رواية جوازة ابريل الجزء الثالث الفصل الخامس عشر والاخير
في الصباح الباكر
استيقظت إبريل على صوت أذان الفجر الذي صدح في الأرجاء، رفعت جفونها الثقيلة لتجد نفسها ممددة على الأريكة، بينما باسم كان نائمًا بعمق، رأسه مستكينًا على بطنها، وذراعه ملتف حول خصرها بتملك، بينما دفء أنفاسه يحيطها كغلاف لا يترك لها مجالًا للحركة.
ظلّت للحظة تتأمل ملامحه الغافية، بابتسامة رقيقة تُشرق كأنها شمس صغيرة تتسلل بين خيوط الليل، وتسللت يدها بهدوء، كأنها ترغب بإيقاظه بنعومة، ومررت أصابعها برقة بين خصلات شعره الناعمة، ثم همست بصوت خافت : باسم... باسم اصحى
شعرت ابريل بجسده يتململ قليلًا، ثم ارتخت يده حولها للحظة قبل أن تتشبث بها مجددًا، فكررت اسمه برقة أكبر : حبيبي.. الفجر أذّن
فتح باسم عينيه بتكاسل، ثم رفع وجهه نحوها، ونظر إليها نظرة تحمل نعاس الليل ودفء الألفة، وبصوت أجش مليء بالخمول قال:
صباح الخير...
ابتسمت ابريل له ابتسامة دافئة، لمست خدّه برفق، وقالت بلطافة : صباح النور... المطره شكلها وقفت.. والفجر أذّن.. قوم نتوضّى ونصلي زي ما اتفقنا
رمش باسم بعينيه مرتين، واعتدل فى جلسته ببطء، وبدا على ملامحه ارتباك طفيفًا، لاحظت ابريل تردده، ولم تنتظر منه أن يجيب، أمسكت يده بهدوء، ثم تحدثت بابتسامة مليئة بالثقة : هو دا احلي دواء في الكون كله .. هتحس براحة كبيرة اوي وانت بين ايدين ربنا...
ابتلع باسم ريقه، ثم رد بصوت منخفض : بقالى كتير... كتير ماصليتش
هزت ابريل رأسها بتفهم، ولم تترك يده، بل اقتربت أكثر منه، وقالت بنبرة مطمئنة :
ربنا غفور رحيم يا باسم... البداية ممكن تكون دلوقتي .. مفيش تأخير عند ربنا.. اللي فات خلاص المهم اللي جاي.. الصلاة والقرآن هما شفاك من الكوابيس اللي بتطاردك.. ومن أي حاجة بتقلق قلبك
كلماتها اخترقت دفاعاته، شعر وكأنها تخاطب جروحه التي حاول دفنها لسنوات، لم تكن مجرد حروف، بل دعوة للسلام الذي كان يفتقده، نظر إليها للحظات طويلة دون أن يتحدث، ثم تنهد وأومأ برأسه أخيرًا، وكأنه يعلن استسلامه لتلك الطمأنينة التي وجدها معها.
قام باسم بتثاقل، لكن يده لم تفلت يدها، وكأنما كان بحاجة لأن يبقى قريبًا منها، أن يشعر بذلك الدعم الذى وجده معها،
رافقته بابتسامة هادئة، وتوجها معًا للوضوء، وحين وقفا للصلاة جنبًا إلى جنب، شعرت بشيء مختلف، كأنما دفء حبهما امتزج بخشوعهما، وقلبيهما وجدا الراحة التي كانا يبحثان عنها طويلاً.
☼بـ-ـقـ-❥ـلـ-ـم نـ-❥-ـورهـ-❥ـان مـ-ـحـ-❥-ـسـ-ـن☼
فى المستشفى مع بداية ساعات النهار الأولى
غادر فريد المصعد بخطوات واثقة تحمل معها هدوءاً وثباتاً، بينما يداه تعيدان تهذيب ياقة البالطو الأبيض الذي بدا ناصعاً كعادته، إلا أن أثر التعب على وجهه كان كافياً ليخبر أي عابر بأنه للتو أنهى واحدة من العمليات المرهقة.
كان يهم بعبور الممر نحو غرفته وهو يرتشف قهوته ببطء، محاولًا استعادة صفاء ذهنه المرهق بعد ساعات طويلة من التركيز، لكن مشهدًا مفاجئًا باغته، وجعله يقف للحظة كمن أصابه الذهول.
لمح هالة من بعيد، تهرول نحو سلم الطوابق بخطوات متعثرة، كأن الأرض تئن تحت وطأة تسارعها، حركة يديها المرتبكة وهي تمسح دموعها سريعاً لم تخفِ عنه انهيارها، وصوت بكائها المكتوم كان كافياً ليشعل داخله قلقاً لا تفسير له.
انقبض قلبه دون وعي، وسارعت قدماه للحاق بها، ثم قبل أن يلتفت إلى إحدى زميلاته، تدعى ناريمان سيدة في منتصف الأربعينات، بشعر أسود مجعد لامس كتفيها، ووجه شاحب يعكس بوضوح صدمة ما حدث.
اقترب منها فريد سريعاً، وسألها بصوت متوتر حاول كتمانه خلف قناع الهدوء المهني : ايه اللي حصل يا دكتورة؟ هالة مالها؟
رفعت ناريمان يدها بتردد، كأنها لا تعرف من أين تبدأ، ثم أشارت بخفة نحو هالة وقالت بأسى : جالها اتصال... باباها عمل حادثة... وحالته حرجة جداً
استدار بسرعة دون أن ينطق بكلمة أخرى، واندفع خلف هالة التي كانت قد وصلت بالفعل إلى مخرج المستشفى، هرول بخطوات مسرعة نحوها، ثم وقف أمام السيارة التي كادت على أن تركبها، ورفع يده ليوقفها، للحظة تأمل وجهها الغارق في الدموع بجزع يعجز اللسان عن وصفه، وعيناها حمراوان من شدة كتمان البكاء، ورجفتها الواضحة جعلت من الصعب عليه أن يتركها تمضي وحدها.
