رواية وانحنت لاجلها الذئاب الجزء الثالث من (سلسلة الذئاب) الفصل الثامن والعشرون 28 بقلم منال سالم


 رواية وانحنت لاجلها الذئاب الجزء الثالث من (سلسلة الذئاب) الفصل الثامن والعشرون

بداخــــل ميناء بورسعيد ،،،،

ركض العاملون بالميناء نحو الرصيف الجانبي الذي وقعت فيه الرافعة بالحاوية التي تحملها ، وصرخوا بفـــزع حينما تفاجئوا بوجود بقايا بشرية ودمـــاء منتشرة في المكان ، وأثـــار لتهشم سيـــارة ما أسفلهما  ..
صــاح أحدهم بهلع :
-يا ليلة كوبيا ، حد يتصل بالاسعاف والبوليس ! 

تسائل أخــــر برعب وهو يتلفت حوله :
-انتو كلكو كويسين ؟

رد عليه عامل ثالث :
-تمم على العمال اللي عندك كلهم 

هتف سائق الرافعة بخـــوف :
-سترك يا رب ، قلبي حاسس من الأول إن اليوم ده مش هايعدي على خير ! 

تجمعت بعض الكلاب الضــالة بالرصيف ، وبدأ بعضها يلعق تلك البقايا العالقة بالأرضية الإسفلتية ، فحاول أحد موظفي الأمن المتواجدين بالميناء إبعادهم وهو يهتف بحنق :
-هششش .. وده وقت كلاب ، بتاكلوا ايه بس ؟! 

دقق موظف الأمن النظر فيما يلعقوه ، فوجدها بقايا بشرية ، فشعر بالغثيان ، وهتف بإشمئزاز وهو يلوح بعصاه الإلكترونية :
-هششش ! ابعدوا من هنا !
لم يتحمل بشاعة المشهد ، فأفرغ ما في معدته فوراً .. وتحرك مبتعداً ..

وفي غضون دقائق تحـــول الميناء إلى ســـاحة للجريمة ، وأصبح يعج برجــال الشرطة والمباحث والتحريات الخاصة لمعرفة هوية المتوفي ...
....................................

في منزل تقى عوض الله ،،،،

أغلقت فردوس درج الكومود الموجود بغرفة نومها وأمسكت بالشيك النقدي بأصابعها ، وجاهدت لتقرأ ما فيه ، ولكن كانت الرؤية مشوشــة للغاية ..
إنتحبت بصوت خافت ، وغمغمت مع نفسها بضجر :
-بكرة بنتي هاترجعلي تاني ، وهاتنسى اللي حصل ! والفلوس دي هاتخليني أخــرج من الوحلة اللي أنا فيها ، وأطلع على وش الدنيا 

زادت حـــدة الصداع المهلك في رأسها ، فضغطت بكفها على رأسه المتألم ، وهتفت بصوت مختنق :
-آآآآه ، دمـــاغي هاتنفجر، مش قادرة ، آآآه !

تركت فردوس الشيك على الفراش ، وضغطت بكفيها على جانبي رأسها بعد أن نكستها للأسفل ..
ثم استجمعت قوتها ، ونهضت عن الفراش ، وخرجت من الغرفة لتبحث عن مسكن للآلام  ..
زادت حــــدة الضربات بصورة مميتة ، فصرخت بإهتياج وهي تضع كفيها على رأسها ، ثم سقطت على الأرضية وأكملت صراخها المتواصل ...

استمع الجيران إلى صوت صراخها المفزع ، فطرقوا على باب منزلها ، ثم حطمه أحدهم ، واندفعوا للداخـــل لنجدتها ..

هتفت إحداهن بقلق :
-مالك يا ست فردوس ؟

لطمت أخــرى على صدغها وهي تردد بخوف :
-يا لهوي بالي ، نادولها الاسعاف !

أضـــاف رجل ما قائلاً بجدية :
-احنا نوديها على أقرب مشتشفا ( مستشفى ) 

ثم تعاونوا فيما بينهم لحملها ، ونقلها إلى أقرب مشفى ...
................................................

في المشفى الحكومي القريب ،،،،

تم إدخــــال فردوس لغرفة الطواريء لمعالجتها فوراً .. وتكفل أحــد الجيران بدفع الرســـوم لها ..
بينما لم تكف هي عن العويل ولا عن الصــراخ بسبب الآلم الشديد ..
أعطاها الطبيب إبرة مسكنة لتخبو آلامها قليلاً ، ثم قـــام بفحص جرحها الذي لم يشفَ بعد .. ونظر إلى رفيقه بإمتعاض ، وتبادلا الاثنين حديثاً غير مفهومٍ ..

وبعدها تم إيداعها في عنبر السيدات بالمشفى حتى الصبـــاح الباكر ..
.............................................

في منزل تقى عوض الله ،،،

عــــاد عـــوض إلى منزله مع أول ضــوء للنهار ، وتفاجيء بتحطم باب منزله .. فتوجس قلبه خيفة .. وتلفت حـــوله برعب ..
وتسائل بنبرة خائفة :
-هو .. هو حصل ايه هنا ؟

ولج إلى داخــل منزله ، وبحث عن قاطنيه فلم يجد أي أحد بالداخل ، فزاد رعبه .. وخـــرج سريعاً ليطرق باب الجارة المقابلة لهم ..
فتحت له السيدة إجلال الباب بعد لحظات ، ونظرت له بتعجب وهي تسأله :
-خير يا عم عوض ؟

إستدار برأســـه للخلف ، وأشــار بكفه المجعد وهو يرد بتلهف :
-أنا لسه راجع من الجامع ، وباب البيت مكسور وآآ...

قاطعته بإندهــاش وهي تضع إصبعيها على طرف ذقنها :
-هو انت متعرفش اللي جرى للست فردوس ؟

سألها بقلق بالغ وقد إتسعت عينيه المرهقتين :
-حصلها ايه ؟

أجابته بنبرة حزينة وهي تضغط على شفتيها :
-يا حبت عيني فضلت تصوت وتصرخ من دماغها ، فولاد الحلال نقلوها على المستشفى ! 

