رواية تعافيت بك الجزء الثاني الفصل السادس والسبعون بقلم شمس بكري
"أغويتي بالحُسنِ تائبًا، و سهم عينيك كان صائبًا"
_________________________
تلك الحياة مازالت تملك في جبعتها الكثير و الكثير، كلما ظننتها أتت بنهاية شيءٍ، صفعتك بحقيقة بدايته من جديد، تدور الأيام و تمر و لن يبقىٰ المُر و يأتي يومٌ فيه يَمر.
الموت قادم لا محالة فهل بعد نبرته الحادة تلك و الشرر الذي يقدح من عينيه سيصمت ؟! ضرب الأرض بخطواتٍ واسعة يقترب منهما حتى أمسك ذراع ابنته يوقفها و يديرها حتى تواجهه و ترتجف في ذراعه و كأنها رأت شبحًا، فيما هزها هو بقوةٍ و هو يسألها بنبرةٍ جامدة:
"ردي عــلـيـا !! عمار مين اللي اتقدملك ؟! و أهلك فين ؟! خلاص موتينا بالحياة ؟!"
ردت عليه هي بصوتٍ مهتز اختلط البكاء الذي خنق صوتها:
"هقولك.....و الله الموضوع مش كـد....."
نهرها بصوتٍ عالٍ يصرخ في وجهها:
"أومـــال إيــه ؟؟ ردي عليا ؟! إيه الموضوع ؟! بتغفل من بنتي ؟! خلاص مفيش كبير ليكي يا خلود ؟!"
ردت عليه «سلمى» تلك المرة بخوفٍ على رفيقتها:
"يا عمو حضرتك فاهم غلط، وليد عارف كل حاجة و كان موجود كمان، خلود معملتش حاجة غلط و الله"
حرك «طه» رأسه نحوها بسرعةٍ فردت عليه هي تؤكد حديثها بلهفةٍ:
"و الله العظيم زي ما بقولك كدا، وليد عارف كل حاجة و كان موجود، كلمه و هو يقولك بنفسه، خلود متغلطش أبدًا و لا تعمل حاجة من ورا حد"
ترك «طه» ابنته التي أصبحت مثل الفرخ المبتل ترتجف أطرافها و دب الرعب في أوصالها، حتى ارتمت على المقعد و ركضت إليها «سلمى» تحتويها بذراعيها و تربت عليها بينما الأخرى تابعت والدها بناظريها حينما أخرج هاتفه و هو يرمقها بنظراتٍ جامدة.
_________________________
كان «وليد» نائمًا و زوجته بين ذراعيه بعدما عاد من مشواره مع «يوسف» خلد في ثباتٍ عميقٍ و هي أيضًا بعدما اطمئنت عليه بعد عودته، لكن ما أزعج نومته الهادئة تلك هو ارتفاع صوت هاتفه برقم عمه، زمجر هو بحدة ثم ضغط على زر الهاتف يكتم صوته، حتى انتهت المكالمة و عادت من جديد فاصدر الهاتف نفس الصوت المزعج، قرر هو تجاهل المكالمة حتى استيقظت «عبلة» بضجرٍ و هي تقول:
"ما ترد !! ازعاج و أنتَ صاحي و أزعاج و أنتَ نايم كمان ؟! رد بقى"
اعتدل هو في نومته حتى استند بجسده على ظهر الفراش و هو يقول بسخريةٍ:
"نامي أنتِ يا سوبيا متشغليش بالك بحد، نامي ياختي"
وكزته في بطنه بغيظٍ ثم وضعت الوسادة على رأسها، فيما قام هو بالرد على عمه بصوتٍ متحشرجٍ و قبل أن ينطق مُرحبًا بمكالمته حتى وصله صوت عمه بنبرةٍ جامدة:
"تقوم تفز دلوقتي و تجيلي، تسيب كل اللي في إيدك و تيجي"
رد عليه ببروده المعتاد:
"مفيش في أيدي غير عبلة، هسيبها علشانك يعني ؟!"
رد عليه عمه منفعلًا بصراخٍ:
"ولـــيــد !! مش عاوز برود و قلة أدب، قوم و تعالى البيت نص ساعة و تكون عندي"
أغلق في وجهه فورًا و لم ينتظر منه الرد على حديثه، فيما عقد «وليد» ما بين حاجبيه و هو يطالع الهاتف بحيرةٍ ممتزجة بقلقٍ حاد نخر في قلبه، و قد لاحظت «عبلة» سكونه فالتفتت له تسأله بتعجبٍ:
"مالك ؟! فيه إيه ؟! و مين اللي كان بيكلمك و بيزعق كدا ؟!"
رد عليها بقلة حيلة و كأنه المغلوب على أمره:
"دا عم طه عاوزني أروحله، هقوم أشوفه عاوز إيه و أخلص"
قبل أن يخرج من الفراش أمسكت يده تسأله بلهفةٍ:
"طب ينفع أجي معاك ؟! علشان خاطري ؟!"
وزع نظراته بين كفها المتشبث بكفه و بين نظرتها المتوسلة له و أمام عينيها التي تطالعه بسهمها الخارق لفؤاده ابتسم هو ثم اقترب منها يُلثم جبينها و من بعدها نظر في عمق عيناها و هو يقول بصوتٍ رخيمٍ:
"مقدرش أقولك لأ، قومي البسي لحد ما أخد دش يفوقني كدا و نقضي اليوم معاهم هناك"
ابتسمت هي بسعادةٍ بالغة ثم أمسكت وجهه تقربه منها حتى قبلت وجنته ثم قالت بمرحٍ و هي تخرج من الفراش:
"أحلى ليدو في الدنيا كلها، ليدو حبيبنا مبيغلطش"
ابتسم هو على جملتها ثم حدث نفسه متهكمًا بسخريةٍ و بالطبع لم يصلها الحديث:
"ليدو حبيبنا مبيغلطش ؟! دا عمك هيمسح بيا سلم بيت الرشيد كله"
_________________________
شقت السيارة طريقها نحو الوجهة التي أختارها هو و كانت هي بجواره تطالعه بتعجبٍ و هو بين الحين و الآخر يدندن بمرحٍ بعدما طلبت منه إغلاق الأغاني، فيما قرر هو الاستمتاع بما ينوي عليه، نظرت على الأريكة خلفها فوجدت صندوق القطة الذي صمم هو على أخذها، كان يتابعها بعينيه حتى سألته هي بعدما التفتت له:
"هو أنتَ ليه صممت نجيبها ؟! و قولي رايحين فين متوترنيش بطني وجعتني و الله"
رد عليها هو بوجهٍ مُبتسمٍ بنبرةٍ تتنافى مع هزل كلماته:
"صممت أجيبها علشان مش ضامن هنرجع امتى، و دي روح حرام تفضل لوحدها، رايحين فين بقى ؟! أنا اتفقت مع واحد هيسلمني قطع غيار ليكي بدل فيوزات مخك اللاسعة دي"
طالعته بوجه ممتعض حتى أمسك هو كفها يقبل باطنه ثم قال بنبرةٍ هادئة:
"واخدك أفسحك و نقضي وقت حلو مع بعض قبل ما أرجع شغلي تاني، إيه اللي مزعلك ؟! ما إحنا مع بعض أهوه يا خديجة"
ردت عليه هي بنبرةٍ هادئة:
"أنا مش زعلانة و الله، بس مستغربة، و من ساعة رجوعك و كل حاجة بتحصل غريبة، حاسة أني مليش لازمة ماشية ورا الكل و خلاص"
رد عليها هو بهدوء:
"طب ما دي أحلى حاجة، إيه الحلو أني اخليكي تعرفي كل حاجة ؟! المفاجأت دي ليها متعة تانية خالص"
ردت عليه هي بقلقٍ:
"بس أنا بتوتر أوي، بفضل أفكر كتير و دماغي مبتفصلش، يعني المفروض تكون حاجة هتفرحني بس أنا بتوتر أوي"
ابتسم لها و هو يقول بنبرةٍ هادئة:
"طول ما معاكي الخير و البركة متخافيش، سلمي نفسك للواقع و استمتعي بس، أنا برضه ممكن أخلي حاجة تخوفك ؟!"
