رواية سدفة ج2 (عن تراض) الفصل الرابع 4 بقلم أيه شاكر


رواية سدفة ج 2 (عن تراض) الفصل الرابع بقلم أيه شاكر 


أجفل «عمرو» حين صدح صوت طلقة أخرى وهرع نحوهم وهو يصيح:

-ســـــــراب، محدش يقربلها.


التفت الرجال جميعًا يطالعونه لبرهة قبل أن يقول أحدهم:

-هاتوه هو كمان.


سحبهما الرجال وظل الإثنان يقاومان ولكن الكثرة تغلب الشجاعة...

صلوا على خير الأنام ❤️


                      ★★★★★

حل المساء، وسجى الليل، ولم يظهر عمرو وسراب...


وفي بيت دياب

جلس «كارم» قبالة «دياب» مضطربًا يشكو لنفسه ألم فؤاده من تصرفات «سراب»، بينما كانت «تقى» في قمة ارتباكها تطلب رقم عامر كل فترة فيخبرها أن رقم أخيه لازال خارج النطاق ولم يتوصل لأي شيء، فتعود وتجلس بين نداء وريم التي تربت على يديها، تطالعها تقى في شدوه وتطرق في صمت...


رشق «دياب» «كارم» بنظرة مليئة بالشك فقد رفض كارم قطعيًا أن يبلغ الشرطة معللًا أنهما سيعودان فقط عليهم أن ينتظروا للصباح، وكلما حاول دياب إقناعه توسل إليه ألا يفعل، مما أثار ريب دياب وظل يرشقه بنظراتٍ متفرسه، فنهض كارم ووقف بالشرفة بمفرده، مسح دمعة سقطت من إحدى مقلتيه وهو ينظر للسماء ويقول:

-يارب إنت عالم بيا وعارف إني اتظلمت ودعوة المظلوم مُجابه، ساعدني يارب وخدلي حقي من اللي ظلموني أنا وأهلي...


لاح له طيف من شبح الماضي القاسي الذي يغلق عليه داخل حقيبة ذكرياته ويخفيه عن الجميح، تذكر حين كان شابًا أنيقًا وسيمًا يجلس بين عائلته في بيتٍ كبير يحاوطه حديقة واسعة تحفها الأشجار وتظلل عليها وكأنها تحرسها، وذكرى أخرى وهو يلعب مع طفلة في الخامسة وهي تصهل ضاحكة كخيل يستعد للإنطلاق فرحًا بالفارس الذي امتطاه.


كان بيت طُليت جدرانه بالحب وأدفئه نفحات الحنان، بيتٌ دُك بعد وفاة والديه، انتقل بذكرياته لابنته بعدما كبرت رآها وهي تبكي كل ليلة ثم يوم كانت تضع ابنتها سراب قبل أن تفارق الحياة تاركة بقلبه جرحًا لم ولن يندمل...


تمنى لو ينسى ماضيه، ليته وُلد هنا في هذا الشارع وفي تلك البلدة ولم يكن له أي ماضٍ يخشى أن يخرج للنور في يومٍ ما، ماض كالكابوس المزعج، وليته كان كابوس يستيقظ منه ليتنفس من جديد، فيستعيذ بالله وينسى...


خرج من خضم أفكاره على صوت رنين هاتفه فأجاب مسرعًا، سمع صوتها المتحشرج وهي تقول:

-جـ... جدو.


-سراب... إنتِ فين يا بنتي؟ حرام عليكِ اللي بتعمليه فيا ده، إنتِ فين؟

قالها بانفعال شديد، وقبل أن يُكمل تأنيبها، نطقت:

-مـ... مخطـ ـوفه.

قالتها بصوت مختنق باكٍ وبنبرة مرتعشة، ثم كُتم الصوت للحظات، وظل كارم يصيح باسمها ويناشدها ألا تقلق، حتى سمع صوت رجل يعرفه جيدًا:

-مش قولتلك يا كارم ابعد البت دي عني! 


تلجم لسان كارم عن النطق، واشتدت دقات قلبه، وبالإتجاه الأخر قال الرجل:

-ايه يا كارم مش عارفني ولا ايه!


-إنت تاني! عملت فيها ايه يا شيـ ـطان!


قال الرجل ببرود: 

-قولتلك إبعدها عننا يا كارم وإلا هخلص عليها ولا يهمني.


انفعل كارم:

-هو إنت مش هتتغير، ياخي دي بنتكم، حسبي الله ونعم الوكيل فيك.


صاح الرجل بانفعال وبنبرة مرتفعة:

-مش بنتنا، متقولش بنتنا، وحتى لو واخده اسمنا برده مش بنتنا، وأقولك على حاجه إحنا نخلص الموضوع ده دلوقتي ونخلص من الجدال ده للأبد.


قال كارم بلهفة:

-هتعمل ايه! لو قربت منها يا حسين هقتـ ـلك، والله هخلص عليك.


صمت حسين لبرهة ثم نطق بهدوء:

-مش هقرب منها يا كارم ومش خوف منك لكن اعتبر دا أخر تحذير عشان خاطر المرحومه بنتك.


-البت فين يا حسين؟ 

قالها كارم، فرد حسين:

-هترجعلك يا كارم.


أغلق حسين الهاتف، فنطق كارم بغضب:

-شيـ ـطان... 