فغر فمــه مدهوشــاً ، وتسائل بقلق:
-هــــاه ، مستشفى ايه دي ؟

ردت عليه بنبرة عادية وهي تهز كتفيها :
-والله ما أنا عارفة ! 

هـــز رأسها بحركة خفيفة متكررة ، وتابع بفتور :
-ماشي يا حاجة ، كتر خيرك 

ثم أولاها ظهره وتحرك عائداً إلى منزله ، فهتفت فيه إجلال بتمني :
-ربنا يشفيهالك يا عم عوض !

لم يجبها بل ظل على حالته المشدوهـــة تلك وهو يلج إلى منزله ..

استخدم هو المزلاج لغلق الباب المحطم ، وســار بخطى بطيئة نحو غرفته ..
ظل يتمتم قائلاً بتحســر وخيبة أمل :
-عملتي في نفسك كده ليه يا فردوس ؟ لله الأمر من قبل ومن بعد !!

أسند عـــوض عكـــازه إلى جوار الفراش ، ثم جلس بحذر عليه ، وأخــذ يضرب كفاً على كف .. وحرك رأســه للجانبين مستنكراً .. فوقعت عينيه مصـــادفةً على تلك الورقة المطوية على فراشـــه ، فمد يده ليمسكها ، وقـــرأ ما بها ، فتحولت نظرات الحزن إلى صـــدمة واضحة ، وهتف بعدم تصديق :
-مش ممكن ! إنتي تعملي كده يا فردوس !!!

..............................................

في منزل أوس الجديد ،،،

أفـــاق أوس من غفلته القصيرة ، فشعــر بآلم حــاد في عنقه ، ففركه بكفه وهو يضغط عليه .. ثم نهض بحــذر من على الفراش حتى لا يوقظ تقــى ..
وقف قبالتها واضعاً يديه على خصره ، لــوى فمه قليلاً وهو يفكر في شيء ما ، وسريعاً تشكل على ثغره إبتسامة عابثة .. ثم بحرص بالغ ، مـــد يده ليقرب كفها من فردتي الحذاء حتى تستشعر ملمسهما الناعم وهي غافية ، ولم ينسَ أن يطبع قبلة صغيرة على جبينها .. 
طالعها أوس بنظراته الشغوفة ، وأبعد خصلات شعرها المتمردة عن وجهها ، ثم اعتدل في وقفته ، ودلف إلى المرحــاض ليغتسل ، وبعدها بدقائق اتجــــه إلى خزينة الملابس ، وأخـــرج من ضلفته حلة جديدة ليبدل فيها ثيابه قبل يخـــرج من الغرفة بهدوء شديد ..
.....................................

إندهش عدي من استيقاظ أوس مبكراً ، وسريعاً أطفأ سيجارته المشتعلة في المنفضة ، ونهض عن الأريكة ليســأله بتعجب :
-انت لحقت تنام ؟

رد عليه أوس بصوت خشن وهو يسعل قليلاً  :
-مافيش وقت للنوم ، لســه عندي حاجات عاوز أخلصها 

ســأله عدي بإهتمام وهو قاطب جبينه :
-طب انت رايح فين الوقتي ؟

أجابه أوس بإيجاز وهو ينتصب بكتفيه :
-رايح الشركة 

عقد عدي ما بين حاجبيه في إستغراب وهو يســأله :
-بدري كده ؟

هــز رأســه قائلاً بإقتضاب :
-أيوه ..!

وإلتفت بعدها حــوله متسائلاً بجمود :
-أومــال ليان فين ؟

أجـــابه عدي مبتسماً ابتسم له عدي وهو يحك فروة رأســـه :
-مع مامتها جوا 

هـــز أوس رأســه بخفة ، وتابع بصوت جــــاد وهو يشير بيده :
-تمام ، أما تفوق براحتك ابقى حصلني على الشركة !

اعترض عدي قائلاً بإصرار :
-لأ استنى أنا جاي معاك ، بس هاعدي على الفيلا أغير هدومي الأول 

ضغط أوس على شفتيه ليرد بإختصار جاد :
-اوكي !

...........................................

بصعوبة بالغة تمكنت ليــــان من النوم في أحضــــان والدتها بعد تلك الليلة الفائتة التي قضتها مع عدي .. فقد رفض الأخير أن يتركها دون أن يعبث معها قليلا ً ..
..................................
◘◘◘ (( خفق قلب ليــــان بإرتباك جلي ، وشهقت مذهولة من تلك الحركة المباغتة التي قــام بها شقيقها بإلقائها على عدي ليمسك هو الأخــر بها ببراعة بذراعيه ، ويحول دون سقوطها .. بينما طوقت هي عنقه بذراعها ..
توردت وجنتيها بحمرة بائنة ، وهتفت بتذمر وهي تركل بقدميها في الهواء بعد أن انصرف أوس :
-نزلني ، مش خلاص مشى !

ابتسم لها إبتسامة مراوغة ، وأجابها بمكر وهو يغمز لها :
-هو قالي أتعامل !

تعمدت العبوس بوجهها ، ورمقته بنظرات حادة وهي تهتف فيه بنبرة شبه منفعلة :
-يـــوووه ، نزلني بقى 

نظر لها مستنكراً ، ورفع حاجبه للأعلى ، ورد عليها معاتباً :
-دي شكراً بتاعتك ، مش بدل ما كنتي تقعي !

تجهمت ملامح وجهها ، وهتفت بتحدي :
-أنا عاوزة أقع 

ضاقت عينيه بصورة مثيرة ، وهمس بمكر :
-بجد ؟!

ردت عليه بنفاذ صبر وهي عاقدة ما بين حاجبيها بشدة :
-أيوه 

مازحها عدي متسلياً معها ، حيث أرخى ذراعيه قليلاً لتشعر بتهديده الجـــاد بإيقاعها .. وتسائل بجدية مصطنعة وهو يطالعها بنظرات والهة :
-يعني كده ؟

إنتابها حــالة من الخوف ، وتشبثت أكثر بعنقه ، وصاحت بتوتر :
-حاسب !

