رواية لا تترك يدي الفصل الثامن عشر
في اليوم التالي عاد خالد من الدرس ووجد المنزل خاليا. فطن إن مريم تزور جارتهم فريدة. فمريم استاذنت منه قبل خروجه في زيارتها. دخل غرفته، بدل ملابسه، جلس على مكتبه وأنهمك في مذاكرته. قطع تركيزه صوت جرس الباب. فنهض وتوجه للباب وفتحه. ظهرت علامات الدهشة على وجهه عندما رأى من بالباب.
"مدام أمل؟"
"أزيك يا خالد عامل ايه."
"الحمد لله. خير في حاجة؟"
"كنت عاوزة اطلب منك طلب ويا ريت ما تكسفنيش."
"اتفضلي. لو في أيدي مش هأرفض إن شاء الله."
"هو في ايدك. هنفضل واقفين ع الباب كدة."
"أسف أتفضلي. أصل زي ما حضرتك عارفة انا عايش لوحدي."
تنحى خالد جانبا ودخلت أمل الشقة وجلست على الكرسي الذي أشار خالد لها عليه الكرسي المجاور للباب وترك باب الشقة مفتوح على مصرعيه.
"خير يا مدام أمل؟"
قال خالد بعد أن جلس على الكرسي المقابل لها
"خير. محمد جوزي اترقى في الشغل عنده وكنا عاملين له حفلة بكرة."
"ألف مبروك."
نظر لها خالد متعجبا. فهي أول مرة تخطو داخل شقتهم منذ زواجها منذ خمس سنوات في الشقة اسفلهم. حتى انها لم تزر أمه من قبل وهي في مرض الموت. فلماذا تدعوه الآن لحفلة عادية مثل باقي الحفلات التي تقيمها في منزلها.
"بصراحة البنت اللي كانت بتساعدني في البيت مسافرة البلد بقالها اسبوع علشان امها في المستشفى. وأنا ما اقدرش أعمل كل تجهيزات الحفلة لوحدي."
قاطعها خالد وسألها بنفاذ صبر.
"مش فاهم برضه حضرتك محتاجة مني ايه؟"
"كنت محتاجة لو تسلفني البنت الشغالة اللي عندك بكرة بس."
تغيرت ملامح خالد على الفور وشعرت أمل بضيقه فاستطردت قائلة.
"ما تخافش هادفع لها مبلغ كويس. ما تقلقش خالص من ناحية الفلوس."
"لكن أنا مفيش عندي شغالة."
"والبنت الصغيرة اللي جايبها من البلد؟ أنا شوفتها كذا مرة عند الست فريدة وبتساعدها في حاجات كتير في المطبخ."
وقف خالد على الفور والغضب يتطاير كالشرر من عينيه. وقف أمام باب شقته ونادي على مريم بأعلى صوته.
مريم كانت جالسة مع فريدة تعلمها غرزة جديدة في التطريز.
"لفي الإبرة من قدام يا مريم مش من تحت. خلي الخيط قدام الأبرة."
فعلت مريم مثلما وجهتها فريدة وسألتها.
"كدة؟"
"الله ينور عليك. بسم الله ما شاء الله عليك. ايدك شغلها نظيف قوي مع أنك لسة بتتعلمي."
أبتسمت مريم لما سمعته من فريدة وأستأنفت عملها.
بعد لحظات سمعت مريم صوت خالد يناديها بغضب فانتفضت من مكانها وسقط الخرز والخيط من حجرها. جرت بسرعة وفتحت الباب لتجيبه. وجدته يقف على عتبة شقته وخلفه السيدة أمل جارتهم. تبعت فريدة مريم ووقفت ورائها وهي متعجبة لنبرة الغضب في صوت خالد.
أقتربت مريم من خالد بحذر وسألته بصوت مهزوز مرتعب.
"نعم يا خالد عاوز حاجة؟"
"أدخلي جوا. ومن النهاردة مفيش مرواح عند حد ولا هتساعدي حد."
أسرعت مريم ودخلت الشقة دون أن تعارضه أو تناقشه. قلقت فريدة على مريم من غضب خالد فحاولت التدخل.
"في ايه يا خالد يا ابني؟ مضايق من ايه؟ مريم قالت إنها استأذنتك قبل ما تجي لي. زعلان ليه دلوقت بقى؟"
"لو سمحت يا طنط فريدة ما تدخليش بيني وبين مراتي."
نزلت الكلمة كالصاعقة على فريدة وأمل. فسألته فريدة باندهاش.
"مراتك؟"
"ايوة مراتي. مريم مش خدامة عند حد. مريم مراتي. اتجوزنا في البلد وكتبنا الكتاب هناك عند عمي. وهي قاعدة معي هنا علشان هي مراتي. لا هي خدامة ولا ضيفة."
