![]() |
رواية علي سبيل الألم الفصل الرابع بقلم رانيا ممدوح
لا تنشغلي بالمستقبل يا سيدتي سوف يظل حنيني أقوى مما كان...
وأعنف مما كان...
أنت امرأة لا تتكرر...
في تاريخ الورد..
وفي تاريخ الشعر..
وفي ذاكرة الزنبق والريحان....
ولهذا أحبك
قطع الضابط شرودها ثم قال بلطف، وهو ينظر إليها بعينيه الثابتتين التي تعكس القلق:
ممكن نتكلم مع بعض شوية ؟ الدكتور قال لي إنك مستعدة للتحقيق."
قالت سبيل بصوت خافت مع لمحة من التردد في عينيها :
"ممكن."
جلس الضابط على كرسي موضوع بجانب السرير وأخذ نفسًا عميقًا قبل أن يوجه نظره إليها بحذر محاولاً قراءة ملامح وجهها المتجهم.
" ممكن تقوليلي إيه اللي حصل يوم الحادث ؟"
تراجعت سبيل قليلاً إلى الوراء، وكان على وجهها تعبير مختلط من الحيرة والخوف، كأنها تسترجع
اللحظات في عقلها ببطء، قبل أن تجيب بصوت ضعيف وتفكر في كل كلمة تخرج من فمها.
ابتلعت سبيل غصتها بألم، وظهرت على وجهها تجاعيد الحزن والدموع التي كادت تلمع في عينيها ثم تابعت بحرقة، وكأن الكلمات تخرج بصعوبة من بين شفتيها:
"يومها كان يوم عادي زي أي يوم، أمي صحتني من النوم وجهزت لي ساندويتشات للمدرسة، وفطرت معاها هي وبابا زي كل يوم وودعتهم، ومشيت. قضيت اليوم عادي في المدرسة بعد ما أخدت حصصي الساعة أربعة، ورجعت كلنا مع بعض تاني. بابا بينام شوية بعد الشغل، وماما بتفضل تشتغل في البيت، تنضف أو تسقي الزرع أو تلعب شوية رياضة. وأنا بجهز نفسي علشان أروح للتمرين تلت أيام في الأسبوع.
روحت التمرين وخلصت ورجعت الساعة ستة زي كل مرة. بس المرة دي كانت مختلفة، وأنا داخلة البيت لقيت البوابة مفتوحة، وده كان غريب بالنسبة لي، وحتى لما جيت أفتح باب البيت لقيته مفتوح برضو فضلت أنادي على أبويا وأمي لحد ما لقيت بابا مرمي على الأرض ومضروب بالسكينة. فضلت أحرك فيه وأنادي عليه بابا يا بابا، وأنا بصرخ ومش قادرة، وبعدها ما دريتش بنفسي، ولا أعرف إيه اللي حصل ؟"
كانت ملامح وجهها متوترة، وعينيها مليئة بالتساؤلات والألم، بينما كانت يدها ترتجف وهي تمسك بجانب السرير، وكأنها تحاول أن تعود إلى تلك اللحظة التي لا تستطيع هضمها أو فهمها.
قال الضابط بنبرة حادة، وهو يحدق في عيني سبيل
"بس أنت متهمة بقتل والدك."
:
23
ردت سبيل بسرعة، وكأن كلمات الضابط صدمتها وأثارت فيها حيرة كبيرة، وعينيها اتسعتا في ذهول:
هقتله إزاي ؟ ده بابا كان كل حاجة في حياتي هو وماما."
الضابط أوماً برأسه وكأن شيئا ما بدا له واضحا، ثم سأل بنبرة أكثر إلحاحا
"أيوة... وماما، مين ماما بقى ؟"
:
23
تنفست سبيل بعمق، وكان واضحًا في عينيها الخوف من التلميح الذي في كلامه، لكنها ردت بلا تردد
" ماما سميرة
تابع الضابط قائلا:
"إحنا دورنا على سجل مامتك، مالهاش أي أثر وكأنها مجتش الدنيا."
