![]() |
رواية وريث آل نصران الجزء الثالث الفصل المائةواثنين بقلم فاطمه عبد المنعم
لما الملام؟
هل لكوني أخشى أُلام؟
أخشى الفراق والألم وكل ما لا يطاق
أرتعد خوفا من أبٍ وهو لم يعد باق
و يضحي قلبي بالأمل خوفا من الأحلام
خوفا من اليوم وغدا...خوفا من الآلام
و ظننت حين رأيتك أن فؤادي استكان
قد خاب ظني لأنني ما زالت أتذكر
والذكرى تتفنن في جعلي أخاف...
فلا تلوم حبيب قلبٍ، وارفق بقلب تاه
قلب تمنى لكنه ما زال يخشى الآه.
في أغلب الأوقات، الشيء الذي نقول هذا لن يحدث أبدا، يحدق بنا ضاحكا بسخرية لأنه سيحدث بعد قليل.
كذلك لم يتوقع "عيسى" أبدا أن تأتي "قسمت" إلى منزله من جديد، هي أمامه الآن تحديدا يقفا أمام منزله، ولكن بها شيء غريب، حيوية يظن أنه لم يشهدها إلا في "قسمت" التي كانت قبل الحادثة.
سأل بنبرة جامدة اكتسبها بعد الأحداث الأخيرة بينهما والتي كاد يفقد فيها شقيقته بسبب الواقفة أمامه:
إيه اللي جايبك.
رفعت كتفيها ببساطة وهي ترد على سؤاله بهدوء:
أشوفك، جيت علشان أشوفك... مش أنت قولتلي لو احتاجتيني أنتِ عارفة مكاني؟
هز رأسه بالإيجاب وعلق يكمل لها باقي العبارة:
اه قولت كده، بس قولت برضو إن ده في حالة إنك عايزة تساعدي نفسك... و بعدين معتقدش مجيك هنا هيبسط الباشا.
قال جملته الأخيرة بتهكم، فتنهدت بعمق، مسحت على وجهها بتعب وقد تلاشت الضحكات التي تحاول إجبار نفسها على اصطتناعها لاكتساب شرارة من الأمل والثقة قبل ما ستمر به، وظهرت المشاعر الحقيقة... بدا التوتر على وجهها وهي تقول:
أنا جاية أسلم عليك، علشان ...
ابتلعت غصة مريرة في حلقها وأكملت بحزن:
علشان هسافر، هعمل عملية جايز بعدها أقدر أرجع قسمت اللي أنا أعرفها تاني.
عند هذا تحديدا أنصت لها وبدا الاهتمام على وجهه وهي تقول بعينين داهمتهما العبرات:
هبقى اتصل بيك قبل العملية، أنا بحاول ادور على أمل يخليني أصدق إنها تنجح، الدكتور المرة دي بيقول إن نسبة النجاح مش صغيرة، بس برضو مش كبيرة أوي لكن هو متطمن.... تفتكر هتنجح؟
تأثر كليا بسؤالها الأخير، شعر بما تمر به ورد عليها يقوي من عزيمتها التي أوشكت على الهلاك:
حتى لو منجتش يا "قسمت"، قدامك حياة تانية لسه،
قدامك ال Gallery بتاعك و أحلامك اللي ب....
قاطعته هاتفة بانهيار وقد ارتفع نحيبها:
لو منجحتش أنا هنتحر.
أثارت انفعاله بما قالته فرد مسرعا باستنكار لقولها هذا:
يعني إيه؟...
حاول التحكم في انفعاله و الحديث بهدوء جاهد ليصل له:
هتنهي حياة كاملة علشان عجز احتمال كبير ينتهي في أي وقت، اوعي يا " قسمت" تعملي ده... أنا مش مكانك علشان أحس باللي أنتِ حساه، بس أنا متأكد إن اللي بتقوليه ده لحظة يأس وهتخلصي منها بسرعة.
_ خايف عليا؟
سألته بابتسامة حزينة وهي تزيح بأناملها العبرات التي كثرت على وجنتيها ولم يكن رده مخيب للأملها أبدا حين قال بمشاعر صادقة:
طبعا هخاف عليكِ، علشان عارفك طايشة ومجنونة...
قسمت أنا هكون فرحان جدا إنك تلاقي نفسك تاني، بحق العشرة اللي كانت بيننا اوعي تعملي في نفسك كده
علقت بابتسامة على عباراته التي تفوه بها:
النظرة اللي بشوفها في عينك دلوقتي، هي نفسها اللي كنت شايفاها يوم ما جيتلنا علشان أختك، مش مصدقة إنك خايف عليا زيها.
رد على هذا مسرعا وقد لانت نبرته وهو يحاول استمالاتها كي لا تفعل أي حماقة:
أكيد خايف عليكِ أنتِ كمان، قسمت أنا عمري ما كان هدفي أشوفك ضايعة وتايهة كده، أنا في وقت من الأوقات كنت شايل مسؤوليتك أكتر من أختي نفسها...
بلاش تضيعي كل حاجة.
ردت بوجع ونبرة متحسرة:
أتمنى كل حاجة متضيعش، ادعيلي العملية تنجح.
أنهت جملتها، وقبل أن تستدعي المرافق لها بهاتفها ليأتي من الخارج نطق هو:
أنا واثق إنك هتبتدي مشوار جديد، سواء نجحت أو منجحتش... هستني أشوف "كيمي" اللي أعرفها.
استدارت تطالعه بهدوء، وقد قرر هو اتخاذ خطوة تردعها إن قامت بالتفكير في هذا، فبمجرد رحيلها بدأ التفكير جديا فيما سيفعله بخصوصها، عاد إلى الداخل وحين كان يتجه إلى غرفته تسائلت "سهام":
مين البنت اللي كانت معاك برا.
قبل أن يرد عليها بما لن يعجبها دخل " طاهر" من البوابة وهتف بابتسامة:
مساء الفل... كويس إنك صاحية والله، عايزك في موضوع مهم.
لوح له "عيسى" ثم صعد إلى أعلى حيث غرفته، وما إن دخلها حتى وجد ملك الجالسة على الفراش تهب من مكانها سائلة بنظرات غاضبة:
كانت عايزة إيه تاني؟ ... وازاي متكسفتش بعد اللي أبوها عمله.
برر لها بضيق:
قسمت غير أبوها يا "ملك".
أبدت غضبها الذي أشعلته من يتحدث عنها:
غيره، زيه أنا مليش دعوة، العلاقة دي كلها مضايقاني...
دي تاني مرة تجيلك هنا ونكون سوا وهي تتعمد تقول كلام يحرق دمي وتحسسني بيه إنها عارفاك أكتر مني.