أنهى خالد النقاش بحزم ووضح للجميع أن مريم زوجته. لم تجد فريدة أو أمل كلمات بعد هذا الخبر الصاعق لهم فاستاذنت كليهما وتوجهت كل منهما لشقتها.
دخل خالد الشقة وصفع الباب ثم استدار ووجد مريم واقفة خلفه ونظرها للأرض. فقال لها.
"من النهاردة مفيش خروج من باب الشقة. أنت مش خدامة عند حد. فاهمة ولا لأ؟"
أومأت مريم برأسها دون أن ترفع نظرها من الأرض. زفر خالد بضيق لثورته الزائدة على مريم. فأغمض عينيه ومسح على وجهه وأستغفر ربه ثم جلس على الكرسي الأقرب له. دخلت مريم المطبخ مسرعة واحضرت كوب ماء بارد وقربته من وجهه في صمت تام. بعد عدة ثواني فتح خالد عينيه وقابله كوب الماء أمام وجهه بالظبط. رفع عينيه ونظر لها متسأئلا.
"ايه ده؟"
إجابته مريم بصوت خافت.
"ماية."
زحفت إبتسامة خفيفة على شفتيه وقال لها.
"ما انا عارف انها ماية. جيبتيها ليه أنا ما طلبتهاش."
اكتسبت مريم بعض الثقة برؤية إبتسامته واجابته.
"مش لازم تطلب علشان اعرف أنت محتاج ايه. خد أشرب هتهدي أعصابك شوية."
أخذ خالد منها الكوب ولاحظ انها تعطيه الماء بيدها اليسرى وتخفي يدها اليمنى وراء ظهرها. شرب الماء ومد يده لها بالكوب. مدت مريم يدها اليسرى لتأخذ الكوب.
"أيدك اليمين مالها؟"
أرتبكت مريم ونظرت في أي مكان إلا عينيه البنيتان وتمتمت بصوت منخفض ولكنه سمعها.
"مفيش."
أنتصب خالد واقفا أمامها بينهما مسافة قريبة جدا وسألها بتحدي.
"لو مفيش مخبياها ليه ورا ظهرك."
خطت مريم خطوة للخلف لتهرب منه وقالت له.
"مش مخبياها ولا حاجة."
حاولت مريم الفرار من حصاره ولكنه باغتها واقترب منها في خطوة واحدة بساقيه الطوال. وقبض على يدها من وراء ظهرها واخذها في يده ونظر ليدها فوجد إبهامها ينزف دما. نظر لها بعينين قلقتين وسألها.
"أيه ده؟ أتعورت أمتى وازاي؟"
حاولت مريم أن تسحب يدها من يده ولكن قبضته على يدها كانت محكمة ولكنها حانية في نفس الوقت لحرصه ألا يألمها.
"مفيش ده حاجة بسيطة."
"قولي يا بنتي أتعورت كدة ازاي؟"
لم تجبه مريم وحاولت الهرب من سؤاله ومن نظراته.
"انطقي."
فزت مريم من صوته العالي قريبا من اذنها وشعر خالد بخوفها منه فتنهد وجلس على الكنبة وسحبها وأجلسها بجانبه. فحص الجرح بعينيه ثم توجه للحمام وأخذ صندوق الاسعافات الاولية وبدأ يطهر الجرح.
"ده شكله جرح سكينة. أنت كنت بتعملي ايه عند طنط فريدة. اتجرحت ازاي عندها؟"
شعرت مريم بعودة غضب خالد ثانيا وأحست بنبرة إتهام للسيدة فريدة في صوته. فقررت أن تخبره الحقيقة أفضل أن يسيء الظن في هذه السيدة الطيبة.
"ده مش جرح سكينة."
رفع خالد عينه من جرحها ونظر في عينيها الزمردتان وسالها.
"أمال جرح أيه؟"
شاحت مريم بنظرها بعيدا عنه وأجابته.
"جرح مقص. أنا كنت بقص الخيط وقت ما أنت ناديت علي اتفزعت والمقص وقع من ايدي وعورني."
نظر خالد للأسفل واستأنف تطهير الجرح وتمتم معتذرا.
"أنا أسف. أنا ما قدرتش أمسك أعصابي لما عرفت انهم معتبرينك خدامة."
اتسعت حدقتي مريم وسألته.
"نعم؟"
رفع خالد نظره وعيونه يملؤها إحساسه بالذنب.
"مدام أمل كانت هنا علشان كان عاوزة خدامة لمدة يوم علشان حفلة جوزها. ولما شافتك وانت بتشتغلي في المطبخ عند طنط فريدة افتكرت انك خدامة عندي وبتشتغلي برضه عند طنط فريدة. علشان كدة اتنرفزت وقولت لهم انك مراتي."
