رواية وريث آل نصران الجزء الثالث الفصل المائة والثامن عشر بقلم فاطمه عبد المنعم
تتقاطع الطرق ونجد من نظنهم أرواحنا في أجساد آخرى، نتوهم أن الرحلة معهم ستسير على وتيرة واحدة، وستكون السعادة أبدية، ونظل في أوهامنا حتى تصفعنا الحياة من جديد بحقيقة أن لا فرح دائم ولا حزن متواصل، حقيقة أنها رحلة تحمل من كل شيء ويجب عليك أن تتحمل وإلا لن ترى بر الأمان فيها أبدا.
★***★***★***★***★***★***★
وكأن العودة للمنزل صارت من المحرمات ولا جديد أمام موقف والده الحازم على ألا يعود، سأم "حسن" التواجد في منزل والدته القديم، وقرر الرحيل عل هذا يضغط على والده ويأتيه في النهاية السماح بالعودة، تمدد على الأريكة في منزل "بشير" الذي تفاجأ في الصباح بقدومه إلى منزله، تركه ورحل إلى المعرض بعد أن سمع منه:
أنا هقعد معاك هنا يومين.
حثه "حسن" بعد ذلك أن يذهب إلى وجهته وأن يتم حديثهما حين يعود وبقى هو في المنزل، كان يقلب بين قنوات التلفاز بملل، حتى اقترب منه الكلب من جديد فهتف بضجر:
يا عم ابعد عني بقى يا عم، هو أنت بشير مسلطك تطفشني؟
وكان الرد عليه هو النباح فضرب "حسن" على ساقه بانزعاج قبل أن يقوم ويتوجه معه حيث أرشده، لاحظ فراغ طبقه فأحضر من علبة الطعام الخاص به ووضع له، انشغل عنه أخيرا يأكل ما قدمه له فابتسم "حسن" وقال:
اياك تهدى بقى.
عاد للأريكة من جديد وما إن جلس حتى سمع صوت الباب، ثوان وكان "بشير" أمامه حيث قال وهو يخلع حذائه:
أنا جيت أتغدى معاك، وهبقى أرجع المعرض تاني ...
اطلبلنا أكل بسرعة بقى.
طلب منه "حسن" هاتفه مردفا:
هات موبايلك طيب، علشان أنا قافل بتاعي.
أعطاه له وهو ينبهه:
على فكرة عيسى كلمني وسأل عليك، شكلهم احتاجوا حاجة وكانوا بيدوروا عليك، أنا قولتله إنك عندي
علق "حسن" على حديثه بضيق:
يا بشير بتقوله ليه، ثم بدا اهتمامه وهو يسأل:
وهو قالك إيه؟
_شتمك.
قالها "بشير" ببساطة وهو يمسح على كلبه الذي هرول ناحيته وأضاف:
وقالي لما ارجع البيت اخليك تكلمه
أمام إصرار أخيه هذا شك في الأمر وبان هذا الشك في سؤاله:
هو عايزني في إيه، في مصيبة حصلت تاني ولا إيه؟
هز "بشير" رأسه فأدرك "حسن" أنه يعلم مما جعله يطالبه برجاء:
خليك جدع وقولي علشان أشوف تستاهل أرجع ولا لا
رفض "يشير" ولكن إلحاح "حسن" كان الأقوى فبدأ يسرد عليه ما حدث بقلق:
الواد "محسن" بقاله شوية عامل مشاكل، طلعله حس هو كمان، أنا مش عارف الكلام على إيه بينه وبين "شاكر" بس اللي بيعمله ده يقول إنه مبقاش فارقله حد، آخر حاجة عملها اتخانق مع "شهد" و"مريم" وفتح دماغ "مريم" وفص ملح وداب.
انتفض يعتدل وهو يكرر ما سمعه بلهفة:
فتح دماغ "مريم" ازاي يعني؟... أنت بتهزر؟
_ وأنا ههزر ليه يا عم في حاجة زي دي، ارجع أنت علشان لو عايزينك، وأنا هفضل هنا علشان الواد ده احتمال كبير هيجي هنا تاني.
