رواية جمر الجليد الفصل التاسع عشر بقلم شروق مصطفي
كان عاصم واقفًا في زاوية المكان، يده تستقر في جيبه، وعيناه معلقتان بسيلا التي كانت تتمايل برفق، وكأنها تنسج مع اللحظة حكاية لا يراها غيرها. نظراته كانت تلاحق حركتها في صمت، يراقبها عن كثب دون أن ينبس بكلمة.
وفجأة، تغيرت ملامحها؛ ارتسم على وجهها شبح ألم مفاجئ، جعلها تتوقف عن الحركة، تمسك معدتها بتلقائية كمن يحاول مقاومة وجع باغتها دون سابق إنذار. لم يمضِ سوى لحظات حتى استدارت مبتعدة، تاركة الجميع وراءها، واندفعت راكضة دون أن تنبس بحرف.
مي، التي كانت تقف بجانبها، لاحظت التغيير في حالتها على الفور. ارتسمت علامات القلق على وجهها، وهرولت خلفها دون تردد، تنادي باسمها بخوف مكتوم. أما عاصم، فقد التقط المشهد بعين ثاقبة، لم يغفل عن أي تفصيل.
بخطوات ثابتة لكن مفعمة بالقلق، تبعهما عاصم، يراقب من بعيد دون أن يثير الانتباه. وحين رأى سيلا تختفي داخل الحمام، توقف على مسافة قصيرة، يتأكد من سلامتها بصمته المعتاد. ومع ذلك، لم تغب عن ملامحه تلك النظرة الحادة التي تكشف عن عقل مشغول وأسئلة لا تنتهي.
أشعل عاصم سيجارته بهدوء، بينما التقط أذناه همسات متبادلة بين سيلا ومي. نظراته لم تغفل عنهما، يراقب المشهد من بعيد دون أن يتدخل، لكنه كان يشعر بشيء غريب ينبض في الأجواء.
كانت سيلا منهمكة في تفتيش حقيبتها بارتباك واضح، وكأنها تبحث عن شيء ضاع منها. تحدثت إلى نفسها بصوت خافت، يحمل نفاد الصبر: "هي فين دي بس؟". ملامحها كانت متوترة ومشوشة، مما دفع مي إلى سؤالها بقلق بالغ: "مالك يا سيلا؟ جريتي فجأة ليه؟ تعبانة؟".
ترددت سيلا للحظات، وكأنها تقاوم البوح بحقيقة ما تشعر به. كانت ما تزال تبحث في حقيبتها بعصبية، قبل أن تجيب بتلعثم واضح: "مفيش حاجة، أنا... أنا... مصدعة شوية بس".
ولكن عندما لم تجد ما تبحث عنه، توقف صوتها للحظة، قبل أن ينطلق مختنقًا: "أنا مخنوقة، هطلع آخد هوا بره. تيجي معايا؟".
مي، التي بدا القلق جليًا على وجهها، لم تتردد في الإجابة. وافقت بسرعة قائلة: "يلا، بس تحكيلي مالك."
تحركت الفتاتان نحو الخارج، بحثًا عن هواء يخفف وطأة التوتر. أما عاصم، فكان يراقبهما بصمت. عيناه لم تفارقا خطوات سيلا، لكن إحساسًا داخليًا بدأ يهمس له بأن هناك ما يدعو للقلق.
وفي لحظة خاطفة، وقبل أن تبتعدا كثيرًا، ظهرت سيارة مسرعة من العدم. توقفت بجانبهما فجأة، ونزل منها رجال ملثمون بحركة خاطفة ومربكة. كان كل شيء يحدث كأنه مشهد من كابوس: يد قاسية تختطف سيلا، وأخرى تمسك بمي التي حاولت المقاومة دون جدوى.
اختفت السيارت بسرعة البرق، تاركة خلفها صمتًا ثقيلًا وصدًى في عقل عاصم، الذي وقف متجمدًا للحظة قبل أن ينطلق في سباق مع الزمن.
في السيارة، جلس معتز بجوار عاصم، والقلق يتملكه كليًا، صوته مليء بالتوتر: "في إيه؟ أنطق!"
لم يلتفت عاصم إليه، عيناه كانت مثبتة على الطريق أمامه، ورد بصوت خافت لكنه حاسم: "سيلا ومي اتخطفوا."
عبارة واحدة كانت كافية لتشعل نار الخوف في قلب معتز. عندما أدرك خطورة الموقف، أوقف عاصم السيارة فجأة، مما جعلها تصدر صريرًا حادًا على الطريق. نظر إلى أخيه بوجه متجهم، وقال بلهجة لا تقبل الجدال: "انزل هنا ماينفعش تكون معايا المهمة خطر مفيش وقت. كل ثانية بتعدي خطر عليهم أنزل."
