![]() |
رواية لعنة الخطيئة الفصل الخمسون بقلم فاطمة أحمد
عواصف.
_________________
رغم أن الليل قد أرخى سدوله منذ مدة لكن الليلة لم تنتهِ بعد، وكأنها مصرة على الإطالة قدر الإمكان حتى تُكشف جميع الأسرار وتُستنزف الطاقة المتبقية ..
في غرفة المجلس نهض العمدة من مقعده بعنف دافعًا الكرسي خلفه فصدر صوت احتكاكه بالأرض كأنه إعلان عن العاصفة القادمة.
كانت عيناه تقدحان شزرا وأنفاسه ثقيلة، ويداه تنقبضان بقوة كما لو أنه يحاول كبح غضب طاغٍ يكاد ينفجر من داخله.
ثم قطع صمته بصوت مرتفع ومليء بالغضب المكبوت :
- أنا عايز أفهم يا ابن سلطان الصاوي طالما كنت بتدور على سليمان ولقيته ليه مجيتش وبلغتني ليه فضلت مخبيه عليا وروحت هاجمته من ورا ضهري ؟!
التزم آدم الصمت للحظات يضغط فكَّيه بقوة مدركا أن أي كلمة ستخرج منه قد تكون بمثابة ضربة أخرى تهدم كل ما تبقى.
حاول أن يحافظ على هدوئه لكنه شعر بعرقٍ باردٍ يتسلل إلى جبينه فيما التوى الألم داخل صدره بينما يردد بتحشرج :
- الموضوع معقد يا عمدة مش سهل إني أشرح كل حاجة فجأة.
ضرب العمدة بعصيه على الأرض وهدر بتقريع غير مصدق لأنه يعيش هذا الشي مع أكثر شاب معروف بالركازة والثبات :
- مش سهل ؟! إنت كنت بتتحرك في ضهري ولولا اني راقبت خطواتك ولحقتك مكنتش هعرف باللي بيحصل نهائيا، هو ده ولاءك للقرية بتاعتك يا خليفة العمدة.
- أنا مش خليفة حد واتخليت عن منصبي للسبب ده أصلا.
- يعني ايه الكلام ده انت عاوز توصل لـإيه.
نظر إليه آدم نظرةً طويلة وعيناه مليئتان بصراع داخلي هائل ثم أخذ نفسًا عميقًا وأطرق برأسه للحظة، قبل أن يرفع عينيه مجددًا ويبرطم :
- الموضوع مش بسيط يا عمدة ياريت لو في اجابة سهلة تخليني اشرحلك بيها كل حاجة.
علق العمدة بلهجة حادة :
- هو ايه اللي مش سهل انت بتهزر معايا ؟
احنا التلاتة وصلنا لأن اسم الراجل اللي بتدور عليه هو سليمان وانا بلغتك انه واحد اتنفى من القرية بسبب جريمة سرقة ارتكبها ووالدك ووالد صفوان هوما المسؤولين ع النفي عشان كده رجع ينتقم مش كده ؟
أماء آدم بإيجاب فتابع الثاني :
- يبقى ليه مبلغتناش اول ما لقيت مكانه ومن امتى وانت بتشتغل لوحدك وكنت ناوي تعمل ايه لو أنا مظهرتش قدامك.
جاوبني لأني مش عاوز اجيب سليمان اللي مربوط جوا ده واخليه يرد ع تساؤلاتي.
ضغط آدم على فكّه، يعلم أن أي تردد منه سيزيد من حدة الموقف لكنه لم يكن يستطيع أن يلقي بالحقيقة دفعة واحدة فبلل حلقه الجاف ورفع رأسه ليقول :
- أنا لسه مكتشف مكانه من كام ساعة بس مكنتش مخطط للهجوم عليه وزيي زيك كنت بدور عليه من اول ما وصلت لإسمه وفي البداية كنت ناوي اجيبه لغاية عندك لما اقبض عليه بس ... بس الحقيقة اللي اكتشفتها خلتني ضايع ومش عارف المفروض اعمل ايه.
صمت آدم للحظة، يشعر أن كل خطوة إلى الأمام تقوده إلى حافة هاوية لا مهرب منها أما العمدة الذي كان يطالعه بغضب التقط نظرة الخذلان والانكسار في عيني الشاب الذي عهده فخورا وواثقا دائما.
فلانت تقاسيم وجهه رغما عنه واقترب من آدم ليضع يده على كتفه ويستدرك بنبرة أكثر رفقا :
- حقيقة ايه اللي مخلياك عامل كده ومش قادر تبص في وشي.
- حقيقة اللي حصل زمان وكانت السبب في اني انسحب من المنصب بتاعي لأن ضميري مرضيش يكمل فيه وهو بيعرف ان الكرسي مش من حقي.
زم العمدة حاجبيه أكثر وتحولت تقاسيمه إلى شك وريبة كأنه أحسَّ بأنه على وشك سماع شيء يقلب الدنيا رأسا على عقب.
- انت بتلمّح لإيه بالضبط ؟
أخفض آدم بصره للحظة، قبل أن ينهض واقفًا أمام العمدة يواجهه بصوت يجثم عليه الحجر وهو يهتف :
- سبب انتقام سليمان مش لأننا ولاد سلطان الصاوي وخالد الشرقاوي بس، هو رجع ينتقم من حد تالت عن طريقي رجع ينتقم من ستي لأنها مساعدتوش ويضغط علينا بـ سر بتاع جريمة عملوها هوما الاتنين سوا من سنين طويلة.
ساد الصمت للحظة لكنه لم يكن صمتًا عاديًا بل كان كأن الهواء قد تُرك بلا حركة، وكأن الجدران نفسها حبست أنفاسها. حدّق العمدة في آدم غير مستوعب واكتسب صوته حيرة وجهلا وهو يردد :
- جريمة عملتها حكمت هانم مع سليمان، ايه هي ؟
مرر يده في شعره باحثا عن طريقة أخرى لتفسير ما قاله لكنه يعلم أن الحقيقة عارية كما هي بلا رتوش أو تبريرات فاِستسلم في النهاية وأجاب بلا مواربة وعينين تقدحان ألمًا :
- العمودية مكنتش لعيلة الصاوي احنا خدناها بالغش والخداع.