لم ينتظر أكثر، بل ترك مكانه وهرول للغرفة يستبدل ملابسه مقررا العودة من حيث أتى بينما في منزل "هادية" جلست "شهد" في غرفتها تتذكر ما حدث ليلة أمس بعقل شارد، بعدما ضرب محسن شقيقتها هرعت هي والشاب صاحب المحل لإسعافها وبالفعل ذهبا بها إلى أقرب مشفى، حاولت الاتصال بطاهر ولكن كان الرد هز تلك الرسالة الآلية التي تصيب المستمع بالضجر بأن الهاتف المطلوب غير متاح، في النهاية لجأت إلى "عيسى" الذي حضر إليها مسرعا، لم تكن تعلم بما تجيب على اتصالات والدتها وساعدها هو حين رد وأخبرها أنه معهما، وسيعودا بهما... وصدق قوله حين عادا بهما إلى المنزل وحينها تيقنت شكوك "هادية" ما إن رأت "مريم" وعلى رأسها ذلك الرباط الطبي الذي يوضح ما حدث، هرعت إليها ولكن قبل أن تتفوه بأي شيء طالبها "عيسى" بهدوء:
دخليها ترتاح دلوقتي لازم.
نفذت ذلك سريعا، وسأل هو "شهد" التي كانت تمسح عبراتها بعد أن تحررت أخيرا وقد ردعتها كل هذا الوقت حتى تستطيع مساعدة شقيقتها:
إيه اللي حصل بالظبط... قولتي "محسن"، طب شوفتوه فين ولا إيه الحوار اللي دار بينكم؟
قصت عليه ما حدث بدون حرف واحد ناقص، ورأت أثر هذا على تعابير وجهه ثم سبه لمن ذكرته، سأل بانفعال حاول أن يحجمه قدر الإمكان:
الواد اللي كان في المحل راح فين؟
_ جاب " مريم" معايا المستشفى ومشي، بس هو شكله يعرفه علشان محسن لما دخل المحل كان بيتكلم معاه و كأنهم عارفين بعض.
أعطته الإجابة ومسح هو على رأسه متنهدا بتعب، قرر الرحيل الآن وطلب منها وهو يشير ناحية غرفة "هادية":
متقوليش حاجة ليها، لو سألتك قوليلها إن إزازة في المحل وقعت على دماغها علشان متقلقش، وأنا هتصرف معاه.
ثم جاء لينصرف ولكن تذكر شيء ما فنبهها:
و قولي لملك نفس الكلام، اوعي تحكيلها حاجة من اللي حصلت، ولما مريم تفوق شوية نبهي عليها.
فاقت " شهد" من شرودها على "ملك" التي توسطت الفراش أمامها سائلة:
أنتِ ساكتة كده ليه؟... من ساعة ما "عيسى" جابني الصبح وأنتِ ساكتة، السكوت ده مشككني فيكي.
فردت عليها شقيقتها بارتباك جاهدت لتخفيه:
وتشكي فيا ليه... أنا قولتلكم اللي حصل
ثم حاولت تغيير مسار الحوار بسؤالها:
أنتِ هتباتي ولا هتروحي؟
_ عيسى قالي أخليني وهياخدني بكرا.
اطمأنت "شهد" لتواجدها وطالبتها بتوسل:
طب اعملي الغدا بقى الله يكرمك، وأنا هنام شوية، أنا مشوفتش النوم من امبارح
وقبل أن ترد عليها انشغلت "شهد" بمكالمة من "طاهر" نزلت بعدها لتجده في المحل في الأسفل، عرض عليها أن تأتي معه قليلا وبالفعل ذهبت معه، هاجمته بسؤالها بمجرد أن ركبت السيارة:
كنت فين يا "طاهر" أنت عارف أنا اتصلت بيك كام مرة؟
علم ما حدث من "عيسى" قبل قليل، لم يكن هاتفه معه وشغله أمر القسم وتقديم ما لديه، ثم عاد ونام ولم يخبره أحد إلا في الصباح، كان مدركا أن هذا خطأه فبرر باعتذار:
معلش يا "شهد"، أنا لسه عارف من شوية والله، و امبارح التليفون مكانش معايا أصلا، روحت أقضي مشوار ونسيته.... متزعليش حقك عليا.
قصت عليه ما حدث وختمت بغيظ:
أنا كان نفسي ألحقه، بس معرفتش، والله لو كنت لحقته ما كنت سيبته غير في القسم
لم يرض عما قالته وأبدى رأيه قائلا:
لا كويس إنك ملحقتيهوش، اللي يخليه يعمل اللي عمله، يخليه يعمل أكتر من كده، الحمد لله إنها جت على قد كده.
