![]() |
رواية سدفة ج 2 (عن تراض) الفصل الرابع عشر بقلم أيه شاكر
-حضرتك تعرفني؟
-طبعًا هو فيه حد ميعرفش بنته حبيبته! أنا بابا، حسين اللبان...
ازدردت لعابها باضطراب ومادت الأرض تحت قدميها، تحول عقلها لصفحة بيضاء، فهذا هو القاسي الذي حذرها منه عمرو، مر بمخيلتها الكثير من المشاهد، هل سيأخذها عنـ ـوة، هل سيخطفها الآن؟ هل سيذيقها من العذاب ألوانًا لم ترَ مثلها...
باغتها حسين حين جذبها لأحضانه فصرخت ودفعته، عاد حسين للخلف خطوتين، وهو يرشقها بنظرةٍ ثاقبة اخترقتها، وقد بدا متذمرًا مما فعلت!
ارتفعت حرارة جسدها فجأة، وكأن أحضانه كانت متلهبة فأضرمت النار بجسدها، ظلت متخشبة مكانها وتبادلا النظرات، كانت ساخطة، مصدومة ومروعه كذلك! عادت للخلف بظهرها ثم ركضت للداخل، والأسئلة تتلجلج بداخلها...
من هو؟ شخص لا تعرف عنه إلا اسمه، يُقال أنه والدها الذي لم تسمع إلا عن غلظته وقسوة قلبه، ظهر فجأة! لماذا؟ ماذا يريد؟
قابلتها «نداء» التي سمعت صراخها، تفحصتها بنظرة سريعة، وهي تسألها:
-فيه ايه؟!
أشارت «سراب» للخارج وهي مبهوتة ودون أن تلتفت، زحفت «نداء» بنظراتها نحو الباب، فاصطدمت بعمرو الذي ولج وألقى السلام، زجرته نداء:
-إنت مش هتبطل حركاتك دي يا عمرو؟ مزعل سراب ليه؟
-أنا مزعلها؟
قالها عمرو وهو يشير لنفسه رافعًا إحدى حاجبيه بتبرم، طالع سراب التي توليه ظهرها دون التفاف أو حركة، وأضاف:
-دا أنا لساني مخاطبش لسانها بقالي إسبوع.
لم تكترث سراب لكلماته، التفتت في سرعة، تطالع الباب، أين ذهب حسين؟ لا ترى له أثر...
خرجت من المكان مهرولة، ووقفت تتلفت يمنة ويسره، أمامها وخلفها وقلبها يدق كالطبول التي تنذر بحـ ـرب وشيكة و... اختفى!! لا أثر له وكأنه تلاشى في الهواء! هل كانت تتخيل؟ لا لا لم تُجن بعدُ، لازال عقلها يزن كل شيء، لم تكن تتخيل، كان هنا! ضمها ولازالت رائحة عطره عالقة بأنفها، أجل! كان هنا بالطبع، هي على يقين...
سارت خطوتين وأخذت تتفرس وجوه المارة حولها، وتنظر داخل السيارات، ولا أثر له!
لم تنتبه من انفعالها إلا على صوت سائق سيارة أجرة يهدر بها:
-بصي قدامك يابنتي، إنتِ ماشيه في نص الشارع؟
تبادل «عمرو» و«نداء» النظرات ونادها عمرو وهو يشير لها أن تأتي وأن تدخل للصالة الرياضية، فانصاعت لأمره وسارت نحوه وهي تلتفت خلفها بعد كل خطوة، حتى اصطدمت بعمود إضاءة، فعاركته هاتفة:
-إيه اللي جابك؟ جاي هنا ليه؟
أخذت تسدد له اللكمات، وهي تتخيل حسين! لكمته كثيرًا غير آبهة بألم يدها فقد كان ألم قلبها أشد...
-إنتِ بتعملي ايه يا سراب؟
هدر بها عمرو بينما جذبتها «نداء» من ذراعها وحاولت تهدئتها، وأخذ عمرو يسألها عمَ أصابها؟ وكانت مشدوهة، ترى حركة فمهما بالكلام لكنها لا تنصت لأي كلمة مما يقولان!
-فيه ايه يا سراب؟
قالها عمرو وهو يضغط على حروف كلماته، ويمشط وجهها بنظراته متفحصًا ملامحها المذعورة، واصفرار وجهها، وسرعة تنفسها وكأنها تختنق! وبالفعل كانت تختنق، ويعصر القلق قلبها عصرًا، سألها عمرو للمرة الثالثة وهو يوقع كلماته بلهفة شديدة:
-مالك يا سراب؟
لاذت بفقاعة من الصمت، حاول عمرو جذبها منها بتكرار سؤاله عما يحدث معها؟ ونداء تسأله هل هو سبب حالتها تلك، وهو ينفى ويقسم أنه لا يفهم ما بها؟
هبت سراب واقفة فجاة، ووضعت يدها على قلبها وأخذت تدور بالمكان كما تدور التساؤلات والأفكار داخلها، لن تنهـ ـار، هي قـ ـوية، والله سبحانه لن يضعها داخل اختبار مثل هذا إلا إذا كانت أهلًا لتحمله...
ظلت تُطمئن نفسها متجاهلة كل من عمرو ونداء اللذان يدوران معها، ثم التفتت لهما ونطقت بلهفة عارمة:
-تقى!؟ ممكن يروح لتقى؟
كررت اسم تقى بلهفة وقلق ونبرة مختنقة بالدموع التي لم تُطلق سراحها...
وقف عمرو قبالتها وفتح كلتا ذراعيه يحثها على التوقف عن الدوان، وقال بنفاذ صبر:
-بس بقا اقفي! اهدي واحكيلي، إيه اللي حصل؟ احنا جنبك، اهدي، وتقى مش لوحدها، هناك هيام ومحمد معاها، محدش هيقدر يقربلها...