استمتع عدي بلهوه معها ، فكرر تلك الفعلة قائلاً بإبتسامة واسعة :
-طب ولا كده ؟!

تعلقت بعنقه ، وعانقته بطريقة حركت مشاعره بشدة ، وأصابته بالتوتر الرهيب وهي تهتف متوسلة :
-No, no , no ( لا، لا ) .. بطل بقى بليز !

تنهد بعمق وهو يهمس لها بحرارة :
-ماتخفيش ، مش هاوقعك أكيد

ثم أنزلها بحــذر لتقف على ساقيها ، وظل محاوطاً خاصرتها بذراعه ، ورمقها بنظرات رومانسية مثيرة ، وهو يبتسم لها بإغـــراء خطير ..
 ازدردت ليـــان ريقها بتوتر واضح ، وشعرت بتأثيره عليها ، فخجلت منه ، وسحبت ذراعيها من حول عنقه بإرتبـــاك ، وأســرعت بالإنصــراف من أمامه راكضة لتعود إلى غرفتها ، فتفاجئت بوجـــود والدتها بها ، فهتفت بتلهف :
-مامي 

فتحت تهاني ذراعيها في الهواء ، وردت عليها بفرحة وعينيها دامعتان :
-ليــــان ! بنتي !

ركضت ابنتها ناحيتها ، وإرتمت في أحضانها ، وأسندت رأسها على كتفها ، وسألتها بصوت شبه باكي :
-انتي هنا يا مامي ؟

مسحت تهاني على ظهر ابنتها ، وتابعت بتنهيدة سعيدة :
-ايوه يا حبيبتي ، أنا هنا معاكي ، ومش هاسيبك )) ◘◘◘

...............................................
تقلبت ليـــان في الفراش لتنام على جانبها ، وإبتسمت لنفسها إبتسامة خفيفة وهي تغمض عينيها مرة أخـــرى .. 
لقد كانت من قبل ناقمة على عدي ، وتبغض وجودها بقربه بعد إكتشافها لخديعته ، وعاهدت نفسها ألا تكون لقمة سائغة له أو لغيره وألا تستسلم لمشاعرها تحت أي ضغط .. ولكن بعد مصارحته الأخيرة لها ، وإعترافه بخطئه وإبدائه لندمـــه الشديد وتوبته ، رق قلبها نحوه ، واستشعرت من جديد تأثيره القوي عليها ، بل إنه حرك بها تلك الأحاسيس الغريبة التي تشتاقها فباتت غير متيقنة من قرارها السابق ....
..........................................

في المشفى الحكومي ،،،،

حركت فردوس رأسها على الجانبين وهي تئن بصوت خفيض .. ثم مدت يدها لتتحسس موضع الآلم .. ونادت بصوت واهن :
-حــ.. حد يساعدني ، آآآه ، مش قادرة من دماغي !
 
جاءت إليها الممرضة ، وتفقدتها سريعاً ، ثم ردت عليها بجمود :
-اهدي يا ست ، شوية وهتاخدي حقنة المسكن التانية !

سألتها فردوس بصوت متألم وهي تحاول فتح عينيها المتعبتين :
-أنا فيا إيه ؟ مش قادرة من دماغي ! وعيني .. مش .. مش شايفة بيها كويس !

ضغطت الممرضة على شفتيها لتجيبها بإمتعاض :
-معلش ، من أثر الخبطة الجامدة اللي كانت في دماغك ، فإلتهبت وآآ..

اقتضبت الممرضة حديثها ، فسألتها فردوس بتلهف وهي تدير رأسها في اتجاهها :
-وآآ.. ايه ؟

نفخت الممرضة وهي تقول على مضض :
-بصي هو الدكتور شوية وهايعدي عليكي يفهمك حالتك بالظبط !

أمسكت بها فردوس من قبضتها ، وهتفت فيها بعصبية :
-ماتسبنيش كده ، قوليلي فيا ايه 

لمحت الممرضـــة الطبيب وهو يدلف للعنبر النسائي ، فتشدقت قائلة :
-اهوو .. الدكتور جــه هناك ، ثواني أندهولك 

وبالفعل تحركت الممرضــة نحوه ، وتحدثت معه بهدوء ، فعـــاد الأخير إلى فردوس ، وفحصها متسائلاً بجدية :
-ازيك دلوقتي يا حاجة ؟
ردت عليه متآلمة :
-مش كويسة خالص ، دماغي وعيني فيها زغللة وآآ...

مط فمـــه ، وتابع بهدوء جـــاد :
-شوفي يا حاجة ، مخبيش عليكي ، في مشكلة خطيرة عندك ولازم تتعاملي معاها من دلوقتي 

إنفرج فمها بهلع : 
-هـــاه

تابع قائلاً بتفسير وهو يشير بيده :
-نتيجة الضربة القوية اللي اتعرضتيلها ده أثر على مراكز حساسة في المخ ، وخصوصاً مراكز الإبصار فده أدى لضعف الرؤية عندك ، وآآ...

توقف عن الحديث فإنقبض قلبها بفزع ، وســألته بصوت لاهث :
-وايه ؟

نكس رأســه قليلاً ، وأجابه بحــذر :
-وللأسف بعد فترة النظر هايروح خالص 

صرخت بصدمة كبيرة :
-اييييييه !

تابع قائلاً بنبرة مواسية :
-ده قضاء الله طبعاً 

جحظت بعينيها ، وصرخت بهوس وهي تمسك بياقة الطبيب بقبضتها :
-أنا هاتعمى ، لألألألأ !

أزاح يدها قائلاً بضيق :
-اهدي يا حاجة ، ماينفعش اللي بتعمليه ده 

هزت رأسها مستنكرة ، وهتفت بتوسل باكي :
-مش عاوزة أتعمى ، أنا عاوزة اشوف ! طب .. طب مافيش علاج ؟ أنا مستعدة أدفع لحد مليون جنية !!!