تردد كثيرا، هل يخبرها أم لا ثم حسم قراره وسألها:
متعرفيش حاجة عن نتيجة المسابقة؟
شهقت بصدمة، كيف نست أمر كهذا، من المفترض أن ميعاد ظهورها كان مساء أمس، أسرعت تفتح هاتفها الذي لم تنظر فيه منذ ما حدث، كان " طاهر" يتابع شغفها في البحث بحزن، علم خسارتها قبلها حين تواصل ليسأل وعلم النتيجة، دقائق استمرت في البحث حتى وجدها تغلق الهاتف بخذلان وتلقيه بإهمال فسألها سؤال يعلم إجابته جيدا:
في إيه؟
صمتت قليلا قبل أن تبلغه بحزن:
خسرت.
انخرطت بعد قولها هذا في نوبة بكاء حاول إخمادها هو جاهدا بعباراته المواسية، والتي بدأها حين أردف:
مش مهم يا "شهد"، وقبل أن يكمل طالعته بضجر من بين عبراتها تهاجمه:
طبعا لازم تقول مش مهم، هي مكانتش فارقة معاك أصلا
طالعها بغير تصديق وردا على حديثها سألها بانفعال:
أنتِ سمعتي اللي أنا كنت هقوله للآخر أصلا؟... ويعني إيه مش فارقة معايا ، المسابقة دي أنا اللي مقدملك فيها يا " شهد"
وأمام انفعاله ردت بنفس طريقته وقد أثرت عليها خسارتها تأثيرا كليا:
أيوة مش فارق معاك، اللي أنا عايزاه كله أصلا مش فارق معاك يا "طاهر"، كل ما أقولك على حاجة تخص اللي بعمله متبقاش متحمس وتقعد تطلع مية عيب لحد ما اقفل منها، المسابقة دي أنت قدمتلي فيها علشان تصالحني عن كلامك في إني مشتغلش في مجالي أصلا و....
أوقف سيارته بصورة مفاجأة جعلتها تتوقف عن الحديث، ليقول هو بسخرية:
كل ده يا " شهد"؟... لا ولسه عندك زيادة كمان،
أنا عايز بس أعرفك حاجة واحدة، أنا لما اشتركتلك في المسابقة دي كان علشان عرفت إن حضرتك نفسك تشتركي فيها بس خايفة مش علشان اعتذر عن أي حاجة، بس طالما دي صورتي عندك فبراحتك، بس من رأيي تراجعي كلامك ده كده تاني، علشان الجاحد اللي كنتي بتتكلمي عنه ده المفروض إنك هتبتدي معاه حياتك
وقبل أن ترد ردعها بقوله:
مش هسمع أي حاجة تانية، لو عندك اتهامات غير اللي قولتيهم وفريهم تستخدميهم بعدين
ثم رجع بسيارته ليعيدها إلى المنزل بدلا من الوجهة التي كان ذاهبا لها، وضعت كفيها على وجهها تبكي بصمت وما إن وصلت حتى أسرعت تنزل من سيارته وتعود إلى حصنها الآمن في هذه اللحظة، تعود إلى منزلها، بقى هو يفكر بتعب، لا يعلم لما كلما اقتربا زاد الشجار، أصبحت علاقتهم شجار ليس أكثر، على كل شيء، لا يدري هل اقترف خطأ تسبب في الوصول إلى هذه النقطة أم كان خطأها هي ولكن ما يدريه تماما الآن هو أنه حزين وبشدة على ما يحدث.
★***★***★***★***★***★***★
وقفت "ملك" تحضر الغذاء بدلا عن والدتها التي لم تفارق شقيقتها منذ أمس، تشعر بالريبة حيال ما حدث، لا تصدق رواية "شهد"، وضعت الملعقة جانبا وذهبت ناحية الثلاجة، لم يقطع اندماجها هذا سوى سماعها صوت الباب، وجدت " شهد" في الصالة في طريقها لغرفتها فعنفتها بانزعاج:
ما تفتحي يا "شهد" الباب
كانت حالة "شهد" سيئة ولم تبال بها بل أغلقت عليها غرفتها، جذبت ملك وشاحها ووضعته على رأسها ثم توجهت لفتح الباب، اتسعتا عيناها وهي ترى "بيريهان" أمامها، وبدا على ضيفتها هي الآخرى الصدمة حيث قالت:
أنا مكنتش أعرف إنك هنا... أنا كنت عايزاكي وحاجة خلتني اطلع هنا قبل ما اروح على بيت "عيسى"... قولت جايز تبقي هنا، وتوقعت ملاقكيش مش تفتحيلي الباب بنفسك.