تحدث فريد بصرامة، لكن نبرته حملت دفئاً طفيفاً كأنه يحاول تخفيف ثقل ما تشعر به، وهو يخلع البالطو الأبيض عن جسده ويلقيه بسرعة على الكرسي الخلفي للسيارة : مش هينفع تسوقي في حالتك دي.. اركبي... هسوق أنا
حاولت هالة فتح فمها لترد، لكنه لم يمنحها فرصة للاعتراض، بل دفعها برفق لتستدير وتجلس في المقعد الآخر دون مقاومة، ثم صعد بجانبها، وألقى عليها نظرة جانبية، بينما هالة تمسح دموعها بيد مرتعشة، لتحدق فيه للحظة، وانطلقت السيارة بسرعة نحو العنوان الذي ذكرته له، والهدوء الثقيل يحيط بهما.
☼بـ-ـقـ-❥ـلـ-ـم نـ-❥-ـورهـ-❥ـان مـ-ـحـ-❥-ـسـ-ـن☼
فى منزل باسم
بعد أن انتهيا، جلس باسم بجوارها على السجادة، يمرر يده على وجهه وهو يشعر بشيء مختلف، وكأن ثقلًا هائلاً بدأ ينزاح عن صدره وطمأنينة تتسللت إلى قلبه.
نظر إليها بعينين مليئتين بالحب، ثم وضع يده على رأسها بلطف وقبلها برقة، وهمس في أذنها بنبرة تحمل امتنانًا عميقًا : ربنا يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال .. شكرا يا ابريل انا حاسس براحة أول مرة أحسها من زمان
ابتسامة جميلة انبجلت على شفتيها، وكأنها زهرة نمت على وجهها بسعادة، تعكس صفاء قلبها ومشاعرها الصادقة وهمست بصوت دافئ كأشعة الشمس : يارب دايما يا حبيبي .. وربنا يتقبل منا ومنك .. الله رحيم بعباده ..مهما توهنا في الدنيا .. هو اللي بيرشدنا من تاني للطريق الصحيح
تابع حديثها بعينيه المفعمتين بالشغف والإعجاب، مأخوذًا بسحر جمالها الذي لا يُضاهى، فقد كانت البراءة والجمال يتناغمان بوجهها الذي زينه الحجاب،
مما جعله يضيء بإشراقة ورقّة أسرت قلبه، قائلًا بنبرة مشبعة بالصدق : ونعم بالله .. تعرفي ان فعلا دا حالي قبل ما اعرفك .. كنت حاسس نفسي تايه وسط زحمة الدنيا لحد ما بدأت الاقيها تاني معاكي
قطع رنين الهاتف حديثهما، فنهض من جوارها، وإلتقط الهاتف من فوق المنضدة، مستغربًا من اتصال عمه فخر الدين في هذا الوقت المبكر، تحت أنظار إبريل، التي تعجبت من تجمده المفاجئ حالما سمع الخبر من عمه، ليشعر بزلازل عنيفة تجتاح كيانه، تاركةً إياه في صدمة هزت أعماقه.
☼بـ-ـقـ-❥ـلـ-ـم نـ-❥-ـورهـ-❥ـان مـ-ـحـ-❥-ـسـ-ـن☼
في حوالي الساعة العاشرة صباحًا
كانت الأجواء داخل المستشفى مشحونة بالتوتر أمام غرفة العمليات، والجميع يقف في صمت قاتل، الوجوه تنبض بالقلق والخوف، عيون شاحبة، وأنفاس محبوسة في صدورهم، ينتظرون أن تأتيهم الإجابة التي لا يعرفون كيف سيقبلونها.
أخيرًا، بعد فترة من الانتظار، خرج الطبيب، فتجمهروا حوله بنظرات مليئة بالتساؤلات، فأجابهم بنبرة عملية : للاسف استاذ صلاح إصاباته كبيرة خصوصًا في دماغه.. وهو لسه تحت العملية الجراحية التانية.. لكن ماخبيش عليكو لسه الحالة خطيرة ومش مستقرة احنا بنعمل اللي نقدر عليه .. والباقي علي ربنا عن اذنكم
انهارت هالة على الكرسي، ودموعها تتساقط بغزارة على وجنتيها، بينما لميس تربت على كتفها بحزن عميق، محاولًة مواساتها في صمت، وهى مبهوتة للغاية، لا تستوعب ما حدث مع صلاح ودعاء، فالحياة قد انقلبت ضدهما في غمضة عين، وأخذت تتساءل في أعماقها إن هذه هي النهاية التي يستحقونها بسبب ما إرتكبوه، لكنها في قرارة نفسها، عزمت على كتمان ما تعرفه للأبد، لن تستطع أن تتحمل رؤية من حولها يعانون أكثر مما هم عليه الآن.
في الجهة الأخرى
ابريل ساعدت إبريل على الجلوس، بعدما شعرت بدوار شديد نتيجة انخفاض ضغط دمها، من توالى على رأسها الأنباء الكارثية دفعة واحدة.
تاهت وسام بعيناها في الفراغ، غارقة في صمتٍ خانق، تسترجع الأحداث المروعة التي تتابعت بشكل متسارع، مازال يتردد فى ذهنها صدى الاتصال الأول بحادث السير الذي تعرض له زوجها في الساعات المتأخرة من الليل، وقبل ساعات قليلة فقط، جاءها اتصال آخر من خادمة دعاء، التي أخبرتها أنها وجدت دعاء في فراشها، وقد اختارت إنهاء حياتها بتناول جرعة زائدة من دوائها، ما أدى إلى هبوط حاد في الدورة الدموية ثم وفاتها.