لكن معتز، وقد اشتعل الغضب في عينيه، صاح بعناد: "يلااااه! مفيش وقت مش هسيبك تروح لوحدك! جاي معاك! مش هسيبهم!"
عاد عاصم إلى مقعده، وأدار السيارة بعزم، زاد من سرعتها كأنما يسابق الزمن. في يده كان جهاز التتبع لا يفارق عينيه، بينما يضع سماعة الأذن ليستمع إلى أي إشارة قد تدله على وجهتهم.
وصلوا إلى منطقة نائية، حيث الصحراء تمتد بلا نهاية، وصمت قاتم يحيط بالمكان المهجور الذي دلهم عليه جهاز التتبع. توقف عاصم عند مدخل المبنى القديم، نظر إلى معتز بحزم، وقال بنبرة آمرة: "اسمعني، ما كانش المفروض تيجي معايا. خليك هنا. أنا هادخل، والقوات على وصول. سامعني؟"
لكن معتز، بروح متمردة لا تقبل الأوامر، رد بتلقائية وعزيمة: "مش هقدر أسيبها... أقصد مش هسيبك تدخل لوحدك. رجلي على رجلك."
تفاقم توتر عاصم، قبض على أعصابه، وحذر مجددًا بصوت صارم: "مفيش وقت للهزار! دول مافيا، مش بيرحموا حد. دي أوامر! خليك هنا!"
لكن معتز لم يعر كلامه اهتمامًا. كانت مشاعره تغلي داخله، فكرة أن مي قد تكون في خطر كانت كفيلة بأن تجعله يتجاهل أي منطق. قفز من السيارة دون تردد، وتقدم نحو المبنى بخطوات ثابتة، مصممًا على البقاء إلى جانب أخيه مهما كان الثمن.
في تلك الأثناء، كانت سيلا ومي داخل المبنى، تحاولان المقاومة بكل ما تبقى لديهما من قوة. لكن يدًا قاسية باغتتهما بضربات على رأسيهما، أفقدتهما الوعي. سقطتا أرضًا بلا حراك، ثم قام الخاطفون بحملهما إلى غرفة مظلمة.
داخل الغرفة، كان الظلام كثيفًا، لا شيء سوى صوت الأنفاس المتقطعة. وثقوا أيديهما وأرجلهما بحبال خشنة،
تقدّم مجهول بخطوات راسخة، وصوت كعب حذائه يهز الأرض بقوة، فيرن في المكان كالرعد، يزرع الرعب في القلوب، وكأن الزمن قد تجمّد عند كل خطوة يخطوها، والجوّ من حوله يزداد ثقلاً وبرودًا نظر إليهم لحظة، ثم قذف دلوًا من الماء البارد عليهم، وقطع وثاق أفواههم بعنف. نهضوا فزعين، وجحظت أعينهم في خوف، قبل أن ينفجر قهقهة عالية ملأت المكان: "إنني في غاية السعادة اليوم، وأخيرًا تقابلنا وجه لوجه. من منكما تُدعى سيلا؟"
سيلا، التي تذكرت هذا الوجه من الصور التي كانت قد نشرتها لهم من قبل، ردّت بغضب: "أنت وغد، حقير وأقذر إنسان رأيته بحياتي!"
أما مي، فقد توترت عيونها بين سيلا والموقف، وسألت بحيرة وتوتر: "مين دا؟ أحنا فين؟"
كانت نظرتها مليئة بالكراهية، وتحاول فك نفسها من القيود، لكنها لم تستطع. فقال لها عندما شاهد قوتها: "أنتِ سيلا إذن."
تحت نظراته الماكرة، ابتسم قائلاً: "هذه أسعد لحظات حياتي الآن، ليس واحدة فقط، بل اثنتين معًا، وأجمل اثنتين لا يشبههما شيء."
ثم أشار إلى مي وقال: "أنتِ ستسافرين معي، وجهك...!" نظر إليها بنظرة خبيثة لجسدها الممشوق والوجه المصري الأصيل: "سأستفيد منكِ كثيرا."
ولكنه أشار إلى سيلا وقال: "أما أنتِ، فسأريحكِ تمامًا من هذه الحياة بعد قليل."
وبعد لحظات من لذة الأنتصار، نادى على أحد رجاله قائلاً: "قم بتجهيز غرفة العمليات حالًا لتلك الصحفية."
أجاب الرجل في طاعة: "أمرك سيدي."
ثم نادى على آخر وقال له: "وخذ هذة إلى الغرفة الأخرى سترافقني."