لم ترد عليها " ملك" فسألت "بيريهان" بأدب:
ادخل طيب ولا إيه؟
سمحت لها بالدخول بعد صمت طال، اتجهتا معا إلى الردهة، وأبدت "ملك" ضيقها وهي تقول:
خير؟.... المرة دي جاية تاخديني لبيت "شاكر" علشان تستجوبيني، ولا جاية تعرفيني إني كدابة؟
ردت على هذا طالبة بتوسل:
جاية اسمع منك، عايزة اسمع كل حاجة عندك
_ ما أنتِ سمعتيها قبل كده وكدبتيني.
هاجمتها "ملك" بقولها هذا فتنهدت "بيريهان" بهدوء قبل أن تكرر طلبها برجاء من جديد:
اعتبري محصلش... عايزة اسمع منك تاني
وكان الرد تصريح بمقت عن ذلك المتسبب في كل ما تعانيه:
تسمعي مني إيه، أنا مجرد الكلام عنه بيتعبني، ابعدوا عن حياتي بقى، هو حرام أعيش في حالي، اللي أنتِ مبتصدقيش عليه حاجة ده هو اللي عملي كده
ثم حسرت ردائها قليلا ليظهر جرحها، طالعته "بيريهان" بغير تصديق، لدى زوجها واحد مثله في الموضع نفسه تقريبا يوم أن عاد مع "ندى" ينزف متأثرا بجراحه واكتملت الرواية عندها بقول "ملك":
عيسى كان هيموته، أنا كل حاجة وحشة حصلتلي في حياتي كان سببها شاكر، خسرني نفسي وبيتفنن إنه يخسرني أي حاجة بحبها، أنا لو كنت خسرت " عيسى" كمان كانت حياتي هتنتهي
انهيارها هذا لم تستطع "بيريهان" التعامل معه، كانت في صدمتها، وكأنها تسمع كل شيء لأول مرة، رأت بكاء "ملك" وحسرتها وهي تتحدث عما خسرته وخوفها من الخسارة المقبلة، استطاعت سماع صوت زوجها حين واجهته بأنه ظل طوال الليل يهذي باسم ابنة عمه وكان رده هو أن احتضنها أخبرها أنها من يستحق حبه ثم برر هذيانه بقوله:
أنتِ نفسك عارفة أنا الدكتور كان مديني إيه، طبيعي هنطق اسمها، هي السبب في كل اللي أنا فيه ده، أنا بسببها كنت يا هقتل عيسى يا هو هيقتلني امبارح، بسبب إنها مش عايزة تسكت وتبعد، كل ما النار تبقى هتطفي، تنفخ فيها
فاقت من شرودها على صوت "ملك" تستفسر بسخرية:
سكتي ليه؟... بتدوريله على مبرر جديد، ولا تكوني جاية وجيباه وراكي؟... عموما هو مش هيعرف يخطي برجله البلد هنا، علشان هو جبان لما بيجي بيبقى في الضلمة مش النور.
لم تكتمل جلستهما قطعها دقات على الباب، وكأن فؤادها دخل سباق عنيف، وقفت "ملك" أمام الباب تخشى أن تفتح فيكون "شاكر"، سألت بارتجاف:
مين؟
_ أنا عيسى يا " ملك" افتحي
وكأنه النفس الذي أعاد لها الحياة من جديد، فتحت الباب، وما إن فتحت تخطاها هو ليقف قبالة "بيريهان" قائلا بابتسامة ساخرة:
لما قالولي إنك على المدخل وعايزة تكملي لجوا، قولتلهم يدخلوكي، وتوقعت إن الراجل اللي متجوزاه بعتك تعلي صوتك علينا علشان يا حرام ضربناه وعورناه وخطفنا منه كيس السندوتشات والمصروف، فقولت هتجيلي على البيت، بس لما مجتيش توقعت إنك هنا... خير جاية هنا ليه؟
_ أنا كلامي مع "ملك" على فكرة.
قالت هذا بهدوء وهي تحاول أن تفسد محاولته لإتلاف أعصابها ورد هو:
وأنا بالنيابة عن ملك بقولك يا تقولي جاية ليه، يا تتفضلي برا
طالعت "ملك" تطلب منها رد ولكن لم تجد منها سوى:
أنا قولت اللي عندي يا "بيريهان" ومفيش غيره
فابتسم "عيسى" وأشار لبيريهان ناحية الباب مما جعلها تسأله باستنكار:
يعني خلتهم يدخلوني علشان تطردني؟
فهز رأسه يجاوب بهدوء:
اه... أنا قليل الأدب
وأمام وقاحة أقواله بالنسبة لها اضطرت للمغادرة، وعقب مغادرتها وجه "عيسى" سؤاله لملك:
كانت عايزة إيه؟
_ كانت عايزاني احكي كل حاجة تاني.