"علشان كدة منعتني اروح عند طنط فريدة؟"
"ايوة. أنا عارف أنك بتساعديها كدة من غير اي مقابل لكن اللي يشوفك عندها وانت بتساعديها هيقول انك خدامة وانا مش ممكن استحمل كدة."
"أيوة يا خالد لكن أنا مش بشتغل عندها. هي كتر خيرها بتعلمني حاجات كتيرة قوي."
"معلش يا مريم يا ريت تسمعي كلامي. أنا مش هأستحمل أي كلمة تاني. لا تلميحات البواب ولا كلام الجيران. خلينا في شقتنا وبابنا مقفول علينا. اهه الجيران عرفوا أننا متجوزين وخلاص كدة."
أنتبهت مريم لهذه الحقيقة وسألته بقلق.
"لكن مش هيحصل لنا مشاكل علشان عرفوا."
نظر لها خالد طمئنها وقال لها.
" إن شاء الله لا. مش في مصلحة أي حد فيهم انه يبلغ عننا."
"طيب ومدرستك؟"
"ما تقلقيش. إن شاء الله المدرسة مش هتعرف حاجة وربنا يسترها علشان لو الموضوع اتكشف في المدرسة فيها فصل تام من المدرسة."
"ربنا يسترها وإن شاء الله المدرسة ما يعرفوش حاجة."
بعدما انتهى خالد من تضميد جرح مريم وقف وأخذ صندوق الاسعافات الاولية و قطع القطن المخضبة بدماء زوجته وغاب عنها لدقائق ثم عاد ومعه كوب عصير ليمون. نظرت له مريم متسائلة فجلس بجوارها وناولها الكوب.
"اشربي العصير يروق دمك."
أخذت مريم منه العصير وشربت منه. نظر خالد لها وقال.
"أنا أسف."
"على ايه يا خالد. الجرح بسيط وانت كمان ما كانش قصدك اكيد."
"أنا مش بأتكلم عن الجرح وبس."
نظرت له مريم متسائلة.
"أسف اني خضيتك واتجرحت بسببي. أسف اني زعقت فيك وخوفتك مني. أرجوك يا مريم أنا مش عاوزك تخافي مني أبدا في يوم من الأيام. لازم تعرفي اني عمري ما أجرحك ولا اؤذيك بقصد."
أبتسمت مريم وقالت له.
"أنا عارفة و متأكدة من ده. أنت أطيب إنسان شوفته في حياتي."
صمت خالد قليلا فحاولت مريم أن تغير الموضوع لتنسيه احساس الذنب الذي استولى عليه.
"أنا عاوزة اتفرج على فيلم رعب."
نظر لها خالد مشدوها.
"فيلم رعب. مش أنت بتخافي من أفلام الرعب؟"
"لو اتفرجنا عليه دلوقت مش مشكلة لكن بالليل قوي قبل ما انام لا."
"ماشي يا ستي. هقوم اجيب فيلم على الفلاشة عقبال لما تجهزي لنا القاعدة. أنا جايب لب ومكسرات جوا في المطبخ."
"ماشي يا سيدي."
أحضر خالد الفيلم وعرضه على الشاشة وجلس على الكنبة المواجهة للشاشة ومريم جلست بجانبه بعدما أحضرت اللب والمكسرات من المطبخ. بدأ الفيلم واندمج خالد فيه. فهو معتاد على هذه النوعية من الأفلام ولم تعد تخيفه. بل كان يضحك عندما ياتي وجه الشبح في الشاشة لأن مريم كانت تدفن رأسها في صدره. أنتهى الفيلم وحاول خالد برقة رفع رأس مريم من حضنه. وقال لها بين ضحكاته.
"خلاص يا بنتي الفيلم خلص خايفة من ايه دلوقت."
نظرت له مريم بنصف عين ورأسها مدفون في صدره.
"أسكت يا خالد. شكل العفريت ده وحش قوي. ده انا هتجي لي كوابيس بسببه."
"كوابيس ايه والمغرب لسة ما اذنش. عقبال لما ننام هتنسي العفريت وابوه كمان."
"مش ممكن ده صورته وحشة قوي. هيفضل في مخي ولا اسبوع قدام."
"يا بنتي ما عفريت إلا بني ادم. أنا هأقوم بقى أشوف اللي ورايا. عندي مذاكرة كتير."
رفعت مريم رأسها ونظرت له بحزن وسألته.
"يعني هتسيبني لوحدي بعد الفيلم ده."
ضحك خالد ووقف وقال لها.
"فيلم ايه. هو انت اتفرجت على الفيلم. ٩٠% من الفيلم عدى وانت مخبية وشك."
"ما تتريقش علي لو سمحت. روح يا سيدي ذاكر وانا احفظ اللي علي النهاردة."
"جادعة بتي. مفيش احسن من القرآن يطمنك."