نظرت إليه سبيل بإستنكار، وكان وجهها يعكس عدم التصديق والدهشة
"إزاي ده؟"
الضابط نظر إليها بجدية، وأضاف بحسم
:
23
زي ما بقولك كده. جايز تكوني قتلتيها واخفيتي جثتها، ولما جه الدور على والدك جسمك متحملش ده فأغمى عليك."
كان كلامه قاسيًا، وكأنه يحاول أن يزرع الشك في قلبها، بينما كانت سبيل تجلس صامتة تغمرها مشاعر مختلطة من الدهشة والارتباك.
نظرت له سبيل بصدمة، عينيها مليئة بالدهشة، ثم قالت بنبرة صوت مهزوزة، تكاد الكلمات تتلعثم في
فمها :
:
23
" معقول في حد يقتل أهله ؟ طب هعمل كده ليه؟ أرجوك سيبني في اللي أنا فيه، ياريت تقدر تعبي وصدمتي في اللي شوفته، وياريت أمي تطلع عايشة علشان أنا مستحملش أفقد الاتنين في نفس الوقت."
الضابط نظر إليها بحزم، وكان وجهه خاليا من أي تعاطف، وقال بصوت قاسي:
لازم تعرفي إن كل الأدلة ضدك. البيت مفيهوش أي آثار للعنف سواء من الداخل أو الخارج، والكاميرات مسجلتش أي شيء غريب اليوم ده. ده معناه حاجتين واحد، إنك أنت اللي ارتكبتي الجريمة دي. اتنين، إنك سهلتي للقاتل دخوله البيت وهو خلص
وخلع.
انفجرت سبيل، ثم قالت بخوف
:
23
طب هعمل كده ليه وأأذي أهلي بالشكل ده ليه؟"
أجابها الضابط بنبرة جافة، دون أن يبدو عليه أي شعور بالندم
معرفش بقى المفروض إنك تجاوبيني على السؤال ".ده
ردت سبيل بسرعة، بعينين مليئتين بالدموع، وقالت
بعناد:
:
23
" وأنا بقولك إني مظلومة ومعملتش حاجة زي دي."
وقف الضابط فجأة، وهندم ملابسه بحركة سريعة كما لو كان يتجاهل كل ما حوله، ثم قال بلا مبالاة
"لو اتكلمتي وقلت الحقيقة هتنقذي نفسك، واحتمال تاخدي حكم مخفف لأن اللي في حالتك، حتى لو ما بلغتش السن القانوني يا بياخد حكم مؤبد يا بياخد خمسة عشر سنة سجن. وفي كلتا الحالتين
هتتحرمي من الميراث، لأن القاتل لا يرث في الشرع بتاعنا."
قالت سبيل، وقد بدأت الدموع تتجمع في عينيها، وتكاد تبكي بصوت خافت
"قلت لك أنا مظلومة ... مظلومة... استحالة أعمل حاجة زي دي."
الضابط ألقى نظرة أخيرة عليها قبل أن يتحرك نحو الباب. قال بلا أي تردد أو تعاطف:
على العموم براحتك. عقلك في رأسك تعرفي خلاصك ."
ثم رحل تاركا إياها وحدها، تبكي بمرارة، بينما تساءلت عن مصيرها الذي يزداد ضبابية مع كل كلمة
خرجت من فم الضابط.
كانت ليان، ابنة عم ليث تجلس في حديقة منزلهم تحتسي مشروبها المفضل بينما كانت تتصفح الجرائد رغم حداثة تخرجها من كلية الحقوق، إلا أنها كانت قد تدربت لدى أشهر المحاميين أثناء دراستها، مما منحها خبرة جيدة في هذا المجال. كانت في الثالثة والعشرين من عمرها، شقية ومرحة، تحب أن تكون مشغولة وتكره الملل والتكرار. كانت تعشق كل ما هو غير روتيني، وهو ما جعلها دائماً تسعى إلى القيام بعدة أشياء في وقت واحد.