أردف الطبيب قائلاً بجمود :
-هو للأسف مش هنا في المستشفى دي ، الإمكانيات محدودة ، لكن يمكن تلاقي في مستشفى استثماري أو آآ...

قاطعته بصراخ وهي تشير بيدها المرتجفة :
-ماشي ، مش مهم أي فلوس ، المهم إني أشوف ونظري مايروحش ! 

تحركت بصورة هيسترية على الفراش ، وتابعت بصراخ :
-خرجوني من هنا ، خلوني أجيب الفلوس ، وألحق نفسي !
................................................ 

في المقر الرئيسي لشركات الجندي للصلب ،،،

إستند أوس بذقنه على مرفقه ، وفحص بعينين ثاقبتين كل ورقــة من الأوراق التي أعطتها إياه والدته تهاني ..
تجهم وجهه بشـــدة ، وأظلمت عينيه وهو يقرأ تلك الحقائق المفزعــة التي كشفت القنــاع الأخــر لأبيه بوضــوح ..
هو عَهِده بغيضاً ، عنيفاً ، ذو سلوكيات عدائية منحرفــة .. لكنه لم يتوقع أن يكون بمثل تلك الدناءة والخسة .. 
فقد تلاعب بمصائر الكثيرين وأفســد حياة الأبريــاء على مدار عقود ...
كما إكتشف بينهم وجود عقود زائفة ، وتحاليل غير صحيحة تم التلاعب بها ، وأوراق تخص ممدوح ، ووالدته .. 

فغر فمــه مشدوهـــاً وهو يقرأ ما حوته تلك الأوراق .. ثم حــدق أمامه في الفراغ بنظرات خـــاوية وهو يكاد لا يصدق هذا ..

دلف عدي إلى داخل مكتبه ، فرأه على تلك الحالة المصدومة ، فســأله بتوجس :
-انت كويس يا أوس ؟

لم يجبه الأخير ، وظل على تلك الوضعية الجامدة ..
ثم انتبه عدي لصوت السكرتيرة المرتبك :
-سوري يا فندم على المقاطعة !
نظر الإثنين نحوها ، فتابعت بتوتر وهي تشير بكفيها :
-في يا فندم ظابط برا عاوز يقابل حضرتك ضروري 

ردد أوس بإستغراب وهو يرمقها بنظرات قوية :
-ظابط ؟! 

سألها عدي بجدية :
-وده عاوز ايه؟
-دخليه !
قالها أوس بصوت آمــــر وهو يشير بإصبعه لها ...

خرجت السكرتيرة من المكتب ، وسمحت للضابط بالدخــول ، فنهض أوس عن مقعده ، وســأله بجدية وهو يحدجه بنظرات حادة :
-خير يا حضرت الظابط ؟

مط الضابط شفتيه ، وتابع قائلاً بحذر :
-أوس باشا احنا عاوزين سيادتك تشرفنا شوية في بورسعيد !

ضاقت نظرات أوس ، واكتسى وجهه بعلامات الإندهاش ، وردد بنبرة شبه مصدومة :
-نعم ! بورسعيد ! 

هـــز الضابط رأســه بحركة خفيفة مكملاً بإحتراز :
-ايوه ، للأسف عندي خبر مش كويس يخص والد سعادتك !

هـــدر فيه عدي بنفاذ صبر :
-في ايه حصل ؟ ما تكلم على طول يا حضرت الضابط 

التفت الضابط نحو عدي ورمقه بنظرات منزعجة ، ثم عـــاود النظر إلى أوس ، وأجابه بنبرة شبه أسفة :
-الدكتور مهاب آآ.. مـــات !

تجمدت تعابير وجــــه أوس ، وتسمــــر في مكانه مصدوماً من ذلك الخبر المفجع ، ولم يحرك ساكناً .. بينما صاح عدي بإستنكار :
-بتقول ايه ؟ وإزاي ده حصل ؟!

أجابه الضابط بنبرة رسمية :
-أنا معنديش تفاصيل كفاية ، بس لازم الباشا يجي معايا الوقتي !

حدق عدي في أوس فوجـــده شارداً في عالم أخــر ، وكــأنه ليس متواجداً معهما في المكتب .. فإقترب منه ، ووضع يده على كتفه ، وهزه بخفة وهو يقول بجدية :
-أوس .. لازم تروح دلوقتي تشوف الموضوع ده

إلتفت أوس ناحيته ، ورمقه بنظرات خاوية ، ثم همس بصوت آمـــر :
-ماتبلغش حــد باللي حصل ! وخليك هنا !

أومـــأ عدي برأســه موافقاً وهو يبتلع ريقه ، في حين تحرك أوس مع الضابط إلى خـــارج المكتب ...
....................................................

في منزل أوس الجديد ،،،

تثاءبت تقــى بصوت خافت وهي تتململ في الفراش ، وشعرت بملمس ناعم تحت كفها ، ففتحت عينيها ببطء ، ورفعت أناملها الرقيقة للأعلى لتجد فردتي حذاء الرضيع أسفل راحة يدها ، فرمشت بعينيها عدة مرات لتتأكد من أنها مستيقظة وليست في حلم جميل ..
رفعت رأسها بحذر وتأملت الحذاء بنظرات مصدومة .. وتشكلت إبتسامة سعيدة على محياها .. 
قربت تقى الحذاء من فمها لتقبله ، فاشتمت فيه رائحة عطر أوس المميز .. فزادت إبتسامتها إشراقاً ..
تلفتت حولها باحثة عنه ، ولكنها لم تجد أي أحــد بالغرفة .. فنهض من على الفراش ، وتوجهت إلى الخـــارج وهي قابضة على فردتي الحذاء ..

تسمرت في مكانها مشدوهـــة حينما رأت تهاني أمامها ..
بينما إستقبلتها الأخيرة بإبتسامة ودودة وهي ترحب بها :
-صباح الخير يا بنتي !

تلعثمت متسائلة وهي تتحرك نحوها بخطوات سريعة :
-خـ.. خالتي ! انتي .. انتي هنا ؟

حركت رأسها إيجاباً وهي تجيبها بسعادة :
-أيوه يا حبيبتي !