حركت رأسها نفيًا فرد عليها ببراءةٍ:
"طب شوفتي بقى ؟! إن شاء الله المفاجأة تعجبك أوي، أنا واثق من كدا أوي"
قال حديثه ثم نظر أمامه يتابع الطريق حتى ارتمت عليه تضع رأسها على كتفه و تحتضن ذراعه بكفيها معًا فقال هو بصوتٍ رخيم:
"تعرفي ؟! أنا بحب أوي لما تمسكي إيدي كدا، بحس أني متطمن و مرتاح نفسيًا، أو لما ألاقيكي بتمسكي فيا عمومًا بس مسكة إيدك ليا حاجة تانية"
ابتسمت له بسمتها الهادئة بعدما رفعت رأسها تطالعه حتى تقابلت نظراتهما سويًا، فقالت هي بتلقائيةٍ:
"أنا بحس براحة غريبة بحاجات بسيطة أوي، يعني مثلًا لما أحط راسي على كتفك و لما أمسك إيدك و لما أحضنك، مش عارفة ليه بس بحس إن اللمس دا بيكون أمان كدا، حتى لو فيه حاجة مخوفاني يبقى على الأقل إحنا خايفين سوا و وجودك مطمني"
تذكر هو ذكرىٰ قديمة مرت عليهما حتى اتسعت بسمته و أخذ يتنفس الصعداء ممتنًا للقدر الذي جمعه بها حتى أصبحا على ما هما عليه الآن، لاحظت هي شروده و ابتسامة عينيه فسألته بتعجبٍ:
"سرحت في إيه ضحكك كدا ؟! أنا معاك أهو، سرحت في مين يا ياسين ؟!"
رد عليها هو بنبرةٍ هادئة:
"سرحت في أول مرة شوفتك فيها، أول مرة أسمع فيها صوتك الرقيق دا، الكلمتين اللي طلبتيهم مني و أنا بسألك إيه طلباتك، ساعتها قولتي عاوزة الأمان و طيبة القلب، مش عاوزة منك غير كدا، ساعتها أنا كنت واثق أني هكمل معاكي، و كنت عاوز اثبتلك من أول مرة فعلًا أني قد طلبك مني"
ردت عليه هي بنبرةٍ هادئة:
"علشان كنت بخاف من كل حاجة و الله حتى نفسي، كان نفسي حد يطمني، رغم إني كنت خايفة منك برضه، بس جوايا حاجة قالتلي أكمل للأخر معاك، حاجة قالتلي ثقي فيه، عينك ساعتها طمنتني أوي"
ابتسم هو لها ثم قال:
"الحمد لله على كل حاجة مرينا بيها، الحمد لله إنك معايا، أنا مبسوط أوي بوجودك كدا معايا، مكنتش متخيل إن الحياة هتعوضني بيكي كدا"
أبتسمت هي بسعادةٍ بالغة و هي تستمع لحديثه حتى طالعها هو بشغفٍ و هو يقول بنبرةٍ هادئة:
"طول عمري كان نفسي في أخوات يكونوا معايا، و كنت متضايق أني لوحدي أوي، و لما سألت رياض أنا ليه معنديش أخوات، قالي إن دا نصيب، و إن أكيد فيه خير لينا، ممكن نكون أخوات بس قاسيين على بعض، علشان كدا أنا لحد ما خلصت ابتدائي كنت لوحدي، بس كان جوايا مشاعر غريبة كدا و خصوصًا إني كان نفسي في أخت بنت، لما بقينا مع بعض أنا حسيت معاكي كل إحساس احتجت اعيشه، بقيت صاحب و زوج و أب و حبيب و كل حاجة في يوم جمعتني بيكي أنتِ"
ابتسمت هي له فأشار لها بعينيه على اللوحة المُعلقة في منتصف الطريق ترحب بالزائرين، شهقت هي بقوةٍ و هي تقول بغير تصديق ممتزج بحماس فرحتها:
"إسكندرية ؟! الله !!"
غمز لها بطرف عينه حتى زاد حماسها أكثر و زادت مسكتها له و انفعلات وجهها خرجت عن سيطرتها حينما ظهرت الفرحة منها.
_________________________
وصل «وليد» مع زوجته لبيت العائلة و تركها مع والديها ثم توجه لوالديه يُسلم عليهما، و بعدها أخبرهما بصعوده لمقابلة عمه ثم يعود لهما مرةً أخرى يقضي معهما باقي اليوم.
صعد نحو سطح البيت و كانتا كلًا من «خلود» و «سلمى» ينتظرانه بخوفٍ خصيصًا بعدما جلس «طـه» أمامهما يتابعهما بنظراتٍ ثاقبة حتى دلف «وليد» له و قبل أن تركض إليه «خلود» باكيةً أوقفها «طـه» بقوله الحاد:
"اقـفـي عندك !! استني لما أشوف الأستاذ اللي ممتوني بالحيا، خير يا أستاذ وليد ؟!"
نظر «وليد» لها و ركز عليها ببصره و هي تزدرد لُعابها بخوفٍ ثم حرك رأسه يسأل عمه بتعجبٍ:
"فيه إيه يا عمي ؟! هو أنا عملتلك حاجة ؟! و بتكلمني كدا ليه ؟!"
رد عليه بنبرةٍ جامدة:
"بكلمك كدا علشان أنا جيبت أخري، مش مالي عينك أنا علشان تروح تخطب لبنتي و أنا موجود ؟! كنت هتقولي إمتى ؟! يوم كتب الكتاب !!"
لقد أشعل حديثه فتيل انفعال الأخر حتى رد عليه بضجرٍ:
"أنتَ مكبر الموضوع ليه ؟! محصلش حاجة لكل دا يعني، هي مش لابسة دبلة في أيدها يعني، بالراحة يا عمي و متكبرش الدنيا"
صرخ «طـه» في وجهه بنفاذ صبرٍ و ضجرٍ من برود الأخر:
"مكبرش إيه ؟! الدنيا كبيرة أصلًا لو أنتَ مش واخد بالك !! بنتي في واحد اتقدم ليها و أنا أخر من يعلم، و يا فرحتي بابن عمها عارف"
رفع «وليد» صوته صارخًا في وجهه هو الأخر و بات الغضب واضحًا عليه وضوح الشمس في السماء:
"لااااأ !! أنـا مــش ابـن عــمـها، أنا أبوها، خلود دي بنتي اللي أنا ربيتها على أيدي و ليا فيها زي ما أنتَ ليك بالظبط و أكتر كمان، خلود في رقبتي لحد ما أموت و أسيب الدنيا، و ملزومة مني، مش هسمح لأي حد مهما كان هو مين يقلل من علاقتي بيها، حتى لو الحد كان أنتَ نفسك"
طالعه «طــه» بدهشةٍ ثم وجه بصره نحو ابنته التي بكت عينيها كما لو أنها شلالات انفجرت من منابعها و قبل أن يتحرك «وليد» قيد أنملة، ركضت إليه «خلود» تتشبث به و هي ترجوه بصوتٍ باكٍ:
"متزعلش و تمشي علشان خاطري، خليك معايا، بلاش تخلي الزعل يدخل بينا و ينسيك أختك، شيل خاطري أنا عندك"
حرك رأسه ينظر لها و هي تتشبث به بذراعيها حتى آخرج نفسًا عميقًا ثم حاوطها بذراعيه حتى وضعت رأسها على جسده و هي تبكي سامحة لخوفها بالاعلان عن نفسه و خاصةً و هو يقف كالسد المنيع لها يحميها من أي خوفٍ قد يُهدد أمانها"
هدأت هي بين ذراعيه و قل نحيبها و زوجي الأعين يتابعهما حتى ابتعد عنها يمسك وجهها بين كفيه و هو يقول بنبرةٍ هادئة:
"انزلي يلا أوضتك و ريحي شوية، و أنا هبقى أجيلك بس لما أتكلم مع عم طه شوية، يلا و متخافيش، أنا عمري اتخليت عنك ؟!"