العمدة الراحل كتب اسم جد صفوان في الوصية عشان يحكم من بعد ما يتوفى بس سليمان سرق الوصية الأصلية بأمر من ستي وحط اسم جدي أنا.
*** بعد مرور دقائق ثقيلة كثقل الدهر.
ضغط العمدة على عصاه مترجعا صدمة الحقيقة التي هزّته من الداخل ثم خطا خطوتين متثاقلتين مبتعدًا عن آدم عاجزا عن استيعاب الأمر.
- من امتى كنت عارف بالكلام ده ؟ عارف وساكت !
- عرفت من فترة لما حضرتك قولتلي انه كان بيشتغل عند ستي روحت استجوبتها وضغطت عليها وهي اعترفتلي...
ومن يومها قررت ان العمودية مش من حقي لأن المفروض عيلة الشرقاوي تستلمها بالوراثة، ضميري مقدرش يرتاح وأنا مقدرتش أكمل عشان مش عايز منصب جاي بالغش !
لم يستمع لجواب منه فنظر إليه آدم وأضاف مكملا :
- أنا مقدرتش أعيش بالكذبة ديه يا عمدة وعملت اللي حسيته صح وحضرتك من حقك تشوف اني خيبت ظنك أو كدبت وخبيت الحقيقة بس كان صعب عليا اكشفها للناس وأشوه سمعة واعتبار عيلتي.
مسح العمدة على وجهه بتزعزع أكبر غير مصدق لما يسمعه، يذكر أنه منذ سنوات عندما توفى والد آدم -سلطان الشرقاوي- لم يكن آدم في العمر الكافي الذي يجعله يستلم القيادة من بعده ...
لذلك رشحه المجلس للعمودية بدلا عنه وطوال هذه الفترة شهد عدة مؤامرات وأسرار جعلته يتيقن بأن الخيانات تصدر عن أكثر أشخاص غير متوقعين.
ولكن هذه الحقيقة بالذات شكلت إنهيارا خطيرا ... فاِتضاح أن السيدة حكمت لعبت بقرية كاملة لسنوات طويلة وتسببت في خلق عداوة مدمرة بين العائلتين يعني أن الجميع كان بيدقا بين يديها تحركه كيفما تشاء.
قطع الصمت حينما نادى على مساعده وأمره بجلب سليمان ليحضر هذا الأخير بعد دقائق ويدخل للقاعة مكبَّل اليدين، يجرّ خطواته على الأرضية بصوتٍ أحدث صدى خافتً ونظرةٍ ساخرة ارتسمت على وجهه بينما يسخر باِستهجان :
- بص بقى مين اللي ساكت ومش عارف يتصرف ! آدم الصاوي، حفيد العمدة اللي خد القرية بالخداع واقف دلوقتي ومش عارف حتى يدافع عن نفسه !
لكن قبل أن يكمل حديثه دوّى صوت العمدة بغضب قاطعًا كلماته :
- اخرس ومتتكلمش إلا لما اؤمرك فاهم.
تجمّد سليمان في مكانه لكن عيناه ظلتا تضيقان بمكر فيما بقي صامتًا على مضض ليتقدّم الآخؤ نحوه خطوة ويشير إليه بعصاه باِزدراء :
- قول الحقيقة وكل كلمة تطلع من بقك هتبقى تحت حسابي مفهوم.
مرر لسانه على شفتيه وردَّ بنبرة ماكرة :
- الحقيقة ؟ آه طبعا أنا اللي مستني اللحظة دي من سنين طويلة اللحظة اللي اقدر اقف فيها وأقول كل حاجة من غير ما حد يقدر يسكتني.
ثم نظر مباشرة إلى العمدة وتابع بصوت شابه الحقد :
- أنا مش راجع عشان انتقم وبس أنا راجع عشان أفضح اللي حصل عشان القرية كلها تعرف ان العمدة الراحل مكنش كاتب العمودية باسم عيلة الصاوي بس حكمت هانم ست العيلة هي اللي طلبت مني اسرق الوصية وأزوّرها عشان اسم جوزها يتحط بدل اسم الشرقاوي.
سقطت الكلمات في القاعة كالصاعقة لكن لم يكن هناك من يُبدي اندهاشًا لأن الجميع كان يعلم أن هذه الحقيقة قد كُشفت بالفعل ومع ذلك فسماعها من فم الوغد نفسه جعلها أكثر وطأة.
- لو كنت راجل بجد يا سليمان مكنتش هتقبل تشترك في جريمة زي ديه ولو كان عندك ذرة نخوة كنت ظهرت من زمان وكشفت الحقيقة مش استنيت كل ده عشان ترجع تعمل جرايمك وتنشر الفتنة بين الناس.
هدر العمدة بقسوة ضاربا الإهانة في الصميم ثم استرسل بصوت لا يحمل سوى الفتور :
- أنا قلت تتكلم بالحقيقة واهو اللي كان لازم يتقال اتقال، والباقي مش دورك انك تحدده.
أشار بنظرة واحدة لمساعده الذي فهمه وطفق يسحب سليمان من القاعة، ثم حول بصره إلى آدم الذي ظلّ صامتًا طوال الوقت، وكأنه يحاول أن يستوعب ثقل اللحظة وقال :
- وانت يا آدم بعد ما عرفت كل ده لقيت الحل السليم هو انك تنسحب ؟ طيب كنت ناوي تعمل ايه بعد ما تقبض على سليمان تقتله وتدفنه في الغابة هو كمان زي ما عملت مع مليجي.
- أنا لما قتلت مليجي كنت بدافع عن شرف مراتي ودفنته في الغابة عشان القصة متتكشفش وتتضرر سمعتها مش علشان اهرب من اللي عملته.
وبالنسبة لسليمان فأنا كنت هجي وأصارحك في أقرب وقت بس سكوتي كان مؤقت، وإلا فأنا كده كده متأكد من ان قصة الوصية المزورة هتطلع لبرا سواء رضيت ولا مرضتش.
برطم آدم بتزمت مغلف بالحدة وهو يدافع عن نفسه ضد التلميحات الباطلة ويرفض أن يكون في موقع المخادع المتلاعب، ثم ازداد صوته صلابة وهو يتابع :
- كنت ناوي اتحمل مسؤوليتي وأصلح اللي تقدر ايدي تصلّحه حتى لو كان ده معناه اني أخسر كل حاجة. واهو كل شي اتكشف دلوقتي وبتقدر حضرتك تعمل اللي تلاقيه مناسب.
