رواية سدفة ج2 (عن تراض) الفصل الثاني عشر 12 بقلم أيه شاكر


رواية سدفة ج 2 (عن تراض) الفصل الثاني عشر بقلم أيه شاكر

-إنتوا بتستخبوا ورايا ويكأن أنا الأسد اللي فيكوا، أنا أصلًا مبخافش إلا من الكلاب، خصوصاً النوع ده.

قالها عمرو وهو يشير نحو الكلبين المترقبين لإطلاق سراحهما وفردين الأمن اللذين ينتظران إشارة هذا الرجل حاد النظرات...


طالع «بدر» أخيه الذي زم جفونه وابتسم بخبث ثم رفع سبابته إستعدادًا لإعطاء الإشارة، توسل له بدر ألا يفعل وأن يتركهم يرحلون ولكن بإشارة من سبابته، أطلق فردان الأمن سراح الكلبين، فركضا خلف الأربعة واختلط نباحهما مع أصوات صرخات مذعورة سرعان ما كُتمت...


وقف «بدر» مشدوه مما يحدث، ينادي «عمرو» أن يتجه للسيارة لكن سقط المفتاح من يد عمرو من فرط اضطرابه وسرعة ركضه، فركض بدر يأخذه بعدما رشق أخيه بنظرة ثاقبة، فهدر أخوه غاضبًا:

-أيوه روح الحقهم يا روح أمك.


فتح بدر السيارة بأنامل مرتبكة، وهو يهدر:

-إنت... إنت معندكش رحمه!


-بــــــــــــدر! الزم حدودك.

كانت نبرة أخيه المرتفعة الحادة لترعبه في موقف غير هذا، لكنه لم يكن وقت للجدال، وعلى الفور استقل السيارة وانطلق نحو هؤلاء الأربع.


كان عمرو يركض ممسكًا بيد أخيه وتقى تقبض على يد سراب وتركض، حتى تعرقل عامر وسقط، حاول عمرو إعادة اتزان أخيه ليفرا ولكن انقض إحدى الكلبين على عامر وأمسك بسترته...


كان «بدر» قد وصل حيث تقى وسراب فصعدتا للسيارة، في حين حاول عمرو سحب عامر الذي كان يتمسك بطرف السترة والكلب يشد طرفها، فصاح عمرو:

-سيبهاله يا عامر.


خلع عامر حقيبته وأخذ يصوب بها الضـ ـربات للكلب، وهو يخلع سترته فهـ ـجم عليهما الكلب الأخر، انبطح عمرو أرضًا وفوقه كلب يعاركه وكذلك عامر الذي يأس وأدرك أنه سيُعض، لولا طلقتا رصاص مكتومتا الصوت طرحتا الكلبين أرضًا...


اعتدل «عامر» جالسًا يتحسس جسده بفزع، ووثب عمرو يلتفت حوله لمصدر الرصاص مذعورًا، لكن لم يرى أثر لمخلوق، وكان حولهم بعض البنايات العالية فوقف يتأمل أسطحها المعتمة حتى ناداهما بدر فركضا يركبان السيارة...


ركب عامر بالخلف جوار تقى، وكان صوت أنفاسه مرتفعًا، فسألته تقى بلهفة وقلق:

-إوعى يكون الكلب عضك!


هز عامر عنقه عدة مرات نافيًا دون أن يلتفت لها فقد كان مبهوتًا مما حدث فلم ينبس ببنت شفه...


تجلى الاضطراب والهلع عليهم جميعًا، صمتوا ولكن كان داخلهم يضج بالأسئلة...


قال بدر:

-إنتوا لازم ترجعوا بلدكم.


قالت تقى بانفعال:

-أيوه هنرجع أنا خلاص مش عايزه حاجه ومش عايزه أقابل حد. 

قالت سراب:

 -وجدو كارم؟

-معرفش بس أنا عايزه أمشي من هنا.

قالتها تقى بنبرة مختنقة بالعبرات، فتنفس بدر الصعداء وقال:

-هنبات الليله في الأوتيل وبكره ان شاء الله نركب مواصلات ونرجع.


تبادلوا النظرات لوهلة، حتى نطق عمرو:

-نرجع! ليه هو إنت ناوي ترجع معانا؟


أومأ بدر مؤكدًا، وران عليهم صمتٌ مطبق وهناك أسئلة تتلجلج برؤوسهم جميعًا ولم ينطق بها أحد؛ من الذي أطلق الرصاص؟ وما هذا الذي يحدث؟! وماذا عن بدر هل يثقون به أم أنه جاسوس دُس بينهم؟! وما الذي تبحث عنه هند؟ ومن هي هند؟ وهل لها علاقة بأهل تقى وسراب!


انقضى الليل في أرق وقلق، وبعد بزوغ فجر اليوم التالي تجمعوا أمام الفندق، أومأ أحدهم للأخر يحيه ودون كلمة انطلقوا ليستقلوا أول سيارة أجرة متوجهة لديارهم، عائدون بحيرة أشد من حيرتهم السابقة، ولازال حول بدر العديد من علامات الاستفهام، فأخذوا يرمونه بسهام نظراتهم المرتابة التي فطن إليها لكنه يدرك أن معهم كامل الحق...


وفي سيارة الأجرة ركب الثلاث شباب بالمقعد الأمامي وتقى وسراب بالمقعد الذي يليه...

أتى «بدر» اتصال على هاتفه وما أن أجاب تصلبت ملامحه فزعًا، سألاه عمرو وعامر عما به لكنه لم يجبهما وكأنه لم يسمع! وارتجل من السيارة_التي لم تتحرك بعدُ _ راكضًا ومنكبًا على وجهه...


استغربوا تصرفه وركض عامر خلفه لكنه لم يلحق به فقد استقل بدر سيارة واختفى عن ناظرهم...


فعاد عامر يركب السيارة التي اكتملت وانطلقوا لديارهم دون كلام ودن تعبير عن المشاعر المتخبطة والحيرة المتفاقمة، ومر الطريق في صمتٍ ثقيل.

بقلم آيه شاكر 

استغفروا 🌸 

                    ★★★★★

ارتجل «بدر» من سيارة الأجرة أمام ڤيلا ضخمة، كان يسير ببطئ يجر قدميه وكأنهما كصخرٍ ثقيل وحين رآه البواب حياه بأدب وفتح البوابة...


سار بدر مسافة وهو يُطالع مدخل الڤيلا المُزين بورودٍ وأشجار، فهذا بيته الذي تربى فيه وعاش به في كنف أسرته لأعوام...


قطع طُرقة طويلة قبل أن يصل لنافورةٍ زينة محاطةٍ بحوض حجري قبالة باب الڤيلا...


ازدرد لعابه في اضطراب وتنفس الصعداء وهو يدق جرس الباب فقد كان يخشى أهوال القادم.

فتح له الخادم واستقبله بوجه يخلو من التعابير، وهو يصيح بأعلى صوته ليُسمع من بالبيت:

-بدر بيه وصل.