تنفست عميقًا ونظراتها عالقة بعينيه، تنفست وتنفست وكأن أنفاسها حُبست لفترة داخل صدرها، وهو يومئ لها ويشير بيديه أن تهدأ، فجلست على المقعد، ونظراتها تتذبذب بتوجس، قبضت بيدها على طرف الطاولة الخشبية؛ لتكبح جماح مشاعرها المتأججة، أخرجت هاتفها من حقيبتها وطلبت رقم تقى، سألتها عن حالها بكل هدوء ورصانه، ثم قالت:
-متخرجيش من المصنع إلا لما أجيلك.
نفد صبر «عمرو»، فقد ألح كثيرًا ليعرف ما بها لكنها لم تخبرهما حتى الآن، مما دفعه للجلوس قبالتها محاولًا تمالك نفسه وقال:
-انطقي يا سراب الله يهدينا ويهديكِ في إيه؟
قالت بحشرجة:
-حسين اللبان!
حمحمت لتجلي حلقها ثم رفعت عينيها ونظرت بعيني نداء، وأكملت بهلع ظهر بنبرتها الخافتة:
-كان هنا! حضنني! أنا شوفته! وشميت ريحته.
طرق عمرو على الطاولة بغضبٍ جامح، وقال:
-مش هيسكتوا! كنت حاسس إنه هيجي! كنت مستنيه.
عاد يجلس قبالتها وقال بملامح تتقد غضبًا:
-متخافيش يا سراب، إن حاول يمس شعره منك أو من تقى أنا... أنا هنسفه من على وش الأرض...
-أنا مش خايفه على نفسي، أنا خايفه عليكوا كلكم، أنا مش مهم بس مش هقدر أستحمل تقى يحصلها حاجه! أو إنت أو عامر أو عمو رائد أو... أو أي حد، لو عايزني أنا هروحله بس...
قالتها نداء بنبرة ترتجف، وصدرها يعلو ويهبط بانفعال مع كل كلمة، قاطعها عمرو الذي كان أشد انفعال منها:
-تروحي فين؟ محدش هيقدر يقرب منك ولا من تقى...
وكانت «نداء» تنصت للحوار بترقب وفي صمت، وقد تسرب الخوف لقلبها رويدًا رويدًا حتى امتلئت غرفاته وفاضت، حتى وصلت أطراف جسدها فاختلجت... الآن الجميع في خطر! ويجب توخي الحذر في كل خطوة!
حملت سراب حقيبتها، ونهضت بعدما أخبرتهما أنها ستذهب لتقى، فخاطب عمرو نداء:
-معلش ممكن تقعدي شويه وتبلغي اللي هيجوا إن ميعادنا العشا؟
أومأت نداء التي كانت تتظاهر بالثبات لكنها ترتعد من الداخل، حملت هاتفها بأيدٍ مرتعشة وطلبت رقم رائد لتخبره عما يحدث، عله يطمئنها ويعانق قلبها المضطرب بكلماته...
تبع عمرو سراب وحاول التحدث معها، حاول إخراج الكلمات منها لكنها لم تخرج من صمتها كانت تهز رأسها فحسب، شعر بخوفها ولكن ماذا سيفعل؟
ركبا سيارة أجرة معًا، ومر الطريق في صمتٍ ثقيل، كان عمرو يركب جوار السائق، ويلتفت بين فينة وأخرى ليطمئن عليها...
لم تكن سراب في حالة طبيعية، كانت معدتها تتقلص، وكلما تذكرت رائحة عطر حسين شعرت برغبة عارمة في التقيؤ...
حاولت جاهدة كبح جماح نفسها، حتى ارتجلت من السيارة، أطبقت يدها على فمها وحاولت التماسك ولكن... انحنت وكان جسدها بأكمله يرتج وكأنها ستتقيأ لكن لم يخرج من فمها شيء، وكأنها كتمت آهاتها فلم يستطع جسدها التحمل فثار بتلك الطريقة...
سقطت حقيبتها فأخذها عمرو ونادى فرد الأمن طالبًا منه أن ينادي أخته هيام على وجه السرعه...
استغفروا 🌸
★★★★★
جلست «تقى» على مكتبها شاردة، شعرت بصوت سراب المضطرب عبر الهاتف ولو لم تفصح لها عما بجعبتها...
أخذت حبة دواء لتسكن آلام رأسها وكان الإرهاق يتجلى على ملامح وجهها وتلك الهالة التي تكونت حول عينيها تشى بمدى تعبها، فقد جافاها الكرى، وكيف يأتيها؟ فرغم تظاهُرها بالثبات إلا أن اختفاء والدها ترك داخلها خاويًا، وفؤادها فارغًا، تتصلب أمام الجميع وتُقنع حالها أنها بخير لكنها ليست كذلك...
كان عامر هو السنا الذي تسلل لحياتها المعتمة، فقد أفصح أمام الجميع أنه يريد الزواج منها، لم تعطه الرد بعدُ، وقررت ألا تعطيه ردًا الآن، أقنعته بتأجيل الأمر وكان يكفيه أن يعلم جميع العائلة، حتى الشارع بأسره أن تقى لعامر وعامر لتقى مهما طال الدهر...
مدت بصرها والتقطت نظراتها فستان الزفاف الأبيض الذي صنعته بيدها، كان جميلًا بل رائعًا، واسع وفضفاض كما تهوى، مزين من عند الرقبة والكتفين والمعصمين بفصوص لامعة تشبه الألماس، تخيلت حالها ترتديه، وبالفعل ستأخذه معها للبيت، فهذا الفستان لن يخرج إلا لها أو لسراب!
أرسلت تنهيدة طويلة، كيف تفرح أو تتزوج أو تعيش أو حتى تتنفس ووالدها لا خبر عنه! عليها الانتظار لفترة أطول فقد يظهر، ولكن إلى متى؟
مسحت وجهها الذي أغرقته الدموع، وأخذت تلهج بالدعوات التي لم تيأس منها أبدًا، ففي كل وقت وفي كل حين، تدعو أن يعود والدها وأن تستقر حياتها، أن تضيء عتمتها، وتعود أرض قلبها القاحلة للحياة وتُزهر من جديد...
شعرت بحركة غريبة بالخارج فوثبت من جلستها وهرولت وهي تسمع صوت هيام تخاطب أربعة فتيات يحملن أحد ما!
-ســــــــــــــراب.