_ قسمت ليها ظروفها
كان هذا رده الذي جعلها تنفعل وترفض عبارته رفضا تاما:
متقوليش ليها ظروفها، ما كلنا لينا ظروفنا، وظروفنا دي متخليناش نزعل الناس ونحرق دمهم.
ابتسامة جانبية ارتسمت على وجهه وهو يسألها:
دي غيرة صح؟
وقفت أمامه سائلة بانفعال:
مش من حقي؟
_ لا من حقك، بس قسمت زي أختي
رد ببساطة قابلتها هي بنفي وفي عينيها عدم الرضا:
لا يا " عيسى" مش أختك... أختك اسمها "رفيدة"، ولو أنت بتعتبرها أختك، فهي مش بتعتبرك أخوها،
تلألأت العبرات في مقلتيها وهي تردد بضيق كاد أن يخنقها:
نظراتها و كلاهما وطريقتها في المرتين اللي شوفتها فيهم بتقول إنها بتحبك.
رد على هذا مستنكرا إياه:
لا طبعا، أنتِ بتقولي إيه، بلاش عقلك يوديكي بعيد يا " ملك".
أمام قوله هذا ذهبت ناحية الفراش بانزعاج تجذب وسادة وأحد الأغطية فأوقفها متسائلا باستغراب وقد انكمش حاجبيه لفعلتها:
أنتِ راحة فين؟
_ هنام على الكنبة.
ردت بسهولة وهي تتلاشي النظر إليه، وتأفف هو بغيظ ثم سد الطريق أمامها فطالعته بنظرات تبثه فيها كم هو مذنب بالنسبة لها فقال بهدوء:
يا ملك صدقيني ده مش صح، وحتى لو كان صح من ناحيتها، وهي فعلا بتحبني... أنا مفيش حاجة من ناحيتها... أنتِ أكيد مش محتاجة أقولك إني بحبك أنتِ ولو كان في من ناحيتي مشاعر لأي واحدة تانية عمري ما كنت هقولك الكلمة دي.
طالعته بحزن فأشار على الوسادة بيدها قائلا بعتاب:
رجعي الحجات دي مكانها يا ملك، ولو عايزة الأوضة كلها خديها، أنا هنام برا.
استوقفته حين مسكت مرفقه برفق معترضة:
لا استنى.
ضحك وهو يقول:
طب ما كان من الأول بقى.
احتضنها وتنهد بتعب في حين قالت هي:
قولها متضايقنيش تاني.
ابتسم على ما تفوهت به، كعادتها تستطيع أسره بأبسط الأقوال و النجاح حليفها دائما.
★***★***★***★***★***★***★***★
كان "شاكر" يقف أمام والد زوجته في حديقة منزله الفسيحة مرددا باستنكار:
يعني إيه يا باشا اللي بتقوله ده.
رد عليه "ثروت" بنظرات حازمة وهو يصب عليه كامل غضبه:
أنا اللي المفروض اسألك يعني إيه... يعني إيه تديني ورقة وتقولي جبتلك اللي عايزه وتطلع ورقة ملهاش لزمة.
صاح "شاكر" باعتراض:
لا معلش فهمني، أنا قولتلك أنا كفيل أرجع أرض أبويا اللي اتاخدت وهتبقي ليك زي ما كان اتفاقنا تعمل عليها المشروع اللي عايزه، فين اللي حصل بقى؟
ابتسم "ثروت" بتهكم وهو يقول:
اللي حصل إنه باعلك الهوا، الحاجات مش بإسمه أصلا علشان يمضي تنازل عنها.
رفض "شاكر" أن يكون هذا حدث وأسرع يؤكد على ملكية "عيسى":
يا باشا أنا بقولك بنت عمي اتنازلتله، وأنا متأكد من الكلام ده.
_ وأنا حبايبي بلغوني، الحاجة مش بتاعة عيسى، والورقة اللي مضى عليها دي ملهاش لزمة.
هكذا قال " ثروت" فبهت "شاكر" وعاد يسترجع ما حدث... يسترجع اندهاشه وذهوله من موافقة عيسى على التوقيع بكل سهولة، توقع أن هناك شيء ليس على ما يرام ولكن لم يظن أبدا أنه سيتلقى صفعة كهذه.... في وسط اندهاشه سمعا صوت الخادمة تستنجد بثروت فهرولا ناحية المنزل، ولحق بهما "خليل" والد ندى الذي جلس مع منصور على طاولة ما في الحديقة يتحدثا في خلافاتهم.
بمجرد دخولهم وجدوا "جابر" يتشبث بندى وأوشك على خلع خصلاتها فهرول "شاكر" يحاول إبعاده مهدئا:
الكلام مش كده يا "جابر".
_ ابعد أنت.
كان هذا رد " جابر" الغاضب، والذي أمره والده بحدة:
ابعد يا "جابر" عنها.
كان قول والده حازم، وكذلك قول "ثروت" الصارم:
هو لو مسبهاش دلوقتي هوديه في ستين داهية.
مع هذا التهديد المباشر تركها "جابر"، فارتفع نحيبها وهرولت ناحية " بيريهان" تحتضنها.... وبدأ "شاكر" الحديث قائلا:
أظن يا حاج منصور أنت وخليل باشا اتفقتوا،
فلوسك هترجعلك على دفعات، وكله هيمشي كويس... مفاضلش دلوقتي غير الطلاق.
صاح "جابر" بانفعال:
وأنت بتدخل فيها ليه؟
رد "ثروت" بدلا عنه:
أنا مفوضه يتدخل يا جابر، والحاج منصور خلاص اتفق على كل حاجة، النقطة دي احنا وصلنالها بسبب أفعالك.
رد "جابر" بنبرة عالية وصلت لمسامعها لتضربها كلماته في مقتل:
لا بسبب وساختها.
تدخل والدها ووقف أمامه رادعا بضجر:
أنا سكتلك كتير... كلمة تانية وهخلص منك الجديد والقديم كله.
صاح "منصور" بحدة:
مسمعش حسك تاني يا "جابر"، خلاص الحكاية خلصت،
واستدار يقول لثروت منبها:
و لعلمك يا باشا أنا وافقت انها تخلص كده بس علشان مش عايز نخسر بعض.
_ عاقل يا " منصور" .
كان هذا تعليق ثروت والذي تبعه قول "شاكر":
دقايق والشيخ يوصل وكل حاجة تتم.
ثم مال على أذن ثروت هامسا:
أنا هتصرف في حوار الأرض ده.
أمر مباشر صدر عن ثروت حين همس له:
متعملش حاجة دلوقتي
بينما كان " منصور" يراقب الأوضاع بغل، شاكر الماكر استطاع التودد والتقرب إلى "ثروت" عن طريق الإيقاع بابنته التي تعلقت به، بينما ابنه لم يمكنه من تحقيق أكبر استفادة من هذا النسب مطلقا على الرغم من كل تنبيهاته له والآن ينعم بهذا "شاكر"، وولده ينتظر التوقيع على قسيمة قطع علاقتهم بهذه العائلة... قسيمة الطلاق.