وكأن الخادم نادى العقارب من وكرها فخرجوا تباعًا والتفوا حوله يرشقونه بنظراتٍ حادة وقاسية، أخوه الأكبر وزوجته التي تشبهه تمامًا وأخوه الثاني الذي يشبه الأول في حدته وغلظته وزوجته حادة الملامح والطباع، وعارية الملابس أيضًا، أما الثالث فقد كان باسل وهو أرقهم قلبًا وأرفقهم به، نظر بدر لباسل بأعين تشع خوفًا ووجه له السؤال بنبرة ترتجف:

-ماما فين؟ أمي فين؟


أدمعت عينا باسل وأطرق، بينما صفق الأخ الأكبر بكامل عزمه وصاح بصوتٍ جلجل بالبيت:

-صقفوله يا جماعه، بدر بيه بيدور على ناس عشان يجوا يحرمونا من ميراثنا في جدنا!


قال بدر وهو يضغط على حروف كلماته:

-أمي فين؟


كان يبحث عنها بعينه، تمنى أن تخرج الآن وتضمه وتنصحه كعادتها، تلك التي كانت تقف بوجه إخوته على الدوام، تدافع عنه وتحميه من بطشهم وشرهم وقسوة قلوبهم...


صاح أخوه الثاني ببرود:

-أمك ماتت، خلاص اللي كانت بتحميك مننا ماتت يا بدر، ماتت، البقيه في حياتنا.


لم يبدِ «بدر» أي رد فعل لكنه تخيل حاله يصرخ صرخة هزت أرجاء البيت، وبدلًا عن ذلك أخذ يبحث بالبيت كالمجـ ـنون، فاقترب منه باسل وضمه بحنو وعيناه تمطر بالدموع، فدفعه بدر ليبعده عنه...

بينما كان أخواه يُطالعان ما يحدث بملامح جليدية، وكأنها لم تكن والدتهما! 


أخذه باسل حيث جثمان والدته، فقبلها بدر وجلس قبالتها ساكنًا كالصنم، لا يدري لمَ لا يستطيع البكاء رغم سماعه لنشيج باسل ورؤيته لعبراته الحارة التي تودع والدته، قال بدر بهدوء:

-ماتت ازاي وامته يا باسل أنا مكلمها امبارح الصبح كانت كويسه!


نطق باسل بصوت مختنق ووجه محتقن:

-معرفش يا بدر اتصلوا عليا الصبح وقالولي كده.


-لا يا أمي... أمــــــــــي.

صاح بها بدر بقلبٍ مفتور، كان الحزن يقتات على قلبه، ولكن لم تخرج منه دمعة واحدة لتهدأ عواصف فؤاده.


وعند الظُهر تم تشيع جثمانها ومر عليهما «بدر وباسل» يوم طويل يمكثان بغرفة والدتهما، بدر يضم الغطاء الذي كانت تتدثر به وهو صامت وملامحه ساكنه، أما باسل فكان يبكي وحين يُرهقه البكاء تغفل عيناه وحين يستيقظ يعود للبكاء.


وفي المساء

في قاعة للعزاء جلس بدر جوار باسل بقلبٍ ضائع، ووجه مكفهر، وكان باسل الوحيد الذي يبكي دونًا عن البقية.


مضى الوقت وانتهى العزاء وانصرف المشيعون...


دخل الأربعة إخوة للبيت فقال الأخ الأكبر بجمود:

-رايحين فين؟ سعيكم مشكور يا جماعه خلاص الليله خلصت.


كانت عبارته إشاره منه أن ينصرفوا فقال باسل بانفعال:

-هو إنت بتطردنا من بيتنا؟


هدر الأخ الأكبر:

-بيتنا!!! دا بيتي أنا وعيالي ومراتي، وكل واحد فيكم ليه شقته وفلوسه من ورث أبونا في البنك، إلا بدر ملهوش عندي حاجه عشان يبقا يروح يدور على ناس يشاركونا في ميراثنا من جدنا، خلي بقا جدو ينفعك يا بتاع جدو.


هدر به بدر بانفعالٍ شديد:

-إنت ازاي كده؟ ازاي قاسي كده؟ أمك لسه مفارقانا! وبعدين إنت مش مكفيك الفلوس اللي معاك؟ مش مكفيكوا الشركات والڤلل والفلوس اللي في البنك اللي حرميني منها وأنا ساكت بقول مش مشكله اخواتي ومش هقف قصادهم في المحاكم!


صاح الأخ الأكبر وهو يشير لنفسه بانفعال أشد:

-الفلوس دي أنا اللي عملتها مع أبوك وكون إن أنا أديكوا منها فدا فضل مني يا بدر باشا! وبعدين ما أنا قولتلك تعالي وانا أشغلك في الشركه وبمرتب كويس إنت اللي مرضتش.


قال بدر متهكمًا:

-تشغلني في الشركه! 

زفر ساخرًا وأردف:

-أنا مش زي باسل! وأنا ماشي مش عايز منكم حاجه بس سيبوني في حالي ومحدش ليه دعوه أنا بعمل ايه! 


قال الأخ الثاني:

-إنت عبيط يله! إنت بتحرمنا كلنا من ميراثنا في جدك وجاي تقولنا محدش ليه دعوه بيا!


-والله ربنا يدي لجدي طولة العمر وهو اللي يورثكوا.

قالها بدر ساخرًا وطاف بنظراته في المكان ثم سلط بصره على أخيه الأكبر وقال:

-إنتو ظلمتوني بلعتوا كل حاجه وسرقتوا حقي وأنا مش مسامح، ســــــامعـــــيــــن مش مـــــســـــامـــح. 


صاح الأخ الأكبر:

-بــــــــــــــــــدر! كــــفــــــــــــــــايــــــــــه، إنت طالع لمين إنت مش شبهنا أنا ساعات مببقاش فهمك ولا عارف إنت مين؟


قال بدر:

-أنا زاهد في الدنيا، أنا بخاف ربنا! أنا بفكر مية مره في كل خطوه قبل ما أخطيها هل هي حرام فارجع ولا حلال فأكمل... أنا كده والحمد لله إن أنا كده.


-الشيخ بدر! إيه رأيك نسميك من هنا ورايح الشيخ بدر.

قالها الأخ الثاني متهكمًا وضحكاته تجلل بالبيت، فقال بدر بهدوء:

-طبعًا مش هتفهموني! وهتفهموني ازاي وانتوا أصلًا متعرفوش ربنا! إنتوا ظَلَمْه.

باغتته ضـ ـربة قـ ـوية على ظهره ارتج لها جسده، وكانت من أخيه الأكبر الذي وثب أمامه وأمسكه من تلابيبه وهو يهزه بعنـ ـف هادرًا:

-مش عشان ساكتلك تسوق فيها يَلَه.


حاول بدر التفلت من يد أخيه دون شجار، فهو أخوه الأكبر ولازال يحاول احترامه رغم انفعال كلماته وثورته تلك...