نطقت بها تقى وهي تعدو نحو سراب التي كانت شبه واعية...
وبعد فترة انتبهت سراب كُليًا، بعدما أجبرها عمرو أن تشرب علبتين من العصير، فقد انخفض ضغطها فجأة...
هدرت بها تقى:
-عشان مش بتاكلي كويس يا سراب! والله ما هسيبك بعد كده وهأكلك بالعافيه.
نطقت سراب بنبرة خافتة ومرهقة:
-أنا كويسه...
انحنى عمرو لمستواها وفتح علية أخرى من العصير، فرمقته بنظرة استردتها سريعًا، ولاح شبح ابتسامة على شفتيها وهي تقول:
-إنت عارف العلبه دي فيها كم سُعر حراري؟
-ارحمي نفسك، وكلي زي الناس، يا شيخه حسبي الله... وقعتي قلوبنا...
قالها عمرو وانتصب واقفًا فربت محمد على كتفه وقال:
-يلا هوصلكم للبيت...
قالت هيام:
-ناخدك مستشفى الأول يا سراب؟
نهضت سراب واقفة لتطمئنهم أنها بخير، وأخذت تعدل ملابسها وهي تقول:
-أنا كويسه والله.
انتبه عمرو أن حقيبتها لازالت بيده حين مدت يدها وجذبتها منه برفق، وشاكسته حين قالت بابتسامة:
-هات يا عم، احنا أخر مره وثقنا في حد نشل الشنط باللي فيها.
وميض ابتسامتها لم يدم طويلًا، انطفأ وانطفات معه ملامحها، لكنها لم تبكِ...
أشاح عمرو بصره عنها وقلبه معلقًا بها، وبحالتها...
-خلاص هي بقت كويسه، يلا يا شباب أوصلكم.
قالها محمد، وخرج الجميع متوجهين للبيت وأصر عمرو أن تحكي سراب كل شيء بالتفصيل لدياب ورائد وتتناول الغداء معهم، أو لنقل ليطمئن أنها تناولته قبل أن تذهب لبيتها...
صلوا على خير الأنام ♥️
★★★★★
على الصعيد الأخر
في غرفة المعيشة، جلست سعيدة قبالة «فاطمة» (جدة رحمه ورغده)، نطقت سعيدة بخبث:
-ليه كده! عمرو وعامر المفروض يتجوزوا رغده ورحمه! وهما رغده ورحمه وحشين دول وردتين زي القمر طيب والله أحلى من سراب المعصعصه، وتقى دول اللي مش معروفلهم أصل من فصل.
صمتت فاطمة وكانت متجعمة الوجه متذمرة من رفض عامر الزواج من إحدى حفيدتيها، وجلست منتبهه لكلمات سعيدة وارشادتها بكل حواسها، أومأت فاطمة قائلة:
-عندك حق يا سعيده ياختي بس هنعمل إيه! نجوزهم بالعافية.
مصمصت سعيده بشفتيها وقلبت كفيها بحسرة ثم قالت بحزن زائف:
-دا أنا زعلت أوي لما عرفت بالموضوع ده، يلا هما الخسرانين ولا تشغلي بالك يا فاطمه.
زفرت فاطمه قائلة:
-أنا عن نفسي مش شاعله بالي، بس جوزي وأخته ما هي جدتهم أم أمهم! زعلانين من دياب وعمايله! يعني مش عارف يثني حبل على عياله!
نبست سعيدة متخابثة:
-وليه متقوليش إن البت تقى ضاحكه على عامر، واللي اسمها سراب بتلعب على عمرو كمان! والاثنين ضاحكين على العيله كلها...
هزت فاطمة رأسها وهي تُقلب الكلمات في رأسها ثم لفظت:
-جايز!
عادت سعيدة تستند للخلف وطفقت ترش الملح على الجرح بقولها:
-البنتين دول مش سهلين صدقيني، أنا لو مكانكم أقاطع دياب وعيلته دول خالص...
-والله عندك حق يا سعيده، أنا برده من ناحيتي مش هسكت...
اتسعت حدقتا سعيدة وانحنت بجزعها العلوي نحو فاطمة، وهي تقول بفضول عارم:
-هتعملي إيه؟ ها هتعملي إيه؟
رفعت فاطمة إحدى حاجبيها وقالت:
-هكلم ستهم أم أمهم أكيد هتتصرف، دي مبتسكتش...
قالت سعيده تشجعها:
-أيوه متسكتيش حاولي مره واتنين، الواد عامر يستاهل بره، شاب زي القمر ومعاه فلوس هيعيش بنتكم في مستوى كويس.
وقعت كلماتها بابتسامة ماكرة ونظرة فارغة ثم نهضت لتغادر وتركت فاطمة والأفكار تتموج داخلها وتتشابك.
استغفروا
★★★★★
انقضى اليوم وتبقى على أذان المغرب ما يقرب من النصف ساعة...
كان «عامر» بسنتر الدروس الخصوصية، فقد كان يُدرس مادة الفيزياء للصف الثالث الثانوي...
خرجت أخر مجموعة من الطلاب إلا أربعة شباب سألوه عدة أسئلة وخرجوا فاقترب فتاة ترتدي ملابس ضيقة، حجاب لا يتلائم مع تنورتها القصيرة ذات اللون الأحمر وقميصها وبنطالها الأسودان يشبها قلبها، كما تجلت مساحيق التجميل على بشرتها...
وقفت قبالة عامر فاخترق أنفه رائحة عطرها النفاذ والآخاذ، كاد يخرج من الغرفة لكنها أوقفته وأخذت تسأله عدة أسئلة حول حصة اليوم، فاضطر لإجابتها حاولت مداعبته بالضحك لكن عامر كان متحفظ الكلمات ولا ينظر لوجهها ولا يتبسم...
قالت بدلال:
-هو أنا شكلي وحش أوي كده يا مستر عامر! حضرتك مش بتبصلي ولا حتى المستر بدر لما أكلمه بيبصلي.
