رواية بقايا عطر عتيق الفصل التاسع عشر
في الظهيرة، كانت الشمس عمودية في كبد السماء، ترسل أشعتها الحارقة على الأرض، فتغمرها بضوء شديد وحار، يكاد يُلهب الأنفاس. عبد اللطيف يسير بخطى واثقة بجانب أخيه عبد الرحيم في الحقل، يشير بعصاه إلى الزرع هنا وهناك ويتحدث عن محصول الموسم القادم. فجأة، توقف عن الحديث، وضع يده على صدره ووجهه يعلوه ألم شديد.
قال بصوت مخنوق:
ــ الحقني ياحج عبد الرحيم... قلبي... قلبي!
تجمد عبد الرحيم في مكانه للحظة، ثم صرخ:
ــ حجازي! حامد! الحقونا تعالوا بسرعه!
ركض حجازي وحامد نحوهما، وحملوا عبد اللطيف الذي سقط على الأرض. كانت أنفاسه ثقيلة وعيناه مغمضتين. أسرع حسين وأخوته الآخرون إلى المكان بعد أن سمعوا الصراخ.
قال حسين بفزع:
ــ يا ولاد شيلوا أبويا عبد اللطيف بسرعه! لازم نروح بيه الوحده الصحيه!
حملوه جميعًا في عجلة، واتجهوا به نحو الوحدة الصحية، حيث كان الحكيم بانتظارهم. وبعد دقائق بدت كأنها ساعات، خرج الحكيم من غرفة الكشف.
ركض حسين نحوه، يتقدمه الجميع، وسأله بقلق بالغ:
ــ "خير يا حكيم؟ أبويا عبد اللطيف جراله إيه؟
تنهد الحكيم بحزن، ونظر إليهم بعينين تحملان الأسى، وقال:
ــ للأسف، الضغط عنده عالي جدًا، وعنده مشاكل في القلب. الظاهر إنه في حاجه كبيره مضايقاه.
ازدادت ملامح حسين قلقًا، وقال بتوتر:
ــ طب والعمل يا حكيم؟ قولنا نعمل إيه؟ لو حكمت ننقله البندر دلوقتي نعملها.
هز الحكيم رأسه وقال:
ــ سفره دلوقتي ممكن يكون خطر عليه. الضغط ممكن يعلى أكتر. من المجهود. انا بقول دلوقتي ياحج حسين أنه ياخد العلاج اللي كتبتهوله، ويشرب كركديه منقوع. وكمان لازم يبعد عن أي توتر. وبكره لما دكتور الوحدة ييجي، أنا هجيبه بنفسي لحد البيت ويكشف عليه. وإن شاء الله يبقى في تحسن وتطمنوا عليه.
هز حسين رأسه موافقًا، وقال:
ــ ماشي يا حكيم. ربنا يستر، ويجيب العواقب سليمة.
عادوا بعبد اللطيف إلى البيت، وقد بدا التعب واضحًا عليه. في الداخل، كانت زاهية تقف عند الباب بوجه شاحب ودموع تحاول الهروب من عينيها.
قالت بصوت مرتعش:
ــ إيه ياحج عبد اللطيف. إيه اللي جرالك يسندي؟
دخل عبد اللطيف محمولًا إلى غرفته، وما إن سمعت سميرة الخبر حتى اندفعت نحو الغرفة وهي تبكي بحرقة:
ــ ياقطمة ضهري ياني،ألف سلامة عليك يا با! بعيد الشر عنك يا حبيبي.. إيه اللي جرالك بس؟
رفع عبد اللطيف يده بصعوبة، وربت على كتفها بلطف، وقال بصوت ضعيف:
ــ "ما فيش حاجه يا سميرة يا بنتي. شويه تعب وهيروحوا لحالهم. بطلوا نواح عاد، أنا راسي مصدعة كاني فيه مطرقه بتدق في راسي.
وضعت سميرة يدها على فمها، تحاول كبح دموعها، وجلست بجواره تمسك بيده.
دخلت زاهية بكوب من العناب المنقوع، وجلست بجواره وهي تحاول مساعدته على تناوله، وقالت بحزن واضح ورجفة:
ــ أشرب ياخويا، أشرب وبالشفا إن شاء الله يا حج. وقوم لنا بالسلامة.
أخذ عبد اللطيف رشفة صغيرة، ثم أسند رأسه إلى الوسادة بتعب، بينما الجميع يحيطونه بالحب والقلق.
كانت خطوات نوال على السلم مترددة، تتسارع أحيانًا وتتباطأ أخرى، وكأنها تحاول الهروب من مواجهة اللحظة القادمة. كان صالح يسير خلفها بصمت، يُطالع الأرض بنظرات حائرة. وصل الاثنان إلى باب الشقة، فتوقفت نوال برهة، قبل أن تضغط زر الجرس بيد مرتعشة.