التفت جميع من بالبيت لصوت زمجرته بعدما أُغلق الخط، فنهضت تقى للشرفة، وسألته بلهفة:

-ايه يا بابا! فيه أخبار؟


دخل كارم من الشرفة وقد ادلهمت نظراته أكثر، هوى جالسًا على الأريكة وهو يقول:

-هترجع ان شاء الله.


زفر دياب متضجرًا وقال بانفعال:

-هنفضل كده!! لازم نبلغ الشرطة؟


-اصبر يا دياب.

قالها كارم، فانفعل دياب أكثر وهو يقول:

-أصبر ازاي؟ إنت مش عايز تبلغ الشرطه ليه؟


-خايف على العيال... خايف... اصبروا شويه.

قالها كارم وأطرق هنيهة في صمت، فلم ولن يغادر بيت دياب، يتبعه وكأنه يقيده كي لا يخبر الشرطة... 


نهض كارم وقال:

-قوم يا دياب خلينا نصلي سوا وندعي، نلجأ لمن لا ملجأ إلا إليه. 


نهض ديام وهو يردد:

-يا الله...


استغفروا ❤️ 

بقلم آيه شاكر 


********

وفي مكان أخر


دقت الساعة الحادية عشر ليلًا


وقف «عامر» جوار «رائد» الذي يستند على السيارة، وملامحهما المتجهمة والمحبطة تشي بمدى قلة حيلتهما وقلقها إزاء اختفاء عمرو وسراب، قال رائد:

-وبعدين! دورنا في المستشفيات والأقسام وبنلف في الشوارع بقالنا ساعتين ايه العمل؟


صمت «عامر» وأطرق للحظات وهو يحبس أنفاسه و يفكر في حل ما، تنفس فجأة وانتبهت جميع حواسه حين تذكر أمرًا كان قد تناساه تمامًا، قال:

-افتكرت حاجه مهمه امبارح نادر وسراب كان فيه عصابه طاردوهم، أيوه... أنا إزاي نسيت الموضوع ده!!

لا يعلم كيف غفل عن هذا، أخرج هاتفه وطلب رقم نادر، بينما كان رائد يسأله:

-عصابة ايه؟ أنا مش فاهم حاجه! فهمني الأول.


أخذ عامر يحكي لأخيه ما رواه نادر بالإمس أثناء طلبه لرقمه حتى أجاب نادر، فقال عامر:

-إنت فين؟!

                    

                   ★★★★★

بعدما أنهت «سراب» المكالمة وقفت تبكي وتنادي جدها، وهناك رجل يجذبها من ذراعها حتى دفعها الرجل داخل الغرفة حيث كان عمرو يركل الباب بقدمه حتى فُتح ودخلت سراب، وقف مذعورًا مترقبًا يُطالعها بأنفاس مرتفعة، وقد شعث شعره واحتقن وجهه من شدة الغضب، فقبل دقائق كان يصيح من خلف الباب الذي يحجبها عن نظره، ألا يمسها أحد...


كانا بغرفةٍ تشبه مخزن واسع، أخذ يحدق بدموعها التي تفيض بغزارة، وصوت نشيجها الذي يرتفع، قال عمرو بلهفة:

-إنتِ كويسه؟ 


لم ترد عليه وظلت تشهق وتبكي وهو يقف قبالتها مكتف اليدين لا يقدر على شيء سوى قول:

-ايه؟ عملولك ايه؟ إنتِ كويسه؟


وبعد فترة من البكاء المرير، وهو يقف قبالتها يكرر سؤاله عما بها، نطقت:

-أنا كويسه.

قالتها بقـ ـوة زائفة وهي تمسح دموعها، تتظاهر بالقـ ـوة علها تقنع حالها أنها ثابتة كالطود ولن يهزها ريح مهما كانت عاتية، جلست أرضًا فسألها عمرو:

-كانوا عايزين منك ايه؟


تشنج فمها وبرقت عيناها بالدموع مجددًا، لكنها لم تطلق سراحها، بل حاولت اخفاء حالتها خلف نبرتها الثابتة، حين قالت:

-مفيش، خلوني أكلم جدو.

-وهما يعرفوا جدك منين!؟

-معرفش...

قالتها باقتضاب وشعرت بدوار طفيف فوضعت يدها على رأسها وأغلقت عينها، قال:

-مالك؟!

-مش عارفه دوخت ليه يمكن لأني مأكلتش من الصبح.

قالتها سراب وهي تحاوط رأسها بيدها، فانحنى عمرو لمستواها وقال:

-متقلقيش ان شاء الله هنخرج من هنا، عُمر الشقي بقي وأنا وإنتِ مفيش أشقى مننا، ولا ايه؟


كان يحاول مداعبتها لتخرج من صومعة يأسها وحزنها، علها تطمئن أنه هنا فتهدأ، كان يشعر باختلاج قلبها ذعرًا، وقد ابيضت شفتيها وشحب وجهها، زفر وهو يشيح بصره عنها، رمته هي بنظرة فارغة ثم قالت ساخرة:

-هنخرج ازاي؟ شكلنا هنمـ ـوت هنا! 


ردد بشدوه:

-نموت! لـ... لأ... أكيد هنخرج.


عاد «عمرو» يحاول فتح الباب يصيح عليهم أن يفتحوا، لكنه كان مؤصدًا من الخارج فركله بقدمه عدة مرات بغضب عارم، والتفت ينظر لسراب التي استقلت على الأرض وتشرنقت على نفسها كفراشة تقبض جناحيها باحثة عن الأمان.