ثم احتضنتها برفق ، وقبلتها من وجنتيها ، وأضافت بثقة وفخــر :
-ابني الغالي أوس جابني هنا !

إتسعت مقلتي تقى في ذهـــول أخــر مثير ، وهتفت بعدم تصديق :
-ايييييه ! مين ؟

ربتت تهاني على ظهرها بحنو ، وأضافت بإبتسامة لطيفة :
-تعالي اقعدي جمبي وأنا هاحكيلك على اللي حصل كله .......................................!!!
وانحنت لأجلها الذئاب

الفصل الثامن والعشرون ( الجزء الثاني ) :

في منزل تقى عوض الله ،،،

إستندت فردوس على إحدى جارتها لتتمكن من الصعود على الدرج ، وتحملت كل الأوجـــاع التي تفتك برأسها من أجل الوصــول إلى منزلها لتحصل على الشيك النقدي فتتمكن من علاج نفسها ...
طرقت الباب بدقات عنيفة بعد أن تعذر عليها فتحه ، وهتفت بصياح :
-افتحوا الباب ! 

بعد لحظات أزاح عوض قفل المزلاج ، ووقف على عتبة الباب ليرمقها بنظرات ساخطة ..
دفعته بيديها لتلج للداخل وبدت كالمجنونة وهي تسرع في خطواتها لتبحث عن ذلك الشيك 

أوصــد عوض الباب ، وتحرك خلفها بخطوات متمهلة ..
ألقت فردوس بمعظم محتويات الكومود على الأرضية ، وقذفت بالبقية على الفراش ، وأخذت تلهث وهي تتسائل بفزع :
-راح فين الشيك ؟ هو فين 

راقبها عوض بنظرات إحتقارية ، ثم تسائل بنزق :
-بتدوري على ايه يا فردوس ؟

ردت عليه بصوت محتد وهي تقذف بالأشياء دون إكتراث :
-ملكش دعوة يا عوض ، سيبني في الهم اللي انا فيه 

تابع عوض قائلاً بجمــــود واضح :
-اللي بتدوري عليه معايا !

انتبهت هي إلى حديثه الجــــاد ، ورفعت رأسها في إتجاهه ، وانفرجت شفتيها بصدمة جلية ..

لوح عــوض بتلك الورقــة المطوية التي بحوزته ، وحدجها بنظرات جافة وهو يتابع بصوت شبه غاضب :
-هو ده التمن اللي بعتي بنتك بيه ؟ 

ازدردت ريقها بصعوبة ، وسألته بصوت لاهث :
-انت .. انت خدت الشيك ؟

أمسك عــوض الشيك النقدي بكفيه ، فجحظت فردوس بعينيها ، .. ورغم الآلم الذي يُلهب نظراتها إلا أنه لا يقـــارن بهلعها من إحتمالية تمزيق زوجها له ..
فهتفت متوسلة وهي تشير بكفها :
-هاته يا عوض ، أنا .. أنا محتاجاه أوي ، نظري هايروح لو آآ...

لم يصغِ زوجها إليها ، بل قـــــام بتمزيق الشيك إلى نصفين غير عابئاً بنظراتها المشتعلة ، ولا بتوسلاتها المتواصلة ، ومن ثم مزق النصفين إلى أجزاء صغيرة ، ثم ألقاها في وجهها وهو يضيف بنزق :
-شوفي حاجة تانية تجبي منها فلوس غير روح بنتك !

شهقت فردوس بصراخ غير مصدقة ما فعله تواً ، ولطمت على صدغيها قائلة وهي تتحسر حالها :
-حرام عليك يا عوض ، أنا ضعت خلاص ، واتعميت ، حـــرام .. لييييه كده ؟! 

لم تتحمل قدماها الوقوف ، فجثت على ركبتيها ، وأخذت تضرب صدرها ووجهها بصورة هيسترية مثيرة للشفقة .. 
ومع هذا حدجها زوجها بنظرات قاسية جافة .. وأردف قائلاً ببرود :
-يعوض عليكي ربنا يا .. يا مرات عم عوض !
....................................

في مشرحة بورسعيد ،،،،

تحرك أوس بخطى ثقيلة نحـــو ذلك الممر الطويل البـــارد حتى يصل إلى تلك الغرفة شبه المظلمة ليتعرف على ما تبقى من جثمان والده بعد أن جمع أشلائه رجــال المعمل الجنائي .. ومن ثم يقوم بإستلامها ..

ظل طــوال الطريق إلى تلك المحافظة صامتاً لا ينبس بكلمة ..
وجهه متجمداً ، نظراته قاسية .. 
ورغم هذا كان يشتعل من الداخـــل .. ولكن لم تكن لديه أي رغبة في البكاء حزناً عليه ..
إجتــــاح عقله سيل هائل من الذكــريات المريرة معه .. نعم فأكثر  ما يذكره عنه هو جفائه المستمر ، قسوته في التعامل ، عنجهيته ، تسلطه ،  نزواته الماجنة ، ولياليه العابثة ..
مـــر بباله ذكرى ما فعله حينما كان طفلاً صغيراً - لا حـــول له ولا قوة - وأسلمه إلى رفيقه ممدوح ليفعل به ما يشــاء على طريقته الفاجرة ..
طفولة بائسة قضاها في كنفه ، وتبعتها مراهقة عصبية ، ثم سنوات تالية لا يذكر فيها لحظة حنو أبوي واحدة معه ..

توقف عن السير حينما أشــار له رجل ما يرتدي معطفاً أبيض اللون ليدخــل إلى تلك الغرفة التي دون عليها ( المشرحة ) 

ابتلع ريقه ، وأحس ببرودة رهيبة تجتاح أوصــاله ..
رعشة قوية هزت جسده القوي المتصلب .. ولكن رغم هذا استمر في التحرك ..
دلف إلى الداخل وهو يتوقع الأســوأ ..
حبس أنفاسه ، وحرك رأســه ببطء باحثاً عن ضالته ..
تعلقت أنظاره بذلك الفراش الذي تدلت منه لوحة كرتونية صغيرة كتب عليها اسم ( مهاب الجندي ) ..
خفق قلبه بشـــدة ، ووضع يده على فمه ليمنع أي شهقة تصدر رغماً عنه .. ثم بحركات شبه عاجزة حاول أن يدنو أكثر منه ..