انتظر صالح بالخارج، يقف أمام الباب بثبات زائف، يحاول ترتيب أفكاره، بينما كانت عيناه تتأمل الباب وكأنه يحمل إجابة لكل تساؤلاته.
في الداخل، كان عبد الحميد جالسًا خلف مكتبه الكبير. أثاث المكتب كان فاخرًا، يعكس ذوقًا رفيعًا ومكانة اجتماعية مرموقة. كان يرتدي بدلة رمادية أنيقة، تتناغم مع ربطة عنق داكنة، وشعره مسرّح بعناية، يزينه خصلات قليلة من الشيب التي أضافت لمظهره وقارًا وجاذبية. يبلغ من العمر خمسين عامًا تقريبًا، بملامح حادة ونظرة صارمة تشع هيبة ونفوذًا.
دلفت نوال بخطوات مترددة، تلتف بأصابعها على أطراف أظافرها في محاولة لتهدئة توترها، وتقدمت نحوه بصوت خافت يحمل ارتباكًا واضحًا:
ـ نهارك سعيد يابابا.
أبتسم لها قائلاً:
ـ أهلا بحبيبتي، نهارك سعيد. خلصتي الامتحان بدري؟
ثم أضاف بفخر.
ـ أكيد انا واثق من كفاءتك وشطارتك. علشان كده رجعتي بدري.
شعرت بجفاف حلقها وقالت متردده:
ــ في الحقيقة يابابا. آخر مادة كانت صعبه شوية، لكن قدرت بفضل مرجعتك الدايمه ليا إني أخلص ورقة الامتحان في وقت قليل، وعلشان كده رجعت البيت، أحم
لكن في حاجه تانيه، في شاب معايه في الجامعة.. طالب يشوف حضرتك في أمر مهم.
رفع عبد الحميد رأسه ببطء عن الأوراق التي كان يراجعها، تطلعت عيناه إلى ابنته بتساؤل واستغراب:
ــ شاب عايزني انا؟ ومين ده يا بنتي؟ وعايز يشوفني فين وليه؟
ابتلعت نوال ريقها بصعوبة، وقالت بصوت مغمغم يكاد لا يُسمع:
ــ هو موجود معايا، وصمم أنه يجي لحضرتك بنفسه ضروري،ومستني حضرتك قدام باب الشقة.. لو تسمح يدخل يقابلك.
لم يُخفِ عبد الحميد دهشته من طلبها وتصرفها الغريب، لكنه حاول أن يحافظ على هدوئه، فأشار إليها بإيماءة تحمل مزيجًا من التسليم والاستغراب:
ــ غريبه! تصرف غريب أوي منك يابنتي، وأنا ملاحظ من فترة إنك متغيره ومش قادر أفهمك، يا نوال يا بنتي.. لكن ما علينا. خليه يتفضل، ونفهم مين ده وعايز إيه؟
خرجت نوال بسرعة، مشيرة لصالح بالدخول، وعيونها تتهرب من النظر إليه، ثم أشارت بيدها نحو المكتب قبل أن تختفي في أحد الغرف.
دخل صالح بخطوات ثقيلة، وكأن كل خطوة تزداد معها وطأة الحمل الذي يحمله. توقف عند باب المكتب للحظات، يطالع عبد الحميد بنظرات طويلة وعميقة، وكأنه يبحث في ملامحه عن شيء مفقود.حتى لاحظ الشبه الكبير بين الرجل الجالس أمامه وجده عبد اللطيف. لم يكن الشبه في الملامح فقط، بل في طريقة جلوسه، نظراته الحادة، وحتى هيبته التي ملأت الغرفة.
وقف عبد الحميد يُراقبه باستغراب، لاحظ نظراته المتفحصة، لكنه لم يقل شيئًا في البداية. نهض من كرسيه واقترب بخطوات ثابتة، قائلًا بصوت هادئ ومتعجب:
ــ أهلًا وسهلًا، يا ابني. شرفتنا، نوال بنتي قالتلي إنك عايز تتكلم معايا ضروري في أمر مهم. خير! ومين حضرتك؟
ظل صالح صامتًا، عيناه مُعلقتان بوجه عبد الحميد، يتأمل خطوط الزمن التي رسمتها السنوات على ملامحه. وأخيرًا، بعد لحظات بدت كأنها دهر، نطق بصوت يحمل مزيجًا من الدهشة واليقين:
ــ حضرتك..المهندس عبد الحميد عبد اللطيف قاسم؟
ابتسم عبد الحميد بهدوء، محاولًا تهدئة الموقف:
ــ أيوه يا ابني، وأكيد أنت عارف هويتي بما إنك جاي لحد بيتي، مش موضوعنا لكن.. أي خدمة أقدر أقدمهالك؟
لم تتحرك عيناه عن عبد الحميد، كان يطالع كل تفصيلة في وجهه بعمق، قبل أن يرد بصوت خافت لكنه محمل بالثقة:
ــ حضرتك مواليد مركز المنصورة، قرية ميت جابر، دقهلية؟
تغيرت ملامح عبد الحميد فجأة، شحب وجهه، وشعر بارتجافة غير مرئية تسري في جسده. سأل بصوت يكاد يكون همسًا، وعيناه تتسعان بدهشة:
ــ أنت..أنت مين؟!
