رواية جمر الجليد الفصل الثالث والعشرون بقلم شروق مصطفي
فتحت باب الغرفة بتثاقل، لكنها تفاجأت بوجود أخر شخص يقف داخلها...! حين وقع بصرها عليه، اندهشت تمامًا من حضوره غير المتوقع، لتُطلق بغير وعي: "أنت!".
رفعت كتفيها في حركة متثاقلة كمن أرهقها الجدل المستمر، وهتفت بتعب ممزوج بالاستسلام:
"ارحمني بقى! عايز مني إيه تاني؟"
جلست على طرف الفراش، تغلف ملامحها سحابة من الإرهاق، وقالت بنبرة مُتعبة:
"أظن إن الأفضل أبعد عنكم كلكم... وأبعد أنت كمان، وسيبني فحالي. إيه تاني حصل؟ جاي دلوقتي تقولي إني السبب، فيه؟"
تقدم نحوها بخطوات ثقيلة، وجلس بجانبها، يظهر على ملامحه أسف عميق يُخفيه بضعف كلماته:
"سيلا... أنا آسف على كل حاجة عملتها من يوم ما عرفتك."
رفعت رأسها ببطء، تتطلع إليه بعينين تحملان مزيجًا من السخرية والمرارة، لتبتسم ابتسامة تهكمية مشوبة بالألم:
"آسف؟ معقول؟! عاصم باشا نفسه جاي يتأسف لي؟ لا... أنا أكيد بحلم!"
سكتت لحظات تتجرع خلالها صدمة وجوده، ثم تابعت بنبرة واثقة لكنها مشوبة بالتعب:
"أو يمكن جاي علشان أقول لك إني مسامحاك قبل ما أموت، مع إني متأكدة إنك مفيش شعور ولا أحساس. عادي يعني... لو مسامحتكش، ما هتفرقش معاك!"
حاول التماسك، لكن لهفته خانته، فهتف:
"بعد الشر عليكِ يا سيلا! انتي هتخفّي وتعدّي بالسلامة... أنا مش عاوز أي حاجة غير نبدأ صفحة جديدة. ننسى كل اللي فات... كل الخلافات والمشاكل. إيه رأيك؟"
رغم الألم الذي كان ينهش جسدها، حاولت ألا تُظهر ضعفها أمامه، لكنها لم تستطع كبح اندهاشها من كلماته. تناست آلامها لوهلة، لتضحك ضحكة قصيرة، خرجت منها رغماً عنها، وقالت بنبرة ممزوجة بالسخرية والقهر:
"صفحة جديدة؟ مع مين؟ معاك إنت؟ هاه هاه... بجد، ضحكتني وأنا مش في مزاج للضحك أصلاً!"
ساد الصمت للحظات، بينما بدأت ملامح وجهها تتلوّى من الألم. حاولت جاهدة أن تقاوم، لكن الألم كان أقوى منها. شعرت برغبة عارمة في الصراخ، فيما هو ينظر إليها بقلب مثقل بالندم. أراد لو يقترب منها، لو يحتضنها، لو يُعيد الزمن للوراء ليعوّضها عمّا فات، لكنه بقي متجمداً في مكانه، لا يجد ما يقوله.
قطعت صمتهما بصوتٍ بالكاد يخرج من حنجرتها:
"طلبك مرفوض، يا عاصم. ابعد عني. مش عايزة أشوفك تاني في حياتي كلها. وأسفك... مرفوض. أنا مش مسامحاك!"
قبضت يدها على ملاءة الفراش، والوجع يكاد يفتك بجسدها. فجأة، لم تعد تقوى على الاحتمال أكثر، لتصرخ بكل ما أوتيت من قوة:
"آآآآآآآه! مش قادرة... اطلع براااااا! مش عايزة أشوفك تاني! براااااا!"
صرختها الأخيرة اخترقت أذنه كطعنة، لكنها لم تكن مجرد صوت؛ كانت وجعًا ناطقًا، كأنها تلفظه خارج حياتها للأبد.
ارتعب من حالتها: اهدي اهدي خلاص همشي همشي طيب.
هرول عاصم بخطواتٍ سريعة نحو الطبيب يناديه بفزعٍ لم يستطع إخفاءه، وما إن وصل الطبيب حتى انطلق يسأله بلهفة:
"مالها؟ مالها؟ فيها إيه؟"
أجابه الطبيب بنبرة هادئة وعملية:
"اهدأ، مفيش حاجة خطيرة. عطيتها مسكنًا، وبعد شوية تقدر تمشي عادي."
تنفس عاصم قليلًا وكأن الهواء قد عاد إلى رئتيه، لكنه لم يستطع منع نفسه من السؤال مجددًا:
"طيب... إمتى ميعاد الجلسة الثانية؟"
رد الطبيب:
"بعد خمس أيام. لكن لازم تركزوا على علاج الأنيميا، لأن وضعها كده هيأثر على العلاج بصورة سلبية. بعد إذنك."