رفضت وسام إخبار عز بموت والدته، خشية أن ينهار من الصدمة، لكن فخر، الأخ الأصغر لصلاح، أقنعها بأن عز له الحق في وداع والدته قبل دفنها.
فى تلك الأثناء، ذهب باسم وخالد وفريد إلى منزل دعاء لنقلها في سيارة إسعاف إلى المشرحة.
☼بـ-ـقـ-❥ـلـ-ـم نـ-❥-ـورهـ-❥ـان مـ-ـحـ-❥-ـسـ-ـن☼
عند عز
استيقظت مني على دفء شفتيه، وهي تلامس كتفها العاري برقة جعلتها ترتجف بإستجابة دون وعي.
رفرفت أهدابها بتكاسل وهي تفتح عينيها، لتجد "عز" مستلقياً بجانبها، وعيناه متشبعتان بعشق جارف، يلتهم تفاصيلها بنظرات لا تعرف سوى الوله والافتتان.
مال عز بجسده نحوها أكثر، ورفع يده ليرتب خصلات شعرها المبعثرة على جبينها، ليطبع قبلة ناعمة أسفل أذنها، جعلت جسدها يرتعش تحت تأثيرها،
همس بصوت عميق النبرة : صباح الخير يا أجمل حاجة حصلتلي فى الدنيا
ابتسمت مني برقة تفيض بالأنوثة، وهى تغطي جسدها الملتحف بالكاد بالملاءة البيضاء، وردت بعذوبة : صباح الورد علي عيونك حبيبي
التقم عز شفتيها في قبلة شغوفة، ويداه ضمتا خصرها برفق، وهمس بصوت خفيض متحشرج يفيض بالشوق: وحشتيني... وحشتيني أوي يا روحي
ردت مني عليه بضحكة مشوبة بالغنج ، ويديها تتسلل برقة إلى رقبته من الخلف : وحشتك؟ وانا طول الليل كنت في حضنك يا عز!!
ارتفعت ضحكاته الرجولية بنغمة جذابة، وهمس في أذنها بعشق متوهج يختلط بالمرح، وهو يغرس وجهه في تجاويف عنقها بشوق وهيام : ولو.. حتى لو فضلت العمر كله كدا ، مش هيكفيني ولا هشبع... حضنك ده إدمان يا كروانتي
قهقهت مني بنعومة، وهي تضربه على كتفه بخفة : ينفع تبطل دلع وقلة ادب بقي .. وتقوم من عليا عشان ننزل نفطر
ارتفع بجذعه عنها، مد يده إلى الهاتف الداخلي، ثم طلب الإفطار لهما،
وعاد مجددًا ليغمر وجهه في دفء عنقها، يتنفس عطرها بعمق وإنتشاء، وقال بصوت أجش مكتوم جعل قلبها يخفق بجنون : فطارنا هيوصل لحد السرير .. علي مايجي سبيني كده أحس بنبضات قلبك... محتاج أصدق انك رجعتيلي يا مني.. بقالي كتير ما يجيش ليا نوم إلا بعد معافرة وتفكير كتير...
رفع عز وجهه نحوها، أمسك بوجنتيها بنعومة، وكأنها كنز يخاف عليه من الانكسار، ثم تابع بصوت يقطر صبابة، بينما لوعة العشق تحترق في عينيه السوداويتين : مني.. أوعديني... ماتفكريش تاني تبعدي عني..
لم تستطع مني أن تمنع نفسها من لمس خده الشائك برقة، وهي تتنهد بخفوت مع تأثر واضح في نبرتها، وعينيها مليئتين بالشوق والحنين : وانت فاكر يعني ان بعدي عنك كان سهل عليا يا عز!! انت ماتعرفش قد ايه دا كنت موجوعة وبتعذب؟
وضع عز جبهته على جبينها، وانفاسهما الحارة تتلاحم من شدة تقاربهما، وهو يقول بذات النبرة : عمري ما هاخليكي تحسي بالوجع دا تاني .. ايوه هفضل اغير عليكي بجنون .. بس مش هسمح للغيرة دي تدمرنا ولا تخليني اخسرك مرة تانية .. انا مش هقدر اعيش من غيرك تاني يا مني
احتضنت مني خصره برقة، وردت عليه بنبرة مفعمة بالعشق والوله : ولا انا هقدر اعيش بعيد عنك يا عز
رفع عز كفها نحو شفتيه، وطبع قبلة طويلة على راحة يدها، بينما ابتسامته تنطق بكل لهفته.
لم ينتظر لحظة أخرى، بل مال برأسه وأطبق شفتيه على شفتيها في قبلة ملتهبة عميقة، تحمل في طياتها حباً نارياً ذاب فيه خلاياها، كما حدث في تلك الليلة الماضية.
كل شيء فيها انهار حين اقترب منها بعشق عارم لم تستطع مقاومته، فانجرفت معه في تيار من الهيام الجنوني، وبدأت تواكبه في تبارٍ من القبلات المملوءة بالشغف والشوقٍ الذى تراكم بينهما، مستلذة بحلاوة لمساته، وهي تحتضنه بشدة، رافضة أي فاصل بين تلاحمهما.
انزلقت يداه بجرأة على ظهرها، ثم أسفل خصرها، فلمع فى ذهنها شيئا ما جعلها تهمس بتقطع وهي تحاول التقاط أنفاسها : عز... كفاية... فطارنا هيجي
رفع عز نظره إليها، عيناه تنطقان بجنون العشق، ثم مرر شفتيه على عنقها ببطء مثير، وهمس بصوت أجش مليء بعاطفته النارية : فطار ايه!! وانا بين الجمال دا بس..