قالت له وتوجهت للمطبخ فتبعها وهو يستفسر:
وقولتيلها إيه؟
أخبرته بهدوء وهي تجذب الطماطم لتقطيعها:
هقول إيه... قولت الحقيقة اللي قولتهالها قبل كده.
مازالت تعامله بجفاء، منذ يوم شجاره مع شاكر وحتى بعد حديثهما، وكأنها تخبره أن الجفاء هو السائد حتى يأتي رده، أشار على ما وضعته على الموقد سائلا:
دي بامية؟
هزت رأسها فعلق:
يا بختهم والله، إلا ما عملتيلي أكلة مره، هو المطبخ عندنا بيشوك؟... أنا خاطفك يا بنتي؟، معيشك معايا بالإجبار؟
استدارت ناحية البراد وتصنعت أنها تجلب شيء فسألها من الخلف:
بتضحكي ها؟
اتسعت ابتسامتها ولكن نجحت في إخفاء جزء كبير منها وهي تعود لما وضعته على الموقد مجددا، وسألها وهو ينظر حوله:
فين أمك؟
جاوبته وهي تضع الملح:
نايمة جنب مريم، منامتش من امبارح... وشهد برضو لسه طالعة وقالت هتنام.
_ وأنتِ هتباتي النهاردة؟
سألها فردت مسرعة:
مش أنت قولتلي براحتك؟
فجاوبها بمراوغة:
ما هو دي راحتك أنتِ مش راحتي أنا.... "مريم" هتصحى كويسة إن شاء الله، ما تخليكي جدعة ونمشي بالليل
رفضت بإصرار حتى جذب هو مقعد من الخارج وجلس به في إحدى زوايا المطبخ قائلا بغيظ:
طب طالما هي كده، أنا قاعدلك هنا...ويلا خلصي بقى علشان جعان.
ابتسمت وهي تقلب ما في الوعاء فحثها ضاحكا:
وشك يا بنتي هيطق، اضحكي والله لتضحكي
فحذرته بالسكين:
هتقعد اقعد ساكت
رفع كفيه ببراءة كإشارة لأنه سيصمت فضحكت على هيئته وتخطته نحو الخارج وهي تسمع قوله:
شوفتك يا "ملك"
في نفس التوقيت جلست "بيريهان" في سيارتها تبكي، بدأت في القيادة وهي تعلم أن أمامها طريق طويل حتى القاهرة سيتفنن في تجميع آلامها عليها، أكثر من ساعة حتى وصلت إلى منزل والدها في القاهرة قضتهم بين حيرة وشك وبكاء، كادت أن تلقى مصرعها بسبب شرودها أكثر من مرة، دخلت إلى المنزل فلم تجد أحد من العاملين في الوسط، أثار هذا استغرابها ثم صعدت إلى غرفة "ندى" فوجدتها نائمة، طالعت غرفة والدة زوجها بصمت، ثم توجهت إلى غرفتها، ضغطت على زر الضوء فوجدت زوجها يسألها بهدوء جسده ببراعة أثناء تمدده على الفراش:
كنتي فين؟
وردت عليه بنفس هدوءه:
روحت عند الدكتورة علشان تعبانة شوية، وقضيت كام مشوار
_ أنتِ بقالك فوق السبع ساعات برا يا "بيري".
قال جملته بتهكم وردت هي عليها أثناء بحثها عن هاتفها في الحقيبة:
الوقت سرقني معلش
ترك مكانه وتوجه ناحيتها، رفع وجهها لتطالعه وهو يسأل بما أخافها:
بتكذبي ليه؟
ردت بارتباك وهي تسحب الأنفاس بصعوبة:
في إيه؟
مسح على خصلاتها بهدوء وهو يقول بابتسامة:
في إنك كنتي في اسكندرية مثلا... بتعملي إيه في اسكندرية يا " بيري"... كان نفسك في أكلة سمك يا روحي من هناك؟
تسارعت دقات قلبها قبل أن ترد بصعوبة بعد أن عثرت على كلماتها الهاربة:
كنت عند "ملك"
هوت روحها أرضا وهي ترى الشر في نظراته، لأول مرة ترى هذا البريق في عينيه ولم تعرف هل تكمل أم لا ولكنها أكملت:
كنت محتاجة أسمع تاني علشان في آخر فترة أنا مبقتش مصدقة أي حاجة حتى نفسي، قولت يمكن لما أسمع كذبها وكلامها اللي مش صح قدام كلامك اللي كان مترتب أوي أفوق، بس أنا للأسف حسيت النهاردة في عينيها إنها مقهورة، أول مرة أحس كده...