-وإنتِ عايزانا نبصلك ليه؟
قالها عامر بحدة واقتضاب، فوجهت له سؤال مباشر:
-يعني أنا شكلي حلو؟
تجاهل عامر سؤالها وقال وهو يلملم حاجياته:
-ها عايزه تسالي حاجه تانيه؟
-هو مستر بدر هـ...
قاطع عامر سيل كلامها بحسم:
-لو سمحتِ حاجه بخصوص الماده غير كده أنا مش هجاوب... اتفضلي...
قال أخر كلمة وهو يشير نحو الباب لتخرج فرمقته الفتاة بنظرة محبطة وأطرقت، فخرج هو من الحجرة وتركها وحدها، فحملت حقيبتها وهي تُصر على أسنانها بحنق...
من ناحية أخرى...
كانتا «رحمه ورغده» تذاكران بالخارج، تنتظران عامر ليوصلهما للبيت فقد شدد عمرو وعامر عليهما بعد موضوع نادر...
كان «بدر» يجلس بحجرة أخرى يُصحح أوراق الإمتحان، نفخ متضجرًا ونادى رحمة، فنهضت ببطئ وذهبت إليه بخطواتٍ متثاقلة...
-نعم يا مستر؟
قالتها «رحمه» وهي تفرك أناملها باضطراب، فهي تعلم ما يريده منها، ازدردت لعابها لتبلل حلقها الذي جف، وترقبت كلماته المعتادة أن تركز وتذاكر وهكذا...
قال:
-مينفعش كده والله يا رحمه! أنا مش عارف أكتبلك درجه! هو إنتِ مش بتفهمي مني؟
-لا والله حضرتك شرحك ممتاز بس أنا اللي مـ... مكنتش مذاكره كويس.
ارسل تنهيدة ثم رمقها وقال بقلة حيلة:
-ماشي يا رحمه، اتفضلي...
أظهر ورقة الامتحان على سطح المكتب فأخذتها وطالعتها بأسى، ثم جلست جوار رغده ونكست رأسها فنظرت رغده للورقة بيدها ونهضت...
طرقت رغده باب الغرفة لينتبه لوجودها، فرمقها بنظرة غضها في سرعة وأومأ لها لتقترب، فقالت بتلعثم وهي تُخفض نبرتها كي لا تسمع أختها:
-مـ... مستر آآ... رحمه شطره وكانت أشطر مني بكتير بس... يعني هي من بعد موضوع نادر وهي متغيره و...
قاطعها دون أن يرفع بصره:
-ساعديها شويه، رحمه محتاجه دعم نفسي وإنتِ أحسن واحده تعمل ده! قربي منها واتكلمي معاها خرجيها من الحاله دي! ولو هي محتاجه تفهم أي حاجه تانيه أنا موجود.
رفع بدر بصره ونظر لوجهها فأخفضت نظراتها حياءًا وقالت:
-حـ... حاضر، شـ... شكرًا يا مستر.
ابتسم «بدر» وهو يومئ لها، فخرجت، وعلِقت نظرات بدر بمكانها الفارغ للحظات...
عادت تجلس جوار أختها، تبتسم لها وتربت على كتفها، فابتسم بدر وكاد يُكمل تصحيح الأوراق ولكن قاطعه عامر:
-يلا يا بدر...
نهض «بدر» واقفًا ومتأهبًا لملم الأوراق ثم خرج وترك عامر يُغلق الأبواب...
خرجت الفتاة التي كانت تتحدث مع عامر قبل قليل، تعثرت على درجات السلم عن عمد، فسندها بدر قبل أن تسقط، وهرولتا رغده ورحمه إليها، فغرست الفتاة عينيها بعيني بدر دون حياء وشكرته بنعومة مصطنعة ورقةٍ زائفة، فتبادلت رحمه ورغدة النظرات الصامتة بينما مسح بدر راحة يده التي أمسك بها الفتاه بالحائط وكأنها اتسخت!
أثار ذلك انتباه رغدة فابتسمت...
استقلوا السيارة فانحنت الفتاة قبالة نافذة بدر وقالت:
-ممكن توصلوني في طريقكم يا مستر؟
-معلش أصل إحنا رايحين مشوار...
قالها بدر باقتضاب، فرشقت الفتاة رغده ورحمه بنظرة حادة وقالت بامتعاض:
-تمام شكرًا...
وانطلق عامر بالسيارة، ثم هز رأسه مستنكرًا وقال:
-البنت دي مش مظبوطة.
-حسيت كده فعلًا... ربنا يهدي...
قالها بدر، فتبادلت رغدة ورحمه النظرات مرة أخرى وران عليهم الصمت...
حتى ظهر فجأة، ومن العدم سيارة وأخذت تتبع سيارتهم وتُضيق عليهم وكأن هناك من يتعمدها، فأسرع عامر بالسيارة، ليبتعد عنها وما أن اطمئن لاختفاء السيارة، ضغط مكابح السيارة فلم تستجب، حاول أكثر من مرة، ثم نطق باضطراب:
-أنا مش عارف فيه إيه!!! الفرامل فيها مشكله...
أجفلوا وصرختا رغده ورحمه، فقال عامر:
-اهدوا متوترونيش...
حاول بدر مساعدته وتهدئته، ومرت عليهم دقائق عصيبة وعامر يتفادي السيارات ويحاول إنقاذهم...
وكانوا على مقربة من شارعهم، وقبالته تمامًا...
-يا الله!
قالها عامر بفزع شديد بعدما تفادى سيارة نقل كبيرة...
دخل بدر في حالة صدمة واستسلم وكأن بينه وبين الموت خطوة أخيرة، بينما فقد عامر السيطرة على السيارة ودارت عدة مرات على شكل دائرة وأجسادهم ترتج بالسيارة وترتجف واختلط صوت صرخاتهم مع صوت أزيز وصفير السيارة المرتفع...
وعلى الصعيد الأخر
في شقة دياب شعرت تقى بخفقة غريبة، فوضعت يدها على قلبها وأطبقت جفونها لبرهة، فقد كانت بين العائلة وسراب تحكي لهم عن لقائها بوالدها، انتبهت لها شيرين فقالت:
-مالك يا بنتي؟
فتحت تقى عينيها وقالت:
-هـ... هو عامر اتأخر النهارده؟
قالت شيرين:
-رن عليه يا عمرو المفروض يكون وصل دلوقتي!