★***★***★***★***★***★***★***★
كما اعتادت دائما، لا يرافقها النوم إلا في حضن والدتها، كانت تتصنعه ولكن كشفت " هادية" أمرها حين اعتدلت وطالعت ابنتها قائلة:
أنا عارفة إنك صاحية يا "مريم".
فتحت عينيها ونظرت لوالدتها التي ابتسمت بهدوء وحثتها على الاعتدال فاعتدلت تجلس على الفراش جوارها مما مكن " هادية" من السؤال بحزن وهي تمسح على وجنتيها:
مين بقى اللي مزعلك، ومخليكي مش عارفة تنامي ومصحيني معاكي كده.
تلألأت الدموع في مقلتيها وهي تصارح والدتها بما ترغب به:
ماما أنا عايزة أحول من الكلية.
انكمش حاجبي والدتها وأسرعت ترد بغير تصديق:
لا طبعا، وتضيعي السنة؟...وبعدين مش الكلية دي كانت اختيارك من الأول؟
غصة مريرة تقتلها، وارتفع صوت نحيبها فأدركت والدتها أن الأمر أكبر من الجامعة بكثير، الأمر يخص شيء آخر كشفته "هادية" بقولها:
"حسن" مش كده؟
هزت ابنتها رأسها بدموع فمسحت "هادية" عبراتها برفق معاتبة:
قولتلك متتعلقيش بيه، ومتربطيش نفسك بيه غير لما ياخد خطوة جد، و طول عمرك بتسمعي كلامي، والمرة اللي مسمعتيهوش فيها عملت فيكي كده.
ارتمت في حضن والدتها، تفرغ كل شحنة البكاء لديها وصوت شهقاتها يمزق فؤاد "هادية" التي أخذت تربت على ظهرها برفق في محاولة لتهدئتها من حالة الانهيار هذه التي انخرطت بها.
★***★***★***★***★***★***★***★
فعل المستحيل حتى يأتي هذا اليوم، مرت عدة أيام حتى تحقق مراده، صراعات كثيرة خاضها ولكن كل ما يطرب قلبه الآن أن الأيام مرت حتى وصلا إلى هذه اللحظة... لحظة عقده عليها.
كان المنزل عند "نصران" في كامل زينته، خاصة الحديقة الخارجية التي أشرفت "رفيدة" على تزيينها خصيصا من أجل "طاهر" و "شهد"، البالونات معلقة هنا وهناك، وأضواء رقيقة زينت الحديقة، وورود نثرتها رفيدة حول الطاولة وهي تسمع اعتراض والدتها بغضب:
أنا مش موافقة على اللي بيحصل ده، وبعدين إيه كل البهرجة دي، ده كتب كتاب بس مش فرح، يعني ممكن في أي وقت تتفشكل.
انكمش حاجبي ابنتها التي ارتدت فستان باللون الوردي لاق بها كثيرا فكانت ملفتة للأنظار وبدا الحزن على وجهها وهي تقول:
ليه كده يا ماما؟... حرام عليكي افرحي لطاهر وبعدين بيحبوا بعض.
_ اسكتي بقى بلا حب بلا زفت.
كان هذا قول والدتها الذي جعلها تتأفف بانزعاج ثم تحركت ناحية والدها التي لمحته يخرج من البوابة وهتفت بحماس:
ايه رأيك بقى في الجنينة واللي عملته فيها؟
مال يقبل وجنتها وهو يقول بابتسامة:
هو أنتِ هتعملي حاجة وهقدر أقول إنها وحشة برضو؟
سألت وقد تغلب فضولها عليها:
بابا هو عز جاي؟
أمام نظرات والدها التي شعرت أمامها أن أمرها مكشوف للغاية تداركت سريعا مصححة:
قصدي يعني، عيب لو معزمتهوش هو ومامته
سألها والدها بابتسامة ماكرة:
وبقيتي تعرفي العيب والأصول مش كده؟
_ اه طبعا أكيد، وبالذات إن " عز" ده أخويا.
قالتها وفرت سريعا من أمام والدها، وكأنه بهت عليها فصارت تنعته بشقيقها كما يفعل هو معها، بقوا في انتظار "طاهر" الذي ذهب لإحضار "هادية" وفتياتها الثلاث، وقد ذهبت لهم "ملك" منذ الصباح... نزل "عيسى" من الأعلى وقد وصل صديقه "بشير" الذي قام بدعوته أيضا، مر جوار والده أولا و سأل بحزن:
أنت لسه زعلان؟... المفروض أنا اللي أزعل منك.
قصد يوم أن طلب نصران من ملك الرحيل، طالعه "نصران" بهدوء وتخطاه للناحية الآخرى فتنهد "عيسى" بتعب وتحرك ناحية صديقه الذي بدا عليه أنه ليس على ما يرام فسأل "عيسى":
في إيه؟
كان قد وصل البقية وتبعهم الشيخ فقال " بشير":
بعدين.
تأملت "سهام" طلة من ستصبح زوجة لابنها بعد قليل، كان ترتدي فستان باللون الأزرق الفاتح، أكمامه واسعة شفافة، وبدا لامعا وكأن النجوم احتلته، وتركت خصلاتها ولم تربطها كعادتها فقط اكتفت بمشبك صغير وضعته على جانب خصلاتها فأعطاها مظهر رقيق، اكتفت بالقليل من الزينة وبدت كما اعتادتها دائما جذابة للغاية، دلفت برفقة ابنها وخلفها والدتها، التي تبعتها "مريم" وما إن وقعت عين حسن عليها حتى هرول ناحيتها طالبا:
مريم نتكل...
قبل أن يكمل عبارته استدارت والدتها تجذبها من مرفقها وهي تلقي عليه سهام نظراتها الحادة إن اقترب من جديد.... تحركت "ملك" ناحية "عيسى" الذي أشار لها و ما إن وصلت حتى سألته:
في حاجة يا "عيسى" ؟
أشار على ثوبها قائلا بابتسامة:
في فستان موڤ هنا هينطق... ذوق مين ده؟
هو من ابتاعه لها فضحكت و ردت بغيظ:
ذوق واحد كده.
ثم أشار بغير رضا على رباط الخصر المتواجد في الثوب:
بس أنا مش عجباني ربطة الحزام دي.
قبل أن يمد يده منعته هي مرددة بارتباك:
لا يا عيسى هي حلوة... متوترنيش لو سمحت.
ضحك وهو يقول مراوغا:
طب تعالي ندخل جوا وأوترك قصدي أربطهالك براحتي.