رفع صالح رأسه بثبات، وقال بصوت يملؤه العتاب والرجاء:
ــ أنا صالح. صالح حسين عبد الرحيم قاسم..وابن أختك سميرة عبد اللطيف قاسم.
كانت الكلمات كالرعد الذي ضرب مسامع عبد الحميد، تجمد مكانه للحظات، قبل أن يخطو ببطء نحو مكتبه، يجلس وكأنه فقد السيطرة على قدميه، وأمسك برأسه بين يديه. ذكريات قديمة اندفعت إلى عقله كالسيل، تغمره صور ووجوه من زمن بعيد، كان يعتقد أنه تركها خلفه بلا رجعة.
رفع عبد الحميد رأسه ببطء، عيناه تحملان مزيجًا من الألم والدهشة، وصوته يخفت كأنه يحدث نفسه دون أن يسمعه أحد:
ــ سميرة؟ أختي؟
لكنه فجأة حاول كبح تلك المشاعر المتدفقة، متمسكًا بجدار الإنكار الذي بناه طوال السنين. نظر إلى صالح، محاولًا الهرب من مواجهة عينيه، وقال ببرود مصطنع:
ــ أنا مش فاهم أنت بتتكلم عن إيه. لو عندك حاجة تخص نوال بنتي أو خدمة أقدر أقدمها ليك، اتفضل. غير كده، أنا مشغول جدًا ووقتي مش ملكي.
لكن صالح، الذي بات الآن متأكدًا من حقيقة نسبه، لم يستسلم. ارتفع صوته قليلًا، وعيناه تتنقلان بين عبد الحميد وشهادة تقدير معلقة على الحائط تحمل اسمه الكامل، وجميع بياناتة مؤكدة شكوكه:
ــ لا يا خالي، لا. أنت عارف أنا بتكلم عن إيه! أنت خالي عبد الحميد اللي نزل مصر علشان يتعلم ويكافح ويبني مستقبله، بس مرجعش لأهله وناسه بعدها. ليه مرجعتش! ليه هربت يا خالي؟
كانت كلماته كالسكا.كين، تغوص عميقًا في ذاكرة عبد الحميد، الذي بدأ يتحرك بعصبية، محاولًا كبح الألم المتصاعد. تابع صالح بعينين تدمعان وحنجرة يثقلها العتاب:
ــ حضرتك متعرفش ماما قد إيه مستنياك بفارغ الصبر؟ وعندها يقين إنك هترجع في يوم من الأيام! وجدي عبد اللطيف، اللي كل أمله إبنه الكبير يرجع ويخلي الأمل يدب فيه من جديد. وجدتي.. جدتي اللي اتغيرت بسبب غيابك، وبقت حد تاني، حد قلبه جامد حتى على أقرب الناس ليه. كل ده نتيجة هروبك من ماضيك.
تجمدت نوال في مكانها عند الباب، وظهرت بجانبها أختاها، يتبادلن نظرات صدمة ودهشة، عاجزات عن الفهم أو الكلام. لكن عبد الحميد لم يستطع التحمل أكثر، فصاح بغضب مكبوت:
ــ كفاية بقى! أنت مين علشان تيجي تحاسبني وتقف قدامي دلوقتي وتواجهني بحاجات أنت متعرفش عنها أي حاجة؟ انت مين رد عليا!
اغرورقت عينا صالح بالدموع، لكنه استمر بنفس الحزم، صوته يهتز بالانفعال:
ــ أنا ابن أختك، أنا صالح من عيلة قاسم. وبحمل نفس الد.م اللي بيجري في عروقك. أنا اللي من صغري كنت بشوفك حلم بعيد ونفسي ابقى زيك. أنا اللي كل مرة أرجع البلد فيها بمسح دموع أمي وهي بتسألني بفطرتها: مشوفتش خالك عبد الحميد يا صالح؟ أنا اللي كنت هتحرم من مستقبلي علشان غيابك وهروبك اللي مالوش تفسير.
وقف عبد الحميد مكانه، يحاول التماسك، لكنه لم يستطع كبح غضبه تمامًا، فرد بصوت عالٍ:
ــ أنا مهربتش! ليه مصممين تقولوا إني هربت وبمزاجي؟ كفايه بقى انت متعرفش حاجه.