توقع أن يتضايق العمدة أو يظل متجهما لكن على عكس توقعه أظهر هذا الأخير لَيْنًا وسماحة غريبتان على وجهه ثم ابتعد عنه نسبيا وقال بلهجة جدية :
- خلاص أنا سمعت اللي عاوزه منك انت دلوقتي بتقدر ترجع لبيتك وياريت اللي حصل الليلة ديه ميطلعش لبرا لحد ما اقرر اعمل ايه.
حدق فيه آدم لوهلة كأنه يحاول معرفة ما يفكر الآخر به حتى تنهد مومئا بإيجاب وغادر تاركا العمدة يطالع أثره ليقول في النهاية :
- طول عمرك صاحب حق ومبترضاش بالغلط يا ولد الصاوي.
________________
عاد للسرايا أثناء بزوغ الفجر فقابلته الجدة وأخذته إلى غرفتها لتهدر باِنفعال مغلف بالخوف :
- اللي سمعته صحيح يا حفيدي بجد العمدة دخل عليك ساعة المداهمة ؟!
- ايوة يا ستي وشاف سليمان كمان.
- اوعى تكون ...
سألته بترقب رغم أن تعبيراته تجيب عن تساؤلاتها، وحينما طال صمت آدم انتفضت حكمت قابضة على ياقة قميصه وصرخت :
- انت اتجننت روحت وحكيتله ع كل حاجة !!
قابلها بجمود ونظرات صقيعية قبل أن يمسك قبضتها وينزعها عنه بهدوء دون تزعزع ثباته :
- حتى لو انا متكلمتش كده كده جاب سليمان واستجوبه قدامي يا ستي وعرف ان آل الصاوي مجرد عيلة خدت حق غيرها بالغش والخداع.
- لا ... لا ده كان حقنا انت فاهم العمودية والسُّلطة من حق الصاوي وبس احنا خدنا اللي بنستحقه يا حفيدي بس انت جيت في لحظة ودمرت كل حاجة انا تعبت عليها لو قتلت سليمان اول ما شوفته مكنش العمدة هيلاقي فرصة يحقق معاه و...
كتم شتيمة بداخله ثم قاطعها صائحا بصبر نافذ :
- كفاية بقى تعبت وأنا بشرحلك خلاص افهمي ان الوضع مبقاش زي الأول ولا عيلة الصاوي بقت زي زمان اللي اتبنى ع الباطل مسيره ينتهي واهي كل حاجة انتهت يا حكمت هانم ودلوقتي مفيش في ايدك غير انك تقعدي وتستني حُكم العمدة في حقك خاصة بعد ما البلد كلها تعرف الحقيقة !
نطق جملته الأخير بحدة أكبر وغادر صافعا الباب خلفه فهزت حكمت رأسها بنفي رافضة فكرة انتهاء عهدها وفجأة أحست باِنقباض قلبها فتأوهت بكتوم ووضعت يدها عليه هامسة :
- ازاي بتنتهي بالبساطة ديه أنا ضحيت بكل حاجة عشان اوصل للمركز ده فـ ازاي هو بيجي يقولي اني لازم افهم واستوعب.
*** كانت واقفة أمام النافذة عيناها مشدودتان إلى العتمة ثم شرعت تتحرك بعصبية في الغرفة، ضمت ذراعيها حول نفسها محاولة تهدئة نبضات قلبها التي لم تتوقف عن الخفقان بجنون منذ غيابه.
كم مرة حاولت الاتصال به؟ كم مرة تركت له رسائل لم يجب عنها ؟ شعرت بأنها تفقد عقلها، سيناريوهات مرعبة تتلاحق في ذهنها، مالذي جعله يأخذ سلاحه ويرحل وكأن الشياطين تحوم من حوله، إلى أين ذهب ومن سوف يهاجم ماذا لو حدث له شيء؟
وضعت نيجار يديها على رأسها بإرهاق ورددت بصوت هامس :
- يا رب رجعهولي سالم ...
وفجأة دوى صوت باب الغرفة وهو يُفتح فاِستدارت بسرعة وقلبها يكاد يقفز من مكانه وعندما رأته واقفًا هناك أمامها فكأن الهواء عاد يدخل لرئتيها..
جالت عيناها الامعتان عليه مطالعة إياه كان آدم شاحبًا، منهكًا، ملامحه متجمدة وكأنها حُفرت على وجهه للأبد.
عيناه مظلمتان بشكل مخيف، ملابسه مبعثرة، وعروقه بارزة على يديه اللتين كانتا متراخيتين بجانبه بدا وكأنه عاد من حرب لكنه لم يعد منتصرًا.
لم تفكر نيجار ولم تتردد فقط ركضت إليه بسرعة وارتمت بين ذراعيه بعنف، يديها تمسكان بقميصه بإحكام وكأنها تخشى أن يختفي.
- كنت هموت عليك يا آدم انت كنت فين وليه مردتش عليا انت مش عارف ان مليون سيناريو جه في دماغي وكنت هموت من الخوف.
كلماتها خرجت متقطعة وصوتها مختنق بين شهقاتها وكأنها كانت تحبس أنفاسها طوال الليل ولم تعد قادرة على الاحتمال.
لم يجبها آدم فورا، فقط أغلق عينيه وزفر نفسًا ثقيلًا ثم لفّ ذراعيه حولها ودفن وجهه في شعرها وكأنه كان بحاجة لهذا العناق بنفس قدر حاجتها هي إليه.
مرر يده على ظهرها ثم ضغط عليها أكثر وهو يهمس بصوت متعب وواهن :
- أنا هنا يانيجار خلاص، أنا هنا.
لكنها لم تقتنع، ابتعدت قليلًا لتنظر في وجهه وتتفحص ملامحه تبحث عن أي إجابة في عينيه لتردد بتصميم :
- لا انت مش هنا في إيه يا آدم قولي عملت إيه وروحت فين ؟
نظر إليها مطولا، ثم تمتم بصوت بالكاد يُسمع :
- متسألنيش دلوقتي.
رأت نيجار الألم في عينيه ولم تعرف كيف تُهدّئه لكنه كان معها، حيّ، موجود، وهذا وحده كان كافيًا لتشعر أنها تستطيع التنفس مرة أخرى.