ظل عمرو يحوم بالغرفة غدوًا ورواحًا، ويحاول فتح الباب، ينادي عليهم ليطلقوا سراحهما ولكن لا مجيب، رمقها عمرو بنظرة سريعة وتركها زاعمًا أن الكرى قد غشيها، جلس قبالتها بقلة حيلة يتأمل أهداب جفونها الطويلة الكثيفة والتي لازال أثر الدموع عالقًا بها، أمعن النظر بملامحها التي لم تفشل في جذبه إليها رغم وقاحة شخصيتها التي يكرهها.


تذكر كيف كان يدافع عنها دائمًا في الصغر لكن من وراء حجاب، كان يتابع دروسها ورفاقها من بعيد، كان دائمًا يراها تجلس بمفردها في الشارع تحمل دميتها وتضع لها مساحيق التجميل وهي تبتسم، فيبتسم لابتسامتها قبل أن يرنو إليها ويستمتع بإثارة حفيظتها...


تذكر أيضًا ذات يوم وسراب في مرحلة الثانوية حين رأى شاب يضايقها وهي تخرج من درسها، اقتفى أثره حتى نال منه ولقنه درسًا وحذره ألا يرمق سراب بطرف عينه ولو على سبيل الخطأ، فهو لم ولن يقبل بأن يضايقها أي أحد غيره هو، اتسعت ابتسامته وهو يحدق بها، انتفض فجأة حيت دوى بأذنه صوت يحيى:

-غض بصرك يا لطخ.


سرعان ما تدارك حاله فهو يمعن النظر بما لا يحل له، تذكر يحيى ودروسه المعتادة عن غض البصر، يحيى زوج أخته ومعلمه الذي يضغط دوما على زر ضميره الخامد ليشعله، فقد حفظ القرآن كاملًا على يده قبل خمسة أعوام لكن أين ما حفظه؟ فقد تطاير من صدره مع الأيام بعدما انشغل بالدنيا وبأحلامه التي يركض خلفها...


ظل يستغفر الله، ويدعوه أن ينقذه من ذلك الموقف العصيب، تذكر جملة يحيى:

«إذا اشتد عليك أمر في الدنيا، تذكر موقت تعاملت فيه بتقوى، يعني موقف عملته ابتغاء وجه الله ومرضاته بعيد عن الرياء والتفاخر والتظاهر.»


أخذ يتذكر أي موقف، يعصر رأسه بيديه عله يتذكر لكنه لم يستطع، فهو يصلي ولكن لم يخبت لله يومًا، كثيرًا ما تشغله الدنيا فيجمع صلوات اليوم كامله ويؤديها دون خشوع، كما يعاند والديه ويناكف أخوته دائمًا...


ما هذا؟ ألم يفعل شيئا خالصًا لوجه الله! وأخيرًا تذكر موقف فعله قبل يومين، حين رأى رجلًا كبير السن يتحسس الطريق بعصاه فساعده حتى بيته، رفع وجهه لأعلى، جال في رأسه صوت مواء، تذكر تلك الهرة المسكينة التي تتجول بشارعهم وهو يضع لها الطعام كل ليلة، فيراها تنادي رفاقها ليأكلوا، ابتلع ريقه وقال بلسان قلبه في تذلل:

-اللهم إن كنت تعلم أني فعلت هذا لوجهك فساعدني أخرج من هنا.


مر الوقت على تلك الوتيرة...

سراب مستلقية وعمرو يوليها ظهره ويحملق بالفراغ أمامه شاردًا، ربما كان يحتاج محنة ليفيق لنفسه ويستيقظ من غفلته، فقد تخرج من كلية العلاج الطبيعي بالعام الماضي ولا يفعل أي شيء يُذكر بجانب عمله بمركز خاص للعلاج الطبيعي...


أخرجه من خضم أفكاره صفارة ساعته معلنة عن الثانية عشر منتصف الليل فنهض من جلسته ليحاول مرة أخرى علهم يفتحون الباب، طرق الباب بقبضة يده في هدوء، وهو يقول:

-أنا عايز أروح الحمام افتحوا...


لم يجبه أحد، فنفخ بضجر وعندما حرك مقبض الباب فُتح، فاستبشر وتهلل وجهه وابتسم، وهو يحمد الله، ركض يوقظ سراب...

-سراب... بت... قومي الباب اتفتح، قومي خلينا نمشي قبل ما يرجعوا في كلامهم... سراب... 


لم ترد عليه فمد يده ليهزها لكنه قبضها قبل أن تصل إليها، فلو مسها واستيقظت ستصرخ عليه فمنذ نعومة أظافرها لا تقبل أبدًا أن يمسها أي ذكر.


وقف يناديها، التفت حوله وأمسك عصًا رفيعة وأخذ يلكزها بها برفق، لكنها لم تستجب، استرجع عقله أخر كلمات قالتها قبل أن تغلق جفونها بقليل:

«مش عارفه دوخت ليه يمكن لأني مأكلتش من الصبح.»

اختلج قلبه، ناداها بنبرة مرتعشة:

-سراب!! بت يا سراب! ردي يا بنتي!

أطبق يده على فمه وأخذ يهزها بيده الأخرى، حاول افاقتها لكنها لم تستجب بتاتًا، فحص تنفسها ونبضها فاطمأن أنها لازالت على قيد الحياة، ركض لخارج الغرفة فوجد هاتفيهما وحاجيات سراب على منضدة صغيرة، فتح هاتفه وطلب رقم عامر في سرعة، توأمه الذ رغم ضيقه من اختراعاته تلك إلا أنه سنده ورفيقه الذي لا يتخيل دنياه دونه...