حركت رأسها نفيًا فقبل هو جبينها ثم قال بهدوء موجهًا حديثه لـ «سلمى»:
"سلمى خديها و انزلي تحت، ياريت محدش يعرف بقى"
حركت رأسها موافقةً ثم اقتربت منها تمسك يدها تنزل بها للاسفل و قبل أن تغادر «خلود» السطح طالعت والدها بعتابٍ و لومٍ من عينيها الباكيتين ثم نزلت مع رفيقة دربها، أما «وليد» فاقترب منه يقف مقابلًا له و هو يقول بثباتٍ لم يتزعزع يومًا من محله:
" أول و أخر مرة تطلع منك جملة أني ابن عمهم دي، أنا هنا أخوهم و أبوهم، و لو مش مقتنع اسأل الغريب قبل القريب و هو يقولك، خلود غصب عن أي حد بنتي، و عريسها أنا اللي أختاره، أظن دي حاجة مش جديدة"
سأله «طـه» بتهكمٍ:
"و هو عريسها دا بقى عمار ؟! اتنين لسه بيتعلموا و حضرتك رايح تربطهم ببعض ؟! و أنا فين ؟! مرجعتش ليا ليه ؟!"
أجابه ساخرًا ببرود:
"مجاتش مناسبة بصراحة"
حسنًا لقد أخرج أخر ما تبقى من ذرة هدوء عمه حتى اقترب منه يمسكه من تلابيبه تزامنًا مع قوله الهادر:
"ولا !! بطل برود أهلك دا !! هو إيه اللي مجاتش مناسبة ؟! بنتي بيتقدملها عريس و أنتَ جاي تقولي مجاتش مناسبة ؟!"
ضحك رغمًا عنه و هو يقول بنبرةٍ هادئة:
"أعمل إيه طيب ؟! أروح أقولك علشان تتجنن زي ما أنتَ دلوقتي كدا ؟!"
أمسك «طـه» رقبته و الأخر يضحك بقوةٍ حتى رفع صوته المختنق نتيجة كفي عمه:
"يا مرتضى !! يا سوبيا يا عيلة الرشيد، يا ناس حد يلحقني"
دفعه عمه على الأريكة بقلة حيلة حتى سعل هو بقوةٍ و هو يدلك عنقه، فيما جلس الأخر أمامه يسأله بنبرةٍ جامدة:
"أقسملك بالله لو ما قولت كل حاجة أنا هموتك في إيدي، انطق يا بارد، حصل إيه علشان عمار يتقدم لخلود، و مش عاوز لوع و لا كدب !!"
رد عليه بوقاحةٍ لا تخرج من أحدٍ سواه في تلك العائلة:
"ليه هو أنا اسمي طه و لا إيه ؟!"
قفز عليه عمه يمسكه من رقبته يضغط عليها حتى رد عليه «وليد» بصوتٍ عالٍ:
"خــلاص خــلاص....هقولك"
تركه عمه على مضضٍ حتى قام هو بسرد كافة التفاصيل عليه و أخبره بوعد «عمار» بالحفاظ عليها حتى من نفسه، كما أنه أخبره بمقابلتهما الأولى تلك التي أخبره فيها بحبه لها، كان «طه» يستمع له بانصاتٍ لكل كلمةٍ يتفوه بها، حتى انهى الأخر حديثه ثم أضاف:
"عمي !! عمار راجل بجد و محترم و لو لفينا الأرض دي مش هنلاقي منه، واحد زي دا كان ممكن يكلمها عادي و يقل أدبه و يعلقها بيه و يخلع زي ما بيحصل، بس دا محترم، خارج من بيت رجالة، ليه أقف في وشه و هو مكلمني بكل احترام، واحد عاوز يعرف فيه قبول منها و لا لأ، طب بذمتك، مش شايف إنه أحق واحد ببنتك ؟!"
زفر «طـه» بقوةٍ ثم قال بنبرةٍ أهدأ:
"منكرش إني شوفت في عينه خوف عليها ساعة أحمد و كأنها تخصه، و منكرش برضه إن خلود مشدودة ليه أوي، خوفه عليها و اهتمامه بيها لما جابلها العصير و الحاجة خلاني أتأكد إنه فيه في قلبه حاجة ليها، بس متخيلتش إنه في سنها الصغير دا، خلود لسه قدامها ثانوي و تعليم مش عاوزها تفتح عينها على الجواز و الحاجات دي يا وليد"
رد عليه «وليد» بتفهمٍ لمشاعره بما أنه والدها و هي أخر فتاةٍ له و لها مشاعر خاصة لديه:
"أنا فاهم يا عمي و الله، بس دا يمكن يكون حافز ليها علشان تذاكر خصوصًا إن مفيش بينهم كلام أو ارتباط أو أي حاجة، هو كل اللي قاله إنه بعد ما يخلص لو جه طلب وجودها هي هتوافق عليه ؟! و هي لما بصتلي أنا وافقت و هي وافقت ورايا، أكتر من كدا محصلش و الله"
حرك «طـه» رأسه موافقًا على مضضٍ ثم رفع كفيه يمسح وجهه فتحدث «وليد» بنفس الهدوء:
"فكر كدا أنتَ واثق في ياسين و لا لأ، هتلاقي إنك مستحيل تقلل في تفكيرك بيه، عمار زيه بالظبط و يمكن أكتر كمان، ياسين مشربه الرجولة بالمعلقة هو و أخواته، صدقني خلود ملهاش غير عمار"
طالعه «طـه» بغيظٍ و هو يسأله:
"يا أخي هما بيحبوك على إيه ؟! قليل الأدب و لسانك طويل و بجح و كل العِبر الهباب فيك، بيحبوك ليه ؟!"
رد عليه بنفس التبجح:
"مش يمكن علشان مبسألش الأسئلة دي و أحشر نفسي في كل حاجة ؟!"
أمسك «طـه» الزجاجة المجاورة له حتى يضربه بها، فارتمى عليه «وليد» و هو يضحك بقوةٍ بشقاوته المعتادة حتى ترك «طـه» الزجاجة ثم احتضنه و هو يضحك رغمًا عنه ثم قبل قمة رأسه و هو يقول بنبرةٍ هادئة:
"لو موت أنا واثق أني سايبك مكاني و هتقوم بالدور و أحسن مني كمان، عيالي أمانتك يا وليد"
رد عليه «وليد» بخوفٍ من حديثه و نبرته الواهنة تلك:
"متقولش كدا يا عم طه، ربنا يطول في عمرك و يفرحك بيهم، أنا بس صاحبهم و أخوهم.... تصدق ؟! و أبوهم كمان ؟! اتكل على الله يا عم طه"
قالها بجديةٍ لا تتناسب مع الحديث حتى ضحك «طـه» مرةً أخرى فاقترب «وليد» منه يقبل رأسه ثم قال بهدوء:
"هتفرح بيهم إن شاء الله، ربنا يطول في عمرك إن شاء الله"
ابتسم له «طـه» ثم احتضنه مرةً أخرى حتى ربت «وليد» على ظهره و هو يعلم أن عمه أضعف مما يكون.
_________________________
أوقف «خالد» سيارته أسفل عيادة الطبيبة النسائية ثم قال بنبرةٍ هادئة:
"حمدًا لله على سلامتكم، هتطلعوا انتم و أنا هروح أجيب حاجات و لا أفضل هنا ؟!"
رد عليه «ياسر» مُسرعًا:
"لأ أطلع معانا، دا مركز دكاترة زمايلي و أنا حاجز من بدري ليهم، أنا و عامر هنطلع سوا و أنتَ هتيجي معانا"
رد عليه بغيظٍ مكتومٍ يحاول عدم اظهاره:
"أنا آخر مرة دخلت فيها مكان زي دا كان من ٣ سنين، بلاش تفكرني بالمشاعر دي تاني"
ردت عليه «ايمان» بضجرٍ:
"متشلنيش يا خالد !! ماهو معاك يونس زي الفل اهوه، اطلع مع أختك اتطمن عليها حتى"
حرك رأسه للخلف يطالعها بوجهٍ مُمتعضٍ و هو يقول متهكمًا:
"مالها اختي ؟! ما أنتِ زي القردة أهوه، و أكيد حامل في عيل أهبل زيك"
قبل أن ترد عليه صدح صوت هاتفه عاليًا فأخرجه هو يرد على زوجته و هو يقول بنفاذ صبرٍ:
"أيوا يا ريهام ؟! نعم ؟!"