رفعت يدها ولمست وجهه برفق، كمن تحاول أن تعيده من المكان المظلم الذي ذهب إليه، ثم تمتمت بلطف :
- طيب بس انت تعبان تعال ارتاح شوية.
أومأ آدم ببطء وقد نفذت طاقته تماما، ثم سمح لها بأن تقوده إلى الفراش وتسند رأسه على كتفها مرددة :
- متفكرش في أي حاجة دلوقتي.
- يعني خلاص مش عايزة تسمعي الأجوبة على أسئلتك خاصة بعد ما قولتلك ان الموضوع بيخصك انتي وعيلتك.
قابلها بسؤاله القاتم فرفعت نيجار رأسها قليلا وطالعت وجهه الرجولي الأسمر وعيناه البنيتان اللتان تشبههما بلون العسل الصافي ثم مررت أناملها على لحيته وهتفت :
- المهم انك بخير وجنبي مش عاوزة حاجة تانية.
اعتدل الآخر في جلسته وتحولت ملامحه المنبسطة إلى مقتضبة في ثوانٍ قبل أن يهدر بخشونة :
- بس انتي لازم تعرفي ... أنا لقيت عدو العيلة بتاعنا اللي هاجمنا وضربك بالنار وكنتي هتموتي بسببه وروحت اقبض عليه.
وقبل أن تسنح لها الفرصة للاندهاش عاجلها بروية :
- اسمه سليمان وهو هاجمنا عشان ينتقم على قرار النفي اللي صدر في حقه من طرف والدي وعمك وكمان عشان ياخد بتاره من ستي اللي شاركها في غلطة كبيرة.
- غلطة ؟
- ايوة، غلطة حكمت هانم في حق نفسها وحق عيلتها وعيلة الشرقاوي.
ثم طفق يسرد عليها كل شيء ...
_________________
بعد مرور أيام ...
عاد من عمله في عصر اليوم وترجل من السيارة ممنيا نفسه بأُمسية مريحة بما أن غدا يوم إجازته الأسبوعية إلا أن لين وجهه اضمحل واستحال لتجهم حينما أبصر جارته أمامه فغامت عيناه بالجمود أما هي دنت منه بضع خطوات وقالت، بنبرة خفيضة مُحرجة :
- ازيك يا استاذ مراد.
- كويس.
ردَّ بجلافة جعلت قشعريرة باردة تمر عليها فعضت شفتها وقبضت على الكيس الورقي المحمول بين يديها محاولة التحدث بيد أن التوتر جعل لسانها يُعقد.
وحين تحرك مراد سمعها تناديه بصوت بالكاد يسمع فاِلتف إليها وغمغم بجمود أجفلها :
- خير يا آنسة زينب اهاناتك امبارح لسه مخلصتش وجاية تكمليها النهارده ؟
رشقته زينب بنظرات نادمة متذكرة ماحدث يوم أمس بعدما اتصل بها عمها عثمان وأخبرها بوجوب تحضير أغراضهم ومغادرة المنزل لأنه اتفق مع سمسار معروف على إيجاد زبون يشتريه، ولم يكن هذا السمسار سوى مراد ...
Flash back
( ألقت الهاتف على الأريكة واستدارت لأمها قائلة بسخط :
- جارنا اللي اديتيه ثقتك وقعد يوعدك انه هيساعدنا طلع متفق مع عمي وهيلاقيله زبون يشتري البيت ده واحنا نترمى في الشارع.
شهقت أم زينب ووضعت يدها على صدرها بصدمة وعلقت :
- ازاي ده انتي متأكدة لا مستحيل يحصل.
- مستحيل ليه يا ماما ماهو القريب اكل حقنا وعاوز يرمينا يبقى هنستنى ايه من الغريب بس الحق عليا لأني اتخدعت ووثقت فيه.
لم تكن زينب متأكدة إن كان غضبها ناتجا عن الاحتيال الذي تعرضت له أم عن كسر قلبها وخذلانه.
لكنها لملمت شتاتها سريعا وارتدت حجابها ثم هرعت تقتلع باب المنزل كي تذهب إلى وتواجهه فوجدته واقفا أمامها وقد اوشك على طرق بابها.
نظر لتعبيرات الحانقة بغرابة وهمهم مستفهما :
- خير في حاجة انتو كويسين ؟
حادت شفة زينب في ابتسامة متهكمة وعلقت :
- عامل نفسك قلقان كمان كتر خيرك.
وكزتها أمها من الخلف هامسة لها بأن تهدأ فاِستطاع مراد توقع سبب غضبها وقال :
- بعتقد اني عرفت سبب عصبيتك ديه.
- ايوة عرفت ان الراجل اللي عمل نفسه طيب وقلقان علينا كان بيقضي مصلحة من ورانا وبيشتغل مع عمي.
- انتي فاهمة غلط خليني اشرحلكم.
- تشرح ايه كل حاجة واضحة اصلا أنا من البداية كنت مستغربة ازاي حد غريب يساعدنا ماهو احنا ملقيناش الخير ده من القريب بس اهو حتى انت طلعت زيهم.
تصلب جسد مراد وهو يتلقى وابل هجومها، نظراتها المشتعلة لم تمنحه فرصة حتى ليلتقط أنفاسه فيما كانت والدتها تحاول التمسك بآخر خيط للهدوء :
- زينب اهدي يا بنتي!
لكن زينب لم تكن تنوي الهدوء حيث تقدمت منه خطوة كأنها تحاول اختراق جدار صلابته وهتفت بنبرة مشحونة بعصبية لا تنتهي :
- بقى أنت اللي كنت بتقول انك واقف معانا تطلع في الآخر شريك في اللعبة دي؟ عاوز تبيع البيت لعميل من عندك وتخلص مننا ياترى عمي قبضك كام عشان تعمل كده دلعك بفلوسه ولا ...
- اسكتي !
صرخ مراد بحدة أجفلتها ورفع اصبعه في وجهها مخاطبا إياها بصرامة :
- ياريت تاخدي بالك كويس من كلامك يا آنسة أنا عماله استحمل وبحاول ابقى ليّن معاكي بس ده ميعنيش انك تسوقي فيها وتتجاوزي حدودك.
وبالنسبة لعمك فـ لا هو مقدرش يشتريني ولا فلوسه غرتني رغم انه عرض عليا كتير أنا وافقت أكون السمسار عشان آخد منه أوراق الملكية واتأكد اذا حقيقية ولا لا.