اشتغل غضبه حين سمع:

«عفوًا لقد نفذ رصيدكم...»


-أنا عارف حظي!

قالها حين أطلق هاتفه صفير يخبره أن شحنه على وشك النفاذ...


ومن فرط اضطرابه غفل عن فتح هاتفها، فيجب أن يخرجا من هنا...


حمل حقيبة سراب على ظهره وعاد يحمل سراب ثم ركض بها للخارج يقطع شارع ثم أخر ثم وقف يلتقط أنفاسه ويلتفت حوله بحثًا عن أي وسيلة مواصلات تقلهما، بينما كان جسدها مرتخي بين يديه، طالعها وجثى على ركبتيه فقد أرهقه الركض...


وضع جسدها على الأرض وردد من خلف أنفاسه المرتفعة، بقلة حيلته:

-قومي يا سراب... قومي ومش هضايقك تاني...


ضغط زر فتح هاتفها الذي كان مغلق بكلمة مرور، زمجر غاضبًا ونهض واقفًا يلتفت حوله يطالع الشارع المعتم ويقول بنبرة مرتفعة:

-احنا فين؟! ازاي مفيش ولا عربيه هنا!


تفاجأ بصوت أبواق سيارة، وقف يلوح لها لتقف، وتفاجأ حين خرج منها عامر ثم رائد فنادر الذي قال:

-أنا كده اتأكدت إن هما العصابه بتوع امبارح...


اقترب عامر يتفحص عمرو ويقول:

-كنت حاسس إنك هنا، قلبي حس بيك وقولتلهم هو ده الشارع...


ضمه عامر بلهفة وأخذ يسأله:

-إيه اللي حصل؟ إنت كويس!


أومأ عمرو ولكن وجهه كان شاحبًا، فضمه رائد بشوق وقلق وهو يسأله عما حدث، فأشار عمرو لجسد سراب المُلقى على الأرض، فركض رائد إليها وجذب نادر عمرو من يده وأجلسه بالمقعد الخلفي للسيارة، بينما حمل رائد سراب، وجلس بالمنتصف بينهما ثم قبّل رأس عمرو وهو يسأله بلهفة.:

-إنت كويس يا حبيبي؟


أومأ عمرو في صمت، وأخذ رائد يسأله عما حل بسراب؟ في حين انطلق عامر بالسيارة لأقرب مستشفى، وعمرو لم ينطق سوى بقوله:

-سراب مأكلتش من الصبح، أغمى عليها وكنت بحسبها نايمه.


قال نادر:

-العصابه خطـ ـفتكم صح؟


وقال رائد:

-ايه اللي حصل يا عمرو؟


وقال عامر:

-انطق يا عمرو؟


صمت عمرو هنيهة، حاوط رأسه بكلتا يديه وقال بلسان ثقيل:

-أنا دايخ...


وبمجرد انهاءه الكلمة أغلق جفونه وغاب عن الوعي، بينما نطق اسمه الثلاثة في آن واحد، وبصدمة وقلق تفقده رائد وهو يلمس وجهه برفق....


-سوق بسرعه شويه يا عامر.

قالها رائد باضطراب، وهو يحدق بوجه أخيه الشاحب، ويهزه ثم نظر لسراب الغائبة عن الوعي هي الأخرى، وصاح:

-بسرعه يا عامر.

-طيب.

قالها عامر وهو يلتفت خلفه ويطالع أخيه، ارتعشت يداه وكاد يصطدم بسيارة أخرى، فصاح نادر:

-اقف... اقف وانزل أنا اللي هسوق.


ضغط عامر مكابح السيارة فجأة فدوى صوت احتكاكها، وارتجل من السياره هو ونادر يتبادلان الأماكن.

استغفروا🌸

                   ★★★★★

وبينما كانت تقى تفكر في سراب واختفائها المباغت غشيها النعاس وهي تجلس ساندة رأسها براحة يدها ومرفقها مثبت على ذراع الأريكة، انتفضت فجأة من نومها وفتحت جفونها ونبضها مرتفع، ودقات قلبها تتسارع وجبينها يتفصد عرقًا، أخذت تلتفت حولها يمنة ويسرة في فزع ولا أحد جوارها، فقد رأت نفس الحلم الذي مر بها قبل عدة أعوام وبعد فترة منه فقدت والدتها للأبد...


وضعت يدها على صدرها وهي تتذكر سراب، وتخشى أن يكون مكروهًا قد أصابها، نهضت واقفة لتجد نداء وكارم بالشرفة يتابعان الشارع الفارغ في صمت مطبق، بينما كان دياب بغرفة مجاورة لازال يجلس على سجادة الصلاة يدعو الله أن يعود ابنه سالمًا...


وفي الشرفة

سألتهما تقى بلهفة:

-مفيش أخبار؟

-أنا برن على رائد أهوه... يارب يرد ويطمننا بأي أخبار.

قالتها نداء وهي تمسك هاتفها تزامنًا مع اجابة زوجها رائد عليها...


*********

على نحوٍ أخر في بيت وئام 


كلما حاولت «شيرين» النوم شعرت بخفقة غريبة في قلبها وانقباضة في صدرها، فاعتدلت جالسة ووضعت يدها على قلبها وهي تتنفس وأخذت تلهج بالدعوات...