أومأ عمرو وأخذ يطلب أخيه، مرة تلو الأخرى ولم يجب!
فقال عمرو:
-تلاقيه سايق مبيحبش يرد وهو سايق...
ران عليهم صمت طفيف قطعه رائد:
-أنا مش عايزكوا تقلقوا، احنا جنبكم ميقدرش يعمل حاجه...
هز دياب رأسه مؤيدًا وقال:
-محدش يقدر يقرب منكم انتوا في حماية دياب العقيد...
طمئنتهم النظرات الواثقة التي تُطل من عينيه، فاومأت سراب وابتسمت، بينما وجهت شيرين سؤال لتقى:
-إيه يا تقى... مش هنعمل خطوبه ونفرح بقا؟
أسقطت تقى بصرها حياءًا وهي تردد:
-إن شاء الله.
قال دياب:
-إيه رأيكم نجيب الدهب أخر الأسبوع، ونعمل حفله وأهو الفرح يدق بابنا.
صمتت تقى هنيهة، متسائلة أما آن أوان اجتماعها بعامر! ازدردت لعابها ونطقت:
-اللي حضرتك تشوفه يا عمو.
قال دياب بسرور:
-يبقا على بركة الله...
ابتهجت سراب وضمت تقى بسعادة، في حين قال رائد بمرح:
-حضرتك بتتفق يا بابا والعريس مش هنا؟
ضحك دياب قائلًا:
-هنبقا نعزمه إن شاء الله.
ضحكوا جميعًا، وكان عمرو يختلس النظر لسراب وسعادتها تلك التي تجعل صدره يعلو وتجعل روحه تتنفس، بينما حزنها يجعل صدره يهبط وينقبض، شرد ونظراته مسلطة على سراب والإبتسامة على مُحياه، وانتبه لنفسه فجأة فهز رأسه وزالت ابتسامته ودقات قلبه تتواثب، أطرق متجهمًا، يزجر حاله! وينهى نفسه عن هذا الشعور، وفي سريرته صوت يهدر؛ أيها الأبله! إنها الحمقـ ـاء سراب، انصرف عن هذا...
وكانت شيرين تفطن لنظرات ابنها وتتابعه، حتى قُرع جرس الباب...
نهض عمرو ونظر من الشرفة، فصاح شاب:
-عامر أخوك وصاحبه وبنات الاستاذ صالح عملوا حادثه قدام الشارع...
هُرع الجميع وركضوا للخارج.
بقلم آيه شاكر
★★★★
-أَغيب وَذو اللطائف لا يَغيب
وَأَرجوه رجاء لا يخيب
وأسأله السَلامة من زَمان
بليت به نوائبه تشيب.
انتبه عامر على صوت الإبتهال الذي يصدح من مسجد قريب، فقد قفز من السيارة قبل أن تنقلب ثلاثة مرات ثم تصطدم بشجرة على زاوية الطريق، فتح جفونه فقد أطبقهما ظانًا أنها المرة الأخيرة ولن ينكشف ستار جفونه مرة أخرى...
كان الناس يتجمعون حول السيارة...
والأربعة قد قفزوا من السيارة في نفس اللحظة كانوا مبهوتين وفي حالة صدمة شديدة كل واحد باتجاه، بدر يمسك ظهره، وعامر يمسك رأسه، ورغده تمسك ذراعها، ورحمه تمسك ساقها...
تدور أعينهم في ذعر، يتفحصون أنفسهم ليطمئنوا أنهم لازالوا على قيد الحياة، يتنفسون عدة مرات، وينظرون لبعضهم ليطمئنوا أن أحد لم يتأذى...
نهض عامر متأوهًا ودار حول السيارة التي تهشمت جوانبها، حاوط رأسه بيديه في حسرة، فواساه رجل؛
-احمد ربنا يابني، دا انتوا ربنا لطف بيكم... جت سليمة ومحدش اتأذى...
وقال أخر:
-دا كويس إن مكنش فيه عربيات جايه ولا رايحه.
ونطق ثالث:
-لا حول ولا قوة الا بالله.
ربت بدر على كتف عامر وقال برضًا:
-الحمد لله...
ساعد الناس في تحريك السيارة ووضعها في زاوية بشارعهم...
فأشار بدر لرغده ورحمه الواقفتان جوار بعضهما ولم يحركا ساكن، اقتربتا منه فقال:
-واقفين كدا ليه؟ يلا على البيت.
-حـ... حاضر يا مستر.
قالتها رحمه واقترب عامر منهم ليطمئن عليهم، فأخبراه أنهما بخير، فقال بضحك هستيري:
-العربية ماتت يا شباب.
شاركه بدر الضحك وقال:
-أنا مش مصدق أصلًا إننا عايشين.
ضحكت الفتاتان على ضحكهم، وقالت رغده:
-أنا كنت مرعوبه، بصراحه مش عايزه أموت دلوقتي.
قال عامر:
-ومين اللي عايز يموت؟ أنا مش فاهم أصلًا حصل ايه!!
قالت رحمه بضحك:
-دا ذنب البنت اللي موافقتش تركبها معانا يا مستر بدر!
قال بدر بضحك:
-لا وإنتِ الصادقه، دي عين وصابتنا يا رحمه.
ضحك الأربعة فسأل عامر من خلف ضحكاته:
-جماعه هو إحنا بنضحك على إيه؟ إحنا كنا هنموت.
قالت رغده بابتسامة:
-بس مموتناش! فبنضحك احتفالًا إننا على قيد الحياة.
رأتهم سعيده يضحكون فهرولت نحوهما، وقالت:
-أهلًا أهلًا بالمتواضعين...
قال بدر بضجر:
-خالتي سعيده، يا غاليه احنا لسه خارجين من حادثه والعربيه متفرتكه على الأخر.
أطلقت سعيده ضحكات عاليه وقالت ساخرة:
-حادثة!! دا منظر ناس خارجين من حادثة!! دا انتوا ولا اللي جاين من حفله...