بينما كانت تقلب صفحات الجرائد، توقفت فجأة عند
قضية أثارت اهتمامها كانت تتعلق بفتاة تدعى سبيل، اتهمت بقتل والدها واختفاء والدتها أيضًا. قرأت تفاصيل القضية بشغف، حيث ذكر التقرير أن لا أحد من المحاميين يقبل الدفاع عنها، وأن عمها تبرأ منها تماما. كما أشار إلى أن في حال إثبات الجريمة، ستذهب كل أموال القتيل إلى أخيه شوقي، باعتبار أن القاتل لا يرث.
للحظة، فكرت ليان في تلك القضية الغامضة. رغم أن القضية كانت تحمل الكثير من الأسئلة
والتفاصيل التي تحتاج إلى تحقيق، إلا أن تلك التركة الضخمة التي ستؤول إلى شوقي في حال ثبوت الجريمة أثارت فضولها. كانت تعلم أن هذه القضية قد تكون أكثر تعقيدًا مما تبدو عليه، خاصةً مع غموض اختفاء الأم. بدأت ليان تتساءل عن إمكانية وجود تلاعب في القصة أو جوانب غير مكتشفة.
ليان، وهي تقلب صفحات الجرائد بسرعة، قالت بدهشة:
" معقول" في واحدة تعمل كده في أبوها وأمها؟ هي الدنيا جرى فيها إيه يا ناس ؟ مش معقول أبدًا."
قبل أن تكمل حديثها، دخل ليث لينضم إليها. جلست ليان، ثم نظر إليها مبتسمًا وقال:
"سبيل لا يمكن تعمل حاجة زي كده أبدا يا ليان سبيل أفضل من كده ميت مرة.
سحب كرسيًا ليوضع بجانبها، وجلس عليه.
أنا كنت عايزك تترافعي عنها وتقفي جنبها. دي بنت غلبانة، صدقيني، لا يمكن تعمل حاجة زي دي."
لیان نظرت إليه بدهشة وسخرت قليلا، ثم قالت:
" أمممم، وأنت تعرفها منين بقى يا سي ليث؟"
رد ليث بصوت هادئ لكنه حازم
"كانت زميلتي في التمرين، وكانت طول الوقت لوحدها ومبتتكلمش مع حد.
ليان ابتسمت بخبث، ثم أضافت في لهجة ساخرة:
"ما يمكن مريضة نفسيًا وعملت كده. أنا شفت حالات كتير كده.
رد ليث بسرعة، وهو يحاول أن يظهر قناعته التامة:
"لأ، هي زي الفل. أنا متأكد من براءتها."
ابتسمت ليان بتشويق، ثم قالت بمرح
يا سلام، ده شكل الموضوع في إن."
نفى ليث بحسم
:
23
ولا إن ولا حاجة، كل الحكاية إنها مظلومة، وحابب أساعدها."
ليان نظرت إليه بعينين لامعتين بالذكاء، ثم قالت بصوت منخفض، تلاعبه بعض الشيء:
" انت عارف أتعابي كام يا أستاذ ليث؟ هتدفع ولا حين ميسرة؟"
ضحك ليث وقال بجدية أكثر:
:
23
"لما عمي يعطيني فلوس هبقى أعطيك. المهم تسرعي في الموضوع."
ضحكت ليان بصوت عال، وكانها أرادت أن تخفف من التوتر الذي شعر به ليث، ثم قالت مع ابتسامة عريضة :
"أنت ظريف أوي يا ليث خلاص، علشان أول قضية رسمية ليا مش هاخد فلوس وهتكون مجانا للنهاية.
وربنا يقدرنا على فعل الخير، هروح لها وأمشي في الإجراءات اللازمة."
ابتسم ليث لها بإمتنان، وكان من الواضح أن هناك شعورًا بالراحة والاطمئنان في عينيه. قال:
"شكرًا أوي يا ليان، ربنا يوفقك دائمًا."
لیان هزت رأسها بتفهم، ثم قالت:
طيب يا أخويا، روح بقى على تمرينك علشان متتأخرش."
أجاب ليث بابتسامة عابرة وهو ينهض من كرسيه
تمام، سلام."
ثم غادر، بينما كانت ليان تتابع تحركاته بخطوات سريعة في ذهنها، تحضر خطة الدفاع التي ستضعها من أجل سبيل.
