رواية علاقات سامة الفصل التاسع 9 بقلم سلوي فاضل


 رواية علاقات سامة الفصل التاسع 

القى كلماته وغادر تاركها خلفه ترتجف بذعر، تنظر لوالدها وعقلها يصور لها أبشع ما قد يفعله بها؛ لم تتوقع أو يجول بذهنها اكتفائه بعقاب شهاب، وأنَّه لن ينقض عليها، فهو لم يتهاون يومًا ولم يترك هفوة بدون حساب عسير، ولكنه فاجأها بكلماته: 

-اللي جوزك قاله يتعمل، اتنيلي اتحركِ، مفيش نوم ولا راحة لحد ما تخلصي. 


صفع الباب بقوة عقب دلوفه لغرفته؛ فانهارت أرضًا باكية، احترقت أعصابها، لا تعلم كيف ستنظف المكان كما أُمرت، أدركت وأيقنت أن زوجها ما هو إلَّا شهاب حارق، ستكوى بناره ولهيبه، انتحبت بضعف وانهاك، حاولت النهوض عدة مرات وفشلت؛ فأعادت المحاولة مرة تلو الأخرى حتى استطاعت، بدلت ملابسها بوهن، ثم غسلت وجهها ربما تستعيد قدرا ولو بسيط من قوتها الضائعة، ثم بدأت رحلة العذاب، بالأوقات العادية تنهي ما طُلب منها على مدار ثلاثة أيام متتالية لنحافة جسدها وهزله، تشعر بالإعياء من أقل مجهود، أكلت جسدها الأنيميا، فضلا عن حالتها النفسية التي لا تتحسن أبدًا، وتشعر إنها لن تتحسن يومًا. 


بغرفة والدها، جلس على فراشه نصف مستلقي، يدور برأسه ما حدث، يراجع أفعال شهاب منذ أن تقدم لابنته، يفكر مضيقًا عينيه، يسترجع تعبيرات وجه الآخر بكل حديث دار بينهما اليوم وقبلا، وكذلك كل فعل، زفر بقوة، ثم حدث نفسه بصوت هامس بالكاد يسمع. 

-مش سهل أبدًا يا شهاب، وطيف شكلها مش هتاخد في إيدك غلوة، لو كانت أختها كانت استحملت شوية، منال عفيه عنها، لكن طيف مش هتقدر، اللي خلاها تعمله النهاردة أصعب من الضرب مية مرة، هتواصل يومين صاحية ده لو تحملت، مضروبة ودمها هرب منها، والله أعلم شافت منه إيه في الجامعة، خبيث وتعلب يا شهاب. 


عاد لبيته سعيدا منتصر، بداخله القليل من الغَضَب، لم يتوقع أن تكن طيف أي مشاعر لذلك الضابط، لكن ما رآه اليوم دل على عكس توقعه، يقين فتك بعقله، لكنه بالنهاية لقنها درسًا لن تنساه ما حيت، نظر لساعة يده بنشوة: 

-أكيد لسه ما خلصتش، ما كانتش قادرة تقف؛ عشان بعد كده تحسب لكل حركة ألف حساب، ولسه الجاي أكتر يا طيف، هنشوف. 


عدة ساعات مضت عليها بين عمل وتنظيف وتلميع الأثاث، بالكاد انتهت من تنظيف غرفتي الصَّالون والصَّالة، كما انتهت قوتها أيضًا، بالكاد تفتح جفونها، عادت للبكاء بضعف وانهزام، يتردد في عقلها كلمات شهاب «مش هتنامي غير وأنتِ منفضة الشَّقة كلها، قبل كدة ما فيش نوم ولا حتى تقعدي» 


عدة شهقات صامته خرجت منها، ثم تمالكت نفسها بصعوبة بالغة وتحركت بوهن تكمل عقابها. 


انتصف الليل، سكنت جميع الأصوات حولها، كل آوى لفراشه سواها، تعمل وتعمل، كاد قلبها يتوقف من شدة الإرهاق، وحتَّى هو أبَى أن يُريحها؛ فظل يعمل ببطء شديد، تمنت بكل جوارحها أن تخمد نبضاته وتسكن حركتها للأبد. 


انشق الليل، وظهرت خيوط الشمس، تعلن عن بدء يوم جديد ونهار جديد، وما زالت طيف تعمل، انهت تنظف البيت عدا غرفة والدها، الذي كان بين الاستيقاظ والغفوة، عندما سمع آذان الفجر نهض توضأ وذهب للمسجد على غير عادته، لكنه بهذا اليوم يختبر شعور جديد، لا يعلم ماهيته أهو مشفق على طيف؟ هل يمكن أن يفضلها على نفسه ويتراجع عن تلك الزيجة؟ بالنهاية تغلبت طبيعته وسحقت ضميره؛ فهزمته هزيمة نكراء. 


  حاولت الإسراع قدر طاقتها، عاد والدها القى عليها نظرة سريعة، ثم دخل غرفتها ينام فيها فما زال أمامها عمل كثير حتى تنتهي، استمرت بالعمل حتى آذان الظهر، لا راحة ،لا طعام ولا جلوس، فقط تعمل، بدأت تشعر وكأن الأرض تميد بها وتتراقص أسفل قدميها، تُمَنِّي نفسها بقرب راحتها بعد ساعات من الشقاء. 


ذهب شهاب لعمله بالصباح، ثم انصرف  مبكِّرًا ، متوجها إلى طيف، وصل بعد آذان الظهر مباشرةً، كانت طيف انتهت للتو من عملها، لا تحملها قدمها. 