أغلق جفونه ونطق بهدوء:

﴿ لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ۖ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ﴾


هجم عليه أخوه الثاني وهو يقول:

-إنت هتعملنا فيها درويش يَلَه!


أبرحاه ضـ ـربًا، حاول بدر التملص منهما لكنه لم يفلح، وزوجاتهما تراقبان ما يحدث وعلى وجهها تتجول علامات الخبث...


ركض باسل مسرعًا ليفعل شيئًا قبل أن يلفظ أخوه أنفاسه الأخيرة تحت أيديهما، ولكن دفعه أخوه الأكبر ففر باسل مبتعدًا، وفجأة انقطع التيار الكهربائي عن الڤيلا بأكملها، وقد فعلها باسل، فاستطاع «بدر» أن يهرب إلى حيث لا عودة...

سيفر إلى مكان آخر، سيركن إلى تلك العائلة الدافئة التي ارتاح بينهم فلا مكان له بين هؤلاء الذين يمتلكون قلوبًا أشد قسوة من الحجارة، فقد انقطع الخيط الذي كان يربطه بهم وهو والدته، ركض للخارج مستجمعًا ما تبقى من قوته، وخرج من البوابة يحمل بين ضلوعه فؤاده المذبـ ـوح...


وبعدما ركض مسافة وقف باسل قبالته بسيارته وقال:

-اركب يا بدر.


كان الزبد الأحمر يتساقط من فم بدر، وأثر اللكمات واضحًا على وجهه، لم يركب بل حدج باسل بنظرة اخترقته فارتجل باسل من السيارة، وطاف بنظراته على صفحة وجه أخية، ثم ضمه وقال من خلف دموعه:

-آسف يا بدر.


خاطبه بدر بانفعال:

-إنت السبب، إنت حكيتلهم عن رحلتي اللي كلفني بيها جدي، طعـ ـنتني ودلوقتي جاي تطبطب عليا يا باسل.


-آسف.

كررها باسل عدة مرات بندم، وهو يربت على ظهر أخيه، وأخذ يمسح وجه بدر بمنديل ورقي، فتأوه، لذا ابتعد عنه باسل وقال بحنو:

-بص احنا هنعمل ايه! هنروح نسحب الفلوس من الڤيزا بتاعتك قبل ما أخوك يوقفها وهتيجي معايا شقتي، بس يلا قبل ما أخواتك يجوا ورانا...


اضطر بدر للموافقة، واتجه معه ليسحب الأموال كما قال، ووقفا في مكان هادئ بالسيارة، والصمت سيد المكان إلى أن داهمه بدر بسؤال عن هند فأنكر باسل مجددًا معرفته بها...


ابتسم بدر بتفهم وقال بمكر:

-مشكلتك إنك طيب أوي يا باسل ومبتعرفش تكذب ولا تحور زيهم، طيب هسألك سؤال تاني وياريت متحورش عليا...


أخذ بدر يسأله عن «حسين اللبان» وعائلته وشركاته، وأجابه باسل بكل دقة وبكل صراحة عما يعرفه عنه بل لم يُركز في ترتيب كلماته فأفصح بما لا يجب الإفصاح عنه، حين قال:

-اللي أعرفه إن فيه إتنين حسين اللبان، الأول كبير العيله راجل معدي الثمانين سنه، إخواته كلهم ماتوا إلا هو شكله من المعمرين، كان ليه أخ أكبر منه اسمه حسن دا بقا خلف حسين اللبان الصغير عنده فوق الخمسين سنه، وحسين الصغير ده كان ليه أخ أكبر منه بس توفى هو وزوجته بعد ما خلفوا بنت، حسين الصغير ده قاسي وشديد زي عمه كان بيعذب بنت أخوه وبيحبسها، تقريبًا محدش يسمع عنها ومش بتظهر في أي مناسبه، البنت دي اتبهدلت جدًا في حياتها، وشركة المقاولات دي تعتبر صورة هو بيعرف يكسب فلوس بطرق تانيه، قمار بقا وربا وشغل عصابات تاني عقلك ميتخيلهوش، والمشكله إنه بيجبر نرمين تشتغل معاه لكن هي من جواها شخص كويس جدًا، وبنت طيبه بس هو بيجبرها.


-مين نرمين؟

سأله بدر متعجبًا وهو يحدق به مضيقًا جفونه وقد بدأت الرؤيا تتضح، فقال باسل بصدمة:

-مين نرمين! هو أنا قولت نرمين!!!


هنا أدرك باسل أن لسانه قد أقر دون إدراكه، تسائل ماذا لو أغضب ذلك نرمين!! وماذا لو تسبب لها بمشكلة ما مع عمها القاسي!

أحاطه بدر بنظراته المتفرسة، فتذبذبت نظرات باسل وارتبكت حركاته واظطربت أنفاسه، فسأله باسل بتلعثم:

-بـ... بتسأل عن الراجل ده ليه؟


طالعه بدر بنظرات حاذقة، وقال:

-هقولك لما تحكيلي حكاية هند!


أخذ باسل يحرك يديه بارتباك وهو يقول:

-هند مين! أنا معرفش حد بالإسم ده، والله ما أعرف حد بالإسم ده.


صمتا هنيهة وقال بدر بمكر:

-جايز يكون اسمها نرمين مش هند!


اكفهر وجه باسل، أطبق شفتيه وأطرق مرتبكًا، فربت بدر على كتفه وقال:

-شكرًا لمساعدتك يا باسل، أنا هنزل هنا...

-مش هتيجي تبات معايا؟

-لأ، لازم أمشي من هنا أخواتك مش هيسيبوني في حالي، أنا راجع للمكان اللي جيت منه.


ارتجل بدر من السيارة، وتبعه باسل وهو يسأل:

-هتروح عند جدك؟

-هروح بس مش دلوقتي... الأول هدور على ناس شبههي اتدفى وسطهم...


خلع باسل قلنسوة سوداء يرتديها على رأسه وقال:

-طيب خد البس دي على راسك وحاول تداري بها وشك المتبهدل ده.


أخذها بدر وعلى شفتيه لاح شبح ابتسامة باهتةٍ مهزومةٍ ومنكسـ ـرة، قال باسل:

-هبقا أرن عليك، خلي بالك من نفسك.


-وإنت كمان خلي بالك من نفسك ومن... ومن نرمين.


تذبذبت نظرات باسل، فلوح له بدر وابتعد وهو يصيح:

-أتمنى يفضل ليا أخ يسأل عليا مش يراقبني وينقل أخباري، سلام يا أخويا...