ضربته على كتفه بغيظ وابتعدت عنه متوجهة ناحية والده الذي ناداها
بمجرد وصول الشيخ، أجلست "رفيدة" الصغير الذي كان يتحرك هنا وهناك، وشعرت "شهد" بشيء تعرفه جيدا، ذكريات الماضي تداهمها وتصر على ألا تتركها إلا خائفة وتتسأل:
لما الملام؟... هل لكوني أخشى أُلام؟
نظرت لطاهر فأعطاها ابتسامة واسعة قائلا بمزاح:
لا مش جاية النهاردة تتنحي، ده أنا طالع عيني علشان أجيب الشيخ وناقص أجيب اتنين يثبتوا أمي وأمك لحد ما نكتب الكتاب.
كانت صامتة وكأنها لم تسمع فقط تطالعه فانكمش حاجبيه باستغراب سائلا:
مالك يا "شهد"؟
هل ترد روحها عنها تخبره أنها تخشى الفراق والألم وكل ما لا يطاق؟
وبالفعل ردت:
أنا خايفة.
بانت الدهشة في عينيه و سأل:
طب ليه؟... في حاجة حصلت؟، احنا كنا مبسوطين طول الطريق؟
يحثها فؤادها على الهرب، الهرب و التضحية بكل شيء خوفا من الأحلام
خوفا من اليوم وغدا...خوفا من الآلام.
_شهد مالك؟
كانت نبرته حانية رقيقة أجبرت عينيها التي طالعته أن تقول بلهفة:
و ظننت حين رأيتك أن فؤادي استكان
ولكن ردعها الفؤاد بخوفه ردا عليها مما جعل " شهد" تقول بلا تردد ما صدمه:
"طاهر" أنا مش عايزة.
مذهولا قطب جبينه ونطق بلا استيعاب:
مش عايزة إيه؟
هزت رأسها تؤكد مخاوفه قائلة وهي تحتضن عينيه:
مش عايزة أتجوز.
وأمام وجهه الذي بهت ترجاه فؤادها بعبارات كانت تمزقها حزنا:
فلا تلوم حبيب قلبٍ، وارفق بقلب تاه
قلب تمنى لكنه ما زال يخشى الآه.
وكلاهما يطالع الآخر وفي الخلفية سمعا صوت والده:
يلا يا طاهر، يلا يا "شهد".
ماذا تعني هيا؟.... ماذا يعني أساسا كل ما قالته، لم يتعرض لشيء كهذا قط، ولكنه على يقين أن اللحظات هذه إن بقت هكذا لآخرها لن ينساها أبدا... لن ينساها لأنها ستشهد مقتله على يدها هي
*******************************
(هل تعيد أمي)
إذا تبقى لي أمنية واحدة فقط...
فبكل تأكيد لن تكون سوى "ملك"...
إذا كان العالم سينتهي بعد قليل فلينتهي،
ولكن برفقة " ملك"... هي ودونها تنتهي كل الأشياء،
تنتهي الحياة.
كانت الصدمة كبيرة، الصدمة من قول لم يتوقع أن تتفوه به أبدا، لكن هذا لم يمنعه من سؤالها:
يعني إيه يا "شهد" مش عايزة تتجوزي؟..
هو لعب عيال؟
كانت نبرته منخفضة حتى لا يسمع والده الواقف في الخلف بحثهما على القدوم، وحين نطق "نصران" مجددا:
ما يلا يا بني.
قبل أن تقول شيء، استدار "طاهر" يستأذن من والده:
بابا بعد إذنك، خمس دقايق بس هتكلم مع "شهد" في حاجة ونرجع.
أبدى والده استغرابه، وكذلك "سهام" التي همست لحسن:
هو في إيه يا "حسن"؟
لم يكن على علم بما يحدث، وشعرت " هادية" بالتوتر والقلق من تغير تعابير ابنتها فجأة من الفرح إلى الخوف فمالت على "مريم" مردفة بتخوف:
أختك شكلها بتعمل مصيبة.
حثها "طاهر" على السير أمامه، كانت لا تتحرك وكأنها تجمدت فتحدث محاولا بكل جهده ألا يبدي انفعاله:
شهد امشي لو سمحتي... وبلاش اللي على وشك ده أنا مش هتجوزك غصب عنك.
قصد شحوبها الذي احتل وجهها ما إن اقتربا من خطوة العقد، قوله هذا جعلها تسير معه حتى وصلا إلى ركن بعيد عن الجميع، وقف أمامها متسائلا:
ممكن أعرف في إيه؟.... طب لما أنتِ مش عايزة
كان مستنكرا لكل ما يحدث وأكمل بغير تصديق:
لما أنتِ مش عايزة مقولتيش ليه من الأول؟، كان ليه كل ده؟
التردد والخوف يتفننا في قتل كل ما هو جميل، طالعته بحزن وعبرت عما بداخلها دون كذب:
فجأة خوفت، وأنا على بعد خطوة من المأذون، خوفت من تجربة أنا مش ناسياها، من أبويا اللي حط رقبتنا تحت رجل عمي ومراته
ابتلعت غصة مريرة في حلقها وأكملت:
عمي ومراته اللي قسوا قلبه عليا،
تسابقت الدموع على وجنتيها وهي تخبره:
أنا كنت بخاف أثق في الناس لحد ما قابلتك، أنا بتطمنلك وبحبك
كان متأثرا بكل ما تقوله وتسأل بحزن:
طب ليه مش عايزة طالما بتطمنيلي؟
_ علشان خايفة، خايفة يجي يوم و تكسرني، خايفة أي حاجة تحصل تخليك تهد كل حاجة وتهدني معاهم،
أنا مش ناسية يا طاهر اللي حصل ساعة ما سيبنا بعض، مش ناسية الكلام اللي قولته ومخوفني حتى بعد ما رجعنا... انا كل حاجة وحشة افتكرتها دلوقتي و حسيت إن عقلي وقف.
أخبرته بما دفعه لمحاولة للحفاظ على الصبر والهدوء وهو يرد عليها:
شهد هو احنا مش اتكلمنا قبل كده في الموضوع ده؟...
يا شهد أنا كبير ومفيش حد هيمشيلي حياتي، أنا اللي همشيها، أنا لو كنت هسمع للي حواليا مكناش وصلنا لهنا... كنت سمعت كلامهم كلهم و اقتنعت إن العلاقة دي هتبوظ لأي سبب، لكن أنا كملت
حثها على النظر إليه وهو يكمل بنبرة بان فيها صدق حبه لها:
كملت علشان أنا عايز أكون معاكي، متبوظيش كل حاجة، واديني فرصة، انسي أي حاجة حصلت قبل كده وخليكي متطمنة.