دخلت ليان إلى قسم الشرطة وهي تحمل حقيبتها بحذر، عيونها مليئة بالعزم والإصرار. كانت قد سمعت الكثير عن قضية سبيل، وقررت أن تقف بجانبها وتدافع عنها رغم تعقيد الأمور. توجهت مباشرة إلى مكتب الضابط حسام، الذي كان مشغولا في ترتيب بعض الأوراق. عندما رفع نظره ورآها، ابتسم ابتسامة صغيرة وهو يرحب بها.
"مساء الخير، أنا ليان، المحامية المتطوعة للدفاع عن سبيل عبد الله. جئت للحصول على تفاصيل
القضية"، قالت ليان بهدوء وهي تضع حقيبتها على الطاولة.
حسام نظر إليها بجدية قبل أن يرد: "مساء النور. أهلاً بك. لقد سمعت عنكِ، ويبدو أنك شجاعة جدًا لتأخذي هذه القضية رغم تعقيدها. سأسهل لك الأمور، سأعطيك كافة المعلومات التي تحتاجينها."
ليان ابتسمت قليلاً، ولكن كان في عينيها شغف عميق لمعرفة التفاصيل . "شكرا جزيلاً. أنا عايزة أعرف تفاصيل التحقيقات، هل في أي أدلة جديدة؟ وكيف تم اكتشاف القضية أصلا؟"
حسام تنهد قليلاً ثم بدأ يروي التفاصيل بتركيز: "القضية بدأت عندما تم العثور على والدها مينا في المنزل، وكان متعرضًا للطعن بالسكين. للأسف لم
نجد أي أثر للعنف من الخارج، وكل شيء داخل المنزل كان طبيعيا. الكاميرات أيضًا لم تسجل أي شيء غير عادي. سبيل كانت آخر من دخل المنزل ووجدناها فاقدة للوعي بجانب جثة والدها ، و تحمل سلاح الجريمة."
عينا ليان اتسعتا قليلا وهي تستمع لكل كلمة، كانت تحاول أن تجمع قطع اللغز المفقودة. ثم سألت " والدتها ؟ أين هي ؟ هل كان هناك أي أثر لها ؟"
حسام حرك رأسه قليلا وهو يجيب: "والدتها اختفت ولم نعثر على أي دليل يشير إلى مكانها.
لكن، مع اختفاء الأم الأمور تصبح أكثر تعقيدًا. الكل يشك في سبيل، لأنها الوحيدة التي كانت موجودة في المنزل. لكن لا أستطيع أن أقول شيء مؤكد بعد."
توقفت ليان للحظات، وجهها مليء بالدهشة. كانت تفكر في كل الاحتمالات. ثم قالت بصوت منخفض: "هل هناك أي دافع يمكن أن يبرر الجريمة؟"
حسام أطلق زفرة قصيرة وهو يحرك يديه بتوتر: "هذا ما نبحث عنه، لكن حتى الآن لم نجد دافعًا واضحًا. القصة تبدو غامضة، لكن هناك شيء واحد واضح الكل يظن أن سبيل هي المذنبة."
لیان عبست قليلاً، ثم قالت بجدية: "أنا مقتنعة أنه فيه شيء مفقود في الصورة دي. يمكن يكون في تفاصيل صغيرة احنا مش شايفينها. المهم إن كل الأدلة ضدها. لكن أنا هنا علشان أكتشف الحقيقة."
حسام كان ينظر إليها لفترة، وكان واضحًا في عينيه نوع من الحذر والاحترام في الوقت نفسه. ثم قال بنبرة معتدلة : "أنا فاهم موقفك، وليك كل الحق في الدفاع عن موكلتك بس لازم تكوني حذرة، لأن القضية معقدة، وفي أدلة قوية ضدها."
ليان ابتسمت ابتسامة خفيفة، وعينيها تلمعان بالعزم: "أنا فاهمة، لكن في محاميين كتير رافضين الدفاع عنها، ودي فرصة ليا علشان أثبت براءتها. أنا هشتغل على القضية وأتأكد من كل حاجة."
حسام هز رأسه موافقًا، ثم قال بنبرة دافئة: "حسنًا، سأترك لك الملفات المتعلقة بالقضية. وإذا كنت بحاجة لأي شيء آخر، أنا هنا للمساعدة. لكن تذكري أن هذه القضية قد تكون أصعب مما تتصورين."