وكانت مريم تحمل أخيها الصغير «عبدُ الله» تتأمله بابتسامة وحبور، فابتسمت شيرين ودعت لها ثم حملت هاتفها لتطلب رقم زوجها دياب، فأجاب في سرعة وكأنه كان يمسك الهاتف بيده، قالت بابتسامة:

-ايه ده إنت لسه صاحي؟ للدرجه دي مش عارف تنام من غيري؟

-آآ... آه... أيوه، طبعًا.


-اومال عمرو فين يا دياب برن عليه من الصبح مش بيرد، تلاقيه بيلعب كوره أكيــــد.


-آآ... آه... أيوه.


-وإنت إيه اللي مسهرك ياخويا لدلوقتي؟ عندك أرق زيي ولا ايه!


-آآ... آه... أيوه.


ضحكت وقالت:

-هو ايه اللي آه أيوه! هو فيه حاجه يا دياب؟


قالتها تزامنًا مع سماعها صوت نداء:

-يا بابا، لقوا عمرو وسراب بس رائد بيقول إنهم في المستشفى.


قالت شيرين بصدمة:

-فيه ايه يا دياب؟ إنت مخبي عني ايه؟ مستشفى ايه!


-مفيش يا شيرين أصل رائد جه من السفر و... 


صمت دياب، فقالت بذهول:

-رائد جه! ازاي محدش يقولي!


تنهد دياب بعمق ولم يجد بُدًا من إخبارها بالحقيقة، فقال:

-هحكيلك اللي حصل.


وبعد فترة وجيزة


كان يحيى نائمًا على الأريكة، فهزته شيرين برفق وحين فتح عينه أبصر وجه شيرين ومريم يحملقان به فانتفض جالسًا وهو يسأل:

-فيه ايه؟!


-يحيى، قوم وصلني يا يحيى، قـــــوم.

قالتها بقلق شديد، فمسح وجهه وهو يقول:

-فيه ايه يا طنط؟


-قوم بس يا يحيى هحكيلك في الطريق؟

قالتها شيرين بنبرة مرتبكة، فنهض يحيى وأخذ يسألها عما بها؟ وهي تحثه على غسل وجهه اولًا، وأخذت توصي مريم:

-هقولك تعملي ايه بالظبط لحد ما أرجع... ومتصحيش أمك، فاهمه؟


قالت مريم بقلق:

-حـ... حاضر يا تيته بس طمنيني، خالو كويس؟

فقد كانت مريم تستمع لمكالمة دياب كاملة، تجاهلت شيرين سؤالها وقالت:

-بصي يامريم لو أمك صحيت وسألت عني قوليلها خالو رائد رجع من السفر وتيته راحت تشوفه، ماشي؟


-حاضر... بس ابقي طمنيني.


خرجت شيرين تتأبط ذراع يحيى، الذي كان خامل الملامح ولازال أثر النوم عالقًا بجفونه، سألها عما حدث وأخذت تحكي له ما قاله دياب عن سراب وعمرو، وانتهت بقولها:

-بسرعه عشان أروح المستشفى معاهم، أنا كان قلبي حاسس عمك دياب صوته مخنوق أنا عارفاه كويس.


قاطعها يحيى بقوله:

-إن شاء الله خير متقلقيش.


ابتسمت شيرين بحزن وربتت على يد يحيى بحنو، فقال:

-ربنا يطمننا يارب.

استغفروا❤️

بقلم آيه شاكر 

                    ★★★★★★

وفي المستشفى

استيقظت سراب من سُباتها أو غيبوبتها تلك، وجدت نفسها بمكانٍ أخر، بغرفة مستشفى وعلى فراش المرضى، أخذت تتذكر كيف وصلت هنا؟ كانت كطفلٍ سرقه النوم وحين فتح جفونه وجد أنه بمكانٍ أخر...


أبصرت تقى المستلقية على فراش قبالتها، فلم تود إيقاظها، وحين تذكرت هند وما حدث، قالت بهمس:

-هند! يا ترى عملوا فيها ايه؟ وعمرو! فين عمرو؟


أخذت تبكي بنشيج مكبوح حتي لا توقظ تقى، وتمسح عبراتها بيدها، ثم تحاملت على حالها لتخرج من الغرفة وتسأل عن عمرو...


من ناحية أخرى 

في غرفة أخرى على فراش للمرضى يجلس عمرو على طرفه...

أخذ «كارم» يوصي عمرو للمرة الثالثة ألا يخبر أحد بما حدث كي لا يعرض حياته وحياة سراب لخطر هما في غنى عنه، قال عمرو بعناد:

-يا عمي كارم احنا لازم نبلغ الشرطة.

-لا لا يابني أنا طول عمري ماشي جنب الحيط، بلاش شرطه، لو بلغت الشرطه مش هيسيبوا سراب في حالها.

-مين اللي مش هيسيب سراب في حالها؟ أنا مش فاهم حاجه!!


-مش مهم تفهم دلوقتي أنا هحكيلك كل حاجه بس بعد ما أطمن على سراب، وإنت متحكيش لحد حاجه يا عمرو بالله عليك عشان خاطري يابني.


أطلق عمرو تنهيدة وقال:

-ماشي يا عمي كارم مش هقول حاجه إلا لما أفهم...


وبالخارج كانت باقي العائلة تقف حين خرج عمرو من الغرفة يسير على قدميه وبحالٍ جيده.


ضمه والده «دياب» وقال:

-حمد الله على السلامه يابني، ايه اللي حصلك ده؟

-مش وقته يا بابا.

