رواية جمر الجليد الفصل السادس والعشرون 26 بقلم شروق مصطفي


رواية جمر الجليد الفصل السادس والعشرون بقلم شروق مصطفي 

في الخارج، كان عاصم يوبخ معتز قائلاً:

"والله ما عندك ذرة دم واحدة! قلنا هنستنى شوية ونسألها، وانت قاعد مبلم! كمان تقول ياريت قهوة؟ مش شايفها مش قادرة توقف؟!"


رد معتز بنبرة هادئة كأنه غير مهتم بالتوبيخ:

"بصراحة، كنت عاوز فنجان قهوة تاني من إيديها. أول واحد شربته دخل مزاجي، وكنت عاوز أختم بيه يومي. فيها إيه يعني؟"

بقلم شروق مصطفى جمر الجليد

اغتاظ عاصم وزفر بغضب:

"البعيد مش بيحس! مش شايفها مش قادرة تفتح عنيها أصلاً؟ وإنت تقول عاوز تختم بيه كمان؟! إحنا في إيه ولا في إيه يا بني آدم!"


تدخل وليد ليفصل بينهما وقال بابتسامة صغيرة:

"خلاص يا عاصم، سيبك منه. عارف أخوك تافه، مش هتخلص منه. بقولكم إيه، أنا همشي أسبقكم. يلا سلام، أشوفكم هناك."


ركب وليد سيارته وانطلق، تاركاً عاصم ومعتز يتشاجران.


نظر عاصم إلى معتز بسخرية وقال:

"يلا يا بتاع المزاج، سوق خلينا نروح نرتاح شوية."


قاد معتز السيارة، ولحقا بوليد حتى وصلوا جميعاً إلى المنزل. توجه كل منهم إلى غرفته الخاصة، وخلدوا إلى النوم، لكن الحزن ظل جاثماً


كانت سيلا تتوسط بساتين غنّاء، محاطة بزهور تفوح بأروع العطور وأشجار مثقلة بفواكه غريبة ذات مذاق لا يُقاوَم. الأطفال كانوا يمرحون بجانب مياه عذبة تتلألأ تحت أشعة الشمس، بينما يلهو شاب يشع وجهه نورًا مع فتاة ذات جمال ملائكي ترتدي فستانًا أبيض واسعًا كأنها إحدى حوريات الجنة. كانا يضحكان ويلعبان مع الأطفال، يملأ المكان فرحًا وسعادة.


لكن فجأة توقفا عن اللعب والتفتا للخلف، كأنهما ينتظران أحدًا. ابتسم الشاب ابتسامة صافية ومد يده قائلاً بحنان:

"سيلا، تعالي... وحشتيني."


كانت سيلا تقف على مسافة، غير مصدقة ما تراه. اقتربت ببطء، عيناها متسعتان من الدهشة، ولمست وجنتيه بخوف كأنها تخشى أن يختفي. قالت باندهاش وهي تتفحص ملامحه:

"بابا؟... إنت بجد؟"


ابتسم لها الشاب، ثم ردت الفتاة بجانبه بصوت دافئ وابتسامة هادئة:

"سيلا، حبيبة ماما، تعالي في حضني."


احتضنها الاثنان بحب ودفء، وبدأت الأم تهمس لها بحنان وهي تلمس وجنتيها بلطف:

"خلي بالك من نفسك يا قلبي... إحنا هنفضل حواليكي في كل مكان. خلي بالك من أختك همسة، وماتزعلنيش منك تاني، يا روحي."


لكن بعد لحظات، بدأ الاثنان يبتعدان عنها ببطء، محاولين أن يفلتوا من عناقها، بينما هي تتمسك بهما بقوة. صرخت بصوت مفعم بالرجاء:

"لا، لا... ماتسبونيش لوحدي! خليكوا معايا شوية، محتجاكم أوي... ملحقتش أشبع منكم!"


ابتسم الوالدان بحب وحنان وهما يبتعدان، والأب يكرر بصوت مطمئن:

"خلي بالك من همسة، همسة يا سيلا... خلي بالك منها."


بكت سيلا بحرقة، تركض للأمام في محاولة للحاق بهما، لكن كلما اقتربت منهما ابتعدا أكثر، كأنهما يتلاشيان تدريجيًا. استمرت في الصراخ:

"ماما! بابا! لا... ماتمشوش! خدوني معاكم... عايزة أعيش معاكم هنا!"


لكن الوالدين لم يتوقفا، وظلا ينسحبان للخلف، يداً بيد، حتى اختفيا تمامًا بين بساتين الجنة، تاركين سيلا وحيدة.