إرتد شبه مذعــــوراً للخلف من هـــول المنظر ، وخـــارت قواه فوراً ، ولم يستطع الوقوف على قدميه حينما إلتقطت عينيه جزءاً صغيراً من بقايا وجــه أبيه .. فأشــاح بوجهه للجانب ، وأغمض عينيه بقوة ..

توقع أن يكون أكثر تحملاً وصلابة .. أن يكون أكثر قسوة وشجاعة ، ويستقبل جثمانه بجمود قاسي .. ولكنها كانت مجرد حصون واهية .. إنهارت فوراً مع رؤيته لهذا المشهد المفزع ..
بكى رغماً عنه حزناً على حــاله .. وغطا بكفه وجهه ، وشعر بالغثيان الشديد ، وصعوبة في التنفس .. 
فركض مسرعاً للخـــارج ليلتقط أنفاسه ..
أسنده أحد الأطباء ، وأشفق عليه المتواجدين بالممـــر ..
تبادلوا الأحاديث فيما بينهم ، ولكنه لم يكن مصغياً ولا منتبهاً إلى أي كلمة تقــال ..
هتف أحد محاميه قائلاً بجدية :
-البقاء لله يا أوس باشا ! احنا هانخلص لحضرتك الإجراءات عشان تصريح الدفن وآآ....

لم ينتبه له أيضــاً ، بل دفعه بقبضته ، وخطى بخطوات سريعة أقرب للركض لينطلق مبتعداً عن الجميع وهو يحاول السيطرة على حـــــاله .. فالفاجعة أكبر من قدرته على التحمل .....
........................................

في منزل أوس الجديد ،،،

ســـردت تهاني لتقى ما فعله أوس معها ، وتعمدت أن تحذف الجزء المتعلق بوالدتها فردوس حتى لا تشعرها بإهانته إياها حتى وإن كانت مذنبة .. فقد أرادت أن تكون العلاقات بينهما ودية ولا تتضمن أي مشاحنات أو ضغائن بسبب أفعال غيرها المشينة ....

أنصت تقى إليها بإهتمام كبير ، وبدت راضية للغاية وهي تستشعر مشاعر خالتها المتحمسة وهي تتحدث عن صفح ابنها لها ومناداتها إياه بـ ( ماما ) ..
لمعت عينيها عفوياً ، وتجمعت العبرات في طرفيها .. 
فهي تكاد لا تصدق ذلك التغيير الكبير والتحول الهائل في حياة أشد الرجـــال قســوة وأكثرهم جبروتاً .. بينما أكملت تهاني بصوت مختنق :
-سنين وأنا مستنية أسمع الكلمة دي بوداني قبل ما أموت ، سبحان الله ربنا نولهاني ، ورضاني بإبني ! اللهم لك الحمد والشكر ..!

نظرت لها تقى وتلك الإبتسامة الرقيقة مرتسمة على ثغرها .. ومسحت بأناملها عبراتها ..
تابعت تهاني قائلة برجــاء :
-انا عاوزاكي يا بنتي تديله فرصة !

ضيقت تقى عينيها ، ونظرت لها بإهتمام ، فتابعت خالتها بنبرة خافتة :
-صدقيني هو اتغير فعلاً ومش عشاني ، لأ .. عشانك انتي .. !!

قرأت تهاني في عيني ابنة أختها الإستغراب ، فهزت رأسها وهي تتابع بثقة :
-ايوه ، انتي الوحيدة اللي خليتي أوس الجندي يبقى عنده قلب ويرجع يحس ويحب من جديد !

توردت وجنتي تقى وهي تصغي إلى تلك العبارات التي تمسها ..

حدقت تهاني فيها بنظرات عميقة ، وأضافت بنبرة عذبة وهي تحتضن كف تقى براحتيها : 
-أوس بيحبك أكتر من روحه ، إنتي .. انتي لو تشوفيه وهو بيتكلم عنك ازاي ، هاتحسي بأد ايه هو بيعشقك ، بيتمنى يشوفك بس راضية عنه ومبسوطة معاه !
 
إزدردت تقى ريقها بتوتر ، وشـــردت مخيلتها في ومضـــات سريعة من لحظاته الحنونة معها ..

ضغطت تهاني على شفتيها لتقول بحذر وقد تحولت نظراتها للجدية :
-أنا عارفة إنها تجربة مش سهلة عليكم ، واللي مريتوا بيه مش هين !

بدى الإرتباك والتوتر واضحاً على تعابير وجـــه ابنة أختها ، فأكملت بإحتراز :
-بس .. بس إديله فرصة يقرب منك بجد !

ضغطت على كفها بأصابعها ، ونظرت له برجاء ، وهمست متوسلة :
-سامحيه يا تقى عشان ترتاحي !

ثم وضعت إصبعها بالقرب من صدرها ، وأضافت بنبرة إستعطاف :
-سامحيه بقلبك الطيب ده ! وإنسي اللي حصل وكملي حياتك معاه ، إنتو .. إنتو اتخلقتوا لبعض ! 

أسبلت تقى عينيها الدامعتين للأسفل .. ووضعت إصبعها على طرف أنفها ، وحــاولت أن تمنع نفسها من البكاء .. وهمست بصوت مختنق للغاية :
-يا ريت أقدر أعمل ده !

لفت تهاني ذراعها حول ظهرها ، واحتضنتها وهي تقول بإصرار :
-هاتقدري يا بنتي ، جربي ومش هاتندمي ، لو فضلتي واقفة عند الماضي كتير عمرك ما هاتتخطي اللي حصل ، إكسري الحاجز اللي واقف بينكم ، وعيشي حياتك .. وسامحي ، ده ربنا بيغفر ، إحنا يا عباده مش هانغفر ؟!