شعرت مني بحرارة أنفاسه تذيب دفاعاتها رويداً رويداً، حتى كادت تنصهر تحت وطأة شغفه، لكن صوت طرقات على الباب قطع لحظة اندماجهما، فانتفضت أسفله ودفعته عنها ، ابتعد على مضض، واضعاً رأسه على الوسادة بضيق، وهو يلهث من شدة اثارته.
تطلعت مني إليه بضحكة مكتومة، ونهضت مسرعة، وهي تقول بمرح : شوفت انك في كل الاحوال هتقوم
اختفت مني في الحمام، بينما زمجر عز بتذمر وحنق واضح : انا الغلطان
بقي عز على السرير لوهلة، محاولاً استعادة أنفاسه، ثم اضطر في النهاية للقيام وفتح الباب.
خرجت مني وهي تجفف شعرها، لكن ابتسامتها المرحة اختفت فور أن رأت وجهه الشاحب، وعيناه مغرورقتين بالدموع، كما لو أن العالم قد انقلب رأسًا على عقب.
اقتربت منه بسرعة، وهى تهتف بقلق : عز؟! إيه اللي حصل؟! مالك؟!
لكن عز لم يجبها، بل مد لها الهاتف بيد مرتجفة، فتناولت منه الهاتف، ونظرت إلى الشاشة، فوجدت مكالمة مفتوحة بينه وبين فخر الدين، وما إن ردت عليه حتى صدمت هي أيضًا بالنبأ المفجع.
☼بـ-ـقـ-❥ـلـ-ـم نـ-❥-ـورهـ-❥ـان مـ-ـحـ-❥-ـسـ-ـن☼
بعد مرور عدة ايام
في قلب غرفةٍ تعج بالصمت، كان أزيز أجهزة مراقبة القلب هو الصوت الوحيد الذى يتردد بإيقاعٍ رتيب.
الهواء ثقيل مشبع برائحة العجز والندم، والأضواء الخافتة تتراقص على ملامح صلاح الممدد على السرير، وجهه الذي كان يومًا شامخًا أصبح هشًّا، تكسوه تجاعيد غائرة كأنها نقشٌ ناطق بخطايا الماضي، شحوب قسماته، وإرتعاشة أنفاسه المتقطعة، كانا كافيين ليُخبرا كل من يراه أن النهاية باتت قريبة.
عيناه تترقبان الباب بتوترٍ، ينتظر دخول عز بقلقٍ متعب لا يستطيع إخفاءه، يعلم أن اللحظة التي يخشاها قد حانت، فقد أخبرته وسام أنه اكتشف الحقيقة، وعرف أنه والده وليس عمه، بعد أن قرأ رسالة والدته بعد موتها التي مزقت الستار عن سنواتٍ من الكذب والخداع.
دلف عز إلى الغرفة بخطوات مثقلة بغضبٍ عاصف لا يخبو، وألمٍ متجذر كأنه ينهش أعماقه، بعد إلحاحٍ طويل وإقناعٍ مرير من وسام وباسم، وجهه جامد كالصخر، لكن عينيه كانت تحملان بركانًا متأججًا من الغضب والألم، وكل خطوةٍ نحو الرجل الذي يرقد على الفراش تُشعل نارًا حارقة بداخله، وكأن المواجهة ليست إلا فصلًا أخيرًا يختبر فيه ما تبقى من صبره الممزق واحتقاره الذي لم يعد يُخفيه.
جلس على الكرسي المقابل للسرير، وعقد ذراعيه أمام صدره كحاجزٍ صامت، يفصله عن الانهيار.
مرت لحظات تتأمل فيها عيناه السوداوان الرجل الذي قاد أمه إلى الهاوية، مشتعلة بالغضب والصدمة والاتهام، وصمته أقوى من أي كلمة.
حاول صلاح أن يستجمع قوته، وأخذ شهيقًا عميقًا كأنه يُصارع الهواء ليُبقيه داخل صدره، ثم همس بصوتٍ مُتقطّع لا يخلو من الألم : أنا... أنا آسف يا عز.. انا غلطت... غلطت كتير في حق كل اللي بحبهم.. كان حب الاستحواذ عامي عيني... لحد دمر كل اللي حواليّا.. وأكتر حد ظلمته... كانت دعاء اللي بتحبني أكتر أي حد...
ضغط عز على يديه المشبوكتين بقوة، وكأنّه حاول أن يمنع نفسه من الانفجار، لكنه قاطعه بصوتٍ منخفض لكنه مُثقل بالقهر والألم : حبتك ودمرتها بأنانيتك؟ انت اللي خلتها تنتحر؟ عمرك حسيت بمرارة طفل عاش طول عمره يتيم الاب؟ وبعد 28 سنة يكتشف إن أبوه... هو السبب في كل وجع عاشه؟
رفع صلاح عيناه التى امتلأتا بالدموع محملقًا فى سقف الغرفة، وكل كلمة من عز كانت كالخنجر تغوص في قلبه، والكلمات علقت في حلقه، وصدره بدأ يعلو وينخفض بصعوبة واضحة، ليقول بصوت ضعيف مكتظ بالندم : مهما قولت مش اعرف هصلح للي كسرته.. انا صحيح مكنتش الاب اللي انت تستحقه.. انا كنت عايش بكابر سنين عشان مكنش عندي جراءة اعترف بذنبي .. بس اسمع مني حاجة واحدة.. انت ابني زيك باسم حتي لو اتنكرت مني باقي عمرك هفضل انا ابوك.. ولو في يوم قدرت تغفر وتسامحني علي اللي عملته .. سامح عشان نفسك مش عشاني
شرد عز فى نقطة غير مرئية أمامه، وهز رأسه بحركة سريعة حاسمة، تنم عن رفض قاطع، وقال بضحكة قصيرة، أشبه بسخرية مريرة : عشت 28 سنة بتمني يكون ليا اب زي اي طفل .. بس الامنية دي اتحولت لكابوس بشع عشان أكتشفت دلوقتي إن وجوده في حياتي كان أسوأ بكتير من غيابه؟
رفع عز رأسه، عازمًا أن يُنهي هذه المواجهة الهزلية، لكن سبقه أزيز أجهزة مراقبة القلب الذى تحول إلى صفيرٍ طويل، مُعلنًا النهاية.