اندهشت زينب وترددت لكن كبرياءها لم يسمح لها بالتراجع فعارضت بعناد :
- تتأكد من ايه إحنا رافعين عليه قضية أساسًا وعارفين ان البيت مش ملكه.
- وأنا بردو مكنتش هاخد الكلام الشفوي كفاية كان لازم أثبتها بورق رسمي.
بدت هذه الأخيرة وكأنها تلقت صفعة غير متوقعة فتحت فمها لترد لكنها لم تجد ما تقوله أما مراد فلم يكن في مزاج يسمح له بمزيد من الاتهامات، لذا أخرج من محفظته بعض الوثائق ولوح بها أمامها :
- خدي شوفي بنفسك الورق مزور والمحامي اثبت ان البيت مش ملك عمك ولا ليه أي حق فيه وبتقدرو تستخدمو الاثبات ده في المحكمة رغم اني ممكن اتضرر لاني طلعت الورق لبرا بطريقة فيها تلاعب.
حدقت هي في الأوراق للحظة ثم خطفتها من يده ونظرت إليها بعينين متسعتين. قلبت الصفحات بارتباك فيما اقتربت والدتها لترى بعينها ثم وضعت يدها على صدرها وهتفت بصوت مرتعش:
- يا لهوي يعني عديم الضمير ده كان عارف وبيحاول يضحك علينا وكدب لما قال ان المرحوم كتب البيت بـ اسمه حسبي الله ونعم الوكيل فيه.
مرر مراد يده في شعره بإنهاك، ثم زفر موضحا بتشنج :
- طبعًا كان عارف ولو بنتك اديتني فرصة أتكلم بدل ما تهاجمني كنتو فهمتو ده من بدري... )
Back
تلكأت زينب مضطربة وهتفت مبررة نفسها :
- مكنتش بعرف وعصبيتي غلبتني لما عمي قالي انه هيطلعنا من بيتنا ويجيب واحد تاني يسكن فيه بدالنا، مقصدتش اغلط فيك ولا اجرحك بس هي طلعت مني كده.
لم يتأثر قيد أنملة وبقي على حالته قبل أن يتجاوزها كي يدخل لمنزله، بيد أنه توقف حينما نادته باِسمه مجردا من الرسميات لأول مرة :
- مراد.
استدارت له زينب وتمتمت بنبرة منخفضة مشوبة بالندم :
- طول عمري وأنا بتعرض لخيبة الأمل من اللي بحبهم وحتى أقرب الناس زي عمي مكنوش عاوزين غير يحققو مصلحتهم على حسابنا، الكل اتخلى عننا ومحدش ساعدنا يا اما لأنهم طماعين أو اللي بيعملو نفسهم مش شايفين حاجة وبيسكتو.
كل الأحداث ديه خلتني بشك فنفسي ومبوثقش بحد بس لما انت ... لما دخلت انت لحياتنا واخترت تقف معانا رغم ان مفيش رابط بيننا انا ارتحت بس قلقت فنفس الوقت وعلشان كده مضبطتش أعصابي ساعة ما عرفت انك اتفقت مع عمي ... غضبي مكنش موجه ناحيتك قد ماكان ع نفسي لأني مش قادرة ادافع على أمي واحمي بيتنا.
بعرف ان انت ممكن تلاقي كلامي ده فاضي بس عموما أنا بعتذر منك وبتمنى تسامحني.
أنهت كلم ولم تدرِ أنها أصابت وترا حساسا بقلبه !
أغمض مراد عيناه متذكرا نفس الخيبات التي عاشها هو منذ طفولته والظلم الذي تعرض إليه حينما كان بمفرده مع أمه الفقيرة حيث لا مُعيل يُعينهما ولا ظهرا يستندان عليه، فكيف تظن هي أنه سيجد حديثها غير مهم وهو من عاش مثله وأسوء !!
التفَّ مراد ناحيتها ودنى من زينب بضع خطوات حتى وقف أمامها، ومن دون إرادة منه تاه في ملامحها الحزينة والقوية في نفس الوقت.
كانت تملك وجها ليس فائق الجمال ولكنه مميز بشرة حنطية وعينين سوداوتين حادتين كحِدَّة مزاجها ورموش كثيفة وأجمل مافيها هو الحجاب الملتف حول رأسها باِحتشام يليق بها.
أفاق من شروده ورسم بسمة سطحية بينما يغمغم :
- هسامحك لو قولتيلي ان الكيس اللي فـ ايديكي ده جايباه ليا.
ابتهجت زينب وهرعت تخرج علبة بلاستيكية متوسطة الحجم وهي تقول ببعض من الحرج :
- ايوة جبتلك محشي ورق العنب عشان تتغدا بيه بعرف انك بترجع متأخر ومبتلحقش تعمل لنفسك الاكل... وده برطمان مخلل قولت لنفسي ممكن تحبه.
أمسك المحتويات بين يديه وسحب اصبع محشي ليمضغه باِستمتاع مهمهما :
- بيجنن الله عليكي يا حجة ام زينب.
نضحت وجنتاها باِحمرار طفيف وهتفت :
- المرة ديه أنا اللي عملته.
- بجد ؟ تحفة ربنا يسلم إيديكي.
مدحها مراد بصدق ثم صمت قليلا واستطرد :
- بالنسبة للورق فـ زي ما قولتلكو أنا أديته للمحامي من فترة وهو فحصه ولقاه مزور بس لازم انتي ولا والدتك تروحو لعنده وتتناقشو ع تفاصيل القضية وبإذن الله هتقدرو تكسبوها.
- مش عارفة اشكرك ازاي يا استاذ وبرجع اعتذر منك عشان ااا...
- طب انا من شويا كنت مراد بس لحقتي ترجعيني استاذ تاني.
وبعدين خلاص مفيش داعي نفضل في نفس السيرة اساسا المحشي عمل واجبه وزيادة.
ضحكت زينب بخفة وصححت كلامها :
- ماشي يا مراد ألف صحا وهنا ... طيب أنا همشي دلوقتي عندي مناوبة مسائية في العيادة خد بالك من نفسك.
أماء مراد وودّعها ليدلف لبيته ويرتاح وبالطبع يتناول المحشي الذي أعدته جارته العصبية، وبعد دقائق سمع طرق الباب ولم تكن سوى عمته حليمة التي ابتسمت بمجرد رؤيته وقالت :
- يعني اذا انا مكلمتكش فأنت مش هتسأل عليا خالص.