بان تأثير كلماته عليها حين لانت تقاسيمها، و قطع خلوتهما صوت "نصران" الذي أتى وسألهما بقلق:
في حاجة يا طاهر؟
قبل أن يرد ابنه ردت هي بابتسامة:
لا يا عمو مفيش حاجة، احنا جايين أهو.
وبالفعل سارت وحثت "طاهر" على السير قائلة:
يلا يا "طاهر".
_ شهد
قالها " طاهر" منبها إن كانت لم تحسم موقفها بعد ولكنها أكدت أنها على أتم الاستعداد لذلك بقولها بنبرة منخفضة:
خلاص يا "طاهر"... يلا علشان الناس.
رفع حاجبيه باندهاش، وقد تسائل داخل عقله هل حقا الآن تخشى آراء الآخرين، كان متخوفا منها كثيرا، و لم ينته خوفه هذا إلا حين انتهى الشيخ، وأصبحت زوجته رسميا، أطلقت " تيسير" الزغاريد بفرح، و تعالت الأصوات كل منهم يعبر عن سعادته، أما هي فحين طالعها بحذر كانت ابتسامتها واسعة وبادرت باحتضانه، فضحك واحتضنها هامسا:
اه يا بنت المجانين.
_ ايه قلة الأدب دي، هي مبتتكسفش؟
كان هذا تعليق "سهام" الذي جعل ابنتها تهمس لها بضيق:
ماما على فكرة اتجوزوا.
رفضت "سهام" تصرف "شهد" معلقة:
حتى لو يا حبيبتي، المفروض هو اللي يقوم يحضنها وهي تبقى مكسوفه، إنما اللي عملته ده بجاحة وعين مكشوفة.
_ يووه
قالتها "رفيدة" بانزعاج وابتعدت عن الزاوية التي تقف فيها والدتها، وقف "نصران" في نفس مكان ابنته فأتت "سهام" لتبتسم ولكن وأد هو ابتسامتها بتحذيره لها بعد ما سمعه:
باركي لابنك ولعروسته، ووضع علبة مخملية خلسة في كفها مكملا:
وتهاديها بدي، و متنكديش على ابنك ولا على البت، علشان ساعتها متشوفيش مني اللي مش هيعجبك.
أنهى حديثه الذي جعل وجهها يبهت، وتوجه ناحية "طاهر" يحتضنه قائلا بابتسامة:
ألف مبروك يا "طاهر".
احتضنه " طاهر" بحب، ثم طالع نصران "شهد" بابتسامة وهو يخبرها:
انسي بقى إن الواد ده يبقى ليه علاقة بيا خالص، لو عملك حاجة تعاليلي بس وأنا هقطعلك رقبته.
ضحكت ثم استدارت تحذر "طاهر":
فكر بقى تزعلني، هعمل حزب عليك أنا وعمو نوديك في داهية.
طالع " طاهر" نصران متسائلا بغيظ:
بتسلمني ليها يعني من واحنا لسه على البر، امال بعد الفرح ولما تيجي تقعد هنا هتعمل إيه؟
_ هعلقلك المشنقة لو زعلتها.
كان هذا رد والده الذي قاله ضاحكا، وتركتهما هي وتوجهت ناحية "يزيد" الذي كان يهرول لها، حملته وهي تسأله بمشاكسة:
إيه الشياكة دي كلها؟
رد الصغير على السؤال بحماس لسرد كل شيء يخص ما يرتديه:
بابا اللي جبهالي، و تيتا قالتلي إنها كبيرة شوية صغيرين و هتظبطهالي، وعملتهالي، و رفيدة..
قاطعته معلقة بضحك:
لا ده أنا، أنا لما حد يقولي حلو اللي أنتِ لابساه ده، بحكيله قصة حياتي كلها.
قطع حديثهما معا قول "سهام":
مبروك.
كانت قد أتت " هادية" لتقف جوار ابنتها، فردت "شهد" وهي تطالع وجه "سهام" الذي بدا عليه عدم الرضا:
الله يبارك فيكي يا طنط.
وكذلك فعلت والدتها قائلة:
الله يبارك فيكي.
قدمت "سهام" العلبة التي أعطاها "نصران" لها لشهد قائلة:
امسكي... دي علشانك.
كانت تقولها باستعلاء، جعل "شهد" ترفع حاجبها وهي تطالع يد "سهام" الممدودة بالهدية، تركتها معلقة في الهواء ولم يأخذها إلا الصغير الذي تحمله "شهد"، غادرت " سهام" الذي بدا الانزعاج عليها، و قالت "هادية" لابنتها بنبرة منخفضة حتى لا تصل ليزيد:
متعلقيش عليها، ومتديهاش فرصة تستفزك، علشان تعرفي إن كان عندي حق لما قولت نستنى شوية، بس محدش بيسمع الكلام.
رمقتها "شهد" بحزن فابتسمت "هادية" قائلة:
خلاص متزعليش، ألف مبروك وعقبال الفرح.
اتسعت ضحكة "شهد" ومالت على وجنة والدتها تقبلها.
بينما في نفس التوقيت كانت "ملك" واقفة جوار "عيسى" الذي أخرج قلادة رقيقة تدلى منها وردة صغيرة زادت من رونقها و سألها:
حلوة؟
أبدت إعجابها الشديد قائلة:
أيوه حلوة أوي كمان.
أعادها لعلبتها وأعطاها لها قائلا بابتسامة:
خلاص خدي يلا اديها لاختك... أنا جبتهالك علشان تديهالها بعد كتب الكتاب.
_ هقول إن أنت اللي جايبها.
هكذا قالت له فرفض ورد عليها:
لا طبعا، أنتِ اللي جيباها، ولو قولتي حاجة تاني هديها لرفيدة تقول إن هي اللي جيباها وهي ما هتصدق.
ضحكت وهي تردف:
لا خلاص أنا اللي جيباها.
ابتسمت وهي تتابع بامتنان:
أنا فعلا كنت عايزة أجبلها هدية، بس انشغلت الأيام اللي فاتت معاهم جامد ونسيت فكنت هتصرف بكرا.
ربت على كتفها قائلا بابتسامة:
و لا يهمك، أهي بقت عندك الهدية، روحي اديهالها بقى.
أخذتها بفرح وتوجهت ناحية شقيقتها في حين اتجه هو لصديقه متسائلا بضجر:
هو أنت قالب وشك ده ليه؟... في إيه يا عم؟
قبل أن يخبره عن مشكلة في عملهما، أضاء هاتف "بشير" الذي كان بين يديه باسم "علا"، فانكمش حاجبي " عيسى" مرددا باستنكار:
علا!
سأله بانفعال وقد بان اشتعاله على وجهه:
البت دي بتكلمك ليه؟... دي علا أخت الزفت صح؟
_ عيسى اسمعني..