تركه الطبيب ورحل، بينما وقف عاصم يحاول تهدئة نفسه. لكن قلبه كان مثقلًا بالحزن عليها. شعر بعجز كبير؛ هو الذي طالما اعتاد السيطرة على كل شيء، يقف الآن ضعيفًا أمام ألمها. قرر ألا يتركها وحدها، وظل منتظرًا خارج الغرفة حتى خرجت.
ما إن فتحت الباب وظهرت أمامه حتى تقدم نحوها سريعًا، وقال بحزمٍ لا يقبل الجدال:
"هوصلك. مش هينفع تمشي وإنتِ في الحالة دي. ومن غير نقاش... قدامي."
وقفت تنظر إليه بدهشة من هذا التحول المفاجئ في شخصيته، ثم أردفت بتهكم:
"لسه ما مشيتش؟"
تخطته متجهة نحو الخارج، بينما تبعها دون أن يقول شيئًا. وما إن وقفت على الرصيف لتبحث عن سيارة أجرة، استدارت إليه فجأة، ونظرت إليه بغضبٍ مكتوم:
"أنا همشي لوحدي زي ما جيت. ما تتعبش حالك."
لم تمنحه فرصة للرد. أشارت لأول سيارة أجرة مرت أمامها، صعدت بداخلها، وأغلقت الباب خلفها دون حتى أن تنظر إليه.
وقف عاصم يراقبها وهي تبتعد، ثم شدّ شعره بضيق وهو يتمتم:
"عنيدة! ...، ماشي يا سيلا. نشوف آخرتها معاك."
لم يتردد طويلًا. صعد إلى سيارته، وأدار المحرك، وبدأ يتتبع سيارة الأجرة من بعيد. ظل يراقب الطريق بصمت، يزداد فضوله كلما اقتربت المسافة.
أوقفت سيارة الأجرة أمام مركز صغير. نزلت سيلا واتجهت نحو الداخل، بينما أوقف عاصم سيارته على الجانب وتبعها بهدوء. دخل خلفها، وكانت المفاجأة بانتظاره.
رآها تقترب من مجموعة تجمّعوا في إحدى الزوايا. كانت أختها ومي هناك، ومعها وليد، ومعتز أيضًا. وما إن رأوه قادمًا خلفها حتى ظهرت الدهشة على وجوههم جميعًا.
قطع وليد الصمت، متحدثًا بنبرة ساخرة، محاولًا كتمان ضحكته:
"آه يا سلام! الحبايب كلهم جايين عشاني. ياااه... معرفش إنّي غالي عليكم كده. عاصم باشا بنفسه جاي برضه؟! مش ناقص غير عامر... كده أكلمه ينزل من الغردقة هو ومراته وعياله!"
ضحك الحاضرون، لكن سيلا كانت تقف بعيدًا، متجاهلة عاصم تمامًا، وعينيها تُخفيان خليطًا من الألم والغضب. بينما عاصم، الذي لم يعر سخرية وليد أي انتباه، كان مشغولًا بشيء واحد فقط: الاقتراب من سيلا بأي وسيلة.
رفع عاصم حاجبه بنظرة تجمع بين الجدية والسخرية، وقال موجهاً حديثه إلى وليد:
"خفّة حد قالك قبل كده إنك خفيف؟"
أجابه وليد بمرح وهو يبتسم ابتسامته المعتادة التي لا تخلو من مشاكسة:
"كتير ولا أية يا زيزي... مش عارفين نعدهم أصلاً."
تدخّل معتز، يرمق وليد بنظرة نارية ورافعاً حاجبه باستفزاز:
"يا مين؟ تعالى هنا! مين؟ تعالى، تعالى بتهرب ليه؟ أنا هقولك!"
لم ينتظر وليد مزيداً من التوبيخ، أطلق ضحكة صغيرة وهو يلوّح بيده قائلاً قبل أن يهرب مبتعداً:
"أنا هاخد اللي ليّا وأطير!"
ثم أمسك بيد همسة وابتعد عن الأجواء المشحونة، تاركاً معتز وعاصم خلفه، والابتسامة لا تفارق وجهه.
من بعيد، كانت سيلا تراقب الموقف، تشعر بثقل لا علاقة له بما يجري حولها. التفتت إلى صديقتها مي، وبنظرة معبّرة، همست لها:
"تعالي ننسحب، نقعد في أي كافيه بعيد عنهم. أنا خلاص، على آخري من وجع دماغهم ده."
قهقهت مي على فكرة صديقتها، وردّت مازحة:
"يلا بينا، أنا معاكِ في الهروب الكبير!"
وبالفعل، تسللت الفتاتان بهدوء حتى ابتعدتا عن الشباب، واتجهتا إلى أحد المقاهي. جلستا هناك، حيث الأجواء كانت أهدأ بكثير من الفوضى السابقة.
نظرت مي إلى سيلا، تلاحظ علامات الإرهاق على وجهها، وقالت بتعاطف:
"شكلك تعبتي... ياريتني كنت جيت معاكي الجلسة. النهارده جيت على الفاضي!"