اقترب صالح خطوة أخرى، وهو يرد بهدوء رغم دموعه:
ــ هعرف الحقيقة لما توضحلي. احكيلي يا خالي. قول ليه سبتنا؟ أنا بطلب منك وبترجاك تشرحلي أسبابك.
ثم ابتسم صالح بأمل، رغم الجراح:
ــ حضرتك مش متخيل لما العيلة تعرف إنك عايش، وعندك بيت وأسرة، ومركز مرموق ومحترم.. صدقني، هيكونوا فخورين بيك جدًا.
ابتسم عبد الحميد بسخرية مريرة، وترك نفسه يسقط على الكنبة بتهالك، كأن الماضي يضغط على كتفيه. رفع رأسه قليلاً ونظر لصالح نظرة مليئة بالشجن وقال بصوت متحشرج:
ــ "أنا مهربتش يا صالح. أنا اشتريت نفسي وبعدت. كل اللي حصل زمان..كان غصب عني.
جلس صالح أمامه، عازمًا على الوصول إلى الحقيقة، وقال برجاء:
ــ "صدقني، كل حاجة مهما كانت أبعادها، ممكن تتصلح. بس احكيلي... إيه السبب اللي بعدك عننا وعن عيلتك السنين دي كلها؟
ارتعشت شفاه عبد الحميد، وتجددت الدموع في عينيه، كأنما حمله الماضي ثقلاً لا يزول. نظر إلى صالح وكأنما يرى في وجهه صورة من زمن بعيد، ثم همس بصوت مختنق:
ــ جدتك زاهية.
توقفت الكلمات في حلقه، لكنه لم يستطع التهرب أكثر، فبدأ يغوص في ذكرياته، وكأن شريط حياته يُعرض أمامه من جديد.
قبل عشرين عامًا، عاد عبد الرحيم إلى قريته الصغيرة بعد غياب طويل، متأبطًا ذراع فتاة كانت تبدو كأنها خرجت لتوها من صفحات المجلات الراقية. كانت ليلى، حبيبتة الجديدة، تمشي بجانبه بثقة وأناقة، مرتدية تنورة قصيرة تكشف عن أناقتها الحضرية التي بدت غريبة على أزقة القرية الطينية البسيطة. كان عبد الرحيم يفيض حماسًا وسعادة، متطلعًا إلى مباركات عائلته ومشاركة فرحته ويريد موافقتهم على الزواج منها.
على مشارف القرية، قابل شقيقه صبري الذي كان عائدًا من الحقول، وعيناه تملؤهما دهشة وقلق من رؤية عبد الرحيم برفقة هذه السيدة الغريبة. توقف عبد الرحيم ليحكي لصبري عن التفاصيل وليخبره أنه وقع في حب ليلى من النظرة الأولى، وأنه جاء إلى هنا ويريد الموافقة واعداد زفاف كبير أمام العائلة ليعم الفرح. لكن صبري، الذي بدا قلقًا مما قد تثيره هذه الزيارة من مشاكل، أخذ عبد الرحيم جانبًا وأخبره بصوت خافت أن عودته بهذه الصورة لن تمر بسلام.
أقنعه صبري بأن يعود إلى المدينة، وأن يمنحه فرصة للتمهيد الأمر مع العائلة، واعدًا إياه بأنه سيحمل إليه أخبارًا سعيدة في اليوم التالي. لم يكن أمام عبد الرحيم سوى القبول، فعاد أدراجه إلى البندر منتظرًا أن تتفهم عائلته قراره.
في اليوم التالي، وصل صبري محملًا بقرار العائلة الذي حمل صدمة لعبد الرحيم: والدتهم، الحجة زاهية، طلبت منه أن ينفصل عن ليلى على الفور، وأن يعود إلى القرية ليزوجوه إحدى بنات العائلة. كان القرار قاطعًا وغير قابل للنقاش، وترك عبد الرحيم في حيرة بين حبه لليلى وولائه لعائلته.
اختار عبد الرحيم أن يتمسك بحبه، وعاش مع ليلى في المدينة بعد زواجهما. بعد سنوات، أنجبت له ليلى فتاة أسموها نادية، وكان عبد الرحيم سعيدًا بولادتها. ظن أن مجيئه إلى القرية مع زوجته وابنته سيغير نظرة عائلته، لكن بمجرد وصوله، اعترضه صبري عند باب المنزل، مانعًا إياه من الدخول.