ليان ابتسمت بحماسة، ثم قالت: "شكرًا على مساعدتك، أنا هبدأ الآن في جمع الأدلة والشهادات. وهدور على الخيط المفقود اللي يمكن يغير كل حاجة."
حسام منحها ابتسامة صادقة، وأشار لها مغادرا: حظا موفقًا، ليان. وإن شاء الله تكتشفي الحقيقة."
ثم غادرت ليان قسم الشرطة، وقلبها مليء بالأمل.
كانت عازمة على أن تكشف الحقيقة، مهما كانت الصعوبات التي ستواجهها.
توجهت ليان بسيارتها إلى المستشفى، وقلبها مليء بالتساؤلات عند وصولها، طلبت التحدث مع سبيل. بعد لحظات من الانتظار، وافقت سبيل على مقابلتها دخلت ليان الغرفة حيث كانت سبيل
مستلقية على سريرها عينيها متورمتين من البكاء وحركاتها بطيئة، كأنها لا تزال تحت تأثير الصدمة.
لیان جلست بجانب السرير، وبادرت السؤال بصوت منخفض، محاولة أن تكون لطيفة دون أن تزيد من حدة القلق الذي بدا على وجه سبيل:
يعني اليوم ده ملاحظتيش أي تغيير، أي حاجة غريبة غير مألوفة في بيتكم؟"
تجمدت سبيل للحظة، ثم نظرت إلى ليان بعينيها اللتين أطفأتهما الدموع، قبل أن تنطق بصوت متحشرج
"لأ، مفيش زي أي يوم عادي. ده حتى مرات عمي شوقي كلمت ماما في اليوم ده علشان تطمن عليها زي ما بتعمل كده كل فترة مرات عمي دي قريبة جدا لينا، وست طيبة وغلبانة، وماما كانت بتحبها
وبتعطيها لبس وفلوس كتير علشان عمي شوقي كان عاطل عن العمل وكمان بيشرب خمرة وحشيش وكل يوم يضربها علشان عايز فلوس ماما ماكنتش بتحبه علشان كده هي كانت بتكره أي راجل يمد إيده على واحدة ست. فرق كبير بينه وبين بابا.
كان التعبير على وجه ليان يظهر تفاعلها مع كل كلمة عيونها مليئة بالاستفهام، ثم تابعت بسؤال آخر
هي جت زارتك أقصد مرات عمك بعد اللي حصل ؟"
سبیل هزّت رأسها بحزن، وكأنها تعيد ذكرى مؤلمة.
وجهها بدا شاحبًا، وعينيها محملتين بالأسئلة عن الحياة التي كانت قد تدمرت.
"لأ، أكيد جوزها مانعها، لكن أنا عارفة متقصرش
معايا أبدًا ؛ لأنها ست طيبة جدا ، و كانت على طول تسأل علينا في التليفون."
ليان شعرت بقلق متزايد فاقتربت منها أكثر وسألتها بتردد
"طب ما أخدتيش أي حاجة من أي حد، مشروب مثلا؟"
سبیل نظرت إليها بعينين مليئتين بالتساؤل متسائلة عن مغزى السؤال . كانت عيونها مليئة بالتعب، لكنها حاولت التركيز في الجواب.
"لأ، ليه ؟"
لیان تحركت في مكانها قليلاً، ثم قالت بحذر، وكأنها
تشك في شيء لم تتضح معالمه بعد:
ممكن يكون حد حطلك حبوب هلوسة، أو مخدر ميبانش في التحليل."
سبيل عبست وجهها قليلا، وتفكيرها مشوش، ثم ردت بعينين خائبتين
"لأ، أنا علاقتي محدودة مع الكل في المدرسة وفي التمرين."