ردت عليه هي مسرعةً:
"هات ليونس الحاجة الحلوة علشان عمال يعيط من ساعة ما أنتَ نزلت، خلصني علشان صدعت منه و الله"
زفر هو بقوةٍ ثم قال بنبرةٍ هادئة:
"اديله الموبايل خليني أكلمه طيب، لما أشوف أخرتها معاه"
أعطت الهاتف لصغيرها الذي جلس متذمرًا على الأريكة ثم أخذ منها الهاتف و لم يتفوه بكلمةٍ واحدة حتى سأله «خالد» بنبرةٍ حاول صبغها بالمرح:
"نعم يا يونس ؟! عاوز إيه ؟! مش أنا قولتلك هروح أجيبلك حاجة حلوة و أجيلك ؟! زعلان ليه طيب ؟!"
لم يرد عليه بل نظر لوالدته يستفسر منها حتى هزت هي رأسها موافقةً له بحماسٍ حينها تحدث هو يُدلي بطلباته على والده و هو يعد على أصابعه، فرد عليه «خالد» على الجهة الأخرى بنبرةٍ ضاحكة:
"حاضر، أيس كريم و عصير و لبان، حاضر، و بسكوت ؟! حاجة تاني يا يونس باشا ؟!"
وصله الرد من «يونس» فردد هو خلفه مستنكرًا:
"إيه ؟! أيس كريم كتير ؟! حاضـ.."
أوقفه «عامر» حينما مال عليه يقول بمرحٍ:
"الأيس كريم اللي هتجيب منه ليونس هاتلي منه، معلش"
طالعه «خالد» بغيظٍ منه فسحب «عامر» الهاتف و هو يهاتف الصغير بمرحٍ:
"أيوا يا يونس ؟! عيني يا حبيب عموري، بابا هيجيب كل حاجة، و هخليه يجيبلك لعبة كمان و هو مروح عاوز ....."
سحب «خالد» الهاتف منه و هو يقول بنبرةٍ جامدة:
"لأ يا يونس هي حاجة حلوة بس، اللعبة الأسبوع الجاي إن شاء الله"
رد عليه «يونس» بسرعةٍ حتى رد عليه «خالد» بهدوء:
"لما أجي طيب هجيبلك سبايدر مان اللي أنتَ عاوزه، سلام بقى"
أغلق الهاتف مع صغيره ثم رمق صديقه بخبثٍ غلف نظراته حتى رد عليه «عامر» بقلة حيلة:
"ما تجيب للواد لعبة، متبقاش أب قاسي كدا، عاوزه يطلع مريض نفسيًا ؟! ناقصة هي"
قبل أن يمسك به «خالد» كان سبقه هو حينما فتح باب السيارة و ركض منه، حتى تحدثت «سارة» بقلة حيلة:
"عامر يا جماعة حاجة مش جديدة، هات سبايدر مان أنتَ بس يا خالد"
ضرب كفيه ببعضهما و هو يقول بضجرٍ من تلك العلاقة:
"أدي اللي قولنا هتعقله، كرف عليها ابن فهمي و سيدة !!"
بعد مرور دقائق قليلة صعدوا معًا للمركز الطبي الخاص بالكشف النسائي، جلسوا معًا في الخارج فيما تحرك «ياسر» للداخل حتى يبحث عن زملائه و يخبرهم بوصولهم، فيما جلس «خالد» ينظر حوله و هو يتذكر تلك المشاعر التي كان يعايشها مع زوجته في مركز طبي مشابه لذلك خاصةً في عدد النساء و مظهرهن و مظهر بطونهن المنتفخة، شرد هو أكثر من ذلك حتى ركب سفينة زمنية من خلالها عبر للماضي الذي أنس وحشة روحه.
(منذ أكثر من ثلاثة سنواتٍ)
وقف «خالد» بجوار باب المرحاض و زوجته تتقيأ بالداخل و كانت على هذا المنوال منذ الصباح حتى حينما عاد من عمله كانت تشعر ببعض التعب لكنها حاولت التحامل على نفسها حتى اشتد تعبها و حينها ركضت للمرحاض.
حاول هو الدلوف لها لكنها أحكمت الباب من الداخل حتى خرجت له بملامح وجه باهتة و شاحبة و كأنها ضمن عداد الموتى، أقترب منها يساندها و هو يسألها بخوفٍ عليها:
"مالك يا ريهام ؟؟! مقولتيش ليه طيب من الصبح إنك تعبانة، كلتي حاجة تعبتك طيب ؟!"
حركت رأسها نفيًا ثم رفعت رأسها له و هي تشعر بالحيرة، هل تخبره أنها ذهبت لعمل تحاليل تأكد مما تشك به، أم تصمت حتى تخبرها «إيمان» بعد ظهور النتيجة ؟! حتى لا يضع في الأمر أملًا كبيرًا و يتفاجيء بعكسه فيتحول أمله إلى خيبةٍ تلاحقه ؟!.
صمتت و هي تتحرك من أمامه حتى ساندها هو و أمسك ذراعها و بذراعه الأخر حاوط كافة جسدها، حتى أجلسها على الفراش ثم جلس على ركبتيه أمامها و في يده منشفة ناعمة يمسح بها وجهها ثم اقترب يمسك فرشاة الشعر يحاول ترتيب خصلاتها التي نزلت على وجهها، فوقف هو يمسك تلك الفرشاة و على الرغم بجهله في تلك الأمور إلا أنه حاول أن يرتب تلك الخصلات الثائرة ثم قام برفعهم برابطة الشعر و هي تتابعه بعينيها الدامعتين، حينها صدح صوت هاتفها فاقترب هو منه يلتقطه حتى وجد رقم شقيقته ضغط هو على زر الايجاب حتى يخبرها بمرض زوجته حينها نطقت هي مُسرعةً قبل أن ينطق هو ظنًا منها أنها زوجته:
"ألف مبروك يا ريهام، التحاليل طلعت معايا أهيه أنتِ حامل، مبروك يا روح قلبي، مش هبقى عمتو الحرباية متخافيش"
اتسعت حدقتي عينيه و صُدم هو و شلت حركته حتى قالت شقيقته في الهاتف:
"لولا أني لسه في الشارع كان زماني زغرطتلك و الله، بس لما تيجي عندنا هزغرطلك أنا و ماما و ميرفت معانا كمان"
سألها هو بصوتٍ متقطع الوتيرة و مهتز النبرة و هو يقول:
"بجد ؟! بالله عليكي أوعي تكوني بتهزري معايا أنتِ و هي ؟! ريهام حامل يا إيمان ؟!"
ردت عليه هي بلهفةٍ:
"خالد !! و الله حامل و التحاليل معايا، في أول أسبوع في الشهر التاني، ألف مبروك يا حبيب أختك"
حينها أغلق الهاتف في وجهها ثم ركض لزوجته التي كانت تتابعه بوجهٍ مُبتسمٍ حتى خطفها في عناقٌ بين ذراعيه و هو يضغط على جسدها بذراعيه و هو يردد بصوتٍ متهدجٍ:
"الحمد لله، الحمد لله إن ربنا كاتبلي الرزق دا منك أنتِ، أنا بحبك أوي، و كل يوم بييجي علينا سوا بحبك أكتر يا ريهام"
رفعت كفيها تمسد على ظهره و هي تقول بصوتٍ باكٍ:
"و أنا كمان بحبك يا خالد، و فرحتك دلوقتي عندي بالدنيا، كنت خايفة أوي تكون مش مستعد لحاجة زي دي"
ابتعد عنها يرد عليها بلهفةٍ:
"ازاي بس ؟! دا أنا بقيت بعد الأيام علشان ربنا يكرمني منك بالرزق دا، عاوز أجرب كل إحساس حلو معاكي أنتِ، و الله العظيم أنا اتغيرت على ايدك و علشانك أنتِ"
احتضنته هي تلك المرة و هي تبكي فضمها هو بذراعيه و هو يربت على خصلات رأسها و رغمًا عنه نزلت الدموع من عينيه و كأن الحجر يتفتت أمام عينيه مع تلك الفتاة التي عاش معها كافة المشاعر التي أبىٰ هو أن يعترف أنها بداخله.