حاول عبد الرحيم إقناع شقيقه، لكن صبري أخبره بحزم أن العائلة لا تزال ترفض زواجه من ليلى، بعد اعصاء أمرهما وأن والدته ترى إنجاب البنات نذير شؤم. لمح عبد الرحيم والدته من نافذة خشبية صغيرة وهي تتحدث مع إحدى الجارات عن كرهها لإنجاب البنات، مؤكدًة أنها تتوقع من أبنائها جميعًا أن يرزقوا بالصبية فقط.
عاد عبد الرحيم إلى المدينة مجددًا، محطمًا وخائب الأمل. أخبر نفسه أنه سيعود إلى عائلته عندما يرزق بصبي يرضي والدته، لكن محاولاته باءت بالفشل. أنجبت ليلى ثلاث بنات متتاليات، وكان عبد الرحيم راضيًا بما قسمه الله له، لكنه أدرك أنه لن يستطيع العودة إلى قريته أبدًا.
كانت ليلى تدعمه طوال تلك السنوات، لكنها حزنت لأجله حين شعرت بثقل القطيعة بينه وبين أهله. حملت للمرة الرابعة على أمل إنجاب صبي، لكن القدر كان له رأي آخر. أنجبت فتاة، لكنها ماتت مع والدتها أثناء الولادة.
منذ وفاة ليلى قبل اثني عشر عامًا، قرر عبد الرحيم أن يعيش لبناته فقط. استسلم للغربة التي فرضتها عليه عائلته، ودفن حلم العودة إلى قريته، عائشًا في عزلة عاطفية وحسرة لا تغادر قلبه.
بعد أن أنهى عبد الحميد حديثه، شعر صالح بصدمة لم يستطع إخفاءها. الكلمات التي سمعها كانت كافية لتغيير نظرته لكل شيء، لكنها في الوقت نفسه أثارت داخله مشاعر الحيرة والغضب. ظل صامتًا للحظات يحاول استيعاب ما قيل له، ثم رفع عينيه نحو خاله وقال بصوت متردد لكنه يحمل يقينًا داخليًا:
ـ معقول كل اللي بتقوله ده يا خالي؟ أنا متأكد إن محدش في العيلة عنده علم بالحكاية دي، ولو كان حد عارف، كانت أمي أول واحدة قالتلي.
رد عبد الحميد بهدوء مشوب بالمرارة:
ـ إزاي ياصالح محدش يعرف؟ اخويا صبري عارف كل حاجة، وهو اللي وصل الخبر لابويا وأمي، وهي اللي رفضتني. أكيد كانوا شايفين إن وجودي معاها عار عليهم.
تراجع صالح في جلسته، مشاعر متضاربة تعصف بداخله. لكنه أجاب بتأكيد:
ـ لا لا، صدقني، يا خالي، ما حدش فينا يعرف أي حاجة عنك. طول عمرنا فاكرين إنك خلصت تعليمك، وبعدت عن العيله، وما حدش شافك بعدها. ولا حد يعرف بجوازك، ولا حتى إنك عندك اولاد. كل ده جديد عليا انا شخصيا. أكيد في سوء تفاهم.
كان لعبد الحميد وجه جامد، لكن في داخله اشتعلت نيران الظنون. اعتقد أن أهله تعمدوا طمس وجوده وإخفاء كل ما يتعلق به عن العائلة. فكرة أن يكون عارًا عليهم كانت تحر.ق قلبه، لكنها أصبحت منطقية في نظره بعد كل ما حدث.
رغم كل شيء، أصر صالح بقوة، متحدثًا بثبات:
ـ مش هينفع تفضل كده بعيد كل السنين دي. لازم ترجع معايا البلد ودلوقتي. هناك، كل حاجة هتتوضح، وكل الأسئلة اللي في قلبك هتلاقي ليها إجابة. وهنعرف الحقيقه.
نظر عبد الحميد إلى صالح، ورأى فيه الأمل الذي افتقده لسنوات. لم يكن متأكدًا مما ينتظره هناك، لكنه قرر أن يخوض الرحلة، ولو لمرة أخيرة، لعله يجد السلام الذي بحث عنه طويلًا.
كانت السيارة تسير على طريق القاهرة-الدقهلية، تلتف عجلاتها فوق الأسفلت المتعرج بينما كان عبد الرحيم يقود بحذر، نظراته تائهة في الأفق وكأنما يهرب من التفكير في كل ما مر به. إلى جانبه، جلس صالح، يراقب ملامح خاله التي كانت تحمل مزيجًا من القلق والحيرة، فصمت عبد الرحيم لفترة طويلة قبل أن يخرج السؤال الذي كان يزعجه منذ اللحظة التي قرر فيها العودة إلى قريته.
توجه ببطء إلى صالح، وسأله بصوت مليء بالتردد:
ـ تفتكر يا صالح يا ابني، الخطوة اللي احنا هنعملها دي هتجيب نتيجة؟ انا مش مصدق أنهم يسامحوني بعد غياب العمر الطويل ده.