سينقض عليها عقلها يخبرها بهذا، وقلبها يرفض التصديق وسارت وراء فؤادها وأضافت:
حسيت إني مصدقاها يا "شاكر"
وقبل أي ردة فعل منه طالبته بدموع:
أنا بحبك، قولي الحقيقة بالله عليك علشان أعرف أكمل... مين فيكم كذاب؟... أنت ولا هي؟ ، أنا مبقتش مصدقة أي حاجة
أحكم قبضته على خصلاتها فتأوهت وهي تطالعه بصدمة وتسأل بغير تصديق:
أنت بتعمل إيه؟
وكان رده بنبرة لم تعهدها منه من قبل وهو يسألها:
رايحالهم لحد هناك برجلك، رايحة للي كان هيموت جوزك من كام ليلة تسأليه أنت الصادق ولا جوزي ومستنية منه يقولك إنه هو الكداب، مستنية منهم إيه؟
زادت تأوهاتها وبدأت في محاولة إبعاده بخوف:
شعري يا "شاكر"... سيب شعري
لم يهتم بما تقول بل زاد غضبه وهو يكيل لها التهم:
بيوجعك؟... وأنا متوجعتش لما روحتي من ورايا ليهم... مستنية إيه أطبطب عليكي
صرخت بألم:
اللي أنت بتعمله ده، يخليني أصدق اللي هما بيقولوه و...
ولم تكد تكمل فتلقت صفعة على وجهها منه وهو يقول بجحود بث الذعر في نفسها:
صدقي... وروحي اقفي معاهم، أقولك اشهدي عليا كمان
سمعت " ندى" صوت ابنة عمها من غرفتها فهرولت نحو الخارج، لا يوجد سواها، سافر "ثروت" برفقة والدها من أجل العمل وبقت بمفردها مع ابنة عمها، هرولت تدق على باب الغرفة ورأت والدة "شاكر" أيضا وقد خرجت، سمع "شاكر" صوت أمه تقول قبل أن تفتح بابهما:
افتح يا بني في إيه... مراتك بتصوت كده ليه
لم تنتظر "ندى" بل فتحت الباب وحين رأت هيئة ابنة عمها وهو جاذبها من خصلاتها صرخت في وجهه:
هو أنت اتجننت ولا في عقلك حاجة؟
كانت تحاول إبعاده عنها، فترك "بيريهان" ودفع "ندى" خارج الغرفة مما أسقطها أرضا وهو يقول وقد أعماه غضبه:
ملكيش دعوة، بتدخلي أوضة واحد ومراته ليه، وهنا تدخلت والدته التي قالت لتنبهه قبل أن يفسد كل شيء، وهي تحتضن "بيريهان":
ده شيطان يا حبيبتي، شيطان والله ودخل بينكم، شاكر بيحبك متزعليش حقك عليا أنا
كانت ترتعد في حضنها، تنتحب بشدة، وشهقاتها تصف الوضع واستقامت " ندى" واقفة وطالعته بانزعاج قبل أن تتخطاه لتصل إلى ابنة عمها، احتضنتها هي بدلا من والدته التي تكرر:
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم... كده يا بني تزعل مراتك برضو
كان يطالع حالتها بحزن، على الرغم من غضبه الذي كان على بعد خطوات من أن يصبه عليها كله، واشتعل وهي تقول من بين شهقاتها:
قوليله يطلقني يا "ندى"... مشيه من هنا
فذهب ناحيتها وحين وقف أمامها وسأل:
قولتي إيه؟
انكمشت في حضن ابنة عمها بخوف أكثر وتوعدته
" ندى":
أقسم بالله أنا هتصل بعمو ثروت حالا، أقوله ينزلك يشوف اللي أنت بتعمله ده
_ طز فيكي وفيه.
كانت الصدمة هي المسيطرة على "ندى" من أقواله ووالدته تردعه بنزق:
يا شاكر بس بقى، متزودش الخناق بينك وبين مراتك
وردت عليه "بيريهان" حين مس الأمر والدها:
بابي اللي بتشتمه ده هو اللي اعتبرك ابنه، وساعدك توصل للي وصلتله
مال يضرب على وجنتها ولم تقدر "ندى" عليه وهو يرد:
بابي ده يا حبيبتي شغله كله أنا اللي بخلصه، المفروض جزاء اللي بعمله معاه يبقى أكبر بكتير من اللي باخده، أنا لو كنت ساكت كان علشانك
دفعته "ندى" وهي تقول لوالدته بضجر:
ما تشوفي يا طنط ماله ده، كفاية بقى كده... والله العظيم اخدها حالا وانزل اعملك محضر ولا يهمني
رد عليها وهو يدفعها خارج الغرفة من جديد مبعد إياها عن زوجته:
كنتي عملتيه لجوزك... اتلهي.