غادر بدر وترك باسل يكاد يتجمد مكانه، ينهر نفسه، كيف لم يراقب كلماته بتلك الطريقة؟ تُرى هل سيتسبب بمشكلة لنرمين؟ تلك الفتاة التي أحبها بجنـ ـون ولا يدري لمَ؟

تذكر والدته فلن يراها بعد الآن ولن يشكو لها همومه وكأنها هموم صديقٍ له، فقد حكى لها عن نرمين وكأن صديق له يعاني معها، وكان ردها أن صديقه أبله وأحمق! لو أحبها لانتشلها من عالمها المليء بالسموم والجراثيم وأخذها لمكان أخر تتنفس فيه، ولو كانت الفتاة كما يقول فهي الآن تحتضر وتحتاج لمن يُنعش قلبها، لكنه يقف جوارها ويدعو لها! تذكر نظرتها حين رمقته بفطنةٍ وقالت بكياسة «اذهب وانعش قلبها يا ولدي» وحينها أخذ يقسم بأنه ليس هو بل صديق مقرب فضحكت والدته وقالت ومنذ متى ولديك أصدقاء مقربون يا بني؟


استقل باسل سيارته وهو يبكي على فراق والدته الذي هز كيانه! فقد كان يحب والدته ولم يكره «بدر» أبدًا ربما يحبه أيضًا، لكنه يكره أخويه ويُمقت قسوة قلبيهما.


*******

قد تُحب شخص فتراه لين القلب وإن كان قاسيًا، وقد تمقت أخر فتراه قاسي وإن كان لينًا، ولكن هل يسلك قلبٌ أحبَ الله بصدق طريق القسوة؟! 


اتجه «بدر» لموقف السيارات ليستقل أول سيارة تتجه لبلدة هؤلاء الذين أحبهم ورأى في عائلتهم ونس وراحة ولين فتمنى لو كان فرد منها، أراد أن يكون منهم ومعهم، ويطوي صفحة إخوته تلك للأبد...


قذفت عيناه دمعتين فمسح وجهه دون أن ينتبه له أحد، وطلب رقم جده ليخبره بأخر الأخبار بنبرة ثابتة...

فطلب منه جده أن يذهب إلى حيث تقى وسراب حتى يطمأن عليهما، لم يكن يعلم أنه أخذ قراره بالذهاب إلى هناك قبل تلك المكالمة.


وظل بدر يكبح دموعه ويواري حزنه الشديد الذي يعصف بداخله.

                       ★★★★★

جلست «تقى» بينهن في غرفة بها سريران لوئام وهيام، ببيت والدهما «دياب»، فلولا إصرار شيرين لم تكن لتأتي، فلا تريد لقاء عامر ولا تريد لقاء هاتين الفتاتين رحمة ورغدة أصبحت تمقت رؤيتهم بعدما كانت تراهما بريئتان وتشفق عليهما، ظلت متجهمة الوجه تتجاهل كلامهن جميعًا وسراب تحكي باستفاضة ما حدث في تلك الرحلة العجيبة والغريبة، لم تترك تفصيلة إلا وقالتها، ولم تكن بالمرة الأولى التي تروى سراب القصة بل أخبرتهم بكل شيء حدث منذ يوم وصولهم للبيت...


-ما كفايه بقا يا سراب.

قالتها تقى بضجر، فقالت سراب:

-إيه يا بنتي خليني أحكي يمكن حد يفهم حاجه ويفهمنا.

وقالت شيرين:

-والله حاجه تخوف ولا الراجل اللي طلق عليكم كلابه ده!


كانت رحمه تجلس صامتة، فوجهت لها نداء سؤال:

-وإنتِ يا رحمه البنت المنتقبه دي قابلتك فين واشمعنا إنتِ؟


-مش عارفه، آآ... كنت وقتها قاعده في كافيه بشرب قهوه لوحدي... لوحدي خالص.

قالتها رحمة بارتباك، ودقات قلبها تقرع كالطبول، ربتت وئام على يدها وقالت:

-ربنا يستر والله، خلوا بالكوا من نفسكوا يا بنات.


زفرت سراب بأسى وقالت ببعض اللامبالاة:

-هيحصلنا ايه يعني! سيبيها لله يا أبله وئام...

أخذت سراب تحكي لهن مجددًا عن رحلتهم، فهدرت تقى بنفاذ صبر:

-خلاص بقا لو سمحتِ يا سراب.


ابتلعت سراب باقي كلامها وران عليهم صمتٌ طفيف، قطعته رغده بسؤالها:

-احم هو... هو بدر ده، اللي كان معاكم هيجي تاني ولا طلع من ضمن الأشرار!!


قالت سراب ببعض الشرود:

-بدر! الصراحه مش عارفه، بس شكله محترم.

ثم شهقت سراب وكأنها تذكرت أمر هام فانتبهن لها جميعًا حين أردفت:

-صحيح نسيت أقولكم إنه كان راكب معانا العربية وفجأه نط نزل لما جتله مكالمة، والمشكله عامر بيقول إنه رن عليه كتير مبيردش! والله قلقانه عليه.


أطلقت رغدة تنهيدة يائسة وهي تقول:

-يارب ميكونش شرير، والله باين عليه محترم، يارب يرجع.


لكزتها رحمه فانتبهت رغدة لتحديقهن بها بنظرات تقتر شكًا، فقالت:

-آآ... قصدي يعني يرجع بمعلومه تفيدكم.


رشقتها وئام بنظرة حادة، فأطرقت رغدة، وانخرطن بالحديث حول صالون التجميل الذي ستفتحه سراب «البيوتي سنتر»، حتى طُرق الباب ودخلت هيام التي أشارت لتقى وقالت:

-لو سمحت يا تقى كلمتين بس.


نهضت تقى...


فنهضت رغدة وجلست جوار سراب وسألتها بهمس:

-احكيلي بقا بدر عمل ايه؟

أخذت سراب تحكي مجددًا بينما شردت رحمه فيما أُجبرت على فعله...


نهضت «رحمة» بعدما رمقت سراب بنظرة تشي بالكثير، وكأنها تعتذر لها عما فعلته وستفعله! وخرجت رحمه لتقف بالشرفة وترسل لنادر التسجيل الذي سجلته لحديث سراب كامل...


وبالشرفة كان صوت الأغاني الصاخبة يصدح من بيت سعيدة، فزفاف ابنها في الغد مالت نداء على شيرين وقالت بهمس:

-مش عارفه يا ماما مش مطمنه حاسه إن رحمه فيها حاجه!


أطلقت شيرين تنهيدة وقالت:

-ربنا يسترها يارب.


قالت وئام:

-هي خالتي سعيده هتفضل مشغله أغاني كده طول الليل؟


قالت نداء:

-والله ربنا يهديها الست دي، أهي دي ابتلائنا في الشارع ده.


ظهرت هيام مجددًا وأشارت لوالدتها أن تأتي لأمر هام فنهضت شيرين وتوجهت حيث غرفة المعيشة فقد كانت تقى تقف على الباب تنتظرها لتدخل حيث رجال العائلة يتجمعون، فدياب يريدها بأمر هام...


وما أن دخلتا قال دياب:

-فين الباقين؟ وفين سراب؟


هرولت هيام تناديهن، بينما أطرقت تقى وترقبت، حسنًا ستتوقع الأسوأ حتى إذا حدث لن تتفاجئ كثيرًا....