توقفت سيلا في مكانها، تنظر حولها بيأس، تبحث عن أي أثر لهما، لكن لم تجد أحدًا. سقطت على ركبتيها ودموعها تنهمر بغزارة، تردد بصوت مخنوق:

"ماما... بابا... ماتسبونيش..."


وظلت تناديهما، صوتها يملأ الفراغ من حولها، لكن دون جدوى.

بقلم شروق مصطفى

استفاقت سيلا من حلمها المثقل بالذكريات، وقلبها يعتصر ألماً. فتحت عينيها المنتفختين من أثر البكاء الذي أثقل جفونها منذ الأمس. جلست ببطء، وضمت ركبتيها إلى صدرها، ودفنت رأسها بين قدميها وهي تعانق نفسها بحزن شديد. أخذت تحدث نفسها بصوت متهدج، كأنها لا تزال تحاول تصديق ما حدث:

"كده تسبوني لوحدي؟! أعمل إيه دلوقتي؟ أقضي حياتي وحيدة من غيركم إزاي؟"


توالت الأفكار داخل رأسها، ذكرياتهم، أصواتهم، لمساتهم، كل شيء بدا بعيداً وكأنه لم يكن سوى حلم. شعرت بمرارة الفقدان تعتصر قلبها، ولم تستطع أن تمنع نفسها من الانهيار مرة أخرى.

انفجرت بالبكاء، صوتها مكتوم داخل الغرفة التي غلفها الصمت.


فجأة، شعرت بيد دافئة تربت على كتفها. رفعت رأسها ببطء، وقد غيمت دموعها على الرؤية، محاولة تبين من يواسيها. كانت مي، رفيقة دربها وصديقتها الأقرب، التي دخلت الغرفة دون أن تشعر بها سيلا، وجلست بجانبها. احتضنتها مي بقوة، وكأنها تحاول أن تطوقها بكل الحنان الذي افتقدته، وقالت بحزن وعيناها تلمعان بالدموع:

"قلبي معاكي يا حبيبتي."


انهارت سيلا داخل أحضانها أكثر، كأن مي كانت طوق النجاة الوحيد في بحر أحزانها. تشبثت بها بشدة، كأنها تخشى أن تفقدها أيضاً.


بعد لحظات، أبعدتها مي قليلاً عن حضنها، لكنها أمسكت يديها بقوة تبث لها الثقة والأمان. نظرت في عينيها الرماديتين التي أطفأ الحزن بريقهما، وقالت بحزم ممزوج بحنان:

"سيلا، إنتي أقوى من كده... فوقي يا حبيبتي!"


كانت سيلا تستمع، لكنها بدت وكأنها في عالم آخر، غارقة في ألمها وغير قادرة على النهوض. أخذت تهز رأسها بالنفي ببطء، غير مصدقة أن لديها القوة للاستمرار.


شدت مي يديها أكثر وقالت بجدية أكبر:

"مفيش حاجة اسمها لا! أنا مش بس صديقتك، إحنا أكتر من إخوات، فاهمة؟ لازم تكوني قوية عشانك، طيب... حتى لو مش عشانك، عشان همسة! همسة يا سيلا محتجاكي أوي. فقدت النطق، وانتي العلاج الوحيد ليها. لو انتي وقعتي، هي كمان هتقع. انتو لازم تقووا بعض."


تنهدت مي وأخذت نفساً عميقاً قبل أن تكمل:

"حبيبتي، أنا مش بقولك متزعليش، أكيد إحنا كلنا زعلانين ومقهورين، مفيش أغلى منهم. بس الحزن لوحده مش هيغير حاجة. دي إرادة ربنا، وسنة الحياة. ناس بتموت وناس بتتولد، الحياة بتكمل، واللي بيفضل هو اللي في قلوبنا. بس همسة محتجاكي يا سيلا. لو انتي وقعت، هي كمان مش هتقدر تكمل."


توقفت سيلا عن البكاء فجأة، وكأن كلمات مي اخترقت جدار حزنها السميك. بدأت تعيد كلمات مي في رأسها مراراً:

"همسة محتجاكي... فاقدة النطق... لو وقعتي، هي كمان هتقع... خلي بالك من همسة..."


ربطت بين كلمات مي والحلم الذي رأته. ظلت تردد داخلياً:

"خلي بالك من همسة... همسة يا سيلا... همسة محتاجاني..."


فجأة، تركت يدي مي، ورفعت رأسها بسرعة. نطقت بصوت متهدج، كأن الكلمة خرجت رغماً عنها:

"همسة!"

الفصل السابع والعشرون من هنا


 

تعليقات



×