نظر بدر لرغده وقال:
-خدي أختك وادخلي يابنتي بسرعه.
ثم نظر لسعيدة وقال:
-خالتي سعيده سيبينا في حالنا بالله عليكِ... يلا يا عمرو...
-أنا مش عمرو أنا عامر...
قالها عامر وهو يضحك، فجذبه بدر من ذراعه وهو يقول:
-بقولك ايه إنت كمان... قدامي...
ضحك عامر وسار جوار بدر الذي تحسس ظهره وتأوه ثم قال:
-إنت يابني بقيت نسخه من عمرو والله بقيت أتوه فيكم، احلق يا عم ذقنك تاني...
-لا خلاص مش هينفع أنا حبيت شكلي كده، وبعدين ما كلكوا ملتحين اشمعنا أنا عايزيني أنعمها...
قالها عامر ووضع يده على رأسه وتأوه...
استقبلهم أفراد العائلة الهرعين، سأل دياب بلهفة:
-إنت كويس يا عامر؟
حاول عامر كبح ضحكاته وهو يهز عنقه بحسرة، قائلًا:
-أنا كويس لكن العربيه... تعيشوا انتوا...
سأل عمرو وهو يلتفت حوله:
-فين العربيه؟
أخرج مفتاحها من جيبه وأعطاه لوالده وهو يضحك بهستيرية قائلًا:
-دا اللي اتبقى منها يا والدي... أهي حاجه للذكرى...
أطبق بدر شفتيه ليكظم ابتسامته، وطالع عامر الذي كان يضحك بهستيرية وكأن هناك من يدغدغه، تبادلت العائلة النظرات، بينما اقتربت هيام من عامر تأملته وهي تقول:
-إنت شارب حاجه يا عامر؟
-شارب شاي...
قالها وهو يكبح ضحكاته، سألته تقى:
-إنت كويس يا عامر؟
-تمام الحمد لله.
قال بدر ساخرًا:
-هو اتخبط في دماغه، فتقريبًا الخبطه أثرت عليه.
قال عامر بجدية:
-لا والله أنا كويس... أنا بس...
عاد عامر يضحك بهستيرية وحين رأت شيرين نظرات سعيده الثاقبة المترقبة، قالت:
-طيب تعالوا فوق... تعالى يا بدر.
دخل الجميع عدا دياب ورائد ومحمد توجهوا لتفقد السيارة، وظلت ضحكات عامر تجلجل عاليًا، فضحكوا على ضحكاته...
بينما وقفت سعيدة تزم جفونها وتردد:
-آه يا شوية متكبرين!
★★★★★
رغم التعثر وتخبط الخطى، كان يكفيها أن تسمع ضحكاته، أن تعانق نظراته ولو لبرهة، أن تتنفس من الهواء الذي يتنفسه، فكل ذلك يدفعها للنهوض، وللتشبث بوشاح التفائل الذي تأبى عواصف الحياة أن تتركه على أكتافها.
كانت تقى تعلم ما الذي أصابه، فعامر حين يرتبك أو يضطرب أو يخاف، يضحك بهستيرية، ويختلف عن عمرو في هذا...
وبالشقة شرحت سراب لبدر مرة أخرى ما حدث وأخذت تصف له شكل حسين، فقال بدر:
-هو فعلًا شكله كده...
شهقت سراب وقالت:
-وممكن يكون هو اللي لعب في الفرامل يا جماعه؟!
تبادلوا النظرات، فقال عمرو:
-معقوله؟ وليه يعمل كده؟
قالت سراب بخوف:
-وليه يجي هنا أصلًا! أكيد ناوي على شر!!
قال عمرو بضجر:
-بطلي سلبيه يا سراب، متخوفيناش على الفاضي...
رمقته بابتسامة باردة وقالت:
-أنا مش بخوفكم لكن عايزاكوا تاخدوا بالكوا... أنا خايفه أصلًا يجيلنا البيت...
ران عليهم صمت طفيف حتى قال بدر:
-هو ممكن يكون جاي يدور على الحاجه اللي هند سألتك عليها!
قال عمرو:
-هند دي تبقى نرمين بنت أخوه يعني بنت عمك يا سراب.
التفتت له سراب باندهاش، وقالت:
-وإنت عرفت منين الكلام ده؟
-عرفت بطريقتي...
أثار اقتضابه غضبها، فهدرت بنبرة مرتفعة:
-هو إيه اللي عرفت بطريقتي ما تقول عرفت ازاي؟
طاف «عمرو» بنظراته على وجوه الجميع «بدر، وعامر وتقى ونداء وشيرين وهيام» وأصر على أسنانه ثم هدر بها:
-قولتلك متعليش صوتك يا سراب.
هبت سراب واقفة وقالت:
-هو إنت مش هتبطل تبقى مستفز، مخبي عليا ليه! وياترى مخبي إيه تاني؟
اكفهر وجه عمرو، واحتدت نبرته هادرًا بها:
-يا بت وطي صوتك، برده بتعلي صوتها عليا ازاي! هو أنا شغال عندك يا بت إنتِ.
-إيه بت دي هو أنا عيله صغيره؟ دا إنت واد رخم بقا!
-تصدقي بالله أنا غلطان إني بفكر فيكِ، وإنتِ متستاهليش أصلًا.
كانا يرميان بعضهما بنظرات تحدي وكأنهما في صراع ما، قالت سراب بنبرة مرتفعة:
-تمام! ومن النهارده يا عمرو ملكش دعوه بيا نهائي ولا لسانك يخاطب لساني... أنا بجد بكرهك...
تردد صدى أخر كلمتين في رأسه عدة مرات، فقال بغضب وهو يشير لسراب بسبابته:
-أنا بقا اللي بكرهك، ومش طايقك، ومش عايز أشوفك قدامي...
-بكرهك يا عمرو بكرهك.
قالتها بانفعالٍ بليغ، وبنبرة مرتفعة سمعتها كل زاوية بالبيت، فاحتقن وجه عمرو بالد**ماء، وقال بنفس انفعالها:
-أنا مبقتش طايقك قدامي.