مرت الشهور و الأيام حتى أتىٰ موعد الولادة، كانت هي تجلس في الغرفة بعدما تجهزت لعملية الولادة، فدلف هو لها و هو يبتسم حتى بادلته البسمة بمثيلتها، فجلس هو على المقعد المجاور لها و هو يقول بنبرةٍ هادئة:
"جاهزة ؟! مش عاوزك تخافي الولادة هتكون بدون ألم إن شاء الله، أنا موصيهم عليكي، أوعي تخافي، كلها شوية و أشوف حياتي الجديدة"
حركت رأسها موافقةً و هي تبكي فاقترب هو منها يقبل رأسها ثم أمسك كفها و هو يقول بنبرةٍ هادئة:
"أنا معرفش هو إيه، بس أنا واثق إنه هيخليني أحس أحسن احساس في الدنيا كلها، إن شاء الله تخرجي ليا بخير أنتِ و هو أو هي على حسب"
ردت عليه هي بصوتٍ مختنقٍ إثر البكاء الذي داهم حلقها:
"أنا مش خايفة و الله، أنا بس حاسة بمشاعر غريبة عليا، و مزعلني إن أهلي مش معايا، كان نفسي يكون موجود بس هو مش معترف بيا أصلًا، حاسة اني لوحدي هنا"
بكت و هي تتحدث حتى اقترب منها يسمح دموعها و هو يقول بنبرةٍ هادئة:
"بس....بس متعيطيش علشان خاطري، أنا أهلك كلهم هنا، و و أمي و أختي كلهم ليكي قبلي أنا، إحنا معاكي هنا، اخرجيلي بس بالسلامة و أنا أشيلكم في عيني"
حركت رأسها موافقةً حتى دلفت الممرضة و هي تقول بنبرةٍ هادئة:
"يلا يا مدام ؟! جاهزة ؟!"
وزعت نظراتها بينها و بين زوجها الذي ضغط على كفها و حثها بنظراته و حينها حركت رأسها موافقةً و هي تبتسم بتوترٍ.
دلفت غرفة العمليات على الفراش المتحرك فيما وقف هو في الخارج بجوار الغرفة و الشباب بجواره كلًا منهم يربت على كتفه حتى ارتمى هو على كتف «ياسين» بتعبٍ انهكه و أنهك تفكيره و هو يعد الثواني قبل مرور الدقائق، حتى مرت أصعب الأوقات عليه لتخرج الممرضة و هي تقول بصوتٍ مبهج:
"مبروك يا أستاذ، جابت ولد زي القمر يتربى في عِزك يا رب"
صرخ هو مهللًا حتى احتضنه أخوته و ارتفع صوت شقيقته تطلق الزغاريد مع والدتها، حتى تحدث «ياسين» بصوتٍ مختنقٍ نتيجة فرحته:
"ألف مبروك يا حبيبي، يتربى في عزك يا رب، هتسميه إيه ؟!"
نظر له بتشوشٍ و ضياعٍ و أخبره بعدم معرفته بالأمر، فتحدث «عامر» بفخرٍ:
"هنسميه عامر مش محتاجة يعني، هو خالد عنده أعز مني؟"
رمقه «خالد» بشررٍ يقدح من عينيه حتى قال «ياسر» ساخرًا:
"دا خالد يرميه على باب مسجد أهون عليه من أنه يسميه على اسمك"
قال «عامر» بضجرٍ:
"خلاص هسميه أنا، طالما مش على اسمي"
نظر له الجميع بتعجبٍ فقال هو بنبرةٍ هادئة:
"بما أني أنا اللي هسميه يبقى هختار نفس حروف عمامه، يعني هخليه .... يــونـس !!"
قالها بحماسٍ بعدما اقترح الاسم حتى أدلوا جميعًا بموافقتهم و إعجابهم بالاسم و لم يجد «خالد» بُدًا سوى الاعجاب بالاسم الذي استحوذ على تفكيره، و فجأة أتت له الممرضة بالصغير على ذراعها تعطيه له و هي تبتسم، وزع هو نظراته في وجه الجميع حتى اقترب منه «رياض» يقول بنبرةٍ هادئة:
"أمسك الرزق بايدك و سمِّ الله على هبته ليك، افتكر إن دا اللي هيدخلك الجنة إن أصلحت شأن تربيته، كلكم راعٍ و.كلكم مسؤول عن رعيته، دي أمانة في رقبتك لحد ما تقابل وجه كريم، أحسن فيها ازرع الخير علشان تحصده محبة و بر ليك و لريهام، يلا"
حثه بكلماته حتى ازدرد «خالد» لعابه بخوفٍ ثم مد يده يأخذه من الممرضة و مع لمس كفيه لجسد الصغير نزلت الدموع من منبعها على الفور و هو يستشعر لمس الهِبة التي وهبها الله له، فها هو من حلم به في خياله مرارًا و تكرارًا أصبح حقيقةً بين يديه، حينها سارت القشعريرة في جسده مثلما تمس الكهرباء الأجساد، أما هو فدون أن يشعر بنفسه رفعه يحتضنه و هو يجهش في البكاء حتى اقترب منه «عامر» يربت على كتفه و هو يقول بصوتٍ متأثرٍ:
"يتربى في عزك يا أبو يونس، أول فرحتنا كلنا جه نور الدنيا، ربنا يقدرك و تربيه أحسن تربية يا حبيب أخوك، ربنا يقدرنا و نكون إحنا كمان عيلته"
حرك رأسه موافقًا ثم اقترب من «رياض» يعطيه الصغير و هو يقول بنبرةٍ متحشرجة:
"أمسك حفيدك، ساعدني ازرع الخير فيه علشان صعب أعمل كدا لوحدي، زي ما زرعته فيا و في عمامه، ابن ابنك أهو"
لمعت العبرات في عيني «رياض» و هو يأخذ منه الصغير حتى طالعه بتأثرٍ و فرت الدموع من عينيه و هو يُكبر و يقرأ الموعوذتين في أذن الصغير و بعض الآيات القرآنية، و حينها كل ما استحوذ على تفكيره هو زوجته و كيف حالها الآن حتى خرجت له الممرضة تُطمئنه أنها على مايرام فقط تحتاج بعض الوقت للخروج من الغرفة.
(عودة إلى الوقت الحالي)
خرج من شروده على صوت أخته و هي تقول بنبرةٍ هادئة:
"دوري يا خالد، هدخل أهو و سارة خلصت، ماشي ؟!"
انتبه لها فحرك رأسه موافقًا ثم سألها بنبرةٍ هادئة:
"طب أدخل معاكي طيب ؟!"
ابتسمت له و هي تقول:
"لأ يا حبيبي خليك، اللي بيدخل واحد بس و ياسر معايا، متقلقش"
حرك رأسه موافقًا ثم ابتسم لها و هي تتحرك من جواره تمسك بيد زوجها و هو يتابعهما بعينيه، و بعد مرور ثوانٍ اقترب منه «عامر» بزوجته يجلسها ثم جلس بجواره، ابتسم هو أكثر، ثم تذكر أمر الأخير و حينها أخرج هاتفه يطمئن على «ياسين» خاصةً بعدما حدث صباح اليوم.
_________________________
أغلق «ياسين» الهاتف مع أخيه ثم خرج لها من الشرفة يسألها بنبرةٍ هادئة:
"إيه رأيك ؟! الشقة حلوة ؟!"