هزت رأسها وهي تردد بإستسلام :
-هـ.. هحــاول

ثم إنتبهت كلتاهما إلى صوت قرع الجرس ، فنهضت تقى عن الأريكة ، وأشــارت لخالتها قائلة :
-أنا .. أنا داخلة جوا 

هتفت المدبرة عفاف بجدية وهي تتجه نحو الباب :
-أنا هاشوف مين ، خليكوا مرتاحين 

ردت عليها تهاني بإمتنان :
-طيب .. ربنا يكرمك !

فتحت عفـــاف الباب ، وابتسمت لعدي وهو يدلف للداخل ، وأردفت قائلة بترحيب :
-اتفضل يا عدي باشا 

تحركت تهاني نحوه وعلى ثغرها إبتسامة عريضة ، وهتفت بحماس :
-ازيك يا بني ، تعالى ، البيت منور بوجودك فيه

لاحظت تعابير الحزن المكتسية على جميع قسمات وجهه ، ونظراته القاتمة ، وعبثه بسلسلة مفاتيحه بطريقة عصبية ، فســألته بتوجس :
-مالك ؟ هو .. هو في حاجة حصلت ؟

رد عليها بنبرة منزعجة للغاية وهو ينظر لها بجمود :
-مـ.. مهاب الجندي مــات ! 

برزت عيني تهاني بصدمة كبيرة ، وشهقت بذهــول :
-إييييه مــ.. مات !!

تابع قائلاً بنفس النبرة المنزعجة :
-أوس طلب مني ما أبلغش حــد بالخبر ده ، بس هو اتعرف ، واتنشر على معظم المواقع ! 

تنفست بصعوبة وهي تردد بلا وعــي :
-مــ.. مات من .. من غير ما يتحاسب على اللي عمله ، من غير ما آآ...

قاطعها عدي قائلاً بجدية :
-أنا عاوز أبلغ ليــان بالخبر ، وحضرتك بلغي تقى ! 

جلست تهاني على الأريكة ، فهي لم تستوعب الصدمة بعد ، وغمغمت مع نفسها :
-طب .. طب إزاي ؟ يعني مات كده فجــأة ، حكمتك يا رب ، لا إله إلا الله ، لا إله إلا الله !

تحرك عــدي في إتجــاه غرفة ليـــان ، وطرق على الباب بخفة ، ولكنه لم يستمع إلى أي صــوت ، ففتحه بحذر ، وولج إلى الداخل ليجدها نائمة في سبات عميق ، فآلمه أن يوقظها ويبلغها بهذا الخبر المؤسف ، هو يعلم أن فراقه ربما لن يؤثر معها ، ولكن الفاجعة في حد ذاتها محزنة بالتأكيد .. 
لذا أغلق الباب بهدوء .. وعـــاد إلى تهاني ليجد تقى جالسة إلى جوارها وفي حــــالة صدمة هي الأخــرى ..

أشـــار بإصبعه للخلف وهو يقول بصوت آجش :
-ليان نايمة ، وأنا مش حابب أصحيها على خبر زي ده !

رفعت تهاني بصرها ناحيته ،وســألته بتلهف :
-طب وأوس فين دلوقتي ؟

أجابها بتنهيدة عميقة :
-راح يستلم جثته من المشرحة في بورسعيد !

وضعت تقى يدها على فمها مصدومة مما تسمعه ، بينما شهقت تهاني بفزع ، وتسائلت بإندهاش :
-ايييه ؟! وإيه اللي وداه هناك كده ؟
تهدل كتفيه مجيباً إياها بقلق :
-مش عارف لسه ، بس أنا بأطلبه وهو مش بيرد عليا !

ضربت تهاني صدرها بكفها ، وهمست بحزن :
-قلبي معاك يا بني !

أضــاف عدي قائلاً وهو يزفر بضيق :
-عامة أنا موجود ولو عوزتوا أي حاجة كلموني ، بس يا ريت تبلغوا ليان الخبر بهدوء ، مش عاوزين انفعال !

أومـــأت برأسها إيجاباً وهي تردد :
-حاضر يا بني ، ربنا معانا كلنا !
-عن اذنكم 
قالها عدي وهو يتجـــه نحو باب المنزل ..

ضمت تقى قبضتي يدها معاً وأسندتهما على فمها ، وظلت تهــز جسدها بتوتر كبير ..
ولكن نوعاً ما أحست بالإرتيـــاح لإنتهاء ذلك الكابوس الذي أرق منامها لليالٍ طوال وهدد حياة جنينها بالقتل .. 
..............................................

مضت عــــدة ســاعات والجميع في منزل أوس ينتظر قدومـــه للإطمئنان عليه وتعزيته .. ولكنه لم يظهر بعد ، ولم يجبْ على اتصــالات أي شخص ..

توجست تهاني أن يكون قد أصابه مكروه ما ، وانقبض قلبها من الخوف عليه ..
بكت ليـــان في صمت دون أن تصدر أي جلبة بعد تلقيها خبر وفـــاة أبيها الزائف مهاب .. وظلت قابعة في غرفتها رافضة للخروج أو الجلوس مع أي أحـــد ..
لم تتخيل أنه قد رحل بالفعل ، وهي التي واجهته قبل عدة ساعات وتحدته بشراسة لم تكن عليها ..
حزنت على فراقــه رغم حنقها منه ..

دلف عدي إلى داخــل غرفتها لمواساتها ، فوجدها ضامة ركبتيها إلى صدرها ، وعاقدة لكفيها معاً أمام ركبتيها .. وفي حالة بكاء شديد ..
أشفق عليها ، وإعتصر قلبه آلماً على حالتها ..
اقترب من فراشها ، وجلس على طرفه قبالتها ، وطالعها بنظرات حانية ..
لم تنظر هي نحوه ، وظلت محدقة أمامها بنظرات خــاوية ..
ضغط على شفتيه ، وبحث عن كلمات معزية ليبدأ الحديث معها ، ولكنه تفاجيء بها تردد بأسى :
-كان بيحبني مع إنه مش بابي ! بس .. بس كان بيحبني !