قالها بوهن ونظر لوالدته «شيرين» التي حثته أن يجلس جوارها، ففعل وسند رأسه على كتفها، ثم قال:

-أنا بحبك أوي يا ماما.

-وأنا كمان يا قلب ماما...

قالتها شيرين بدموع وحاوطت كتفيه بذراعها وأخذت تلهج بدعوات أمٍ وبقلبٍ صادق نقي لن يجد الإنسان أصدق منه مهما قابل في حياته.


دلف كارم لغرفة سراب فوجدها تقف قبالته، أغلق الباب ورنى إليها عانقها فبكت، ورفعت رأسها في سرعة لتسأله عن عمرو، طمئنها أنه بخير، فتنهدت بارتياح وقالت:

-وهند؟ لقيتوها؟

قال:

-إنتِ لازم تنسي اليوم ده، متتكلميش فيه بينك وبين نفسك، هند مع أهلها احنا ملناش دعوه بحد، مش هننقذ العالم.


ارتفعت شهقات سراب، وهي تردد:

-ازاي يعني يا جدو؟ إنت مربتناش على كده، مش إنت قولتلنا نساعد اللي محتاجنا!


عانقها كارم وربت على ظهرها قائلًا:

-عشان خاطري يابنتي انسي اليوم ده، انسي الناس اللي إنتِ قابلتيهم دول! إحنا ملناش دعوه... ملناش دعوه.

                  ★★★★★

وبعد مرور أسبوع...


لم تخرج خلاله «سراب» من غرفتها إلا قليل وانصاعت لأوامر جدها بعدما حذرها ألا تخبر أحد بأي شيء مما حدث، ولم يفسر لها أي شيء، فلاذت بالصمت، حتى حديثها مع تقى كان مقتضبًا، لكنها تتسائل دومًا أين باقي عائلتها؟ أين عائلة والدها؟ ولمَ يتهرب جدها من إخبارها عنهم ويضطرب حين تذكرهم أمامه! 


وبصعوبة بالغة قررت أخيرًا أن تنسى ذلك اليوم وتنسى أنها قابلت هند، لابد وأن تركز في حياتها وعلى أحلامها، حلمها الذي لا تستطع نسيانه ولا تجاهله، لذا عادت تروج لنفسها على تطبيقات التواصل الإجتماعي علها تجد أي عمل أخر كخبيرة تجميل، فلن تُقلع عن حلمها مهما كلفها الأمر.


كان اليوم هو يوم الجمعه وقد أوشك الآذان أن يُرفع وصدح صوت مكبرات الصوت من المساجد بالقرآن الكريم...

خرجت سراب من المرحاض فقابلتها تقى بابتسامة، وقالت:

-إيه يا سراب هتفضلي مكتئبه كده كتير؟

-أنا مش مكتئبه!

قالتها سراب بنبرة جامدة، فزفرت تقى ضاحكة وهي تقول:

-واضح... طيب مبقتيش تلعبي رياضه ليه هتحسن مزاجك.

افتر ثغر سراب معلنًا عن ابتسامة باهتة، وقالت:

-ياريت أقدر أرجع زي زمان... مع إني قررت أنسى لكن ضميري بيأنبني... لو هند حصلها حاجه حاسه إن ذنبها في رقبتي أنا.

-خلاص يا سراب انسي الموضوع ده، مفيش في ايدك حاجه غير انك تدعيلها، بصي عشان تنسي اسمعي كلامي وارجعي العبي رياضه.


أطلقت سراب تنهيدة حارة، وقالت:

-بفكر أشترك في چيم عشان أعمل عضلات وكده، ويا سلام لو أنا في يوم من الأيام أفتح چيم باسمي بعد ما أتخرج وأساعد بقا البنات تعمل فورمه.


ضحكت تقى وقالت:

-چيم! أنا أول مره أسمع عن حد في كلية دراسات اسلاميه وفتح چيم، سراب يا حبيبتي إنتِ أصلًا مش عارفه إنتِ عايزه إيه، عايزه تبقي ميكب أرتست ولا ايه بالظبط!


-أنا فعلًا مش عارفه أنا عايزه إيه عشان كده دخلت معاكِ الكليه اللي إنتِ اختارتيها والقسم اللي اختارتيه وأنا أصلًا مش بحبه.


جلست سراب على طرف فراشها، وأضافت وهي تُطالع وجه تقى:

-نفسي أعمل حاجه في حياتي مش عايزه يكون أكبر إنجاز في حياتي إني أتجوز وأخلف وبس، عايزه أسيب أثر.


-أثر!

قالتها تقي مستنكرة، وأكملت:

-وأنا نفسي تفوقي لنفسك وتعرفي إنتِ عايزه إيه بالظبط متمشيش مع التيار وخلاص.


وقفت سراب وقالت بإصرار:

-تمام وأنا عايزه أروح چيم وأعمل فورمه.


-هنشوف الموضوع ده بعد ما نحضر سبوع النونو... يلا عشان تيجي معايا.


زفرت سراب وقالت:

-مليش مزاج هتلاقي عمرو هناك وهيضايقني وأنا مش ناقصه بصراحه.


قالت تقى:

-يلا بس وإحنا مش هنقعد في المكان اللي هو فيه، هنقعد شويه مع أبله هيام وأبله وئام وأبله نداء وأبله ريم حبيبتك...