شعر عز وكأن الهواء نفسه قد تلاشى من الغرفة، فبقي جالسًا للحظات، ودموعه التي تأخرت في النزول بسبب شعوره بالخواء الذي اجتاح قلبه، فجأة تبدلت وسقطت كالمطر الذي يغسل ألمًا مستعرًا
☼بـ-ـقـ-❥ـلـ-ـم نـ-❥-ـورهـ-❥ـان مـ-ـحـ-❥-ـسـ-ـن☼
بعد مرور عام على الأحداث الأخيرة
مرت الأيام ثقيلة ومتسارعة، وكل لحظة فيها كانت تحمل بين طياتها ذكريات وجراح لم تندمل بعد، لكنها في ذات الوقت كانت تحمل بشائر جديدة وأملًا في غد أفضل.
التقت "ريهام" برجل الأعمال المصري يدعى طارق، التقت ريهام برجل الأعمال المصري طارق، فنسجت بينهما خيوط من الحب الصادق والاهتمام المتبادل.
مواقفه معها المملوءة بالعطف والدعم، جعلتها تشعر بالأمان والراحة، كأشعة الشمس التي دفأت قلبها المتجمد من الماضي، لتشعر معه بأنها موجودة، وأنها تستحق الحب والاحترام، تدريجيًا، بدأ قلبها يميل إليه أكثر، إذ أصبح مصدرًا للاحتواء الذي تمنت أن تشعر به فى حياتها.
إلا أنها ارتبكت وترددت عندما عرض عليها الزواج، كان خوفها عميقًا من أن يمنعها داغر من رؤية عمر، فاستعانت بـ دياب وباسم، اللذين تدخلوا بحكمة، وتوصلوا إلى اتفاق يتربى عمر مع والده، مع وعدٍ منه أن تراه متى أرادت.
وبعد أيام قليلة، تزوجت من طارق، ليبدأ فصل جديد من عمرها، تسعى فيه إلى عيش حياة هادئة ومستقرة.
✾♪✾♪✾♪✾♪✾
أما "نادية" اختارت أن تلتحق بكلية الحقوق، وهي الآن في عامها الثاني، بعد أن تلقت التشجيع من المعالجة النفسية وإبريل، التي عادت لتجمعهما صداقة جديدة بعد طلاقها من أحمد وابتعاده، حيث لم يعد يربطها به سوى مصاريف ابنتهما الصغيرة، وكان أمامها خياران إما أن تستسلم لليأس والحزن فيلتهمان ما تبقى من روحها، أو أن تسعى بعزيمة قوية لفتح صفحة جديدة في حياتها، وبناء مستقبلٍ جديدٍ ونجاحٍ يعوض ما فقدته، فاختارت أن تنفض غبار الفقد وتقاتل بعزيمة لا تعرف الاستسلام، مُركّزة على النجاح الذي بدأ يظهر في أفقها كأمل جديد.
✾♪✾♪✾♪✾♪✾
زواج لميس من خالد كان أجمل حدث في حياتها، فقد جاء كالسحر ليملأ أيامها بالحب والمشاعر الطيبة، ومنحها سعادة لم تعرفها من قبل، لتدرك أنه الشخص الذي كانت تبحث عنه طوال حياتها، فهو لا يكل ولا يمل من إغداقها بالعواطف، وكل يوم يقضيه معها يزداد فيه حبه لها، يراعي مشاعرها في أصغر التفاصيل، يعاملها بحنان، ويشعرها دائمًا بأنها محط اهتمامه الأول.
باتت لميس تعشقه بشدة، ليس فقط لحبه الكبير لها، ولكن أيضًا لأنه فهمها بعمق واحتواها بشكل لم تتوقعه أبدًا.
ومع قدوم مولودتهما الجميلة منذ شهرين، اكتملت حياتهم بالفرح والدفء، وزادت روابطها بـ خالد قوة وعُمقًا.
تلك العائلة الصغيرة كانت الهدية التي أغنت قلبها، وأصبحت تعيش معه الآن أيامًا لا تُنسى من الفرح والحب والسكينة.
✾♪✾♪✾♪✾♪✾
تزوجت هالة من فريد منذ أربعة أشهر، وكان نعم السند الذي أعانها على تجاوز أزمتها وحزنها العميق على فقدان والدها، ورغم ما ارتكبه والدها من أخطاء، ظل في قلبها الأب الحنون الذي وهبها ذكريات دافئة لا تُنسى، وتدعو له في كل صلاة بالرحمة والمغفرة.
وجدت في فريد شريكًا استثنائيًا، زوجًا طيبًا وحنونًا حدّ العمق، يفيض قلبه بالعطاء، ويملأ حياتها بالدفء والسكينة، ليزداد حبها له يومًا بعد يوم، وتمتد بينهما جسور من التفاهم والانسجام جعلت حياتهما مشتركة بكل تفاصيلها الصغيرة والكبيرة.
وفي إطار هذا التفاهم، قررا تأجيل الإنجاب لمدة عام، ليتمكنا من تحقيق التوازن بين حياتهما العملية والزوجية،
وهو قرار عزز شعور المسؤولية بينهما، وأضفى على علاقتهما المزيد من النضج، وأصبحت أيامها مليئة بالعشق والهدوء، وكأنها تعيش قصة حب تنبض بالواقعية والحلم معًا.
