا الأرجاء، أخفض رأسه قليلاً احترامًا له وهو يستطرد قائلاً:
-سلام عليكم.
لفظ "الهجام" سحابة أخرى كثيفة من الدخان من رئتيه، وابتسم مرحبًا به بحفاوة استغربها:
-أهلاً بطرف الحبايب، أنا مصدقتش لما جالتي المكالمة.
تشجع "ناجي" ليرفع أنظاره إليه، فرأى شابًا حسن المظهر، ضخم البنيان، على ما يبدو يتمرن يوميًا بانتظامٍ، ليبدو مفتول العضلات، غير الصورة المتوقعة في ذهنه من مقابلة رجلٍ ممتلئ بالشحم واللحم، مترهل الجسد، كبير في السن، وربما في وجهه توجد علامات الإجرام. ما كان ينقصه ليبدو كحارسٍ شخصي لواحدٍ من الشخصيات الهامة هو ارتدائه لبدلة رسمية، ورابطة عنق أنيقة. تنحنح "ناجي" معلقًا في لباقةٍ:
-احنا نتشرف بيك يا كبير.
ترك "كرم" المبسم من يده، واستقام في جلسته المسترخية، مُسلطًا كافة أنظاره عليه وهو يسأله في اقتضابٍ متحفز:
-خير؟
ازدرد ريقه الجاف في حلقه، وأخبره في هدوءٍ:
-الريس "تميم" عاوز يقابلك .. ضروري.
شدد على كلمته الأخيرة ليؤكد على أهمية الأمر، فما كان منه إلا أن قابل ذلك بترحيبٍ واضح وهو يبتسم في غرورٍ:
-وأنا جاهز، واعتبر اللي عاوزه حصل من قبل ما أعرف إيه هو.
أخرج "ناجي" مظروفًا أبيض اللون من جيب بنطاله، وضعه قبالته على الطاولة البلاستيكية القصيرة، وأردف موضحًا:
-وده عربون المحبة.
امتدت يده لتلتقط المظروف، فضَّهُ من الجانب ليرى الأوراق النقدية الضخمة، ابتسم في حبورٍ، وعلق:
-دايمًا عامر ..
ثم صاح موجهًا أمره لواحدٍ من الرجال المتواجدين خلفه:
-قوم بالواجب مع ضيفنا.
أطاعه الرجل في انصياعٍ تام وهو يومئ برأسه:
-حاضر يا كوبارتنا.
انصــرف بعدها "ناجي" وهو يكاد لا يصدق أنه نجا من هذا المكان الذي يعج بشرور الناس ممن لم يقابلهم مُطلقًا في حياته، في حين طوى "كرم" المظروف، وسار نحو الدرج ليصعد عليه متحدثًا مع نفسه:
-شقاوة زمان راجعة مع الحبايب!
مسح على صدره بحركة دائرية متكررة، ليواصل حديث نفسه المنتشية:
-مش خسارة، ما هو يستاهل برضوه!
.........................................
حاولت عبثًا أن تخفي إحساسها باليأس والإحباط وراء ابتسامة مزيفة، لتقبل على والدها المستلقي على الفراش لتُعلمه بعودتها، فراحت تهلل في حماسٍ متقد يتنافى مع طبيعة ما تمر به حاليًا:
-بابا، أنا رجعت.
كان "فهيم" في حالة من الوهن الشديد، فأعاد صوتها الذي ظن أنه لن يسمعه مجددًا الحياة إليه، ليعتدل في رقدته بصعوبة هاتفًا باسمها:
-"دليلة"!
ألقت بنفسها في حضن أبيها، واعتذرت منه بندمٍ:
-أنا أسفة، حقكم عليا، أنا اللي عملت فيا وفيكم كده.
رد عليها معتذرًا هو الآخر، وصوته يشي بانكساره:
-أنا اللي أسف يا بنتي لأني مقدرتش أحميكي.
من فورها تراجعت عنه لتنظر إليه نظرة منزعجة، ثم هتفت مستنكرة رنة الخذلان المغلفة لنبرته:
-لأ يا بابا، إنت ملكش ذنب، العالم المجرمين دول حاطني في دماغهم من أول مرة روحت القسم أشتكي فيها اللي بيحصل في الحتة.
انفلتت دمعة يتيمة من طرفه، أتبعها قوله المهموم:
-مكانش لازم أسيبك تتورطي في مشاكل معاهم.