تخشبت مكانها لبرهة وهما يتبادلان النظرات الحادة، وكل منهما يصر على أسنانه، لا يسمعان أصوات العائلة من حولهما فقد جاهدوا لكبح شعلة الغضب بينهما بلا فائدة...
ارتفع صوت أنفاس سراب، وكان قلبها يختلج خلف أضلعها، هدرت:
-وأنا مش جايه هنا تاني...
-في داهيه...
قالها عمرو ملوحًا بيده في ضجر، وعاد يتشاجرا واحتدم الحوار بينهما كانا يصرخان بوجه بعضهما وكأنهما أعداء، حتى هرولت سراب لتخرج من البيت وتبعتها شيرين ونداء وهيام يهدئنها وقد برقت عيناها بالدموع، بينما عاتبت تقى عمرو:
-ليه كده يا عمرو؟!
أطرق عمرو بتجهم ولم ينبس بحرف، فتنهدت تقى وتبعت سراب...
قال عامر بغيظ:
-هو إنت غـ ـبي يَلَه؟!
-إيه يَلَه دي إنت كمان! إحترم نفسك.
قال بدر:
-أنا هتكلم معاها متقلقوش...
جذبه عمرو من ذراعه وهدر بعصبية:
-تتكلم معاها بتاع إيه إنت كمان؟! إقعد يا بدر مكانك.
جلس بدر مرة أخرى وهو يحدج عمرو بنظرة ذات معنى، ثم تبادل هو وعامر النظرات فضحك عامر وقال:
-إنت خوفت منه ولا إيه يا بدر؟
-بصراحه أيوه.
قالها بدر وأخذ يعاتب عمرو بهدوء على انفعاله دون داعي...
وبعد.مغادرة سراب عادت شيرين وقفت قبالة عمرو لكزته بكتفه بغلظة وهي تقول بعصبية:
-تصدق بالله إنت الوحيد اللي معرفتش أربيك...
لم يتفوه عمرو بكلمة وطأطأ رأسه في سكون، وهو يعلم بمقدار خطئه! لكنه سيُصالحها بطريقة ما!
بينما دخلتا هيام ونداء يجهزان الطعام لبدر وعامر...
استغفروا🌸
★★★★★
وبعدما دلفت للشقة أخذت تبكي وارتفع نشيجها، ضمتها تقى وربتت على ظهرها وهي تقول:
-هو أنا يعني اللي هعرفك على عمرو يا سراب، ما إنتِ عارفاه عصبي بس طيب ودلوقتي تلاقيه جاي يخبط علينا ويعتذرلك كمان.
تعلم! وتدرك جيدًا أنهما ورغم محاولتهما المستمرة لإظهار نفورهما من بعض إلا أنهما قُيدا بخيط مطاط يجذبهما لبعضهما كلما ابتعدا، فيعودا ويرتطمان بقـ ـوة..
قُرع جرس الباب، فوثبت تقى واقفة وهي تقول:
-شوفتي أكيد هو ده.
هرولت تقى تفتح وتبعتها سراب تأخرت في تحذيرها أن تفعل، فتحت تقى، فرأته قبالتها يبتسم، قال بهدوء:
-مساء الورد، أكيد إنتِ تقى بنت عمي كارم الله يرحمه.
كان يضغط على كل حرف بأخر كلمتين وكأنه يؤكد عليها، ازدردت «تقى» لعابها والتفتت تنظر لسراب وهي تنطق بنبرة مرتعشة:
-هو ده حسين اللبان؟
أومأت سراب، طالعته تقى بتوجس، فقال بابتسامة وتأدُب:
-ممكن أدخل؟
همت تقى أن تغلق الباب ولكن يد حسين حالت دون ذلك، ولج للداخل ثم صك الباب خلفه، فزُلزلت غرفات قلبهما وحُبست أنفاسها هلعًا.
حدج حسين سراب بنظرة مدلهمة وتوجه صوبها بخطى واسعة، قال بنبرة يشوبها السخرية:
-قلب بابا من جوه اللي محيره بابا ومطيره النوم من عينه... سوسو...
عادت سراب للخلف بهلع، وقالت بانفعال:
-اطلع بره وإلا هنصوت...
جلس ضـ ـاربًا بتهديدها عرض الحائط، ونظر لتقى قائلًا:
-بس تقى زي القمر شبه أختها الله يرحمها، كلها أمك يا بت يا سوسو.
أجفلت تقى، ولكن تظاهرت بالثبات وهي تقول:
-إنت عايز إيه؟!
-عايز ايه!! هو أنا لازم أكون عايز حاجه! أنا جاي أطمن عليكم دا احنا قرايب!
-بابا كارم فين؟
قالتها تقى فتنهد حسين بأسى زائف وقال:
-آه، عمي كارم! الله يرحمه كان راجل طيب أوي، مات من ٢٠ سنه.
قالها وضحك، فرفعت سراب ذقنها لأعلى وقالت بقـ ـوة ورصانه:
-خير يا حسين باشا! عايز مننا إيه؟
صمت حسين هنيهة ثم قال بجدية:
-فين الحاجه اللي كارم سرقها وهرب؟!
زفرت سراب قائلة باستهزاء:
-حاجة إيه؟ إحنا منعرفش بتتكلم عن ايه! ومن ٢٠ سنه كنا لسه متولدناش!
أطلق حسين عدة ضحكات ونهض واقفًا، فانكمشتا على بعضهما في هلع، وانبثق الخوف من نظراتها، انتظرتا أن يزجرهما أو يشهر سلاحه بوجههما كما فعلت هند سلفًا، لكنه اتجه صوب الباب، أمسك بالمقبض، ثم التفت وقال:
-هنشوف بعض كتير الفترة الجايه، سلام يا حبايبي.
ألقى لهما قبلة في الهواء وفتح الباب فصاحت سراب:
-إنت اللي بوظت فرامل عربية عامر صح؟
-مين عامر؟!
قالها دون أن يلتفت لهم، فهدرت به سراب:
-لو قربت من حد فيهم تاني أنا اللي هقفلك...
أطلق عدة ضحكات وخرج دون أن يلتفت لهما، صافعًا الباب خلف ظهره، فنظرت تقى وسراب لبعضهما وجلستا في آن واحد...