أفسح لها الطريق للدخول فاِتجهت إلى المطبخ رفقة الأكياس التي تحملها معه وردد هو بينما يراها تخرج عُلبا متنوعة من الطعام المنزلي وتضعه داخل الثلاجة :
- لا أنا مشغول في صفقة الأيام ديه عشان كده، بس ايه لازمة كل ده يا عمتي مفيش داعي تتعبي نفسك كل مرة أنا بعرف ادبر نفسي.
فتحت حليمة فمها لتتحدث لكن وقع بصرها على علبة المحشي وبرطمان المخلل فرفعت حاجبها مستهزئة وقالت :
- مانا شايفة بعينيا يابن اخويا اظاهر ان جارتك مدلعتك ع الآخر.
تنحنح مراد وحكَّ ذقنه مغيرا الموضوع وبعد دقائق كانا يجلسان معا في الصالون ليسألها هو بهدوء :
- صحيح حصل ايه في حكاية العمودية بعد آدم ما انسحب هتروح لمين دلوقتي.
تنهدت الأخرى بتجهم عند ذكر هذه السيرة وأجابت :
- مش عارفة بس غالبا هترجع لعيلة الشرقاوي وياويلنا لو ده حصل لأن صفوان أبعد ما يكون عن العمودية مش زي آدم الواعي بس منها لله حكمت هي السبب.
- ليه وهي مالها.
- هحكيلك بس خلي الكلام بيننا احنا الاتنين ...
قصَّت عليه سر الوصية المزورة والقبض على سليمان فاِتسعت عينا مراد بذهول وهتف :
- يعني حكمت لعبت ع الكل وكانت بتحركهم بمزاجها طول السنين ديه !!
مطت حليمة شفتها ممتعضة وقالت :
- ايوة انا معرفتش غير من يومين لما أصريت على آدم يحكيلي احنا مطلعناش الضحايا الوحيدين لحكمت بس هو ياعيني صعبان عليا ديه المشاكل نازلة عليه واحدة ورا التانية ومحدش واقف في صفه. ياريت يا مراد لو تكلمه وتهون على أخوك.
استهجن مراد الكلمة التي نطقتها فعلَّق :
- اخويا ؟ اكلمه ليه وهو مش معبرني ده متصلش بيا غير مرة واحدة يوم ما اتهجمو علينا ومن ساعتها مشوفتوش ولا سمعت صوته.
"أخفى بداخله حقيقة أنه كان يود لو يرى اهتماما بسيطا من آدم"
حملقت فيه الأخرى بتزمت من عناده الشبيه بعناد آدم وليلى، ثم انحنت قليلا وتشدقت بثبات :
- تفكيرك غلط يابن اخويا لأن الراجل اللي بتقول عليه انه مش مهتم بيك هو نفسه اللي بينبهني اجيلك كل يومين وتلاتة وبيطلب مني أنا ومراته نعمل اصناف من الأكل واجيبهولك عشان انت عايش لوحدك ومفيش حد يعملك.
لم يكد الذهول يتملكه حتى سمعها تتابع :
- وعمل نفس الشي المرة ديه كمان مع ان المشاكل مغرقاه بس فضل بيفكر فيك.
- أنا ... مكنتش بعرف.
- ولا هتعرف طول ما انت شايف ان آدم السبب في اللي حصلك انت ومامتك زمان، متنساش يا مراد انه مكنش بيعرف بوجودك انت لي كنت بتعرف وهاجمته من غير حق ومع ذلك هو سابك براحتك ومخططش ضدك زي انت ما عملت.
ضربته حليمة بالحقيقة في وجهه وأصابت وجدانه فسكت مراد عاجزا عن الرد أما هي عادت لبسمتها السمحة ووقفت قائلة :
- أنا لازم امشي دلوقتي هبقى ارجع فوقت تاني خد بالك من نفسك ياحبيبي.
رافقها إلى الباب وعند إغلاقه استند عليه متذكرا كل كلمة قالتها، وتشنجت ملامحه مثقلة بالحزن والذنب.
__________________
منذ اكتشفت الحقيقة وقد انقلب عالمها رأسا على عقب حتى السيدة حكمت لم تظهر كثيرا منذ ذلك الوقت حيث أصبحت كالشبح في القصر قليلة الكلام وخفيفة الخطوات.
فكرت نيجار بالأمر وهي تخرج من غرفتها إلى الشرفة المطلة على الفناء بيد أنها توقفت على حين غرة عندما رأت حكمت أمامها على بعد خطوات، شامخة بكبرياء، بثوبها الأسود الذي زاد ملامحها حدة وشالها الملتف حول رأسها.
بدأ التواصل البصري بينهما محملا بشحنات حرارية قادرة على حرق واحدة منهما، خاصة مع الصمت المتواصل عندما حدقت فيها نيجار متذكرة أحداث تلك الليلة ....
***عودة إلى الماضي..
( غمغم آدم بنبرة أعمق وصعوبة كأنه ينتزع الكلمات من صدره :
- ستي حكمت زوّرت الوصية.
تجمدت في مكانها تحاول ترجمة جملته لكنها عجزت عن ذلك فاِستفهمت منه بحيرة :
- بتقول ايه أنا مش فاهمة.
عدل في جلسته حتى أصبح يقابلها تماما وألقى الحقيقة كأنها صخرة تُسقطها من أعلى جبل :
- العمودية... كان المفروض تروح لجدك الوصية الأصلية كانت بتقول كده، بس ستي زوّرتها، وخدعت الكل ونقلتها لعيلة الصاوي.
ظلت هذه الأخيرة لا تحرك ساكنًا كأنها تمثال جُرّد من الحياة للحظات، عقلها يحاول استيعاب ما سمعته لكن قلبها يرفض تصديقه.
تبدأ شظايا الذكريات تتطاير أمام عينيها وكلمات ابن عمها المتكررة بأن حقهم سُرق، إصراره الدائم على أن عائلة الصاوي غدرت بهم. بعد زواجها من آدم بدأت تقتنع بأن ما يقوله صفوان مجرد تراهات لكنها الآن لا تعرف ماذا تصدق.