نُقلت مي إلى غرفة أخرى، وأعادوا تكميم فمها مرة أخرى، وتركوا صمت المكان يحيط بها. ثم أطبقوا الباب خلفهم بإحكام، ليغمرها الظلام ويغلق أمامها كل أمل في الهروب.
تم تجهيز غرفة العمليات، ثم أنهى طبيب التخدير مهمته سريعًا، حيث حقنها في الظهر ليبقيها مستيقظة، ثم غادر الغرفة، تاركًا إياها وحدها في عتمة المصير.
بقلم شروق مصطفى
بينما انطلق أحد الرجال ليبلغ الرئيس بذلك، توجه نحوها في صمت ثقيل، خطواته تزداد ثقلاً وكأنها تحمل ثقل العالم. دنا منها ببطء، ومد يده ليُمسح على رأسها بأصابعه الباردة، كأنه يطفئ فيها أي أمل بالهرب. همس في أذنها بصوت منخفض، مفعم بالرعب، يقشعر له الأبدان: "لا وقت للنوم، جميلتي." ثم تابع، كلماتُه تتناثر كالسكاكين: "أريدكِ مستيقظة لترَي هذا العرض المجاني لما نفعله بهؤلاء الفتيات اللاتي تدافعين عنهما. ولكن هذه المرة، سيكون هناك فرق. ستكونين أنتِ، وأنتِ فقط، مستيقظة. ما رأيكِ؟"
كانت عيناها مفتوحتين، لا تشعر بشيء، جسدها ثابت كالجسد الميت، وكأنها قد غادرت عالمها الواقع إلى عالم آخر. استسلمت تمامًا، فقد فقدت كل مقاومة وكل قوة كانت في جسدها. لكنها، فجأة، خطر ببالها عاصم. نظرت إلى معصمها حيث السوار الذي يذكرها بحمايته لها في تلك اللحظات. كأنها قد نسيته، أو لم تشعر به من قبل، ولم تعرف كيفية أزالته. همست باسمه لأول مرة، بصوت خافت يكاد لا يُسمع: "عاصم... أنت فين؟ تحميني منهم؟"
ثم ابتسمت ابتسامة نصفية، تلك الابتسامة التي تخلط بين الحزن والاعتراف بالواقع. وقالت في نفسها، عندما شعرت أنه لا مفر من الموت المحتوم: "بس أنا كده كده ميتة."
وكأن القدر استمع لندائها ودفع الباب بقدميه بقوة، واندفع نحوها بسرعة كأنما يسابق الزمن، يهتف بصوت يفيض بالقلق: "سيلا! سيلا فوقي!" كان صوته ممتزجًا برجاء لا يعرف الانطفاء، محاولًا أن ينتشلها من غياهب الغياب: "أنتِ قوية، ما تستسلميش! فوقي!"
كلماته كانت كخيط رفيع يمتد بين الحياة والموت، ليعيد إليها وعيها الباهت. فتحت عينيها ببطء، نظرت إليه وكأنها رأت فيه كل ما احتاجته لتتشبث بالحياة من جديد. ألقت بنفسها في أحضانه، هامسة باسمه بصوت بالكاد يُسمع: "عاصم..."
ظلت تختبئ في حضنه، وكأن وجوده هو الأمان الوحيد في هذا العالم الموحش، متجاهلة الألم الذي يحيط بهما. لكنه، وفي خضم تلك اللحظة الحانية، شعر بشيء غريب يكتسح داخله، إحساس لم يعهده من قبل. ضمها أكثر إلى صدره يتأكد من شئ، جسده يرتجف نعم! كما لو أن لمستها أثارت داخله شعورًا عميقًا، شعورًا لم يتذوقه من قبل، وكأنه لأول مرة يعيش لحظة حقيقية.
نظر إلى سيلا، فوجدها قد ارتخت بين يديه، وكأنها انسحبت من العالم مرة أخرى. إلا أن صوت طلق ناري مفاجئ شق صمت الليل، أعاده إلى الواقع بقسوة. انتفض فزعًا، متذكرًا أنه ترك شقيقه وحيدًا في إحدى الغرف بعدما تأكد من سلامة واحدة منهم وذهب لإنقاذها.
اندفع بسرعة، مستخدمًا كاتم الصوت لتصفية من يعترض طريقه، مع باقي أفراد الشرطة الذين وصلوا للتو. وحين وصل إلى الغرفة، توقف الزمن فجأة، وعجزت قدماه عن التقدم خطوة أخرى. أمامه كان شقيقه غارقًا في دمائه، يتنفس بصعوبة، بينما كانت هي تبكي بجواره بانهيار. ظل واقفًا في مكانه، يحاول استجماع نفسه، غير قادر على استيعاب المشهد الذي قلب عالمه رأسًا على عقب.