ارتبك صالح للحظة، لكنه سرعان ما رد بثقة، محاولًا أن ينقل إليه بعض من الأمل الذي لا يزال يملأ قلبه:
ـ أنا متأكد يا خالي إن في سوء تفاهم، وهيتحل أكيد. وجدتي هتفرح بيك، وكل العيلة كمان. وغير كده، انت من حقك ترجع لبيتك وعيلتك وتعيش باقي حياتك زي ما تحب.
أصدر عبد الرحيم تنهيدة عميقة، كأنه يحرر نفسه من عبء ثقيل، ونظر إلى الطريق أمامه قبل أن يجيب بصوت منخفض مليء بالأسى:
ـ يا ريت الحياة سهلة زي الكلام كده يا ابني. ما كانش كل ده حصل.
رد صالح مبتسمًا، يحاول أن يمتص القلق الذي كان يملأ الجو:
ـ كل شيء في الدنيا قدر يا خالي. والقدر خلاني اتقابل مع نوال علشان أوصل لك. وأكيد علشان ترجع لبيتك.
كانت كلمات صالح تتناثر في الهواء كالندى، محاولًا أن يزرع في قلب خاله الأمل من جديد، بينما كان عبد الرحيم يسير في طريقه، يواجه الحيرة التي تخترق صدره ولا يعرف إن كانت هذه العودة ستنقذه أم ستظل مجرد حلم بعيد.
في الصالة، جلسن نادية ونوال وكريمة معًا على الكنبة، يتبادلن نظرات القلق والارتباك. كانت الأجواء مشحونة، وكل واحدة منهن كانت تشعر بثقل الانتظار. كان الوقت قد تجاوز عصر اليوم، والجو بدأ يهب نسيمه الخفيف، والظلال بدأت تطول على الجدران، في حين كانت الساعة تقترب من المساء. نوال كانت تطلّ بعيون مليئة بالهموم، وقالت بصوت مختنق يكاد يخنقها الخوف:
ـ ما كانش لازم نسيب بابا يروح لوحده، يواجه عيلته ويواجه مصيره. كان لازم نبقى جنبه، ما نسيبوش ولا لحظة.
فركت نادية يديها بقلق، وعينها لم تفارق الباب كأنها تنتظر أن يدخل منه والدها في أي لحظة، وقالت بصوت هادئ لكن مليء بالتوتر:
ـ واحنا في إيدينا إيه نعمله بس يا نوال؟ إحنا اتحايلنا على بابا كتير عشان نروح معاه، لكن هو رفض. وكمان صالح ابن عمتي شايف إن ده الصح. أنا حقيقي قلقانة قوي، وخايفة إن بابا يرجع حزين وزعلان. صدقيني، بابا مش حمل صدمات تانية.
تنهدت كريمة، ثم تاففت في حركة غير مكترثة، وقالت لتخفف من توتر الجو:
ـ ما تهدوا بقى، أنتم مكبرين الموضوع كده ليه؟ بابا راجع لعيلته يعني المفروض يفرحوا بيه مش يزعلوا. ما تخافوش، بابا هيرجع زي ما وعدني، ومش بعيد كمان يقولي: البسي فستانك يا كريمة علشان نروح لتيته وجدو.
لكن كلمات كريمة لم تهدئ من قلقهن، بل كانت مجرد محاولة لتهوين الأمر. تنهدت نادية ونوال في آن واحد، بينما كانت كل واحدة منهما غارقة في أفكارها، لا تفارقها صورة والدها وهو يواجه عائلته. وكل واحدة منهن كانت في قلبها دعوة صامتة بأن يمر هذا اليوم بسلام، أن يعود والدهن دون أن يحمل في قلبه مزيدًا من الجراح.
ارتفع أذان المغرب في القريه، وكان يجلس حسين في ساحة منزل عمه على المقعد الخشبي الذي كان قريبًا من النافذة المفتوحة، يتنفس بصعوبة، وكأن الهواء الذي يدخل من الشباك لا يفيه بمتطلبات راحته. كانت أنفاسه تخرج ثقيلة وهو يراقب صبري الذي كان جالسًا في مقعده الآخر، وقد ترك الأب المسكين طريح الفراش بلا من يقف بجانبه. بعد أن غادر الطبيب، بدا على حسين حالة من الاستياء العميق وهو يعتب على صبري بصوت منخفض يملأه الحزن:
ـ مهما كان يا صبري، اللي أنت عملته ده كبير قوي. عرفت إن أبوك وقع مننا عَشية المفروض دلوقتي تبقى تحت رجليه وتشوف محتاج إيه وتعمله. مش تفضل نايملي جار عروستك الجديدة، ياخي استحي شوية على دمك.