مالت بجسدها إلى الخلف ممررة يدها على جبينها ومحاولة استجماع أفكارها، ثم شهقت بضياع :
- لا...مستحيل ! آدم ممكن تشرحلي انت بتقول ايه.
راقبها هو بصمت معطيا إياها المساحة التي تحتاجها لاستيعاب ما قاله ثم طفق يسرد لها بروية مطالعا الصدمة المتجلية على وجهها الألم لتنطق نيجار عندما انتهى :
- عشان كده انت انسحبت من المنصب وقلت انك مبتستحقوش ؟!
حرَّك آدم رأسه بإيجاب وأردف :
- مصدقتش لما ستي حكتلي عن سليمان وحسيت اني في حلم هصحى منه، بس مع الأسف كان حقيقة وأنا اكتشفت اني عشت في كدبة يا نيجار وده اللي خلاني اتخلى عنه.
أحنت رأسها قليلًا ثم نهضت تدير ظهرها له وتعبر الغرفة ذهابا وإيابا حتى التفت له وهدرت بتحشرج :
- يعني حكمت هانم اللي فضلت تتكبر علينا طلعت سارقة العمودية من جدي ربنا يرحمه وكلام صفوان طلع حقيقي يا آدم !
اقترب منها وهمس بخفوت متريث :
- نيجار أنا فاهم صعوبة اللي بتمري بيه دلوقتي وعارف ان الصدمة كبيرة. بس انتي لازم تعرفي اني مش هقدر اغير الماضي واللي اقدر اقولهولك أنا مش هتمسك بحاجة مش من حقي.
- معقوله متجاهلتش مبادئك المرة ديه كمان يا آدم.
- مش عارف اذا هي مبادئ ولا لأ بس طول عمري بسعى لأني احافظ ع اسم العيلة وده مش هيحصل لما اغمض عينيا واعمل نفسي مش شايف.
تمر لحظة صمت أخرى، قبل أن يشيح بوجهه جانبا متوقعا أن تغضب نيجار وتخبره بأنها كانت محقة عندما كرهت عائلته في الماضي.
لكنه تفاجأ حين شعر بيدها تمسك بيده وتنظر اليه نظرة عميقة، نظرة تحمل معانٍ كثيرة :
- جريمة جدتك لا تغتفر ومش هكدب لو قولت اني متعصبة اوي في اللحظة ديه وحاسة بالغضب ناحية حكمت هانم ... بس انت ملكش علاقة باللي حصل وهرجع اقولك اني حبيتك لأنك آدم مش عشان انت خليفة العمدة أو ابن سلطان الصاوي.
لم يتوقع ردها هذا نهائيا. كان يظن أنها ستعود لتصرفاتها السابقة ونوبات عصبيتها لكن نيجار بدت أكثر هدوءًا وفهما لما حدث.
تأملها براحة وشيء من الاِمتنان دون أن ينبس ببنت شفة فقط يقبض على يدها قليلًا وكأنه يعترف بشيء آخر دون كلمات... )
*** الحاضر
بقيت الاثنتان تتبادلان النظرات بصمت ثقيل يشبه هدير العاصفة حكمت ترمقها بعينيها الحادتين بينما نيجار لا تبعد عينيها عنها، لا رهبة فيها ولا خوف، وأخيرًا صدع صوت السيدة بنبرتها المشحونة بالسخرية :
- أكيد مبسوطة وشمتانة وانتي بتبصيلي يابت الشرقاوي والفرحة ماليه قلبك دلوقتي بما أنك متوقعة ان العمودية هتروح لولد عمك زي ما كنتم دايمًا بتقولوا ان ده حقكم.
ولا بتفكري انك هتقدري تلوي دراعي بالسر ده بس بحب اقولك ان مش حكمت اللي تتحط تحت الضغط خاصة من واحدة زيك.
لم تنطق أو تعلق في البداية، بل ظلت مستكينة بثبات حتى زفرت هاتفة بثبات :
- انتي لسه بتفكري في العمودية حتى دلوقتي بعد كل اللي حصل ؟ بعد ما حفيدك اكتشف الحقيقة بنفسه وقرر انه يتخلى عن كل حاجة كل اللي هاممك دلوقتي احتمال ان العمدية تروح لبيت الشرقاوي !
اشرأبت حكمت بعنقها مديرة وجهها نحو الشرفة وصوتها لا يزال ثابتًا :
- وايه اللي كان لازم اهتم بيه ؟ ان حفيدي آدم قلب عليا واختار يرمي تعب السنين دي كلها وحق جده وأبوه.
انزلقت ضحكة قصيرة محملة بالاستنكار من فمها وهدرت بشدة وهي تكاد تجن من نرجسيتها المستمرة :
- انهي حق اللي بتتكلمي عليه انتي زورتي الوصية وخليتيها باِسم جوزك واتعاونتي مع واحد ندل رجع بعد سنين وهو بيحاول يقتل حفيدك انتي مستوعبة !!
شدت حكمت ظهرها أكثر تحاول التمسك بمظهرها القوي لكن نيجار لم تعد تراها بنفس الطريقة، لم تعد ترى العجوز القوية التي تتحكم بكل شيء بل امرأة مسنّة تحارب للحفاظ على وهم، حتى بعدما كشف الجميع زيفه.
- عملت اللي كان لازم يتعمل، كنت بحمي العيلة وبحافظ على مكانتنا ولو الزمن رجع بيا تاني هعمل نفس اللي عملته، من غير ندم.
رمقتها نيجار باِزدراء متلفظة بكلمات قاسية :
- لو كنتي بتفكري في العيلة بجد كنتي فكرتي في حفيدك بدل ما تسيبيه يشيل ذنبك، آدم طول عمره شايفك أكبر من أي حد شايفك السند والقوة وفجأة اكتشف إنكِ كذبتي عليه طول السنين ديه وانك مش بس خدعتيه ... لا، أنتي زوّرتي الماضي كله عشان يناسب الصورة اللي رسمتيها لنفسك.
لأول مرة تومض نظرة غامضة في عيني حكمت كأن كلمات نيجار أصابتها لكنها لا تُظهر ضعفها رغم ذلك فاِنكلقت تعاود بكبرياء مهترئ :
- وآدم قالك إيه رجعلكوا الحق، وبعدين ؟ سعيد دلوقتي ؟ مرتاح ؟
- يمكن آدم مش مبسوط ويمكن مش مرتاح بس على الأقل... هو مش كداب ومش عايش بضمير معطوب زيك.