ثم أخرج والدته خلفها والتي حذرته بنظراتها، عاد لزوجته المنكمشة على نفسها وجلس أمامها طالبا:
بصيلي
وكان الرد قولها وهي تهتز إثر نحيبها المتواصل:
طلقني... أنت مديت ايدك عليا ازاي؟،
وكمان بتغلط في بابا... أنا أصدق دلوقتي عادي إنك أنت اللي عملت في "علا" كده
ومن جديد جذب خصلاتها بين يديه فصرخت وطالعته بذعر:
أنا معملتش حاجة، بس لو مبطلتيش الكلام الاهبل اللي عمالة تقوليه ده هعمل حاجة تزعلنا احنا الاتنين يا "بيري"
ثم تركهم وهتف بعينين دامعتين وهو يسألها بحزن حقيقي:
قالتلك إيه؟... قالتلك إني شيطان مش كده؟...
أنتِ شوفتي مني إيه وحش علشان تروحيلهم، ده أنا شايلك على دماغي ومستحمل من معالي الوزير اللي محدش يستحمله... اللي أنا بعمله معاكي مش كفاية إنك تصدقيني
زادت عبراتها، وانهارت تماما وهي تصرخ بهياج:
اطلع برا الأوضة... مش عايزة أشوفك.
حاول احتضانها ولكنها اعترضت على ذلك بنفور، تطاوله عليها جعلها تذوق مرارة ما لم تذقه مسبقا أبدا
فتحت "ندى" باب الغرفة من جديد، وخرج هو باستسلام وتركها لهم دون أن يتفوه بأي حرف زائد.
★***★***★***★***★***★***★***★
كان يسابقها في رص أطباق الطعام على الطاولة، وتعدل هي من ورائه قائلة:
مش برصهم كده
فيرد بابتسامة صفراء:
براحتي
تأففت "ملك" بغيظ، ثم ذهبت لتنادي والدتها وشقيقتيها، حضرن، وبان على وجه "شهد" أن هناك خطب ما فسألتها "ملك":
في حاجة ولا إيه؟
لم تصمد أمام السؤال، كادت أن تبكي ولكن مسحت على عينيها بضيق وهي تقول:
خسرت المسابقة، وأنا وطاهر اتخانقنا خناقة كبيرة
مما جعل " هادية" تسأل بضيق:
ومين السبب المرة دي؟
فتدخل "عيسى" مشيرا إلى هادية:
خلاص محصلش حاجة، أنا هكلمه يا "شهد" ولو مزعلك هجيبهولك لحد هنا
هزت "شهد" رأسها نافية فعلم أن هي من أخطأت فمازحها قائلا:
خلاص أنا حاسس إن الست "هادية" متضايقة منك كده، فهي تفتح دماغك ونربطلك ربطة زي بتاعة "مريم" كده وهو أول ما يشوفك هينسى ويصالحك علطول
ضحكت من بين دموعها وكذلك "مريم" التي سألته بتعب:
بتتريق عليا؟
_ أنا أقدر برضو
راضاها بقوله، ثم أخذت "هادية" تضع أمامه ليأكل فنبه "ملك":
شايفة المعاملة، فين أيام معاملة وقلد نبرة والدتها:
ابنك مبيحترمش حد يا حاج " نصران"
فضحكن وجذبت والدتها ما وضعته أمامه وهو توبخه:
طب تصدق إنك متستاهلش، أنا هعلمك الأدب
أخذه ناحيته من جديد وهو يطلب برجاء:
لا خلاص يا ستي، أنا مش قد قلبتك
انتهت جلسة تناول الطعام، ثم احتساء الشاي سريعا، ألح عليها "عيسى" على أن تستعد لتأتي معه إلى مشواره على أن يعيدها إلى هنا من جديد ونجح في جعل والدتها تضغط عليها أيضا فوافقت، ذهبت لارتداء ملابسها وبقي هو مع "هادية" في الردهة ونبهها قائلا:
صحيح، بابا بعد شوية إن شاء الله هيجي، ويجيب الدكتور برضو علشان يشوف "مريم"
انتظر أي رد عدا سؤالها:
أنت وملك كويسين؟
هز رأسه بإيجاب وأعطاها ابتسامة مطمئنة، فطلبت منه برفق:
ملك بتحبك، لما بتبقى زعلانة منك مبترضاش تحكيلي علشان عارفة إني بشيل، خلي بالك عليها يا "عيسى"
قطعت حوارهما حين حضرت وأخبرته باستعدادها للقدوم معه، أثار استغرابها حين حدث والدتها:
أهو أنا اللي زعلان منها بقى
ثم أشار على الرباط القماشي في ردائها وتساءل:
دي ربطة حزام؟
توجه ناحيتها وقام بحل ما عقدته، ثم ربطه هو لها بصورة أنيقة وابتسم قائلا بإعجاب:
فنان.