ابتسمت سراب وقالت:

-تمام بس متنسيش موضوع الچيم لازم نشوف مكان كويس.


على نحو أخر


كان كارم يستمع لحديثهما، تنفس الصعداء وقد أدرك أنه اتخذ قرار صحيح، وسينفذه، فتح الباب بهدوء وخرج من البيت ليؤدي صلاة الجمعه...


وبعده بفترة وجيزة خرجتا سراب وتقى من البيت قاصدين بيت وئام...


★★★★

وبعد انقضاء الصلاة


خرج كارم من المسجد ووقف ينتظر عمرو فقد تهرب منه لإسبوع كامل كي لا يضطر أن يفشي سر أخفاه لأعوام، أشار كارم لعمرو، فأسرع إليه ظانًا أن كارم سيخبرة بعلة اخفاءه الأمر عن الشرطة، رآهما دياب عند خروجه من باب المسجد وهما يسيران معًا، فأسرع ليلحق بهما، فمؤخرًا بدأ يشعر أن كارم وراءه أمر ما، خاصة حين أصر ألا يخبروا الشرطة حين اختفت سراب وعمرو، ورغم أنه علل ذلك بأنه خشى أن تصاب سراب بأي سوء لأن الخـ ـاطف طلب منه فدية ولكن لازال هناك الكثير والكثير غامض في هذا الأمر...


من ناحية أخرى، بعد عدة خطوات نطق كارم:

-هو إنت مش كنت عايز تفتح چيم يا عمرو؟

-أيوه بس... بس لسه الفلوس... دعواتك.


حمحم كارم، وسعل عدة مرات قبل أن يقول:

-طيب أنا مستعد أساعدك بمبلغ وكمان بالمكان، والتراخيص وكل حاجه بس ليا عندك طلب.


ابتهج عمرو وقال:

-حضرتك بتتكلم بجد؟ 


أومأ كارم بابتسامة فاترة، فقال عمرو بحمـ ـاس:

-طيب طلب ايه؟ دا إنت تأمر يا عمي كارم.


صمت كارم هنيهة ثم قال:

-سراب هتكون معاك... هي بتحب الرياضه وأنا عايزها تتشغل.


سقط جزء من حمـ ـاس عمرو، فهو وسراب لا يتوافقان أبدًا، ولكنه على أعتاب تحقيق حلمه لذا لا مانع من التأقلم مع عناد تلك الفتاة، سأل:

-اه عشان تبطل شغل الكوافيره ده، صح؟


-مش بس كده عشان حاجه تانيه مش مهم تعرفها دلوقتي.


ران عليهم الصمت وهما يسيران في هدوء ظاهري، كان عمرو مشوش يفكر في عرضه بينما هناك سؤال أخر يُلح عليه لطرحه، مما دفعه لقول:

-هو حضرتك ليه مخلتناش نبلغ الشرطه عن الناس اللي خطفونا؟


-مينفعش يا عمرو.


-هو إيه اللي مينفعش؟!


انفعل كارم قائلًا:

-يعني مينفعش أقول حاجه مش عايزك تدخل في الدايره السوده دي!


-أنا مش فاهم حاجه!

قالها عمرو، فرد كارم:

-وأنا مش عايزك تفهم لأن الأحسن انك متفهمش.


قال عمرو بإصرار:

-بس أنا عايز أفهم بعد إذنك.


توقف كارم ونظر بعيني عمرو ثم ربت على كتفه وأطلق تنهيدة طويلة، قبل أن ينطق:

-سراب هتكون شريكه معاك في الچيم.... وعلى المغرب تعالى خد الفلوس ونتكلم في التفاصيل... ومتسألنيش عن أي حاجه تانيه عشان أنا مش هقول حاجه.


قالها كارم ونظر خلفه فوجد دياب قد لحق بهما فسار معهما وأخذا يتبادلان الحديث، وثقلت خطى عمرو فلحق به عامر ورائد الذي سأله:

-عمك كارم كان عايز ايه؟


-هيساعدني أفتح چيم.


-مش عارف ليه حاسس الراجل ده مريب!

قالها رائد فزفر عامر ضاحكًا وقال:

-مريب ولا عجيب المهم هيساعده ويسانده... عقبال ما حد يساعدني ويكتشفني أنا واختراعاتي.


لكزه رائد بذراعه وقال:

-اختراعات ما يعلم بها إلا الله.


ضحك الإثنان بينما كان عمرو شاردًا، يفكر في كلام كارم تزامنًا مع لحاق يحيى ومحمد بهم، وقول يحيى بابتسامة مرحه:

-هتتغدوا عندي النهارده.


قال محمد ضاحكًا:

-ما أنا قولتلك امسك الميكرڤون في الجامع وعرف الناس إنك هتغدينا النهارده دي المره العاشره تقولنا الجمله دي.


قال عامر:

-أهم حاجه تدوني سبوع أصل أنا بحب الفشار والشوكولاته والحاجات دي.


قال يحيى:

-متقلقش هنوزع على الكل ونفرح العيال كلها...


ضحكوا وقال رائد: 

-عارفين اليوم الحلو ده ناقصه ايه؟


قال محمد:

-الواد رامي.


دخلوا لشارع مجاور إلا عمرو الذي شرد وسار صوب بيته، فعاد إليه عامر، سأله:

-مش جاي معانا ولا ايه؟

-هغير هدومي وآجي.

فقد كان يرتدي عباءة بيضاء اعتاد أن يصلي بها الجمعة، أومأ عامر ولحق بالبقية في حين ذهب عمرو لبيته...