لیان شعرت بأن هناك شيئًا آخر وراء كلمات سبيل فحاولت أن تفهم أكثر. كان وجهها متجهما قليلاً من القلق :
"طب ليه ؟"
سبيل نظرت إليها بنظرة حنين، وابتسمت ابتسامة حزينة. كانت تتحدث وكأنها تفتح جزءا من قلبها المكلوم:
"أصل أنا كنت ساكنة في حي شعبي، وماما كانت مانعة أني أتعامل معاهم علشان هم كانوا بيئة على حد قولها، ومش حابة أحتك بيهم، فتعودت أكون من غير أصدقاء، وأكون لوحدي."
سألت ليان بنبرة هادئة، "سبيل، ممكن تقوليلي أكثر عن والدتك ؟"
نظرت سبيل إلى ليان بنظرة مليئة بالحزن الخافت ثم بدأت تتحدث بصوت منخفض، كأنها تعيد تذكر
الماضي بصعوبة . "ماما" سميرة كانت دايما تقول لي إنها جاية من عيلة مشهورة شوية، عيلة كبيرة، بس دايما كانت تقول الكلام ده في لحظات معينة لما كنت أسألها عن أصولنا، وكانت دائما بتقول إنهم بيعتزوا بشرفهم وبكرامتهم. كانت بتقول إنها مش عايزة تحكي تفاصيل أكثر عن الموضوع ده لأن مفيش داعي، لكن كانت تفتخر دايما بالحكايات اللي كانت سمعاها عن عيلتها بس مكنتش بتقول حاجات كتير دايمًا كانت تبتسم وتقول إنها مش عايزة تفتح صفحة صعبة من الماضي."
كانت دايمًا تقول الكلام ده لما تحس إني محتاجة أعرف حاجة عن نفسي، كأنها كانت عايزة تملأ الفراغ اللي كنت حاسة بيه مش عارفة ليه كانت متمسكة بالجزء ده من ماضيها ، بس كان واضح إنها مش حابة تفتح المجال دايمًا.
شعرت ليان باهتمام متزايد وواصلت سؤالها برفق "هل كنتي تعرفي أي حاجة عن عيلة مامتك؟ يعني حتى لو حاجة بسيطة ؟"
أومأت سبيل برأسها برفق، وكأنها تسترجع الذكريات بصعوبة، وقالت بصوت هادئ "كانت ماما تقول دايما إنهم كانوا محترمين جدًا، وكانوا بيعيشوا حياة مختلفة، حياة بعيدة عن مشاكل العالم الخارجي. كانت بتقول دائما إنهم كانوا يهتموا بسمعة العائلة وبحفاظهم على الكرامة، بس دايمًا كانت تبتسم وتغير الموضوع بسرعة من غير ما تكمل تفاصيل أكثر."
قالت ليان بفضول، طب محدش كان بيسأل عنكم؟ يعني ما فيش حد حاول يتواصل معاكم أو يسأل عن أحوالكم ؟"
أجابت سبيل بصوت هادئ وبعينيها لمعة غامضة "لأ، مفيش حد ماما كانت دايما تقول إننا مش محتاجين حد، وإن العيلة بتكون معاك في الأوقات اللي فيها الناس محتاجين فعلاً لبعض، بس غير كده، ما كانش في حد بيسأل."
ثم أضافت سبيل، وهي تحاول أن تخفي مشاعر مختلطة من الحزن والمرارة: "ماما كانت دايما تقول إن العيلة دي مش زي ما الناس بتظن، كانت مشغولة بمشاكلها الخاصة، وما كانوش مهتمين بنا كانوا بيعيشوا في عالمهم الخاص، ودايما كانت تقول إننا لو محتاجين حاجة لازم نقدر نحلها بأنفسنا."
شعرت لیان باندهاش لما سمعته، وكأن هناك جوانب مظلمة ومخفية عن عائلة سبيل، ولم تستطع إلا أن تتساءل: يعني حتى بعد ما حصل الحادث، مفيش حد من العيلة جالكم ؟"
قالت سبيل بصوت منخفض، وكأنها تكتم شيئا عميقًا في قلبها: "أنا معرفش حد من عيلة ماما.
ماما كانت دايمًا تقول لي إنهم مش قريبين منها، وإنها مش بتحب تتعامل معهم. كانت دايما تقولي إنهم ناس بعيدين عننا، وإننا مالناش أي علاقة بهم."