✾♪✾♪✾♪✾♪✾
عودة منى إلى حياة عز كانت أعظم هدية تلقاها قلبه المكسور في أكثر الأوقات قسوة وعتمة، كالبلسم الذي داوى جروحه المتراكمة، واحتوت آلامه بحنانها الذي لم يعرف له مثيل وحبها الصادق الذي أحاط به كدرع يحميه من ظلمات الحزن والخذلان.
ومع مرور أربعة أشهر على الأحداث العصيبة التي مزقت روحه، حملت منى إليه نبأ سعيدًا كفيلًا بأن يخفف عنه ثقل أحزانه ويعيد إليه شيئًا من الأمل.
بشّرته بأنه سيصبح أبًا، وسيأتي إلى الدنيا قريبًا مولودٌ جميل يحمل ملامح الحب العميق الذي جمعهما، ليكون تعويضًا سماويًا عن كل خسارة أدمت قلوبهما، وهدية تضمد بها الأيام جراحهما.
والآن، ينتظران هذا الحدث على أحرّ من الجمر، ومع كل يوم يقترب فيه موعد ولادة طفلهما، يمتلئ قلب عز بمزيج من الشغف والمسؤولية. في المقابل، تُظهر منى قوةً ودفئًا يزيدانه عشقًا لها، وهي واثقة أن الطفل القادم لن يكون مجرد حياة جديدة، بل رمزًا لشفاء الجراح وعلامة على أن الحب قادر على ترميم ما كسره الزمن، ليمنح أيامهما معنى أعمق وأجمل مما سبق.
✾♪✾♪✾♪✾♪✾
أما مصطفى، فلم تهتم ابريل لسماع أخباره منذ فترة طويلة، وآخر ما علمته عنه بالصدفة هو عودته إلى زوجته.
✾♪✾♪✾♪✾♪✾
في موقع تصوير خارجى
يغمر ضوء الشمس المكان، الذى يكتظ بالحركة والضجيج، فى حين كان باسم يتابع الكاميرات، ويصدر الأوامر، ويوجه الفريق، بينما إبريل جالسة في زاوية هادئة نوعًا ما، وعيناها تتنقلان بين الصور والفيديوهات على شاشة هاتفها.
_مابتركيزش في صورتي بسرحان دا كله ليه؟!!
قاطع باسم شرودها بهمسة معاتبة مشبعة بنغمة غيرة لم يخطئها قلبها، وهو يميل نحو كرسيها من خلفها.
رفعت وجهها ببطء عن هاتفها، وارتسمت على شفتيها إبتسامة تشع منها أنوثة ممزوجة بالمرح، قائلة بمراوغة : وانا اركز في صورة ليه!!
نهضت من مكانها، ثم التفتت نحوه لتقف أمامه مباشرة، وتابعت حديثها بنبرة مشبعة بالعشق : والأصل ملكي.. ومعايا..
اتسعت ابتسامته الجانبية على شفتيه بزهو، وأرسل لها غمزة شقية، بينما بريق من الهيام يرقص في عينيه الرماديتين : مكارة.. وبقيتي تغلبيني كتير
أنهى باسم حديثه، وهو يقبض على ذقنها بمشاكسة، فضربت يده بخفة، لتقول بخجل : بطل حوالينا ناس .. خلصت خلاص
ختمت جملتها بسؤالٍ، فرد باسم بنفي، وهو يمسك بيدها : اه .. يلا بينا عشان نروح نتغدا
أومأت له بابتسامة هادئة، ثم غادرا معًا.
☼بـ-ـقـ-❥ـلـ-ـم نـ-❥-ـورهـ-❥ـان مـ-ـحـ-❥-ـسـ-ـن☼
في السيارة
التفتت ابريل إليه بهدوء، وتساءلت بصوتها الرقيق الذي يعبق بالاهتمام : لسه برضه عز رافض فكرة المعالجة النفسية!؟
هز رأسه بالإيجاب، وعيناه لا تزالان مركزتين على الطريق أمامه، وخرج رده محمل بالضيق : حاولت اقنعه اكتر من مرة ومش راضي
شعرت بالإحباط فى نبرته، لتعقد حاجبيها بأسى على حال عز، قبل أن تقول بجدية : عمره ما هيقتنع ولا هياخد الخطوة دي غير لما يكون مستعد ليها يا باسم .. وان شاء الله حاله يتحسن لما يشيل ابنه بين يده وفرحته بيه هتنسيه كل حاجة
ترافقت إجابته أسف مع زفرة عميقة من صدره : يارب يا ابريل .. اللي حصل مكنش سهل علينا كلنا .. بالعافية اقتنع انه يمسك الشركات زي ما بابا طلب في وصيته .. يمكن دي الحاجة الكويسة اللي عملها في حقه بعد الظلم اللي شافوه بسببه
ربتت على ساعده بحنان ومؤازرة لعلها تخفف من حزنه، وتحدثت بابتسامة تفيض بالحب : عارف يا باسم .. انا كنت معجبة بشخصية مامتك وبحترمها .. وحبيتها اكتر واكتر لما شوفت موقفها اتجاه عز .. بجد الست دي مفيش في حنية قلبها ولا قوة صبرها .. في عز وجعها واحتياجها لإيد تطبطب عليها كانت هي اللي بتواسي عز وواخداه في حضنها
وضع يده فوق يدها بحب، مظهرًا تأييده لما قالته.
☼بـ-ـقـ-❥ـلـ-ـم نـ-❥-ـورهـ-❥ـان مـ-ـحـ-❥-ـسـ-ـن☼
مساءً فى منزل باسم
خرجت إبريل من الغرفة، وقلبها ينبض بشدة، محاولة تهدئة أنفاسها التي تسابقها، حينما توجهت إلى الصالة، رأت باسم جالسًا على الأريكة، حاسوبه مفتوح على قدميه، وعينيه مسمرتين على الشاشة في تركيز عميق، بينما الهدوء يغلف المكان حوله.