ضحكت "هادية" بينما ردت عليه ابنتها:
قصدك مغرور
جذبها من يدها بعدما أشار لهادية ثم رحلا معا وهو يسألها:
هو أنا لو عارف أبقى مغرور كنتي هتعملي فيا اللي أنتِ عاملاه ده كله
ابتسمت بهدوء وهي تلحق به على الدرج، قرر أن يصحبها إلى حيث أرشده والده، ربما هدنة، أى مسمى ولكن الأهم وما يأمله أن يعود ذهنه صافيا بعد هذه الهدنة.
★***★***★***★***★***★***★***★
استدعاء جديد وردها من النيابة، ذهبت "علا" ولم تتأخر، كان التوتر هذه المرة الضعف ولكنها حمدت الله على أنها خرجت بسلام، لم تكن تعلم ما يحدث بالداخل بعد خروجها، ولو كانت تعلم ما يقال لتوقفت ولم تتحرك أبدا، حيث فاتها قول:
أمر السيد المستشار النائب العام، اليوم الأربعاء
ثم ذكر تاريخ اليوم وتابع:
بإحالة المتهم/ شاكر مهدي عبد الباسط إلى محكمة الجنايات؛ لمعاقبته فيما اتُهِم به من قتل المجني عليه (فريد نصران)
لم يأت أمر الإحالة إلى المحاكمة إلا بعد إثبات "طاهر" بملكية الهاتف لفريد، عن طريق تقديم علبته التي تم استخدامها في التيقن من أن الهاتف تابع للمتوفي، وكذلك إخطار شركة الاتصالات والذي جاء عكس المتوقع تماما، كان "شاكر" ينتظر تقرير شركة الاتصالات على أحر من الجمر، وهو على يقين من أن هذا التقرير سيكون سبب خروجه، ولكن حين علم من أحدهم بزيارة "طاهر" للنيابة، توقع الأسوء، في سيارته الآن على طريق شبه مهجور والأهم أنه ليس وحيدا، جواره زوجته التي نامت مجبرة بعد ما وضعه لها في ما شربته ليستطيع أخذها معه، حتى ترتيب الأوراق لن يصلح إلا وهي معه، ابنة ثروت الغالية، وأتاه اتصال على هذه الشريحة التي وضعها قبل قليل ولم يعط رقمها إلا لواحد فقط فجاوب ليسمع محاميه:
النيابة طلعت أمر إحالة يا "شاكر"... أنت فين؟
_ أكيد مش هستناهم لما يشرفوا وياخدوني.
رد بهذا فهتف المحامي بغير رضا:
لا مش صح، كده هتثبتها عليك... بيري فين من ده كله؟
وهنا أجاب بابتسامة ماكرة وهو يطالع النائمة جواره:
بيريهان معايا.
وكان الرد قول المحامي بغير تصديق:
أنت بتعمل إيه بالظبط... كده بتورطها معاك، أنا لازم أقابلك
_ هبقى أكلمك و نشوف.
قال هذا بهدوء ثم أخرج الشريحة وقام بكسرها وألقاها على الطريق، ولم ينتبه إلى التي استيقظت جواره حتى سألت وهي تجاهد لتفتح عينيها:
احنا فين؟
كانت تعاني من ألم شديد في الرأس ولا تدري ما يحدث، اقترب منها ماسحا على وجنتها وهو يطالعها ويقول بلطف مبالغ فيه:
اعتبريها رحلة كاعتذار مني عن اللي حصل.
ومتى تكون الاعتذارات مقلقة لهذا الحد؟
هذا ما سألته لنفسها وهي تطالعه محاولة بكل جهدها سبل أغواره، ولأول مرة لا تصدق ما يقوله بيقين، لأول مرة تشعر بأن الخطر الذي يحوم حولها لا يأتي إلا منه هو، ممن أحبه فؤادها بكل صدق حتى أصابه العمى ووقع في الفخ.