استغفروا ❤️ 

                  ★★★★★

وبعد فترة في بيت وئام الذي يفصل بينه وبين بيت والدها شارع واحد...


اجتمعت العائلة، كان السيدات يجهزن مائدة الغداء، بعدما وصل الرجال، فقد كان حفلًا عائليًا...


وضعت شيرين طبق على المائدة ثم سألت عامر:

-هو الواد عمرو مجاش يتغدى ليه؟


قال عامر:

-قالي هيغير هدومه ويجي ورانا.


سألت شيرين دياب:

-وإنت مجيبتش الحاج كارم ليه يابو رامي؟


-والله ما وافق أبدًا فسيبته براحته.


ومن ناحية أخرى

بحث عامر بنظراته عن تقى فلاحظ اضطرابها كانت تحمل هاتفها وتزفر بقلق، فمال عامر على هيام وقال:

-روحي شوفي كده تقى مالها!

-ماتروح تسألها إنت هو أنا هفضل كده مرسال بينكم لإمته؟!

-لحد ما ربنا يفرجها يلا روحي خليكِ جدعه بقا...


رمقته هيام بلطف، وابتسمت فهي تعلم بمشاعره نحوها وتتعمد الحديث عنه أمام تقى كي تجذبها إليه، لا تعلم أن تقى لا تحتاج لأي حديث!


وقفت جوار تقى تسألها عما بها، فقالت تقى:

-برن على بابا مش بيرد... أنا قلقانه عليه وعايزه أمشي.


كان عامر يقف خلفهما ويرهف السمع، ظهر فجأة وقال:

-لا متمشيش، آآ... متقلقيش يا تقى آآ... أنا هرن على عمرو وأخليه يشوفه، عمرو لسه في البيت.


لم ينتظر ردها وحمل هاتفه يطلب أخيه الذي أجاب عليه على الفور، سأله عامر عن كارم وأوصاه أن يذهب إليه ويطمئنهم، ثم نظر لتقى وقال:

-دقيقتين بس عمرو هيلبس ويروحله... متقلقيش.


وكانت نداء تقف جوار رائد، يتابعان عامر ونظراته وكلامه لتقى ثم نظرا لبعضهما وابتسما، فقد حملتهما تلك النظرات لماضيهما بسرعة الريح، نظرت نداء ليد زوجها التي امتدت وأمسكت بيدها، خاطبته بهمس:

-شامم؟

-أيوه الأكل ريحته جميلة...

-أكل ايه! دي ريحة الحب بتهفهف في المكان على رأي عمرو.


قالتها نداء وضحكت، فضحك رائد وقال:

-أكيد دي ريحة حبي أنا يا دودو.


ابتسمت نداء ونظرات الحب تطل من عينيها، ليحتضنها رائد بعينيه قبل أن يضيف:

-ربنا يرزق الجميع العفه.

                    ★★★★★

وأمام بناية شقة كارم

من سيارة فخمه ارتجل رجل في عقده الخامس يرتدي حُلة أنيقة وساعة يد ذهبية وربما ثمينه، رآه عمرو من شرفة منزله، فأخذ يتابعه بترقب حتى اختفى داخل البناية، ظل مترقبًا لأي طابق سيدخل حتى رأي طيفه من خلف ستار رقيق أمام شرفة كارم، رآه يرفع سبابته في وجه كارم وكأنه يهدده أو يصرخ عليه فأخذ عمرو يعدو متوجهًا لبيت كارم.


وما أن اقترب عمرو من الشقة سمع حوارهما لكنه كان باللغة الإنجليزية فلم يفهم عمرو جُل ما يقولان إلا جملة باللغة العربية نطق بها الرجل:

-إنت السبب في دمار حياتنا كلنا.


ثم جملة بالأنجليزية:

-لابد وأن ينتهي كل شيء في أقرب وقت.


ثم عاد يتحدثان بالإنجليزية، واحتدم النقاش بينهما، وعمرو يلتقط كلمات متقطعة مثل:

"قتـ ـل، الكثير من المال، سراب، وتقى.." ثم لا يفهم أي شيء، ولأول مرة يعرف أن كارم يتحدث الإنجليزية بطلاقة...


وحين لاحظ عمرو انتهاء الحوار ودنو الرجل من باب المنزل ركض للأعلى ليختبئ، حتى اطمئن لنزول الرجل....


نظر عمرو من إحدى نوافذ الدرج على ذلك الرجل الغريب، وهو يأمر سائقه بإشارة من يده لينطلق...


نزل الدرج والتساؤلات تمور برأسه، يسأل نفسه من هذا الرجل؟ وعمَ تحدثا؟ ولمَ لم يتركه كارم ليخبر الشرطة بما حدث معه هو وسراب ذلك اليوم؟ لاشك أن ذلك العجوز يخفي عنهم أمر جلل! ولكن ماذا يخفي؟


أفاق عمرو من تساؤلاته تلك، قبالة شقة كارم وقبل أن يدق الباب لاحظ أنه مفتوح، ففتح بهدوء ودخل ولازال التفكير يقتات على عقله، كان سينادي كارم لكن تلجم لسانه وجحظت عيناه بصدمة وهو ينظر لما هو أمامه، وما لم يتخيل قط أنه قد يراه...


ارتبك كارم حين التفت خلفه فرأى عمرو، وهب واقفًا...

الفصل الخامس من هنا


تعليقات



×