مـــد عدي كفه ليتحسس يديها المعقودتين ، وهمس بحذر :
-كلنا بنحبك يا ليان !

أغمضت عينيها لتنهمر العبرات بغزارة على وجنتيها ، فدنا أكثر منها ، ولف ذراعيه حولها ليحاوطها ، وضمها إلى صدره ، وتابع بصوت خفيض :
-عيطي يا حبيبتي ، وطلعي اللي جواكي ، أنا جمبك

أسندت رأسها على كتفه ، وبكت بحرقـــة .. فربت هو على ظهرها برفق ، وقبلها في جبينها قبلة عميقة تعاطفاً معها .. وبقي معها إلى أن إستكان جسدها وغفت على صدره ، فقام بإراحة جسدها على الفراش ، وتغطيتها ، ثم مسح العبرات الباقية من على وجنتيها .. ورمقها بنظرات أخيرة حزينة قبل أن يتركها وينصـــرف .....
..............................................

مــــرت ساعات أخــرى ولم يحضر أوس بعد لمنزله .. 
ولجت تهاني إلى غرفة ليـــان لتكون إلى جوارها ، وفضلت تقى أن تظل مستيقظة لتنتظره ..
قــاومت سلطان النوم قدر إستطاعتها ، وتحركت كثيراً على الأريكة ليظل جسدها منتبهاً ..
 وحينما أوشك جفناها على الإستسلام له ، إنتبهت إلى صوت فتح الباب ، ففتحت عينيها سريعاً ، وإعتدلت في نومتها ، وإشرأبت بعنقها لترى القــادم فكان هـــو ..

كان أوس في حـــالة بائسة للغاية .. به حزن عميق رغم جمود تعابير وجهه ..

نهضت بهدوء من على الأريكة ، واقتربت منه وهي تضغط على شفتيها بتوتر ، ثم ســألته بصوت هامس رقيق :
-إنت كويس ؟

طالعها بنظرات غريبة .. وتحرك مبتعداً عنها ليجلس على الأريكة ..
ثم نكس رأســه للأسفل ، وأخفض نظراته ليحدق في قدميه ..

شعرت تقى بغصة عالقة في حلقها ، فإبتلعتها بصعوبة ، وســارت بخطى متريثة نحوه .. ثم جلست إلى جواره .. وراقبته بدقــة ..

لم ينبس أوس ببنت شفة ، وظل على تلك الوضعية لعدة لحظات .. ولكنها إستمعت إلى صوت تنهيداته العميقة والمطولة ، فأحست بما يعانيه رغم عدم بوحــه به ..

هداها عقلها إلى صــرف تفكيره عن تلك الفاجعة بوضع فردتي حذاء الرضيع أمامه على الطاولة الصغيرة التي تقابل الأريكة .. 
وبالفعل رفــع أوس بصره ليحدق مطولاً بهما .. 
همست له بتلعثم مواسية إياه :
-البقاء لله ، كلنا هنموت في الأخــر ، فـ آآ.. مـ.. ماتزعلش من اللي حصله ! وإدعيله بالرحمة !

إلتفت برأســـه نحوها ، ورمقها بنظرات دامعة ، واستطرد حديثه قائلاً بصوت مختنق :
-إنتي عارفة هو مات إزاي يا تقى ؟

هزت رأسها قائلة بإعتراض :
-مش عاوزة أعرف ، بس .. بس مايجوزش عليه إلا الرحمة الوقتي ! فإدعيله إن ربنا يغفرله ويرحمه !

إلتوى فمه ليقول بتهكم صــارخ :
-أدعيله ؟ ده كان عاوز آآ...

قاطعته بوضــع إصبعها على فمه ، وأضافت بصوت حنون وهي ترمقه بنظرات رقيقة :
-شششش، ماتقولش ، الكلام مش هايفرق الوقتي ، هو بين إيدين ربنا !

أمسك أوس بكفها وقبل راحته بحرارة كبيرة ، وإستند بصدغه عليه ، وهمس لها بنبرة مليئة بالشجن :
-إنتي .. إنتي طيبة أوي ، وماتستهليش اللي حصلك مني أو من غيري ! 

توقف للحظة قبل أن يتابع بنبرة باكية وهو يطلعها بعينين حمراوتين :
-إحنا .. اللي زينا معروف نهايته ، وماينفعش نكون آآ...

طوقت تقى ظهره بذراعها ، وقاطعته بجدية :
-شششش .. ماتقولش الكلام ده 

لف أوس ذراعيه حولها واحتضنها بشدة ، وأسند رقبته على كتفها ، وتوسلها برجـــاء شديد :
-ماتسبنيش يا تقى ، ماتبعديش عني ، مش عاوز أخسرك في يوم من الأيام !

إحتضنته هي الأخــرى بعاطفة قوية إستشعرها بجسده ، وبقلبه ، وبروحه ، وبكل ذرة في كيانه .. وهمست له بصدق :
-أنا .. أنا هنا جمبك !

أخفض نبرة صوته وهو يقول بصوته المنتحب :
-بأحبك يا تقى ، إنتي أحسن حاجة حصلتلي في حياتي ! متتخليش عني وأنا محتاجك !

زادت نبرته إختناقاً وهو يتابع :
-أنا .. أنا ممكن أستحمل أي حاجة ، بس خسارتك ، أو خسارة حتة منك ممكن تخليني .. آآ.. أموت !

أخــذ نفساً عميقاً ، وبللت عبراته كتفها ، وهمس لها بعاطفة جياشة :
-بأحبك يا تقى ، وماحبتش حد قبلك ولا عاوز أحب حد بعدك ! 

إرتعش جسدها على إثر كلماته الصادقة ، وإمتزجت مشاعره المتأججة مع روحها النقية التي إحتوته .. فأغمضت عينيها بقــوة ، وأخــذت نفساً عميقاً حبسته في صدرها للحظات قبل أن تطلقه ، ثم نطقت بإحساس صــادق ، ونابع من أعمـــاق قلبها قبل روحها :
-و.. وأنا .. وأنا كمان بـ.. بأحبك .................................................... !!

تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1