وبعدما دخل البقية للغرفة، طاف دياب بنظراته عليهم ثم وجه كلامه لتقى:

-فيه موضوع مهم عايز أكلمك فيه يابنتي، ومش عايزك تردي دلوقتي تقدري تفكري براحتك.


أطرقت تقى بحياء، فربما سيطلبها للزواج من عامر! ولكن ماذا عن رحمه ورغدة وكلام بدر عنهما!


ترقبت كلام دياب وأرهفت السمع، وحين طال صمته رفعت رأسها تتفرس ملامحه أيعقل أن يخبرها دياب أنهم سيفصلوا تجارتهم عنهما خوفًا على عائلته بعدما حدث لعمرو وعامر بالقاهرة، ازدردت لعابها وخفق قلبها بشدة وارتعشت يديها، وهي تدعو في سريرتها أن يكون خير فقد أرهقتها الدنيا ومفاجآتها المفجعة، حانت منها التفاتة نحو وجه عامر الذي رنى إليها بنظراته، فأطرقت مرة أخرى وترقبت ما يريد...

                        ★★★★★

وفي شقة نرمين كانت تقطع الردهة جيئة وذهابًا في اضطراب وحيرة، تشققت شفاهها لقلة تناولها للماء والطعام، فلم يرد عليها باسل منذ يوم كامل ولم تفعل شيء إلا البكاء والنواح خاصة بعدما سمعت التسجيل الذي أرسله نادر قبل دقيقتين وعلمت أن تقى وسراب وصلا لحسين، ارتعدت أوصالها...

تخشى أن تعود لعمها أو تحدثه أو أن تفعل أي شيء، ظلت كما هي تبكي وترتعد فرائصها خشية رد فعل عمها، فأخر مقابلة معه حبسها ثلاثة أيام دون طعام، ولم يطلق سراحها إلا بعدما أقسمت أنها ستحل ذلك الأمر بنفسها كما عقدته وها هي الأمور تتعقد أكثر وأكثر...


طلبت رقم باسل مجددًا، فأجاب، ابتهجت وجففت دموعها، وهدرت به:

-كده يا باسل! لا بترد عليا ولا بتسأل وإنت عارف بالمصيبه اللي أنا فيها و...


قاطعتها نبرته المهزومة:

-أنا أمي ماتت يا نيمو...


عُقد لسانها وهوت جالسة ثم قالت بهدوء وبنبرة حزينة:

-البقاء لله.

-ونعم بالله.

قالها بحزن، فصمتت تنصت لصوت أنفاسه وارتشافه لدموعه، مصيبته أشد منها، رغم هول ما هي فيه فحياتها على المحك، قالت:

-إنت كويس؟ أجيلك؟

-لأ خليكِ أنا اللي هجيلك قريب، المهم طمنيني عملتِ ايه؟


صمتت هنيهة، وأخذت تكتم نشيجها عنه، ولكن خرج صوتها مختنق حين قالت:

-أنا مش عارفه أعمل حاجه ولا أوصل للحاجه اللي عمي عايزها، والأدهى إن سراب وصلت لعمي حسين! أنا لو رجعت لعمي هيقـ ـتلني يا باسل.

صمتا وكان يسمع صوت أنفاسها المرتفعة بل شعر برجفتها وخوفها، ودموعها، فباغتها بقول:

-بقولك ايه يا نيمو! متيجي نبعد عن كل الناس دي ونسافر بره مصر.


عقبت بانفعال:

-طيب وفلوسي! حقي اللي مع عمي.


قال بحنو:

-هعوضك.


نهضت واقفة وأخذت تتذكر ماضيها وتقول بحـ ـرقة:

-والظلـ ـم و... والأيام الصعبه اللي أنا عيشتها في بيته!


هدأ ثورتها بصوته الرخيم:

-هنسيهالك بالأيام الحلوه اللي هنعيشها سوا.


صمتت هنيهة وانتظر تعليقها حتى نطقت جملة:

-موافقه يا باسل.


شعرت بابتسامة من نبرته المبتهجة حين قال:

-وأنا بحبك يا نيمو، اجهزي عشان نتجوز، ونرمي كل ده ورا ضهرنا ونمشي.


ارتعش فمها بابتسامة، فكلماته أيقظت لين روحها، فلازال اللين بقلبها وإن تظاهرت بالقسوة والجمود، وباسل كان وسيبقى أملها الوحيد لتنقية روحها من شوائب القسوة التي كادت تسيطر عليها، ولابد وأن لظهوره بحياتها حكمة ما!


والآن حان الوقت الهروب من كل تلك الضغوط، وحان وقت تنقية الشوائب وإعادة الصفاء والنقاء لروحها، بل حان وقت البوح والإعتراف بكل شيء لتقى وسراب في رسالة نصية، أو ربما ورقية، أو ربما تلتقي بهما، وستحكي لباسل كل شيء حين تراه، ستفر من تلك الحياة وذلك العالم المعتم، فسحقًا لحياة تسير فيها على وتر حاد يجرحها إن سارت ويجرحها إن توقفت.

                   ★★★★★★★

-خير يا بابا حضرتك مجمعنا كلنا ليه؟

قالها رائد، فأرسل دياب تنهيدة عميقة وقال:

-تقى وسراب يعتبروا اتنين من العيله، وبالنسبالي هما زي وئام وهيام، اللي يوجعهم بيوجعني واللي يفرحهم بيفرحني. 


قبلت وئام رأس والدها فربت على يدها الحنونه التي أحاطت كتفه وأكمل:

-دا حتى الناس بيعتبروني ولي أمرهم، النهارده وأنا في العطاره جالي أنس، انس دا كان شغال معايا لما كان صغير، دلوقتي ما شاء الله دكتور أطفال ممتاز عنده ٣٠ سنه و... إيه رأيكم في أنس؟


قالها دياب ونظر لرائد فقال رائد:

-أنس شاب محترم ومتدين وأمور ما شاء الله.


أثنى عليه الجميع فالعائلة بأكملها تعرفه، نظر دياب نحو عمرو وعامر الصامتان، فقال عمرو:

-إنسان محترم جدًا وراقي، أنا عن نفسي بحبه.


اومأ عامر مؤكدًا على كلامه وقال:

-أنس شاب مخلص وأحسبه على خير، بس ليه السؤال يا بابا؟


سلط دياب بصره على تقى وصمت هنيهة قبل أن يقول:

-أنس طلب مني إيد تقى.


هب عامر واقفًا وقال بانفعال:

-لا... هو كويس بس أنا عمري ما كنت برتاحله و... وبعدين دا، دا، دا كبير على تقى دا فوق الثلاثين بكتير يا بابا!


حدجه والده بنظرة حادة، فعاد يجلس بعدما رمق تقى بنظرة لو نطقت لتوسلت لها ألا توافق...