نظر صبري إلى حسين وهو يرفع حاجبيه ببرود واضح، وأخذ يحك رأسه تحت الطاقية التي كانت تغطي رأسه، ثم قال بنبرة غير مكترثة:
ـ ما البركة فيك يا حج حسين؟ هو أنا يعني كنت قاعد قدامكم وسبتكم؟ أنا كنت نايم باكل رز مع الملايكة. أنت عارف اني عريس جديد، وبعدين حجازي وحامد قاموا بالواجب. وأول معرفت مكدبتش خبر وجيت جري ودخلت دلوقتي شقيت عليه، بس أمي الحاجه قالتلي إنه نايم هبابه. بعد ما يقوم بالمشيئة نطمن عليه.
حرك حسين رأسه بيأس وهو يلف عينيه بشكل ساخر، ثم قال بتهكم:
ـ عريس جديد! دانت رجلك والقبر يا راجل تقولي عريس جديد؟ صحيح يا ولاد، الحنية ما بتتشحتش. الله يهديك يا واد عمي.
ثم أكمل بنفور شديد:
ـ قوم، قوم، خلينا نروح نصلي المغرب ونرجع. يكون عمي فاق ونطمن عليه سوا. الله يهديك.
ضحك صبري ضحكة مختلطة بالتهكم وقال:
ـ نصلي في الحرم سويا، إن شاء الله يا حج حسين.
وفي تلك اللحظة، أدرك حسين أن التوتر بينه وبين صبري لن ينتهي لأنه لن تتغير طباعة، لكن عليه أن يتجاوز ذلك من أجل المصلحة العامة. فقط كانت هناك حاجة ملحة لأن يتكاتفوا جميعًا ويقفوا إلى جانب عائلتهم في هذه الظروف الصعبة.
البيت الكبير كان هادئًا، يخلو من أصوات الرجال والصبية الذين خرجوا مع العائلة لزيارة الحج عبد اللطيف. لم يبقَ فيه سوى صباح وحريم الدار، يتنقلن بين الأعمال المنزلية، كل واحدة منشغلة بما بيدها. في غرفة صغيرة بجوار المندرة، كانت صباح جالسة على المقعد الخشبي القديم، تُمسك بخصلات شعر ابنتها أمينة وتظفرها بعناية. كانت يدها تعمل بلا توقف، بينما عقلها يغرق في أفكارها.
قالت صباح بصوت مليء بالاعتراض، وهي تنظر إلى جدائل الشعر التي تتشكل بين أصابعها:
ـ يا عيني على بختك المنيل، الاجازة الكبيرة لَمن جات يقوم الراجل يقع منيهم. يا خوفي ليفلسع بدري ويتأجل فرحك على صالح.
رفعت أمينة عينيها نحو والدتها، وقد ارتسم الحزن على وجهها، وقالت بصوت خافت:
ـ متقوليش كده، ربنا يطول في عمر جدي عبد اللطيف. اني بس كل اللي شايله همه، يمه، زعل سي صالح لما يرجع ويلاقي جده عيان وراقد كده. هيزعل قوي.
تنهدت صباح بامتعاض وهي تمصمص شفتيها، ثم ردت بسخرية:
ـ شوف، شوف! أقول للبت الفرح يمكن يتأجل، تقولي مش شايلة غير هم زعل سي صالح. ياختي، ده بدل ما تدعي يتم فرحك على خير.
خجلت أمينة من لهجة والدتها الصارمة، وانخفضت برأسها قليلًا، ثم قالت بصوت متردد:
ـ الفرح كده كده هيجي، يمه. بس الزعل بيفضل جوه معشش في القلوب. واني مش عايزة سي صالح يزعل خالص.
شهقت صباح فجأة، وأشاحت بيدها وكأنها تطرد الأفكار المزعجة، وقالت بنبرة غاضبة بعض الشيء:
ـ مالك يا بت مدلوقة عليه قوي كده ليه؟ اجمدي وجمدي قلبك. بلاش الخايلة الكدابة اللي أنتِ عاملاها دي. دانتي أحلا وأجمل بت في القواسمه، يعني تقعدي حاطة رجل على رجل وتتشرطي كمان.
رفعت أمينة رأسها واعترضت بخفوت:
ـ يوه، هو أنا تكلمت، يمه؟ هو إني ما فيش حاجة بعملها عجباكي خالص؟ ياريتني روحت مع ستي ازور جدي ويلهم.
ردت صباح وهي ترفع حاجبها:
ـ لا يا ختي، ما فيش مراوح ورانا شغل متلتل. وقومي بقى، روحي احلبي الجاموسة قبل ما الدنيا تليل، واني هقوم أرص المواعين. يلا يلا، يا حيلة أمك.