ثم أضافت وهي تنظر إلى الأرض، "ماما كانت دايمًا حريصة على إننا نعيش حياة مستقلة بعيدا عن مشاكلهم. يمكن كان عندها أسبابها الخاصة، بس ما كنتش أفهمها وقتها."
ليان التي كانت تتابع حديث سبيل بعينين مليئتين بالفضول، لم تستطع إلا أن تشعر أن هناك شيئا ما غير واضح في كلام سبيل . "هل ماما كانت بتتكلم عنهم في مرات معينة؟" سألت ليان بحذر.
اجابت سبيل بتردد ايوة، لكن كان دايما كلام مختصر. لما كنت أسألها عن عيلتها، كانت تكتفي بالرد وتقول لي هم ناس مش زيكوا، ودي حياتهم، وكأنها مش عايزة تفتح الموضوع أكثر. بس أعتقد إن كان في حاجات مش كويسة حصلت مع عيلتها، عشان كده ماما كانت دايما تفضل نعيش بعيد عنهم ."
قالت ليان بتعبير يعكس الدهشة: "حاجة غريبة فعلاً. " كانت تنظر إلى سبيل بتركيز، وكأنها تحاول فهم كل كلمة قالتها. يعني ماما كانت بتحاول تفتعل حاجز بينك وبين عيلتها ؟ ده بيخلي الموضوع أكثر تعقيدًا."
ثم تنهدت ليان بعمق، وتفهمت أكثر حجم المعاناة التي عاشتها سبيل. شعرت بالمسؤولية تزداد على عاتقها. ثم قالت بصوت هادئ
"طيب يا سبيل ها حاول أعمل اللي أقدر عليه، وأنت برضو إن افتكرت أي تفصيله حتى لو صغيرة، قوليهالي."
كانت كلماتها مليئة بالأمل والتشجيع، في محاولة منها لإضفاء بعض الطمأنينة على قلب سبيل المكسور.
عادت ليان إلى منزلها، وكانت أقدامها تقودها إلى غرفتها دون أن تشعر. جلست على سريرها، وتركت حقيبتها على الأرض بينما كان ذهنها مشغولاً بكل ما اكتشفته. كانت أفكارها تتنقل بسرعة بين كل التفاصيل التي أخبرتها بها سبيل، والحوار الذي دار بينهما. كان هناك شيء غريب في القصة، شيء غير مترابط، وكان كل جزء منها يثير تساؤلات جديدة.
شعرت ليان بالغموض تجاه شوقي، شقيق القتيل وزوجته سلوى. كان هناك شيء غير واضح في العلاقة بينهما وبين باقي أفراد الأسرة، شيء يثير الريبة في قلبها رغم أن كل شيء في السطح يبدو طبيعيا، إلا أن هناك تفاصيل صغيرة تركت شكوكا تنمو في ذهنها.
فكرت ليان في المحادثة التي جرت بين سبيل ومرات عمها سلوى، خاصة عندما ذكرت سبيل كيف كانت سلوى دائمًا تتابع حالة والدتها وتطمئن عليها. ولكن ليان شعرت أن هناك أكثر من ذلك. لم يكن الأمر مجرد علاقة طيبة بين أفراد العائلة، بل كان هناك شيء يثير تساؤلات عن نوايا شوقي وسلوى خصوصًا بعد ما عرفت عن سلوك شوقي الذي كان يعاني من مشاكل مع زوجته بسبب إدمانه للخمور والمخدرات.
ثم تبادر إلى ذهنها كيف أن سلوى قد تكون على دراية بما يحدث داخل البيت، وربما كان لديها دافع ما للتصرف بطريقة معينة ليان كانت تشعر بوجود حلقة مفقودة، حلقة تتعلق بشوقي وزوجته، قد تكون مفتاحا لفهم ما حدث في تلك الليلة المأساوية.
ثم توقفت ليان عن التفكير لفترة، مغمضة عينيها في محاولة لتصفية ذهنها. كانت تشعر أن مهمتها ستكون صعبة. سلوى وشوقي كانا يشكلان جزءًا من اللغز الكبير، وربما كانا أعمق مما يظهر للعيان.