قال دياب:

-صلي استخاره يا تقى وردي عليا، ولو عايزه رأيي فإنتِ محتاجه راجل يقف في ظهرك وأنس راجل بمعنى الكلمة.


صمتت تقى وأطرقت بحياء، بينما نظر دياب لسراب وهو يقول:

-وإنتِ يا سراب آآ...

قاطعته:

-لأ لا أنا مش عايزه اتجوز دلوقتي خالص يا عمي.


ضحك دياب وقال:

-كنت هسالك عن البيوتي سنتر بتاعك هتفتحيه إمته؟

-آه... يومين كده ان شاء الله.


بدلت هيام نظرها بين تقى وعامر الذي تجهم وجهه واكفهر، فربتت على كتفه وقالت بخفوت:

-محتاجين نتكلم.


نهض «عامر» وتركهم يتحدثون حول أنس غير آبهين لقلبه المتقد بنار الغيرة والقلق من أن يخسر تقى للأبد، فربما توافق على أنس!

شعر وكان هناك من ينتزع جزءًا منه، أراد أن يصرخ وأن يقول لا هي خاصتي ولكن أنى له هذا! فلا يوجد إثبات أنها خاصته.


رأته تقى وهو يدخل لغرفته وتتبعه هيام ثم عمرو، فنهضت هي الأخرى وعادت لشقتها، نزعت حجابها وكأنها تعاركه وانخرطت في بكاء مرير وسراب تتابعها وتحاول تهدئتها، لكنها انهارت وصارت تبكي ولا أحد يسمع صياح قلبها المكتظ بالمواجد، تعلم أنها تحتاج لمن يطمئنها ويشعرها بالأمان؟ لمن يربت على فؤادها المكلوم أثر اختفاء والدها وكأنه تبخر، ومنْ يسكن ألم قلبها المكسـ ـور بعدما رأته بالقاهره، تحتاج لمن يأخذ بيدها لتصل لطريق آمن تسير به بعيد عن كل تلك الضغوط التي تنزح تحتها.


لكنها على يقين تام أنها لا تحتاج للبشر، فرب البرية يراها ويسمعها وسينقذها من شدتها بكل تأكيد، ستصلي وتشكو له، ستطرح مخاوفها بسجدة طويلة علها تتناثر فترقى روحها...

                        ★★★★

جلس«عامر» قبالة أخته «هيام» صامت شارد، يسمع حوارها مع عمرو ولكن لا يفقه لكلماتهما معنى، كان قلبه معلقًا عندها، يريدها ولكن... ليس الآن! كادت نيران الغضب تحـ ـرق فؤاده، كيف يفكر بها رجل غيره؟! فلن يتحمل أن تكون تقى لغيره، يريدها له وحده ولكن... ليس الآن!


-ما إنت يا عامر غلطان برده! يعني على الأقل اطلبها للجواز، اخطبها، إنما إنت متوقع ايه يعني! أكيد هيتقدملها ناس.


انتبه حين قالها عمرو الذي يقف عاقدًا ذراعيه أمام صدره، يتابع حركات وسكنات أخيه الذي نطق باقتضاب:

-واختراعي!


قال عمرو:

-يا عم الحج دا ماله ومال اختراعك! اتجوز يا عم على الأقل هتكون ليك شقه تعمل فيها اختراعاتك بعيد عننا! وهتعرف تركز، إنما شاطر تمسك شريط أحمر تبص عليه وتحب فيه زي المراهقين!


صمت عامر هنيهة قبل أن ينطق:

-أنا خايف من الجواز! وفي نفس الوقت عايزها حد فاهمني؟


قالت هيام:

-فهماك لكن مفيش مبرر للخوف... إنت ما شاء الله عليك يا عامر تقدر تفتح بيت ويكون ليك أسره.


نهض واقفًا وقال بحزن:

-مش عارف، أنا عندي وسواس بيقولي إني مش هتجوزها أبدًا لأني معملتش أي حاجه اتمنيتها، كل حاجه بتتفرض عليا، الكليه دخلتها عشان التنسيق، والشغل اشتغلته عشان لازم أشتغل، وحتى الجواز عمي ضياء فرض علينا رحمه ورغدة.


-سيبك من عمك ضياء ورحمه ورغده، محدش بيتجوز بالعافيه، واحنا هنرفض رغدة ورحمه أصلًا...

قالها عمرو، فحدق عامر ثم تنهد وقال:

-طيب افرضوا تقى وافقت على أنس؟ 


قال عمرو بثقة:

-مش هتوافق، وإن وافقت ياسيدي سيب أنس عليا أنا هطفشه، بس إنت لازم تاخد خطوه بجد، لأن لو مشي أنس هيجي غيره.


جلس عامر جوار هيام التي احتضنت كتفيه وقالت وهي توقع كلماتها بابتسامة:

-مفيش مبرر للخوف، ولا للتأجيل وأنا شايفه إنكم لايقين على بعض، وهي كمان عندها مشاعر ناحيتك.


قال عامر باضطراب:

-طيب، سيبوني أفكر.


-لسه هيقولك أفكر ومفكرش!

قالها عمرو ساخرًا ثم خرج من الغرفة وترك الباب نصف مفتوح، فنهضت هيام واقفة وقالت:

-خد وقتك يا عامر بس أنجز.


أطلت وئام برأسها من فتحة الباب وقالت بمرح:

-هو إيه اللي بيحصل بقا يا ولاه! 


أطرق عامر ولم يرد، فداعبت وئام وجنتيه وهي تقول:

-عموري كبر يا ناس وبقا بيغير...

ضحكت ونظرت لهيام المبتسمة، وقالت:

-شامة يا بت يا هيام؟ 

أطل «رائد» برأسه من باب الغرفة وقال:

-ريحة الحب بتهفهف في المكان.


ظهرت نداء خلف رائد وتبعتهم شيرين، ثم عمرو، فبدل عامر نظراته بينهم، هل كان مكشوفًا لتلك الدرجة؟ العائلة بأكملها تعلم بمكنون قلبه!


استنشقت نداء الهواء وقالت:

-أنا شامه ريحة شياط يا جماعه! 


قالت وئام متخابثة:

-أكيد الريحه دي طالعه من عامر، غيران بقا!


استنشقت شيرين رأس عامر وهي تقول:

-فيه ريحة شياط بجد يا ولاد.


وثبت وئام وهي تقول:

-يا نهار أبيض الرز، كنت بعمل رز للعيال.

ضحكوا جميعًا، فشاركهم عامر وهو يبدل نظراته بينهم، فما أجمل عائلته! دافئة حنونة، تضيء قلوبهم ووجوههم بنور الإيمان...

أشخاص لا يتخيل حياته دونهم، خففوا عنه بمداعباتهم اللطيفة وسخريتهم الطريفة، فخرج من حالته وأخذ يضحك معهم...

مسحوا على صدره بماء حكاويهم فبرد لهيبه وسكن، فالعائلة هي السكن وهي الوطن.