قالها "بشير" فقاطعه صديقه:
بلا اسمعك بلا زفت، هو أنا مش قولتلك ابعد عنها؟...
وأنا أقول مالك، و حالك متغير ليه، و اسكندرية اللي مكنتش بتعتبها غير كل فين وفين بقيت كل كام يوم ألاقيك فيها أتاريني نايم على وداني و هي بتاكل عقلك و تستعبطك...
قاطعه "بشير" بغضب:
عيسى كفاية اللي بتقوله ده، أنا محدش بياكل عقلي،
ولا يستعبطني، و أنا حر في حياتي
رفع "عيسى" حاجبيه متسائلا:
بجد؟.... و ناوي بقى تعمل الفرح وتحط إيدك في إيد "شاكر" امتى؟.... عرفني بس علشان أبقى على علم هنقاطع بعض امتى
نفى "بشير" عن نفسه شيء كهذا وتحدث باعتراض:
إيه اللي بتقوله ده، أنا عمري ما هحط ايدي في إيد شاكر يا "عيسى"، أنا فعلا بكلمها وقابلتها كذا مرة بس ده كله جه بعد صدف كتير جمعتني بيها، هي مش وحشة أوي كده صدقني، هي بس تربيتها كانت غلط.
علق " عيسى" على حديث صديقه ساخرا:
لا و اتحمقت أوي علشان قولت إنها بتستعبطك.... أنا مليش دعوة يا بشير، بس أنت لو حطيت إيدك في إيد ال*** ده هتبقى خسرتني، ولو هو عرف إن أخته على علاقة بيك هيغدر و أظن أنت عارف إن الغدر في طبعه و في طبعها هي كمان بس أنت اللي معمي.
قال "عيسى" هذا وتركه ورحل فتأفف "بشير" و هو يمسح على وجهه بتعب، في اللحظة ذاتها كانت "مريم" قد ابتعدت عن الضوضاء قليلا لترد على صديقتها ولكن قطع خلوتها بنفسها صوت من خلفها:
مريم.
استدارت له بنظرات مهاجمة، و نوت الرحيل ولكن "حسن" اعترض طريقها فحذرته قائلة:
ابعد عن سكتي.
رفض "حسن" هذا وقال باعتذار:
مريم أنا أسف.
تسارعت أنفاسها بغضب، وتجمعت الدموع في مقلتيها وهي تسأله بتهكم:
أنت أسف؟ ... أنت واحد كداب وملاوع، بتقولي الصبح إنك بتحبني وآخر النهار كنت بتظبط مع واحدة تانية
هي لم تكن خاطئة في حرف واحد وهو يعلم هذا تمام العلم وهذا أكثر ما يحزنه، يحزنه أنه المتسبب في إنهيارها هذا وأكملت هي بهجوم:
لقتني مش زي اللي بتكلمهم، قولت مش مهم أفضل أجري وراها شوية، و أهو تتسلى يومين، أنت واحد حقير.....
احتدت نظراته وقبل أن يتحدث سألته هي بضحكة ساخرة امتزجت بدموعها:
زعلتك أوي؟... معلش هي الحقيقة كده بتزعل،
أنا صعبان عليا نفسي علشان صدقتك، أنت خسارة فيك حتى الواحد يعاتبك.
ظهر الخزي على وجهه، ليس هناك رد يقوله، هل يخبرها أنها محقة بكل ما قالته حتى هذه لا تفيد وخاصة وهي تخبره باستحقار: أنا هحمد ربنا كل يوم إنه عرفني حقيقتك إيه.
أنهت جملتها ثم بصقت عليه وغادرت كبركان، بركان لم يٌسمح له بالانفجار إلا الآن.
في نفس اللحظة، كانت "رفيدة" تبحث بعينيها عنه، لم تلمحه حتى الآن فقط والدته فذهبت ناحيتها مرحبة بابتسامة:
ازيك يا طنط.
احتضنتها والدة "عز" قائلا بفرح:
أهلا أهلا يا حبيبتي، ألف مبروك وعقبال الليلة الكبيرة إن شاء الله.
ابتسمت "رفيدة" ثم سألت:
هو حضرتك جاية لوحدك؟
هزت رأسها نافية وهي تقول:
لا الواد عز راح يجيب حاجة من برا وجاي.
لم تكد تنتهي من جملتها حتى حضر ابنها الذي ما إن وقعت عيناه على الواقفة مع والدته حتى لمعت باشتياق، رحبت "رفيدة" بابتسامة:
ازيك يا "عز".
رد عليها وقد أشرق محياه:
أنا كويس الحمد لله، أنتِ عاملة إيه؟
حريص في كل كلمة يتفوه بها عكس والدته تماما التي قالت:
ده كداب ولا كويس ولا حاجة، من يوم ما مشيتي وهو زعلان...
حذرها ابنها حين وكزها في كتفها وطالعها بغيظ فتداركت سريعا:
قصدي كلنا زعلانين يعني، كنا اتعودنا عليكي.
قول والدته أنه حزين من أجل رحيلها أثلج صدرها، فاتسعت ابتسامتها وهي تقول:
أنا كمان زعلانة علشان مبقتش أشوفكم كل يوم بس أدينا شوفنا بعض اهو.
كلاهما يبتسم ولكن هو يهرب، إلا أن هذا الهروب لم يمنع كونه في أقصى مراحل سعادته لرؤيتها التي أطربت فؤاده وبشده.
★***★***★***★***★***★***★
انتهت الليلة، وستلحق بوالدتها وشقيقتها إلى المنزل، لم ينفرد بها "طاهر" مطلقا إلا الآن، بقا في غرفة الاستقبال سويا بعد أن انصرف الجميع، حتى والدتها التي رحلت بعد أن أخبرها "طاهر" أنه سيصطحب "شهد" إلى الخارج، وسيقوم بتوصيلها حتى المنزل، حل الصمت و لم يقطعه إلا صوت "طاهر" الذي قال:
تحبي نخرج نروح فين؟
_ أنت زعلان صح؟
تسائلت بحزن ولم يخفي مشاعره هو بل هز رأسه بالإيجاب قائلا:
اه زعلان يا "شهد"...زعلت علشان أنا اللي خوفت إنك تهدي كل حاجة، بس بعد اللي قولتيه خلاص، أنا مقدر موقفك، و....
قبل أن يكمل قاطعته قائلة بابتسامة:
وأنا وافقت اديك فرصة، و متزعلش مني بس أنا كنت حاسة إني عايزة أسيب كل حاجة وأجري، كنت خايفة أندم.
طمأنها بقوله:
أنا مش هقولك أوعدك متندميش، علشان أنتِ عندك عرق طاقق، ومع أول مشكلة هتقوليلي أنا ندمت اهو
ضحكت عاليا فأكمل هو بغيظ:
بس هقولك إني هعمل كل اللي أقدر عليه علشان مخذلكيش، علشان بحبك يا أنسة متدنية.