أطبقت شفتيها بتفكير، ثم اقتربت منه بخطوات بطيئة، فابتسم عند شعوره بها،
رفع حاجبيه وهو يضع الحاسوب جانبًا، ونظر إليها بنظرة شبه ساخرة لا تخلو من الشوق، وهتف بصوته العميق المميز : اخيرا بندقتي ظهرت .. كنتي جوا كل دا بتعملي ايه؟!!
هزت ابريل كتفيها، وردت بعدم اكتراث تخفى وراءه توترها : ولا حاجة.. كنت براجع شوية حاجات في الشغل .. وهدخل احضرلنا العشا..
جذبها باسم نحوه فجأة قبل أن تخطو بعيدًا عنه، وأجلسها على قدميه، بينما هى تمسكت بكتفه لا إراديًا، ثم سألها بفضول : مش هتقوليلي الموضوع اللي عاوزة تكلمني فيه؟!
بحثت في عقلها عن إجابة تفتح بها ما ترغب في قوله، بينما كان هو يتابع بشغف حركة شفتيها المرتجفتين وهى تتحدث بتلعثم : انا... انا كنت .. كنت هقولك اني صرفت نظر عن نزولي موقع المشروع الجديد من نفسي .. زي ما كنت عاوز
إبتسم لها بخفة، وهو يقرص وجنتها بمشاكسة : حلو انك اخيرا اقتنعتي اني يهمني صحتك قبل كل حاجة
أمسكت بأصابعه قبل أن تكمل بجدية ممزوجة بإضطراب عفوى : انا متأكدة من كدا يا باسم معنديش شك والله .. بس في حد تاني هو بصراحة اللي خلاني اقتنع
رفع باسم حاجبيه بدهشة، وسأل بصوت مستنكر : حد!! يطلع مين دا؟
تسللت إجابتها الخجولة بين شفتيها، وعينيها تلاحقان تعابيره بتركيز : الدكتور... اصله قالي .. الحركة لازم تكون بحساب الشهور الجاية .. عشان احافظ علي الجنين
زوى بين حاجبيه بملامح جامدة، قبل أن يسألها بتمهل : انتي حامل..؟
_اه
غادرت الكلمة شفتيها لتُسكن داخل قلبه، فصاح بحماس : وساكتة من الصبح؟!
تعبثت بياقة قميصه، وهى تضحك بخجل : كنت بستجمع شجاعتي
غمرها بين ذراعيه بشغف جنونى، همس في أذنها بأنفاس ملتهبة : بحبك يا ابريل .. اقسم بالله انا بعشقك
حذرته إبريل بضحكة رقيقة : براحة براحة يا باسم
ابتعد عنها قليلاً، وهو يداعب شعرها بأصابعه، تسمرت عينيه عليها للحظة باهتمام، قبل أن يتكلم بنبرة متحمسة : تاه عن بالي والله من فرحتي بحلاوة الخبر .. مش متخيلة فرحان قد ايه عشان هبقي اب وهجيب منك انتي نونو يا اوزعة
اختفت ابتسامتها الواسعة، ليحل محلها تبرم خفيف، بسبب استفزازه المتعمد لها، فتمتمت بغيظ : ماتقفلهاش حلوة للاخر ابدا لازم تخربها كدا
قبل خدها بحب، ثم ابتسم بمكر، وهو يقول بنبرة مشاكسة : انا بهزر يا قلبي .. بلاش نرفزتك دي عشان البيبي مايطلعش عصبي وعنيد واوزعة زيك
انحنت ابريل لتمسك بالوسادة الصغيرة، ثم ضربت بها كتفه بحركة سريعة، قبل أن تتمتم بإستياء، وهي تنهض من على قدميه : والله انت ما عندك دم..
اتجهت إبريل بخطوات غاضبة نحو المطبخ، في حين علت ضحكته المجلجلة خلفها، حاملةً معها عبثًا رجوليًا.
_يا أزوعة... يا بندقتي!
هتف باسم بصوتٍ مرِح، يتعمد استفزازها، فتسارع بداخلها مزيجٌ من الغضب والرغبة في الابتسام.
ما إن وصلت إلى المطبخ، وشرعت في إمساك السكين لتقطع الخضروات، حتى أتاها باسم من خلفها بخطوات هادئة واثقة، ووقف خلفها مباشرة، فشعرت بأنفاسه الدافئة على كتفها، بينما ذقنه تستقر عليه بحميمية، قبل أن يهمس بنبرة مُحمّلة بالاهتمام : هنروح بكرة للدكتور... عايز أطمن عليكي وعلى البندق الصغير
هزّت رأسها بصمت، متمسكة بمعالم الغضب، وهى تكتم إبتسامتها السعيدة بصعوبة.
استمرت في تقطيع الخضروات دون أن تلتفت إليه، حتى جاء تحذيره السريع : حاسبي على صوابعك يا بندقة!
لم تستطع كتمان ضحكتها الرقيقة أكثر، لكنها أخفتها خلف نفَسٍ طويل، ثم دفعته بخفة ودلال، لتقول بتحذير : ممكن تبعد وماتجيش جنبي خالص؟
ارتفع حاجبه، وهو ينظر إليها بدهشةٍ مصطنعة، قبل أن يستفسر بمكر : حبيبي مقموص بجد ولا إيه؟
ردّت بتدلل قاصدة إستفزازه : مايخصكش
احتواها باسم أكثر بين ذراعيه، مُخفضًا صوته بنبرة مثيرة كمن يعترف بسرٍ كبير : بعشقك يا إبريل
رفعت رأسها نحوه، عيناها تُحاولان إخفاء عشقها دون جدوى، فردت بتنهيدة خافتة : اوعي كده! ماتستغلش إني بضعف بسرعة في حضنك
لم يتحمل باسم أكثر هذا الدلال، لفها ناحيته بحركةٍ خاطفة، ثم رفعها من خصرها لتجلس على السطح الرخامي.