ما كان الوطن وطنًا إلا بوجود العائلة، تلك التي لن تشعر بالغربه أبدًا ما دمت بينهم.

استغفروا🌸

                      ★★★★★

وصل «بدر» للشارع الساجي، نظر لساعة يده التي أشارت للثانية بعد منتصف الليل، أين سيذهب الآن؟ هل سيجد أحد مستيقظ من أفراد العائلة، خجل أن يدق بابهم في هذا الوقت المتأخر، فجلس على الدرج قبالة المسجد الذي كان مغلقًا هو الأخر، شد من معطفه وقرر أن ينتظر عدة ساعات حتى يُفتح المسجد لصلاة الفجر، أو ربما يفتحه أحدهم قبلها...


عاد للخلف ليستند برأسه على باب المسجد ولازال هناك غصة تتلوى بصدرة، هناك ألم داخل قلبه، وكأن ثمة عاصفة من الرياح تدور بصدره حتى كادت تخلع أضلعه...


تمنى لو بكى كما فعل باسل، لاشك أن تلك العاصفة العنـ ـيفة لن تهدأ دون أمطار! يحتاج أن يبكي...


البكاء ينقي الروح ويُهدئ العواصف كما ينقى المطر أجواء الشتاء ويُهدأ رياحه العاصفة، فالنفس ترعد والقلب يبرق والعين تهطل بالدموع، الأمر أشبه بثـ ـورة كبيرة لابد عنها حتى تهدأ الروح وتسكن العواصف فتشرق الشمس من جديد.


نهض واقفًا يلتفت حوله بحثًا عن أي أحد يرتمي بأحضانه ويبكي، لكنه لم يجد فعاد يجلس وسند رأسه على باب المسجد وأغلق جفونه، فجذبه النوم...

                     *********

وقبل الفجر بساعة خرج «يحيى» متوجهًا للمسجد فمعه مفتاحه، وقد أخذه من العامل ليصلي القيام قبل أن يرفع آذان الفجر، فزوجته وأبناءه عند دياب، والشقة دونهم بلا حياة لذا خرج مبكرًا...


وحين وصل أمام المسجد وجد شاب يجلس على بابه! حزن داخله لأنهم أصبحوا يغلقون المساجد دبر كل صلاة! 


اقترب من الشاب، وما أن تبين ملامحه، ووجهه المكلل بالكدمات، نادى وهو يهزه برفق:

-بدر... بدر.


انتفض بدر، ووضع ذراعه أمام وجهه وكأنه يتفادى الضـ ـرب، فأمسك يحيى بذراعه وقال:

-إيه يا حبيبي اللي منيمك كده؟ وإيه اللي في وشك ده.


حدق بدر بعيني يحيى للحظات ثم نطق:

-أمي ماتت و... وأخواتي آآ...


ترققت عيناه بالدموع، حسنًا! سسيصطك غمام حزنه وستمطر عيناه الآن سيقذف ما بداخله من آهات خلال نشيجه المرتفع... سيبكي عله يرتاح.


انهـ ـار أمام يحيى الذي أخذه لداخل المسجد، وظل يربت على صدره المتألم بكلماته الحنونة، ظل جواره حتى أفرغ طاقته السلبية بالبكاء وهدأت نفسه، فقال يحيى:

-تصلي قيام معايا؟


أومأ بدر ونهض معه، يجر معه كل آلامه...

 لم يسأله يحيى عن أي شيء، فقط ساعده ليتوضأ ووقفا يصليان معًا في خشوع كامل، قرأ يحيى (سورة مريم)، وكالعادة ارتعش صوته عندما قرأ:

-يا يحيى خذ الكتاب بقوة...  


وأخذ يكررها كثيرًا ثم بكي وأكمل الآية وركع ثم سجد ودعى لوالديه، فقد علق والديه قلبه بالقرآن، فأصبح ينفس القرآن...


رفع «يحيى» أذان الفجر وتوافد المصلون واستوو للصلاة كالبنيان المرصوص، وبعد الانتهاء، استند بدر على إحدى الأعمده فرآه عمرو وعامر وأقبلا إليه، تصفحا وجهه وسألاه عما حدث، والتف حوله رجال العائلة «يحيى ودياب ورائد ومحمد»، اصطك غمام الحزن داخله مرة أخرى فأمطرت عيناه، ولأول مرة يضمه عمرو بقلق ولهفة، بينما كانت شهقات بدر مرتفعة وهو يقول بحشرجة:

-أنا مش وحش والله يا عمرو، أنا مش زيهم، أنا مش وحش عشان تخاف مني للدرجه دي، أنا مش زيهم... والله ما في نيتي حاجه ليكم.


ظل يبكي بين ذراعي عمرو بينما حاوطهما باقي الرجال وهم يطالعون بدر بشفقة، وقلق من القادم، همس لهم يحيى:

-بيقول والدته توفت، وتقريبًا اخواته ضـ ـربوه أو حاجه!


وبعد فترة هدأ بدر، وطاف بنظراته على وجوههم ثم قال:

-هو أنا عشان أكون من العيله بتاعتكوا أعمل ايه؟ معندكش بنت يا عمي دياب تجوزهالي؟


ابتسموا جميعًا وقال دياب:

-والله يابني عيالي كلهم متجوزين حتى بنت رائد لسه صغيره، كنت جوزتهالك.


ضـ ـربه عمرو بلطف وقال:

-شوف الواد بيفكر في الجواز واحنا كنا هنموت من القلق عليه!


افتر ثغر بدر بابتسامة باهتة، وقال بسخرية:

-دا أنا أخدت علقه مأخدهاش حمار! 


قال عامر:

-احكيلنا ايه اللي حصل؟! أخوك ضـ ـربك بسببنا!

-لأ مش إنتوا خالص... هحكيلكم بالتفصيل.

قالها بدر وأخذ يقص عليهم ما حدث، ثم خرجوا من المسجد...


حاوط عامر كتفي بدر وقال:

-مع إني واخد على خاطري منك ياسي المهندس!

-ليه؟

-بقا تقول قدام تقى عن موضوع رغده ورحمه؟

-والله بعد ما قولت أدركت إني غـ ـبي!

-لا لا لا متقولش على نفسك كده! معقوله إنت غبي! إنت عبيـ ـط يا غالي.


أخذ يحيى بدر معه ليرتاح بالبيت، إلى أن يرتفع النهار ويعود للشقة ببيت سراب وتقى وذهب كلٌ لبيته...

                        ★★★★★

وفي فجر هذا اليوم 

قررت تقى أن تنغمس بعملها، فهي مصممة ملابس رائعة، كما أنها ستشرع في تصميم ثوب زفاف جديد طرأت لها فكرته مؤخرًا.


قررت سراب أن تبدأ بعملها الجديد في صالون التجميل النسائي، وتعلن عن نفسها في كل مكان، وقررت أن تسميه «عن تراضٍ» ليلحق بمحلاتهم ومصنعهم.