خفضت من عينيها لتنظر إلى كفه، ثم احتضنته بين راحتيها، وقالت وهي تجبر نفسها على الابتسام لتبدد الحزن في قلبه بهذه الطريقة البسيطة:
-كله هيتحل يا بابا، اطمن، هما مش واثقين في قوة القانون، ومفكرين إن الحكاية فتونة وبلوي الدراع...
أغمضت عينيها لهنيهة، كأنما تستجمع قوتها المبعثرة هنا وهناك، وعاودت فتحهما لتضيف بعزمٍ:
-وصدقني مش هنولهم اللي عايزينه، وأنا مش هتجوز البلطجي ده غصب، حتى لو حكمت أرتكب جناية وأتحبس، بس ما يطولش شعرة مني..
وجدته يطالعها بغرابةٍ، فاستمرت تضيف على نفس المنوال:
-هما مفكرين إن احنا ضعاف، بس ما يعرفوش إن الظلم والافتراء بيخلي الواحد يتغير ويكون عكس شخصيته.
لم يرمش "فهيم" بعينيه، وظل على جموده المريب، فيما رددت "دليلة" بتنهيدة معبأة بالأشواق:
-المهم دلوقتي إني رجعت وسطكم، وبقيت معاكم...
لتضغط بعدها على شفتيها قائلة:
-وهحاول على أد ما أقدر أماطل لحد ما أخلص من الشبكة السودة دي.
استرابت من سكونه الغريب، وعزوفه عن التعليق، ناهيك عن تلك البرودة المفاجئة التي تسربت إلى جسده، فسألته في قلبٍ قد أخذت دقاته تتسارع بشكلٍ مباغت:
-بابا، إنت سامعني؟ فيك حاجة؟
لم تجد منه ردًا، فتركت كفه لتضع قبضتيها على ذراعيه، هزته منهما برفقٍ وهي تسأله بوجهٍ شبه باهت:
-في إيه مالك؟
كان لا يزال على جموده، بينما اختفى وميض الحياة من عينيه، ليتعاظم بداخلها هذا الشعور المخيف بأنه ليس بخيرٍ، ازدردت ريقها بصعوبةٍ، وهتفت بصوتٍ مرتعش، متقطع:
-بابا، سـ.. سامعني؟
حينما لم تجد منه أدنى استجابة، صرخت عاليًا، وقد تجمدت قبضتاها على مرفقيه:
-"إيمـــان"، تعالي بسرعة، بابا مش بيرد عليا.
صيحتها الفزعة دفعت شقيقتها للمجيء ركضًا، فاقتحمت الغرفة تسألها في جزعٍ:
-بتقولي إيه؟
لحقت بها أمها متسائلة بخوفٍ أكبر:
-ماله أبوكي؟
تنحت للجانب بعدما نهضت عن الفراش لتقول بوجهٍ غابت عنه حمرته:
-مش عارفة.
لم يظل "زهير" بمفرده بالخارج، بل انضم إليهم ليزيح "دليلة" من أمامه وهو يأمرها بعدما جذبها من ذراعها للخلف:
-وسعي كده شوية.
أخذ يتفقد وضعه بدقةٍ وتركيز، ليعتدل في وقفته قائلًا في شيء من التعزية:
-الحق استرد وديعته!
هزت "إيمان" رأسها في عدم تصديقٍ، وهي تسأله بصوتٍ اختنق بشدة:
-يعني إيه؟
فيما صرخت "دليلة" في حـــرقةٍ وهي ترفع سبابتها أمام وجهه:
-ما تقولهاش!
حول ناظريه تجاه أمها ليقول مؤكدًا:
-ادعوله بالرحمة، هو قابل وجه كريم.
انفلتت صرخة مقهورة من "إيمان"، أتبعها عويل زوجته، ليتجه "زهير" بنظرة إشفاقٍ نحو "دليلة" عندما هدرت بصراخٍ يدمي القلوب، وقد تفجرت عيناها بالدموع الغزيرة:
-إياك، بابا مامتش، بابا عايش، عايش!
لتسقط بعدها مغشيًا عليها، فانتفض ناحيتها على الفور في خوفٍ حقيقي شعر به للمرة الأولى، ليتلقفها بين ذراعيه وهو يناديها:
-"دليـــــــلة" ..................................... !!