اقتربت منه بحماسٍ و هي تقول بصوتٍ ظهرت به فرحتها و حماسها:
"أوي تحفة، بس مقولتليش شقة مين دي ؟! أنا معرفش إن فيه شقة هنا بتاعتكم"
رد عليها هو مُفسرًا بنبرةٍ هادئة:
"دي يا ستي شقتنا و اللي قدامها شقة خالد، و فوق شقة عم فهمي، لما بنيجي هنا بنتقسم الستات في شقة و الرجالة في الشقة و أنا و العيال في شقة"
ابتسمت هي بنفس السعادة و هي تحرك رأسها بتفهمٍ فقال هو بعدما ابتسم لها:
"إن شاء الله الصيف الجاي تجربي المصيف معانا، أم عامر عليها حلة محشي على البحر تفضح اللي خلفونا كلهم"
ضحكت هي بصوتٍ عالٍ فقال هو مُضيفًا:
" و الله مش بهزر، كل سنة نقولها بلاش و ييجي المهزق عامر يخليها تعملها، و الفضيحة الأكبر بقى أمي، علت عليها مرة و عملت ممبار، تقوم أم خالد تسكت ؟! لأ و الله ميحصلش، قامت عاملة فتة باللحمة"
انفجرت هي في الضحكات حتى سألته هي من بين ضحكاتها:
"أنا ازاي مجيتش معاكم مصيف قبل كدا ؟! دا أنا فاتني بلاوي بقى على كدا"
رد عليها هو بنبرةٍ عادية:
"لأ لسه كل سنة فيه تجديد، بس أكيد هنجرب الصيف دا هنروح فين يعني ؟! هتشوفي بنفسك"
وافقته هي من خلال حركة رأسها بإيماءةٍ بسيطة فأضاف هو مستفسرًا:
"هو انتوا لما بتروحوا اسكندريه مش بتعملوا كدا ؟!"
حركت رأسها نفيًا و هي تقول:
"لأ مش بنعمل كدا، كل واحد فينا عنده شقة، و بعدين أنا مش بحب الزحمة مبنزلش أصلًا غير بليل خالص اقعد على البحر و وليد بيكون معايا"
حرك رأسه موافقًا ثم أمسك كفها و هو يقول مسرعًا:
"طب يلا يا ست الكل علشان كل دا هيتغير خالص، مفيش منه بقى"
سارت معه حتى وقف هو يعدل ثيابه ثم وقف بجوارها يقوم بضبط حجابها و هو يبتسم لها ثم لثم جبينها و هو يقول بنبرةٍ هادئة:
"ربنا يباركلي فيكي"
بعد مرور ثوانٍ نزل هو و هي تمسك بيده و قبل أن تقترب من السيارة أوقفها و هو يقول بلهفةٍ:
"لأ مفيش عربية، احنا هناخدها مشي سوا كدا على البحر قبل الغروب ما يهل، العربية هتبوظ المتعة"
سارت معه بحماسٍ و هي تمسك كفه و تبتسم بهدوء حتى ضغط هو على كفها ثم توجه بها للجهة الأخرى يعبرا الطريق سويًا.
بعد دقائق قليلة من السير معًا على البحر أوقفها يستأذن منها لمدة دقائق حتى تنتظره في مكانها و بعد مرور دقائق عاد لها في يده الطعام و هو يضحك لها حتى ضحكت هي الأخرى فقال هو مُسرعًا:
"يلا علشان نقعد على البحر و ناكل سوا، الحواوشي لو برد هيبقى طعمه مش حلو"
تحركت خلفه بحماسٍ حتى جلسا سويًا على الشاطيء فقام هو بوضع الطعام ثم أخذ منه قطعة صغيرة يُطعمها بيده حتى مالت هي برأسها تلتقط الطعام من بين اصبعيه، حينها ابتسم و هو يسألها بنبرةٍ هادئة:
"عجبك ؟! "
حركت رأسها موافقةً فقال بعدما زفر بقوةٍ:
"طب الحمد لله، يلا بقى كلي أنتِ كمان علشان لسه ورانا كتير أوي و اللي فاضل مش كتير"
رفعت رأسها تطالع المكان حولها و حينها أغلقت عيناها و تنفست بعمقٍ تستنشق الهواء البارد لرئتيها المحمل بعبق البحر مع مظهر الغروب و و جلوسها معه و فراغ الشاطيء من حولهما عدا عدد قليل من الناس لا يهتموا بمن حولهم، لاحظ هو شرودها و ابتسامتها و انبساط ملامحها حتى سألها هو بنبرةٍ تعلق بها أثر ضحكاته:
"سرحتي في إيه ؟! المكان مش عاجبك ؟! أنا عارف إنك بتتخنقي من المطاعم علشان كدا قررت اننا نقعد هنا...تحبي نغيـ.."
أوقفت استرسال حديثه و هي تقول بلهفةٍ:
"لا خالص، بالعكس أنا فرحانة أوي بكل دا، علشان كدا سرحت، أنا بحب اسكندرية أوي يا ياسين، بس و لا مرة حسيت أني عارفة استمتع بيها، بس ربنا كرمني أحس بكل دا معاك أنتَ، فمبقيتش عارفة أنا بحب الحاجة علشان بقيت كويسة و لا بحس بحلاوتها علشان معاك أنتَ ؟!"
رد عليها هو بنبرةٍ هادئة:
"يمكن علشان احنا سوا ؟! ساعات الحاجات الحلوة أحنا مش بناخد بالنا منها علشان مش معانا العيون اللي تلمع و تأكد لنا حلاوة الحاجة، يعني اسكندرية طول عمرها حلوة، بس لمعة عيونك خلتني اتأكد إنها حلوة فعلًا"
ابتسمت هي له و لمعت العبرات في عينيها حينها رفعت كفها تمسح تلك الدموع قبل أن تخرج من منبعها حتى قالت بمرحٍ محاولةً تغيير تلك الأجواء:
"تعرف ؟! طول عمري كنت خايفة أوي إني لما اتجوز جوزي يتجوز عليا، مش عارفة ليه يعني بس الفكرة دي مسيطرة عليا، و علشان مكونش كدابة لسه مسيطرة عليا لحد دلوقتي"
رفع رأسه نحوها مُسرعًا و هو يمضغ الطعام حتى ابتلعه بصعوبةٍ فسألها بتعجبٍ:
"هو أنتِ ليه مبتعرفيش تفرحي ؟! ربنا كرمك بفرصة تخليكي تطيري من الفرحة، و أنتِ مقلبة على نفسك المواجع ؟؟ اتجوز عليكي ليه ؟!"
ردت عليه هي بقلة حيلة:
"مش عارفة بس هي فكرة مرعبة، بس أنا هقولك حاجة مهمة، دا ناتج من عقلي الباطن، بمعنى أني علطول كنت بقول أني مش كفاية لحد، فبالتالي محدش هيقبل بيا و يوافق يكمل معايا، علشان كدا عقلي لحد دلوقتي لسه بيجيبلي خيالات قديمة، بس أنا واثقة فيك إنك مش هتعمل حاجة....صح ؟!"
سألته بحذرٍ حتى رفع أحد حاجبيه و قبل أن يهم بالرد عليه وصلتهما صوت أغنية من أحد المقاهي الموجودة على الشاطيء ليصلهما صوت الكلمات الأتية:
"قولي.....قولي ألاقي أنا زيك فين؟!....ياللي مفيش في جمالك اتنين....هو إحنا عِشرة بس يومين ؟!.... دا أنا عايش ليك....و أنتَ.....أنتَ حبيبي عارف من إمتى.....من قبل ما عينيا تيجي في عينيك....عيشت سنين و أنا بحلم بيــك....بسأل... بسأل نفسي أنا كل ما أقابلك..... كنت ازاي عايش من قبلك....مين قلبه عليا غير قلبك؟!...غيرك مليش"
رد عليها هو بنبرةٍ ضاحكة:
"شوفتي ؟! دي إشارة أهو، اعتبريها رسالة مني بقى"
ردت عليه هي بنبرةٍ ضاحكة:
"و أحلى رسالة كمان، هو إحنا نطول يعني إن قلب ياسين الشيخ يحبنا أنا و قلبي ؟!"
رفع عينيها لها و هو يقول بنبرةٍ هادئة و وجهٍ مبتسمٍ:
"تطولي و زيادة كمان يا ست الكل، دا يا بخت قلبي بقلبك"
اتسعت بسمتها أكثر حتى غمز لها و هو يقول بنبرةٍ هادئة:
"الحواوشي برد !! كلي يلا"
أخذت تتناول الطعام و هو معها في جو هاديءٍ بسيط جمع قلبيهما بعدما فرقتهما الطرقات و تدخلت بينهما المسافات، فكان كلًا منهما يأخذ أنسه في الحياة بوجود الأخر و خاصةً عند التقاء نظراتهما و كأن كل زوج من العينين يخبر الأخر بأنه سكنه في تلك الدنيا.