قررتا ألا تذهبان مجددًا لوكر العقارب، فهما فتاتان وقد حذرهما كارم من فعلها وستسمعان النصيحة، فقد كانت كل منهما تخشى على الأخرى من بطش هؤلاء المجهولين، لذا قررتا أن تعيشان هنا بين عائلة دياب إلى أجل غير مسمى...


أشرقت شمس الصباح...

كانت أصوات الزغاريد تنبعث من بيت سعيدة، تلاها صوت أغاني صاخبة مجددًا من طليعة النهار، أخذت سراب تتراقص بالشقة على صوت تلك المعازف وهي ترتدي ملابسها لتخرج للعمل، طفقت تصفق وجذبت تقى من يدها لتشاركها الرقص، فجذبت تقى يدها بضجر، صفقت سراب وقالت بمرح:

-يا بت ارقصي محدش واخد منها حاجه، هو كل يوم فيه فرح في الشارع!


ظلت سراب تدور بالشقة فضحكت تقى وانتقل إليها جنـ ـان سراب فأخذت تفعل مثلها، تهز جسدها وهي تنتعل حذائها لتخرجان من البيت، توقفت الأغاني لكنهما لم تتوقفا عن الرقص والغناء، والضحك، حتى قالت سراب:

-كفايه بجد، احنا اتهبلنا ولا ايه!

ضحكت تقى وقالت:

-أحيانًا الإنسان بيحتاج جرعة من الهبل اللي احنا بنعمله ده عشان يكمل حياته.


فتحت سراب البيت وخرجتا ولازال أثر الضحك عالقًا بوجههما...


وتزامن خروجهما من بيتهما خروج رحمة ورغدة من البيت، فتأففت تقى ممتعضة وهي تتجه نحوهما، فقالت سراب:

-أولًا البنتين ملهمش ذنب، ثانيًا عمرو وعامر مش هيتجوزوهم أنا سألت أبله هيام وقالت إنهم رافضين بس معلقين الحوار ده عشان ميزعلوش عمهم ضياء، وعامر قلبه مع حد تاني.


قالتها سراب متخابثة، وفطنت تقى لنظراتها، فكبحت ابتسامة حاولت شق ثغرها لكنها ظهرت بعينيها، وأضافت سراب بمكر:

-عارفه أنا لو منك أقبل أنس، يعني أعمل نفسي قابله عشان الأخ يتلحلح شويه.


وصلتا عند رحمه ورغدة، اللتين ابتسمتا، وسلمتا عليهما وقبل أن يتحركن، تناهى لسمعهن صوت عامر:

-تقى!

 

همست لها سراب بمكر:

-يعني لا نادى وقال سراب ولا قال رحمه ولا رغده، ها تحبي نسبقك؟


جذبتها تقى من ذراعها لتقف، ووقف جميعهمن ينتظرن عامر، الذي حياهن فور وصوله، ثم قال:

-عرفتوا إن بدر رجع؟


-بجد!

قالتها رغده ببهجة، لكن تجاهلها عامر فقد كان يصب كل تركيزه مع تقى، أراد قول شيء أخر، ولكن...


-كنت عايز مفتاح الشقه عشان هيسكن فيها بدر.

قالها بارتباك، فأخرجت تقى المفتاح وقالت:

-ماشي اتفضل يا عامر.


سألته سراب:

-بس هو بدر كان فين؟

انتبهت رغدة وأرهفت السمع، فقال عامر:

-دي حكاية طويله، بعدين بقا أقولكوا.

-طيب ما تقول دلوقتي؟

قالتها رغدة بابتسامة، فتجاهلها عامر للمرة الثانية وولى ظهره مدبرًا ومتوجهًا لبيته، بعدما لوح لتقى فنادته تقى:

-عامر...


توقف مكانه لبرهة قبل أن يلتفت مترقبًا لكلماتها، فاتجهت إليه، بينما صرفت سراب رغده ورحمه، ووقفت تنتظر تقى أن تعود إليها...


قالت تقى:

-أنا صليت استخارة و... وبلغ عمي دياب إني... موافقه أقعد مع العريس.


ورغم ضيقه الشديد وحنقه بعد وقع كلماتها عليه، هز كتفيه بلامبالاة زائفة وقال:

-طيب وأنا مالي بلغيه بنفسك.


ولاها ظهره وسار مسافة وسارت هي أيضًا نحو سراب وهي تلتفت خلفها ثلاث مرات، ولم يلتفت أبدًا فقد كان يصر على أسنانه بغيظ شديد وبعدما وصلت لسراب التفت فجأة وناداها وهرول مقبلًا إليها وعادت هي الأخرى خطوات لتقابله حتى وقفت قبالته مترقبة، أخرج من جيبه الشريط الأحمر، وأعطاه لها فأخذته باستغراب وخفق قلبها فزعًا، تسائلت هل هي إشارة منه بانتهاء كل شيء...


فاجأها حين قال بعصبية وتجهم:

-إنتِ مش هتقعدي مع حد غيري، فاهمه؟ لا أنس ولا غيره... إيه القرف ده على الصبح.

رماها بتلك الكلمات ثم عاد للبيت مغمغمًا بضجر، فاحتقن وجهها بالد**ماء، وأطبقت يدها على فمها، فرنت إليها سراب وسألتها:

-إيه اللي حصل؟

-قالي مش هتقعدي مع حد غيري!

لوحت سراب بقبضة يدها في الهواء بسعادة، وضحكت ثم قالت:

-عارفه يا تقى أنا حاسه إن كل حاجه هتتحل قريب...


-يارب والله يا سراب.


-طيب عارفه كمان رغم كل حاجه بتحصل حولينا أنا فرحانه ومرتاحه وقلبي فيه سكينة كده غريبة، والنهارده حاسه إن فيه حاجه حلوه أوي هتحصل...


كانتا تتحدثان فلم تنتبها أنهما دخلتا لشارعٍ خاطئ، وأثار انتباه تقى رحمه التي تقف بمفردها في زاوية بعيدة وتلتفت يمنة ويسرة باضطراب، قالت تقى:

-هي البنت دي مش كانت ماشيه مع أختها دلوقتي؟

-ما اللي أنا أعرفه إنهم مش بيروحوا كل الدروس مع بعض، بس هي مالها مرتبكه كده!


وقفتا تراقبانها حتى وقفت قبالتها سيارة فابتسمت رحمة وصعدت إليها، نطقتا في آن واحد:

-دا نادر؟!!!


نظرتا لبعضهما ثم قالت سراب:

-وهي مالها ومال نادر!


صمتت سراب هنيهة ثم قالت:

-روحي إنتِ شغلك، وأنا هعمل حاجه...


همت سراب أن تغادر، فنادتها تقى:

-رايحه فين! فهميني!


لم تجبها سراب وهرولت مبتعدة عنها، فوقفت تقى حائرة تخاطب نفسها:

-هتعمل ايه المجـ ـنونه دي! هو احنا ناقصين!

الفصل الثالث عشر من هنا

تعليقات



×