ارتجفت شفتاها للحظة فتابعت نيجار بصوت أقرب للهمس :
- ياما فكرتيني بالماضي وقد ايه كنت سيئة مع آدم ياما وصفتيني بالغدر والكدب وكان عندك حق بس أنا ندمت وحاولت اغير من نفسي وكل يوم بدعي ربنا اقدر انسي آدم خيانتي عكسك انتي.
أنا مش واقفة قدامك دلوقتي عشان أشمت فيكي زي حضرتك ما فاكرة أنا واقفة قدامك عشان أقولك حاجة واحد ... انتي خذلتي آدم خذلتي حفيدك اللي كان اكتر واحد بيحبك وبيحترمك،
وده يا ست حكمت ذنب عمرك ما هتقدري تغفريه لنفسك.
مر السكوت من جديد لكنه ليس كأي صمت. إنه صمت ينهش الروح ويهزّ القلوب. حكمت لا ترد فقط تظل صامتة وجهها جامد، لكن عينيها تحملان شيئًا يشبه الشرخ.
أشاحت نيجار بوجهها لتدرأ الدمعة التي ملأت مقلتها ثم تنفست بعمق ورمت جملة الأخيرة بصوت هادئ لكنه يحمل آخر طعنة :
- آدم فقد ثقته فيكي ... والمصيبة انك مش حتى حزينة على ده.
غادرت وتركت حكمت وحدها واقفة وسط الممر، ثقيلة كظل الحقيقة لكن عاجزة عن الاعتراف بها.
ولأول مرة تشعر حكمت أن شيئًا في داخلها قد انكسر حقًا، شيء لا يمكن إصلاحه.
__________________
امتد الحقل الواسع على مد البصر، وتوارت الشمس خلف الأفق ناشرة ظلالا طويلة فوق الأرض الخصبة التي طفق يسير عليها ناويا العودة للسرايا بعد انتهاء أشغاله لكن ذهنه لم يكن حاضرًا تمامًا. المشاكل تحاصره من كل جهة وسليمان مازال محبوسا لدى العمدة.
تأفف آدم ومرر يده على جبهته المثقلة بالتفكير بالعمدة الذي لم يظهر ردة فعل بعد آخر مواجهة بينهما يجهل متى سيجمع كبار البلدة وصفوان ويخبرهم بكل شيء.
أمه أنه لن يخبرهم وسيتكتم على الأمر؟ لا يعلم، حقا هو لا يعلم أبدا.
فجأة لمح أحدا يقترب من بعيد فتباطأت خطواته مدققا في القادم حتى ظهر مراد فرفع آدم حاجباه وردد :
- ايه الصدفة ديه انت جاي النهارده عشان تتمشى بردو.
ابتسم الآخر ونفى برأسه قائلا :
- لا أنا جاي المرة ديه عشان اشوفك.
كانت نظرته وميضا مختلفا عن العادة، فكر آدم بهذا الأمر لوهلة لكنه شتت ذهنه واستدرك يسأله بجدية :
- خير في حاجة ؟
دحرج مراد عيناه في المكان محاولا طمس ارتباكه والتقليل من وطأة الجو المتوتر بينهما في هذه اللحظة فتنحنح وأجابه :
- حبيت اعرف اذا في تطور في موضوع الراجل اللي اتهجم عليك المرة لي فاتت سمعت انكم قبضتو عليه.
- يعني عمتي حليمة مقدرتش تسكت صح ضروري تبلغك بكل حاجة لما تزورك.
- وانت عرفت منين انها زارتني وحكتلي.
بادره مراد بسؤال ماكر فحمحم آدم بغيظ منه ثم استجوبه بصلابة :
- وحضرتك عاوز تتأكد عشان تروح وتبلغ ابن الشرقاوي بكل حاجة ماهو صاحبك.
- لا صفوان مش صاحبي هو كان شريكي في الشغل وشراكتنا خلصت من زمان ... واطمن أنا مش نقال علوم محدش هيسمع حرف واحد مني.
برطم مراد بتضايق من تلميحه ليتنهد الآخر ويقول :
- ماشي تمام، عموما ايوة صح احنا قبضنا على سليمان بس مش عارف ايه هيحصل بعد كده القرار عند العمدة وانا مليش دعوة يعني سحبت نفسي من القصة كلها.
- طب ليه انت اكتر واحد بتستاهل المنصب مفيش حد في البلد غيرك عمل نص اللي عملته.
- مش كل حاجة بتنفع يا مراد وده قدرنا واتقبلته وريحت دماغي ... الوقت اتأخر وأنا تعبت وعاوز اروح اريح جسمي مع السلامة.
تحرك وتجاوزه مبتعدا لكنه توقف حينما ناداه مراد :
- آدم !
حدق فيه مستجمعا كل شجاعته قبل أن يغمغم بتأثر جلب الدموع لعينيه :
- أنا عاوز اعتذر منك ع اللي عملته من قبل، لما قعدت مع نفسي اكتشفت اني كنت عايز اوجه غضبي ع اي حد وملقتش غيرك بس للأسف غلطت ووجهته للشخص الغلط ومقدرتش استوعب غير متأخر، انت يا آدم راجل قوي وصعب بس كويس ومبترضاش بالظلم لأي حد حتى لو كان عدوك وهو ده اللي بيخليك مميز.
وقف آدم يستمع لكلماته بروية ولم يستطع منع عاطفته الأخوية من الظهور ... العاطفة التي لم يظهرها سوى لليلى شقيقته.
تمالك نفسه أخيرا وهمهم بنبرة خافتة، هادئة وفي نفس الوقت حاسمة :
- يعني انت دلوقتي عايز ايه غير اعتذارك.
- حابب اعيش زي اللي عندهم اخوات من غير كره وحقد.
عايز أخ يقف جمبي وندعم بعض، عايز اعيش حياة طبيعية واحس ان عندي عيلة.
كانت هذه آخر جملة نطقها مراد وهو يحرر دموعه من مقلتيه، قبل أن يجد نفسه مغمورا في حضن آدم الذي جذبه كي يعانقه وحاوط كتفاه هادرا ببسمة متأثرة :
- من النهارده أنت مش وحدك عندك أخ وأخت، وسواء عجبتك الحقيقة أو لا فأنا مش ناوي أسيبك.