_________________________
مثل الطير تتحرك روحها و ينبض قلبها بقوةٍ و كأن الحياة تعرف طريقها له الآن، أو كأنها أعمى عاد له البصر، لكن في حالتها زادت بصيرتها، اقتربت تلمس كِساء الكعبة المشرفة بكفها حتى ارتجف قلبها بشدة و دبت لحظة انتشاء الروح في جسدها بالكامل و نزلت دموعها في الحال حتى أجهشت في البكاء بقلبٍ خاشعٍ طفقت البصيرة تدخله لـ تُزيل عتمة عمرٌ مضىٰ اخطئت فيه في حق الكثيرين حتى نفسها قبل الكل، في تلك اللحظة وقفت تعاهد ربها بأن تُكمل سيرها نحو طريق الحق، فبعد كل تلك الفرص التي أنعم الله عليها بها، شعرت بمدى ضئالة حجمها وسط ذلك الكون الكبير، لكنها عزمت النية أن تستمر في مجاهدة نفسها حتى تموت موتةً هنية و يرزقها الله بحسن الخاتمة.
وقف «حسن» يبكي بخشوعٍ و هو يقف أمام الكعبة المشرفة و رغمًا عنه تذكر والدته حينما أخبرته بمدى شوقها لزيارة ذلك المكان، و كم تحلم بالوصول إليه، وقف يحمد الله و يثني عليه فضله، فيما رزقه به و أكرمه، حيث حصل على أكثر ما تمنىٰ، و أكرمه أكثر حينما منحه فرصة الوقوف في ذلك المكان بجوارها هي لتبدأ حياتهما سويًا من جديد.
اقترب منها يضع كفه على كفها و هي تقف تبكي بقوةٍ رغمًا حتى اقترب من أذنها يهمس بهدوء:
"ادعي يا هدير، ادعي ربنا يتقبل مننا، و ادعي لكل حبايبنا و لأموات المسلمين كلهم و والدتك و والدتي، ادعي ربنا يرزقنا بذرية صالحة لينا إحنا الاتنين"
حركت رأسها موافقةً بقوةٍ و الدموع تسيل على وجنتيها لا تصدق ما تشعر به و لا تصدق أنها تقف أمام الكعبة المشرفة و لا تصدق أنها تقف بجواره حتى، فلولا وقوفه بجوارها لكانت ظنت أنها بداخل حلمًا لا تريد الاستيقاظ منه طيلة حياتها.
وقفا سويًا يتضرعا بقلبيهما قبل فمهما و كلًا منهما يشكر و يمتن للخالق بتلك الفرصة و يذكر أحبته في الدعاء بما تمنى كلًا منهم، ثم بعدها جلسا سويًا بجانب بعضهما فأخرجت هي من حقيبة ظهرها المصحف الشريف و أعطته واحدًا و هي تبتسم له حتى يقرأ منه، فبادلها البسمة بمثيلتها ثم سألها بهدوء:
"حاسة بإيه ؟!"
طالعته بعينيها الدامعتين و هي تقول بنبرةٍ صوتٍ متحشرجٍ:
"حاسة أني طير خرج من القفص يا حسن، أو أعمى ربنا كرمه و ردله بصره، حاسة كأني كنت مشلولة و ربنا كرمني و ردلي صحتي تاني، حاسة أني عاوزة أعيط و أفضل ساجدة هنا لحد ما روحي تفارقني، خايفة الإحساس دا يروح مني، أنا بتولد من جديد هنا، و وعدت ربنا أني هحارب علشان أفضل كدا، مش هسمح لشيطان نفسي يغلبني تاني، همسك في هدير دي بايدي و سناني"
نزلت دموعه تأثرًا بحديثها حتى أمسك كفها يحثها على ذلك الحديث و هو يقول:
"ربنا يكرمك قلبك و يزيده طاعة و حب لله و رسوله، و يرزقك بالثبات و القدرة على جهاد النفس، أنا معاكي أهو نصلح طريقنا سوا، اللي يقع فينا أو يتأخر التاني يمسك أيده، عاوزين نروح الجنة سوا و مش عاوز واحد فينا يكون سابق التاني هناك، عاوزك معايا في جنته زي ما كنتي معايا في أرضه و دنيته، وعد إنك هتحاولي معايا ؟!"
حركت رأسها موافقةً و هي تبكي حتى ربت بكفه على رأسها و هو يقول بنبرةٍ هادئة:
"ربنا يقدرنا سوا، و وعد مني مزهقش و لا أمل، زي ما صبرت طول عمري على حياتي دي، و أخرتها كانت وجودي معاكي هنا، الصبر هو دا اللي هناخد عليه الأجر في الدنيا و الأخر و دا مش كلامي دا كلام ربنا سبحانه لما قال تعالى:
﴿ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾.
﴿وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾.
﴿وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ ۚ﴾.
﴿ وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا﴾.
﴿إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾
"كل دي آيات للصبر، الصبر عبادة مش بس مفتاح الفرج، الصبر دا تأديب للنفس و تهذيبها، كل آية من دول بنتيجة للصبر، الأولى بشرى للصابرين و خير نتيجة صبرهم و التانية فيها رزق كبير ربنا يوعدنا بيه و هو حبه للصابرين، و التالتة فيها أمر لينا بالصبر و نتيجته معاه فما صبرك إلا بالله، يعني تصبري و تاخد رزق كمان و كل آية منهم بنتيجة الصبر دا، الصبر دا خير لكل نفسٍ بشرية لأن نتيجته بترمم وقت صبرها، علشان كدا ربنا ذكر الصبر في كتابه و طلب مننا نصبر على كل شيء"
حركت رأسها موافقةً و هي تبتسم له ثم طافت المكان بعينيها و هي ترى وقوف الناس بمختلف أعمارهم عند الكعبة المشرفة و كأن كلًا منهما يولد من جديد هنا في ذلك المكان، فكم من نفسٍ بشرية تتطوق شوقًا لتلك الزيارة المُكرمة.
_________________________
نزل «وليد» شقة حماه يجلس معهم بعدما ترك عمه يجلس بمفرده يفكر في الأمر مرةً أخرى، حتى أتت له «سلمى» بـ كتابين "الفيزياء" و "الكيمياء" حتى يشرحهما لها، وافق هو مرحبًا بما تريده ثم جلس معها و «عبلة» بجوارهما تتابعهما بعينيها و هي تبتسم لهما حتى رفع هو عينيه دون قصدٍ فوجدها تطالعه بفخرٍ حينها ابتسم لها بهدوء ثم أرسل لها قبلة في الهواء و هو يغمز لها بعبثٍ حتى أخفضت رأسها بخجلٍ من شقيقتها التي تصنعت الأجابة في الكتاب و عينيها تتابعهما و حينها صدح صوت هاتفه برقم «عمار» وقف هو منتفضًا ثم دلف الشرفة بسرعةٍ كبرى و هو يرد على الاتصال حتى وصله صوت الأخر يسأله بلهفةٍ:
"يا وليد ؟! خلود عندها مراجعة النهاردة و مراحتش ليه ؟! المكثف بدأ خلاص علشان رمضان داخل علينا، صاحبي كلمني و بيقولي أنها لازم تروح"
رد عليه «وليد» بنبرةٍ هادئة:
"خلود مش هتيجي النهاردة يا عمار، و ياريت بس الفترة دي تقلل أي تواصل معاها أو أي حاجة تثبت إن فيه حاجة بينكم"
شعر «عمار» بالريبة و الخوف من حديثه، فسأله بصوتٍ متقطعٍ:
"ليه ؟! هو....هو حصل حاجة طيب ؟! مش كل حاجة كانت قدامك أنتَ ؟!"