ضحكت ورفعت يدها تتطلع إلى الخاتم الذي نقلته في اليسار متسائلة:
شكله بقى أحلى صح؟
تناول كفها، وضع قبلة رقيقة على باطن كفها، فشعرت وكأن كل شيء سكن من حولها و لا يتبقى سوى دقات قلبها العالية وهي تطالعه بشغف، طالعها ولأول مرة يمسد على خصلاتها ويخبرها بابتسامة:
علطول كنت بقولك شعرك وهو مربوط أحلى، علشان كنت بحب شكله وأنتِ رابطاه، بس النهاردة هو عاجبني كده.
كست الحمرة وجنتيها وهي تسمع ما يقول، وتلاقت أعينهما فسألها ضاحكا:
إيه ده أنتِ خدودك بتحمر أهو زي اللي بيتكسفوا،
أنا كنت فاكرك هتقعدي عمرك كله متتكسفيش.
ضيقت عينيها وهي تهتف بغيظ:
اه يا كابتن سفيه.
ضحك على قولها و غمزت له هي قائلة بابتسامة:
بس إيه الشياكة دي؟.... خاطف الأضواء و مُلهم نجوم الفن.... مفكرتش تشتغل موديل قبل كده؟
علا صوت ضحكاته و تأملت هي عينيه التي تضيق حين يضحك، و فاجأته حين احتضنته وتوسدت صدره، وقالت ما جعله يبتسم:
المرة الأولى رميت نفسي عليك علشان كنت عايزة أبوظ جوازة علا ومكنتش بفكر أنا بعمل إيه، وساعتها حماتك ضربتني قلم محترم،
أكمل هو بدلا عنها وهو يمسح على خصلاتها:
لا المرة دي متقلقيش، ولا هتبوظي جوازة حد ولا هتضربي، ولو عايزة تفضلي كده للصبح افضلي أنا معاكي.
اتسعت ابتسامتها وتشبثت به أكثر بحب، وشعورها الآن هو الأمان، أما هو فبعد يوم طويل أنهكه أخيرا هو برفقتها وقد صارا معا، وقد ظن أن الأمر مستحيل ولكنه حارب من أجل تحقيق ما ظنه مستحيلا.
★***★***★***★***★***★***★***★
كانت نائمة قبل أن تشعر بحركته في الغرفة، فتحت عينيها بصعوبة ونظرت في الساعة جوارها لتجدها التاسعة صباحا فاعتدلت على الفراش ثم طالعت الذي بدا على أتم الاستعداد للخروج متسائلة:
أنت هتنزل يا "عيسى"؟
رأت الإرهاق في عينيه وعلمت من أنفاسه التي يسحبها بهدوء وكأنه لم يسترخ إلا الآن، أنه ربما كان على وشك إحدى نوبات غضبه، لعلها أتت وانتهت بالفعل... أخبرها بهدوء:
أنا نازل و يمكن اتأخر، جهزي حاجتك علشان هننزل القاهرة.
كان جالسا على حافة الفراش فتناولت كفه متسائلة بقلق:
أنت مش كويس... في إيه؟
ربت على كتفها قائلا بابتسامة أظهرها بصعوبة:
متقلقيش.
_ طب استنى متنزلش، هعملك تفطر الأول.
اعترض على هذا قائلا:
أنا هفطر برا مع " بشير"... كملي نوم أنتِ.
ترك مكانه وتوجه ليغادر ولكنه سريعا ما تذكر شيء فعاد إليها قائلا:
اه يا ملك صحيح،
أخرج محفظته من جيبه ثم وضع ما تناوله منها على الطاولة قائلا:
خلي دول معاكي، و ملهمش دعوة باللي تعوزيه، لما تحتاجي حاجة اطلبيها.
حاولت الاعتراض قائلة:
بس أنا مش عايزة...
فقاطعها مردفا:
كدابة، مفيش حد مبيعوزهاش دي.
ضحكت على قوله هذا وهي تحرك رأسها بمعنى ألا فائدة منه في حين حثها هو بابتسامة:
احنا متجوزين، مش لسه بنتعرف... أنا مش دايما هبقى واخد بالي إنك محتاجة حاجة، اتعلمي مني بقى، مش عيب تبقي متجوزة حد زيي ومتتعلميش؟
_ اتعلم إيه؟
كان هذا سؤالها وقد ابتسمت فرد عليها مفسرا:
البجاحة... تتعلمي البجاحة.
ثم لوح لها قائلا:
يلا سلام.
حثته بنبرة ملهوفة:
متتأخرش يا "عيسى"
استدار يبتسم لها فأكملت عبارتها:
هنتغدى سوا ماشي؟
_ لا طالما فيها غدا خلاص مش هتأخر.
قال هذا بمشاغبة فضحكت وغادر هو إلى وجهة تردد كثيرا قبل الذهاب إليها، ليس تردد فقط بل إنها حرب نفسية نشبت بداخله، صراعات لا تنتهي قرر أن يحاول هزيمتها بالذهاب إلى هناك... وجد نفسه في النهاية بعد سير استمر طويلا بلا هوية، كان رفيقه فيه سيارته في داخل عيادة المعالج النفسي، انتظر حتى سُمِح له بمقابلة "نور"، ما إن دخل إلى غرفته حتى رأى الابتسامة على وجهه وهو يقول:
زيارة غير متوقعة بالمرة.
جلس " عيسى" على المقعد المقابل لمكتب "نور"، بقى دقائق صامتا دون أي حديث مما دفع " نور" ليقول:
مرتاح في السكوت؟.... لو هو العلاج وحبيت تمارسه في العيادة هنا فده يسعدني، بس في ناس تانين عايزين يسكتوا قصدي محتاجين يقابلوني علشان يلاقوا حل.
_ أنا عارف إن في IED
قول نطق به "عيسى" جعل "نور" ينصت له تماما، كان الجالس أمامه لا يطالعه، ينظر لنقطة في الفراغ و هو يتحدث عن أشياء بدت عشوائية ولكنها لديه مرتبطة ارتباط كبير:
أنا بحب بابا أوي، هو مقصرش معايا أبدا، أنا اللي كنت كتوم لدرجة تخنق، كنت مبرضاش أحكي أي حاجة مزعلاني غير لميرڤت بس، ميرڤت أكتر ركن أمان عندي هي الاختيار اللي بختاره في كل مرة وأنا عارف إنه مش هيختارني....