أخذت أمينة شالها ووضعته على رأسها، ثم قامت وهي تبتسم بخجل قائلة:
ـ حاضر يا يمه.حااضر.
بعد خروج أمينة، ظلت صباح جالسة على المقعد، شاردة الفكر. كانت عيناها تتابعان الفراغ، ويدها على حجرها. شعرت بوخز القلق في قلبها، وهي تفكر في الأيام القادمة. لم تنطق بكلمة، فقط ظل عقلها يدعو بصمت، ترجِّيًا أن تمضي الأمور على خير، وأن يُتم الله فرحة ابنتها دون معوقات.
بعدما أسدل الليل عباءته على القرية، أصبحت الأجواء هادئة وساكنة، لا يُسمع سوى أصوات الحشرات الخافتة في الحقول، ووقع خطوات قليلة من المارين العائدين إلى منازلهم. كانت السماء تحمل سوادً حالكًا، يتخلله ضوء خافت من مصابيح الكيروسين المتناثرة على الطرقات. البيوت الطينية غارقة في ظلالها، والنوافذ مغلقة بإحكام، وكأن القرية بأكملها تستعد لغفوة عميقة تحت حضن الليل البارد.
داخل منزل الجد عبد اللطيف، كانت الغرفة الرئيسية تزدحم بالوجوه المألوفة. عبد اللطيف جلس على سريره، متكئًا على الوسائد، بينما أخوه الحاج عبد الرحيم كان يجلس أمامه يحاول تخفيف ألمه ببعض الأحاديث الدافئة. حسين وصبري اتخذا زاوية قريبة، يشاركان في الحديث بصوت منخفض، بينما كان حجازي وحامد جالسين في الخلفية، يراقبان الجو بصمت. الجدة نعيمة وزاهية جلستا متجاورتين، تتناولان الأعشاب الطبيعية وتتبادلان الهمس حول حالة الجد، وكيف يمكنهن مساعدته.
سميرة، كالعادة، كانت عند قدمي والدها، تدعكهما برفق وحنو. ملامحها هادئة، لكنها مشغولة بتخفيف آلامه بكل ما أوتيت من حب. الجو في الغرفة كان مشبعًا برائحة الدواء ودفء العائلة، رغم القلق الذي يخيم في النفوس.
وسط هذا المشهد، دوّى صوت طرقات على الباب، مما جعل الجميع يلتفت نحو مصدر الصوت. ارتفعت أنظارهم، وتحرّك حامد ليقف، لكن سميرة أوقفته بلطف:
ـ خليك، يا حامد، اني اللي هفتح. يمكن حد من الجيران جاي يطمن على أبويا.
بخطوات هادئة، وضعت سميرة الغطاء على قدمي والدها بحرص، ثم رفعت شالها ولفته حول رأسها، وتوجهت نحو الباب. فتحت الباب بحذر، وسرعان ما تجمدت ملامحها للحظة عندما رأت صالح أمامها.
دق قلبها بفرح مفاجئ، وابتسمت له بحرارة:
ـ صالح! ابني! يا ألف الحمدلله على السلامة!
احتضنته بشوق، ثم ابتعدت قليلًا، تتفحص ملامحه، وسألت بدهشة ممزوجة بالعتاب:
ـ ليه جيت بالليل كده؟ النهار، له عينين ياحبيب أمك. إنت جيت مع جوز عمتك ولا جيت في القطر.. تلاقيك روحت على الدار الكبيرة الأول وقالولك اني هنـ....
لكن كلماتها تلاشت فجأة، عندما وقع بصرها على ظل رجل يقف خلف صالح. عبد الحميد كان صامتًا، يراقب الموقف بهدوء. شعرت سميره بشيء غريب، تحدق فيه بتمعن. بدا مألوفًا بشكل محير. ملامحه، وقفته، حتى نظرته جعلتها تشعر أنها رأته من قبل.
تقدم عبد الحميد خطوة نحو الضوء، وتجمدت سميرة في مكانها. خفق قلبها بقوة، وحيرتها ازدادت؛ ملامح هذا الرجل ليست غريبة، لكنها لم تستطع أن تستعيد من يكون. حاولت أن تهز رأسها لتبدد ذلك الشعور الغامض، لكن صوته الخافت، المليء بالتردد، اخترق السكون:
ـ إزيك، يام صالح؟ إزيك يا سمرة؟
شهقت سميرة بصمت، وتوقفت أنفاسها للحظة. كان لقب "سمرة" الذي نطقه، ذلك اللقب الذي لم تسمعه منذ زمن طويل، كفيلاً بأن يوقظ في قلبها ذكريات مختبئة. اتسعت عيناها بدهشة، بينما ظلت تتأمل ملامحه، غير قادرة على الجزم، لكن صوت الرجل حمل شيئًا مألوفًا لا يمكن نسيانه.