قالت تقى:
-إحنا عمالين ندخل في متاهات...
أطالت سراب النظر لها وصمتت قليلًا ثم تنفست بعمق وقالت:
-متقلقيش... المهم إننا عندنا عروسه، عايزين نفرح بقا.
سخرت تقى:
-نفرح!!
قالتها وانهـ ـارت باكية فضمتها سراب وشاركتها البكاء...
ومن جهة أخرى
تزامن خروج حسين من الشقة صعود بدر درجات السلم، وحين رآه بدر تصنم مكانه ولم يرف لـ حسين جفن بل اتجه نحوه فاتحًا ذراعيه وهو يقول:
-أهلًا، أهلًا، أهلًا، إزيك يا بدر؟ فينك يا جدع!
ضمه حسين فدفعه بدر وقال:
-كنت بتعمل إيه فوق؟ حرام عليك سيبهم في حالهم...
ربت حسين على كتف بدر وقال:
-ملكش دعوه إنت يأبو غمازات.
غمز له حسين ثم نزل الدرج، وتركه مذهولًا من وقاحته، فصاح بدر:
-جدي مش هيسكتلك؟
ضحك حسين وأكمل طريقه دون أن يعقب، وظل بدر يتتبع أثره، حتى التفت حسين وقال:
-ابقى سلملي على جدو يا حبيب جدو على رأي أخواتك...
وانصرف يضحك وكأنه ألقى دعابة، بينما حمل بدر هاتفه ليخبر عامر وعمرو بما حدث...
فنظر عامر لعمرو وقال:
-اتصرف وصالح سراب يا عمرو... قوم تعالى معايا هنروح نشوفهم...
-سيبني في حالي دلوقتي أنا مش رايح في حته...
-بجد عندها حق تكرهك.
ألقى عامر بجملته وخرج من الغرفة ليذهب هو وبدر لتقى، ليتحدث معها ولو كلمتين ليطمئنها دون أن يدخلا من باب الشقة...
وقد قرر أن يُعجل بزواجهما...
استغفروا 🌸
🔴لا تغفلوا عن الدعاء لإخواننا في فلـ ـسـ ـطين🔴
★★★★★
وبعد عدة أيام
فتح عمرو جفونه عند انبلاج الفجر، فلم تفارق سراب تفكيره طوال الليل، لا يدري هل نام بالفعل! أم أنه كان منتبهًا، نهض من فراشة بعدما أيقظ عامر الذي ظل يتحدث مع تقى لوقت متأخر من الليل...
وخرجا للصلاة، كان عمرو شاردًا أطال النظر لشرفة سراب قبل أن يتوجه للمسجد، ود لو يراها الآن ليعتذر منها، وسيفعل بالفعل ولكن... متى؟ فكلما رأها وهم أن يُحدثها تأبى الكلمات أن تخرج من حلقه، وهي أيضًا أصبحت تتجاهله...
إلى أن أتى اليوم الذي ستنعقد به خطبة عامر وتقى، يوم مليء بالزغاريد ومحفوف بالبهجة والزينة...
كان الحفل ببيت دياب ورغم اعتراض سراب أن تدخل البيت في وجود عمرو إلا أنها وافقت لأجل تقى...
وقفت جوار تقى وهي تراها ترتدي خاتم الخطبة المربوط بالشريط الأحمر وارتدى عامر الخاتم المربوط كذلك، فقد تبقى خطوة واحدة وستطوى المسافة الفاصلة بينهما...
تءبذبت نظرات سراب ودون قصد وقع بصرها على عمرو، كان يقف جوار بدر ويتحدث معه، ظنته لن يلاحظ نظراتها لكنه كان يعرف بمكانها ويختلس النظر إليها بين فينة وأخرى، التفت عمرو نحوها فتلاقت نظراتهما، فاضطربت وأشاحت بصرها عنه ثم جلست على أقرب مقعد، وكان جوار جدتي رحمة ورغدة «فاطمة وداليا» متجهمتا الوجه، كانتا تقيدان حركة رحمة ورغدة فلم تبرحا مكانهما...
نهضت داليا واتجهت لدياب، قالت:
-أنا لبيت الدعوه وجيت ياخويا لكن الجوازه دي مينفعش تكمل، عامر وعمرو لرحمه ورغده.
-الجواز مش بالعافيه يا داليا!
-يعني إيه يا دياب؟
-يعني نورتي ياختي والله يبارك فيكِ.
تركها دياب وانصرف، ووقفت تزمجر غاضبة، ثم أشارت لرغده ورحمه وفاطمة وانصرفن عدا رغده أصرت على البقاء...
*******
وبعد تردد اتجه عمرو يمسك مكبر الصوت، حمحم عدة مرات ثم قال:
-آآ... للأسف أنا لا بعرف أغني ولا عندي أي موهبه خالص الصراحه...
ضحك، وأكمل:
-بس حافظ أبيات شعر وعايز أقولها...
صفق له الجميع بحرارة وأصدر بدر صفير ليحمسه، فقال عمرو:
-أما آن للغضبان أن يتعطفا
لقد زاد ظلمًا في القطيعة والجفا
بعادٌ، ولا قربٌ، وسخطٌ ولا رضى
وهجر ولا وصل وغدر ولا وفا...
ثم ضحك عمرو، فضحكوا جميعًا، وأطرقت سراب وهي ترى الأعين تكاد تخترقها...
عاد عمرو يقول بضحك دون أن ينظر إلى سراب:
-طيب أنا آسف طيب...
نهض عامر وأخذ المايك من أخيه وهمس في أذنه:
-فضحتنا يا عمرو...
اشتد احمرار وجه عمرو بينما قال عامر:
-تقبلت أسفك يا حبيب أخوك...
طالعها عمرو بنظرة خاطفة وابتسم...
كان الحفل سيمر بسعادة لولا ظهور حسين، فخفق قلب سراب، وداهمتها الأفكار السلبية، ألا يحق لهم الخروج من لوحة الحزن ولو لساعات معدودة؟
ولمَ عاد مجددًا؟