لم يجد «وليد» حلًا سوى أن يخبره بما حدث مع «خلود» و كيف أخبر عمه بما حدث و أن صغر سنه هو العائق بينهما و بين اجتماعهما سويًا، حينها انتفض قلب «عمار» فزعًا عليها و هو يقول يسأله بلهفةٍ:
"طب و هي حصلها حاجة ؟! حد جه جنبها يا وليد ؟! أنا أكيد مش هتسبب في أذاها"
لمعت فكرة في ذهن «وليد» و قرر الانصياع لرغبته في تنفيذ تلك الفكرة حتى قال بعدما زفر بقوةٍ و كأنه غُلب على أمره:
"للأسف عمي صمم إنها تفضل في البيت و قالها تركز في مذاكرتها، عمار !! طلع خلود من دماغك دلوقتي، أنا مضمنش عم طه ممكن يتصرف ازاي، ممكن يضرك لو خايف على نفسك انسى خلود"
ردد خلفه بخيبة أملٍ و صوتٍ منكسرٍ:
"أنساها !! أنسى إيه ؟! دا أنا طول الاسبوع اللي فات فرحان علشان شوفت القبول في عينيها، أنا من فرحتي صليت ركعتين شكر لله، انساها إزاي قولي !!"
تهدج صوته و هو يسأله حتى رد عليه «وليد» بقلة حيلة:
"دا علشانك مش علشانها هي، أنا خايف عليك أنتَ، سيب الوقت يداوي الجرح دا يا عمار، لو ليك نصيب فيها غصب عن عمي و عن الدنيا كلها هي هتكون ليك، لكن دلوقتي صعب"
رد عليه «عمار» موافقًا بانكسارٍ تمكن منه:
"صح....معاك حق يا وليد، عن اذنك بقى علشان ورايا مذاكرة"
أغلق الهاتف مسرعًا فيما زفر «وليد» بعمقٍ و هو يفكر هل بتلك السهولة استسلم لرغبة الدنيا في تفريقهما حتى قبل أن يجتمعا سويًا ؟! إذا حدث ذلك سيحصل «عمار» على الرسوب في أول اختبار يوضع لحبه.
نظر «وليد» من الشرفة فوجد سيارة «طارق» تقف أمام البيت لينزل منها هو و زوجته و «وئام» و ابنه و زوجته أيضًا، ابتسم هو براحةٍ ثم أطلق صفيرًا عاليًا من فمه حتى نظروا له جيمعًا فقال هو باستفزازٍ لهم:
"يا قلودين !! جايين هنا ليه ؟! بطلوا تقلدوني بقى، خلوا عندكم شخصية شوية"
ضحك عليه «وئام» و الفتاتين في حين أشار له «طارق» بالتريث و هو يقول مهددًا له:
"طالعلك، هتروح مني فين يعني،
دا بيت الرشيد كله شقتين و سطح!!"
_________________________
جلست «خلود» في غرفتها بخوفٍ خاصةً بعدما تركتها «سلمى» و ذهب «أحمد» مع والدته يجلبا مشتريات البيت، إذن هي في البيت مع والدها بمفردها !! حينما أخذها تفكيرها لتلك النقطة سقط قلبها فزعًا و قبل أن تقوم تغلق باب الغرفة تفاجئت به يفتح الباب ليطل منه بهيبته الطاغية، و حينما رآى هو خوفها اقترب منها يمسك يدها ثم جلس على الفراش و هي بجواره، و لم تستطع هي أن تواجهه حتى أخفضت رأسها بخزيٍ منه، حينها رفع رأسها بكف يده و هو يسألها بهدوء:
"بتحبيه ؟!"
تفاجئت هي من سؤاله الغير متوقع فاتسعت حدقتي عينيها، فكرر هو سؤاله بنفس النبرة، حتى اخفضت رأسها بخجلٍ منه، فزفر هو بعمقٍ ثم قال:
"أنا مش زعلان منك، دي مشاعر غصب عنك لازم تحسيها، بس زعلي إنك تكوني في موقف زي دا و توافقي من غير وجودي، أنا مش هجبرك على حاجة، بس أنا أب يا خلود، أضمن منين إن عمار دا مش بيلعب بيكي ؟! الدنيا مش مضمونة يا حبيبتي، اللي جوة نفوس الناس احنا منعرفهوش، حاجة زي دي لسه كتير عليها، أنتِ لسه بتتعلمي و لسه قدامك كتير، و هو برضه صغير و طريقه طويل، ممكن تكونوا مناسبين لبعض، بس وقتكم مش مناسب يا خلود، علشان كدا مش عاوزك تعلقي نفسك بحبال دايبة، لو هو نصيبك ربنا يكرمك بيه، لو فيه شر ليكي يبقى ربنا يعوضك بخير منه، بس عاوز منك وعد إنك تذاكري و تركزي في مستقبلك، و لو على الحاجات دي ليها وقتها بس الصح"
حركت رأسها موافقةً و هي تبكي و حينها احتضنها هو حتى يُطمئنها بعدما عزم أمره على ترك أخطاء الماضي بعدما ضاعت منه فتاةٍ بسبب أخطاءٍ اقترفها هو، ابتعد عنها و هو يقول بنبرةٍ هادئة:
"يلا قومي اعمليلي شاي خليني أفوق شوية من الصداع دا، يلا قلبتي دماغ أنتِ و وليد"
حركت رأسها موافقةً فصدح صوت هاتفه هو برقم أخيه يطلب منه النزول لهم حتى يجلس مع رجال العائلة في الطابق الخاص بمناسباتهم.
أخبرها أن تنزل معه حتى تجتمع العائلة مع بعضها فنزلت مع والدها ترحب بأبناء عمومها و خاصةً «فارس» الذي ركضت له حتى تحمله كعادتها، جلست النساء على مقربةً من الرجال حتى أتت «زينب» و معها «أحمد» اللذان اقتربا من الجميع يرحبان بهم ثم جلسا معًا.
راقبها «وليد» بعينيه و هو يفكر إذا كانت هيئتها تلك في بداية الأمر ماذا إذا علمت أنه تخلى عنها و خشى على نفسه ؟؟ هل يخبرها بذلك و يعتذر منها أمام الجميع ؟! أم يترك الفرصة للأيام تقوم بصلح ما أفسدته سابقتها ؟؟ شعر بالأسف عليها خصيصًا أنه وهمها بمشاعر جديدة عليها و وضع كامل ثقته به و لأول مرّةٍ يشعر بالهزيمة من الوثوق في أحدهم و قبل أن ينطق هو طُرق باب البيت، ففتحه «أحمد» الذي جلس بجوار الباب حتى تفاجأ بـ «عمار» يقف أمامه و ملامح وجهه جامدة على عكس عادتها اللينة، فتحدث مرحبًا به:
"عمار !! اتفضل تعالى، اتفضل البيت نور بوجودك و الله"
دلف «عمار» على استحياءٍ من الجميع حتى وقف أمام الرجال و كان حينها «طـه» يطالعه بجمودٍ ثم نظر لابنته التي أخفضت رأسها بخوفٍ من اللحظة القادمة حتى سأله «وليد» بتعجبٍ:
"خير يا عمار ؟! جاي لوحدك يعني فيه حاجة ؟!"
حرك رأسه موافقًا ثم اقترب من «طـه» يقول بنبرةٍ جامدة رغم هدوءه الذي حاول الاتصاف به:
"آه فيه، أنا جاي بس علشان أقول أني مش عيل صغير و لا أنا راجل جبان، أنا واحد اتربى على أيد رجالة و في بيت كله أصول، علشان كدا أنا جيت علشان كلكم تعرفوا أنا مين و إيه"
احتلت الدهشة تلك الجلسة و زادت حدة النظرات المتفرقة في تلك الجلسة فقال «عمار» بشموخٍ:
"معاكم عمار فهمي، أخو عامر اللي حضراتكم عارفينه، و جاي أخطب الآنسة خلود"
شهقة جامدة خرجت من فم الجميع و نظراتٍ مستنكرة تدور في الموضع و كلًا منهم يطالع الأخر بحيرةٍ و تعجبٍ، فما العلاقة التي تربط بينهما، أما هو فوقف بنفس الثبات و هو ينتظر القادم حتى و إن لم يكن في صالحه، لكن يكفيه أن يفخر هو بنفسه.