احتوى وجهها بين يديه، وكأنها كنز يخشى أن يُفلت منه، ثم قبّل جبينها بتمهل، وعيناه تغوصان في عينيها الفيروزيتين، ثم أسند جبينه إلى جبينها، وأغمض عينيه للحظة، قبل أن يهمس بحنو وجدية : الحضن دا هيفضل مفتوح ليكي في كل لحظة .. وطول ما ربنا بيمد في عمري هفضل قوتك ودعمك .. واللي جاي في حياتنا هيقربنا لبعض اكتر واكتر
أتم كلماته بهدوء، بينما بسط كفه برفق فوق بطنها، وكأنه يحتضن حياةً خفية تنبض تحت أنامله، حدّقت إليه بعينيها التي تشع عشقًا وامتلأت بالعبرات التى حاولت أسرها خلف جدران الصمود، لكنها انسابت بهدوء كنسمة حانية لتمس وجنتيها بتأثر، ثم لاحت على شفتيها ابتسامة ضعيفة تفيض بالحب، وهي تستمع إلى صوته العميق يضيف : انا مش بس بحبك يا ابريل .. انتي الحياة اللي جت فجأة وخلتني أفهم معنى العشق والمسؤولية .. اتعلمت ازاي اعرف اعيش.. حسيت انك الوطن اللي كنت بلف الدنيا كلها عشان أوصله .. ولما حضنتي قلبي هدي وحس بالدفي لأول مرة
لفّت ذراعيها حول عنقه محتضنة إياه بقوة، بينما ضم هو جسدها احتواء دافئ، كأنما أراد أن يذوب في كيانها، ثم همست بصوت مرتعش بالعاطفة، يحمل بين طياته صدق مشاعرها : وانا مابرتاحش غير في حضنك يا باسم .. ولو الزمن رجع بيا هختار كل اللي حصل تاني .. عشان ايا كان اللي عيشناه .. في الاخر ربنا عوضني بيك .. وهفضل احمد ربنا سبحانه وتعالي في كل سجدة علي حنيته وكرمه عليا لما بعتك ليا طوق نجاة ومرسا لروحي اللي تاهت وخافت كتير .. ومالقتش الراحة والامان والعشق غير بين ايديك انت
رفع وجهها من عنقه، ثم قبّلها بحرارةٍ تعبر عن عشقه العميق، فبادلته هي القبلات بهيامٍ خجول، ثم همست بصوتٍ متقطع يختلج بين أنفاسها : هكمل تحضير العشاء : هكمل تحضير العشاء
نبس باسم وهو يبتعد لوهلة، يدّعي الموافقة : تمام... حضريه
اتبع قوله بشبك أصابعه في شعرها، وجذبها نحوه من خصرها، والتقم شفتيها فى فمه بجنون، مما جعلها تتوه فى غمرة الشغف لعدة ثوان، قبل أن يفصل قبلتهما ، ليمنحها فرصة للتنفس، همست بإبتسامةٍ ناعمة : نزلني من الرخامة عشان أعرف أطبخ
ضحك من بين أنفاسه الثائرة، ليغمغم بوله جذابة : عيوني
ازداد اقترابه من وجهها دون أن يبادر هذه المرة، بينما حرارة أنفاسه ونظراته الشغوفة تحاصرها في صمتٍ مفعم بالإغراء، فاحتضنت وجهه بكفيها بلهفة وقبّلته بشغفٍ لا يُقاوم، ليتبادل معها القبلات المتوهجة بالغرام، وهو يطوق خصرها بذراعه، والأخرى يمررها على ظهرها بلمسات مثيرة ، محاولاً بجراءة نزع ملابسها، فشعر بأصابعها تقرص ذراعه، بينما همست بتحذيرٍ ماكر : ايدك دي سارحة علي فين يا قليل الادب!! وانا لسه زعلانة وتحضير العشاء المرة دي عليك بقي
عبست ملامحه للحظة، ثم مالبث أن غمس وجهه في تجاويف عنقها بحركةٍ مداعبة، جعلتها تنفجر ضاحكة بسعادةٍ غامرة، ولم تستطع منع نفسها من أن تهمس بين ضحكاتها : بحبك أوي يا باسم
نظر إليها بعينين ملتهبتين بالعاطفة، وهمس بصوته الرجولي الجذاب : وأنا كمان بحبك أوي .. بعشقك يا أجمل بندقة في عمري
كانت كلماته نبضات لروحٍ عاشقة، تحمل بين طياتها أمانًا وراحة، بينما هى تستمع إليه، وعينها تلمعان بلهفةٍ وولهٍ، مليئتين بالأمل والحب الذي لا يعرف نهاية.
همست ابريل فى أعماقها بثقة : أنا تلك الحافية على جمر الهوس، التي أرادوا امتلاكها، لكنهم لم يدركوا أنني أكثر من مجرد دمية في يدهم.
في كل مرة حاولوا فيها كسر إرادتي، كنت أتحول إلى عاصفة لا تُهدأ، تندلع في سماء قلوبهم المحبوسة، موقظة كل ما كانوا يأملون في خنقه.
ورغم كل ذلك، كان هو مختلفاً... لم أشعر بهوسه المظلم نحوي، بل بانجرافٍ مهيب نحو عشقٍ طاغٍ لا يقاوم.
كان شعورًا أعظم من مجرد رغبة أو تملك، سحبني إلى دوامة لا أستطيع الإفلات منها، ليس لأنني مجبرة، بل لأنني بعمق الروح انجذبت نحو هذا العشق، وكأنني أتحرك في رقصة بين أنفاسه وأفكاري، لأكتشف أنني كنت أهرب طوال حياتي فقط لألتقي به ، فتحول لهيب الجمر تحت أقدامى الحافية إلى رمال من العشق الجارف.
النهاية