انتقل إلى نقطة آخرى وكأنه يفرغ جزء الصراع المتشابك الدائر داخله:
أمي أنا لسه فاكر كل تفاصيلها، فاكر الحاجات اللي كانت بتعملهالي، وإني كنت متعلق بيها ومش بنام مرتاح غير في حضنها، الراحة دي ملقتهاش تاني غير في حضن "ملك"،
لمعت عيناه عندها ببريق مختلف خاصة وهو يُكِمل:
ملك أكتر انسانة مستعدة تدي ومتاخدش شوفتها في حياتي، بخاف عليها أوي، بخاف تضطر فجأة تبقى لوحدها تقع، بيبقى نفسي أصحى الصبح ألاقيها بتقدر تعمل كل حاجة لوحدها ومش محتاجة لحد،
أضاف بعد أن جاهد ليسحب نفسا عميقا:
"ملك" تستاهل أحسن حاجة في كل الحاجات...
لو النجاة في شخص هتبقى "ملك"،
لو الأرض اتملت بناس مؤذية، هفضل متأكد إن فيه أمل علشان فيها " ملك".
العمر بالنسبالي هو وقت هقضيه مع "ملك"،
وأي لحظة بعيدة عنها بتبقى لحظة ضايعة علشان مفيهاش "ملك".
ينتقل بسلاسة من شيء لآخر لأنه يدرك أن كل ما يتفوه به هو حلقة من سلسلة كبيرة:
لما فريد اتقتل، حسيت إن حتة مني اتقتلت،
رغم البعد وقلة زياراتي بس فريد كان نسمة هوا بتردلي الروح بعد سنين طويلة مشمتش الهوا فيها،
لما فريد راح أنا بقيت نسخة أسوء من نسخة كانت موجودة قبل كده، بشير هو الوحيد اللي ممكن أقوله سري ومخافش إنه يتكشف، وطاهر هو نصران.... طاهر بيخاف عليا بنفس الطريقة اللي أبويا بيخاف عليا بيها، علاقة طاهر ويزيد بتخليني اسأل نفسي هو أنا كنت غلط لما اختارت ابعد؟
لمعت الدموع في مقلتيه وهو يكمل:
أنا كنت محتاج حنان زي اللي بيديه طاهر لابنه، وكنت متأكد إن أبويا مش هيبخل عليا بيه بس مقدرتش علشان كنت صغير وخايف.... مقدرتش علشان " رفيدة" و "حسن"، و "طاهر".... بخاف على " حسن" أوي،
شدة بابا منفعتش معاه علشان دلع مدام "سهام" ليه كان أكبر،
وكأنه يصارع وحوشا وهو ينطق بهذه الأسماء:
"كارم"، " سهام" ، "منصور"، " شاكر" ...
حسن ورفيدة وطاهر بيحبوها، هي تكسب أنا لا....
"ميرفت" بتحبه هو يكسب أنا لا....
أمي خلاص راحت هو كسب أنا لا
وفريد راح وأنا خسرته.
عبارات متتالية بدت لنور مبهمة، يبث كل ما لديه وفي الوقت ذاته لا يُفصح عن أي شيء... أنصاف فقط من كل شيء كامل، أدرك "نور" أن الجالس أمامه لن يقول أكثر من ذلك فقال بنبرة حفزته على الإجابة:
اوصفلي شعورك دلوقتي.
ابتلع "عيسى" ريقه بصعوبة، على الرغم من قسوة المعاناة إلا أن وصف هذه القسوة أصعب ما يكون ولكن "عيسى" قال:
حاسس إن جوايا كتير بيتخانقوا مع بعض وكلهم عايزين يغلبوا، واحد بس فيهم مش عايز يغلب، محتاج بس يعيش بسلام، الواحد ده يبقى أنا،
يبقى العيل الصغير اللي أعرفه... بس العيل ده مبيعرفش يواجه لكن اللي بيتخانقوا جوا وعايزين يغلبوا دول بيعرفوا، علشان كده أي أثر للعيل ده بيختفي إلا مع ناس معينة منهم أبويا و "رفيدة"،
و " بشير" ، و "حسن" و "طاهر"، و " ملك" .
_ بس احنا لازم نخلي العيل الصغير ده هو اللي يكسب يا "عيسى"، علشان اللي عايزين يكسبوا جواه دول طاقة غل بتحركه، شايفة إنها هي اللي لازم تسود.... لازم تواجه كل اللي مواجهتوش.
كلمات قالها " نور" وعلقت في أذن "عيسى"، علقت ولا يعلم متى انتهت الجلسة ولا كيف، كل ما يتذكره منها فقط يجب أن تواجه، لذلك قرر مواجهة أول شيء أراد مواجهته من فترة... ذهب بنفسه إلى " منصور" ، لم يحسب أي شيء حتى لم يفكر، فقط ذهب، وهو الآن جالس أمامه جوار أرضه الزراعية، نفخ "عيسى" دخان لفافة تبغه وقال بعد صمت طال:
أنا عندي ليك "عرض".
أبدى " منصور" استغرابه وتسائل:
عرض إيه ده؟
كان "عيسى" يتأمل الدخان أمامه وهو يقول ببساطة ما أذهل "منصور":
هبيعلك أرضي اللي أبويا كتبهالي، أظن ده كنز بالنسبالك، هيرجع يبقالك رجل تاني في البلد اللي كنتوا كبارها وخرجتوا منها بفضيحة وزفة.
أدرك " منصور" أنه هناك فخ، فقال بانزعاج:
وايه لزمته الكلام ده يا بني، لو مزنوق في فلوس قولي وهسلفك من غير ما تبيع.... أنا أساعدك لو أبوك مش عايز يساعدك.
يحاول سحبه في صفه فطالعه "عيسى" بنظرات كاشفة لكل ما يحيكه:
بقولك إيه يا حاج "منصور".... الشغل ده مش عليا،
أنا قدمت عرضي...
_ وإيه المقابل قصاد عرضك ده
كان هذا سؤال " منصور" ، برزت ابتسامة جانبية على وجه "عيسى" وقال بنظرات كانت قاتمة هذه المرة تواجه منصور بتحدي، تُذكره بفعلته وتخبره بأن الجالس أمامه يعلم ما اقترفه، يعلم أنه هو المتسبب الأساسي في قتل والدته، وبان هذا في حديثه الخطير:
أنت ذكي، و أكيد عارف إن التمن هيبقى غالي، أنا هحققلك أمنية حياتك في مقابل حاجة واحدة بس.
تصبب "منصور" عرقا وجاهد أن يثبت وألا يلتفت لأوهام عصفت به:
ايه هي؟
بعد قوله سحب كوب المياه ليرتشف منه فنطق "عيسى" بنفس الابتسامة الماكرة:
ترجع أمي.
وهنا سقط الكوب من يد منصور، وبقى تحت نظرات ملك المفاجأة، ملك الأقوال التي دائما وأبدا ما تفرض نفسها بشراسة معلنة أن صاحبها هو.