طرق شهاب الباب؛ فاستقبله والد طيف، تبادلا نظرات صامتة، ثم دلف شهاب يعاين ما تم وعلى وجهه بسمة انتصار متهكمة، وقف بمنتصف المكان ثم نادى عليها بحزم وصرامة: 

-طيف. 


أسرعت إليه بوهن جامح، وقفت وهي لا تعرف للثبات طريق تمرد جسدها وثارعليها، بتمايل يمينًا ويسارًا، رمقها بنظرة ثاقبة جعلتها تبكي بصمت. 

-خلصتي ولا لسه. 


جاهدت لإظهار صوتها الوهن: 

-خلصت كله، تعبانة تعبانة قوي. 

-ما سألتش تعبانة أو لأ، اللي حالتك بسببك، عشان تعرفي بعد كده تحترمي زوجك، وأنك بقيتي شايلة اسم رَجل، ولازم تتصرفي باحترام، فاهمة؟ 


أومأت بضعف ودموعها تشق سبيلها، ولم يهتم واستطرد في إملاء أوامره: 

-اعملي لي شاي، اغسلي وشك وغيري هدومك الأول. 


لا يريد سوى تكملة عذابها واستنفاذ الشَّحيح المتبقي من طاقتها، يبغى انهيارها وقد كان ما أراد؛ فبعد أن بدلت ملابسها واتجهت للمطبخ، شعرت بالأرض تتهاوى وكأنَّها تسقط في بئرٍ عميق، شعرت بروحها تفيض، تحولت رؤيتها إلى شاشة سوداء؛ فسقطت أرضًا، خرج والدها على صوت ارتطامها، رمق شهاب الذي تحرك نحوها مبتسمًا، حملها وادخلها غرفتها، وضعها على الفراش، دثرها بالغطاء، ثم جلب كرسي ووضعه جانبها، رمقها بتفحُّص وانتصار، بدأ تلقينها دروسه بجسارة وقوة. 


بعد فترة توجه للمجلس حيث يجلس والدها، تبادلا النظرات  شهاب بقوة واثقة، عنف وإصرار، ووالدها يطالعه بحدة وتدقيق، وعدم فهم، دارت بينهما حرب نظرات صامتة، انتصر فيها شهاب باكتساح،  فوالد طيف فضل نفسه التي لا يرى سواها، يريد الخلاص من ابنته؛ فدخل غرفته وصفع الباب خلفه، ابتسم شهاب بتهكم وسخرية نهض يُعد كوب من القهوة وعاد لغرفتها يفرز محتويتاها، تعامل في البيت بأريحية شديدة. 


عدة ساعات مرت، ثم بدأت طيف تتململ في فراشها بتعب وآنين، تصدر عنها همهمات متألمة، تتحرك بفراشها بوهن، يداهمها صداع يوشك أن يفتك برأسها؛ فزاد آنينها وامتزج ببكائها. يستمتع بمعاناتها ارتسمت علي وجهه ابتسامة صغيرة، أخفاها سريعا حدثها بعملية، اكمالًا في تأديبها وترويضها:  

-مش هنبطل تمثيل ولا أيه؟ 


انتفضت برعب وتوقفت عن الحركة، توقفت حتى أنفاسها، واتسعت عينها بصدمة وثبتت عينها عليه بفزع، استكمل حديثه اللاذع: 

-اللي حصل إمبارح ده قرصة ودن، عشان تتأكدي إن بعد كلامي مافيش كلام، أوامري أنا بس اللي تتنفذ، خافي مني يا طيف، أنا زعلى وحش، وحش قوي فوق ما تتخيلي، وشوفتي إن حتى أبوكِ نفذ كلامي، كان ممكن اسيبه يأدبك إمبارح بطريقته، وأنتِ تستاهلى، لكن كلمتي كانت كافية أنه يوقف ويسكت خالص.


وقف ثم أدار لها ظهره، صمت قليلا ثم استرسل: 

-كان المفروض تعملي الغدا، لكن لما اغمى عليكِ اشتريت مِن بره، مش عشان صعبتي عليا لأ، عشان مش هستني كتير على ما تفوقي وتعملي الأكل، وكمان مش هتتحملى عقابين ورا بعض؛ لأن معاد الغدا عندي مُقدس، ومش بقبل فيه أي تأخير، فاهمة. 


أومأت صامتة وارتسمت الرهبة على قسمات وجهها بذعر، لم يىحم ضعفها وواصل سيل أوامره: 

-قومي حضري مكان الأكل، وبسرعة. 


حاولت النهوض سريعًا، فضرب الصداع رأسها بقوة، تؤلمها مع كل نَفَس ، لا تتحمل حتى الكلمات، فتحركت ببطء ووهن؛ فصرخ بها، تحركت تبكي وهي تضع يدها على فمها تكمم شهقاتها، ونحيبها، تأكدت إنها خُلِقَت لتشقى وتتألم فقط. 


وضعت الطعام، جلسوا ثلاثتهم، يتناولون الطعام، ادعت هي تناوله فلا شهية ولا طاقة لها، عم الصَّمت، الأب شارد يعايش صراع داخلي وشهاب سعيد بسير الأحوال كما يهوى، وبتعذيب طيف المُتمهِّل، ابتسم بانتصار، يرشقها بنظرات متوعدة غاضبة كادت تحرقها. 


غادر شهاب أخيرًا فتنفست الصُعداء، دلفت غرفتها وكذلك فعل والدها حاولت الاهتمام بدروسها، ولمَّا فشلت اتجهت لفراشها وغطت بنوم عميق. 


مر أسبوع عِقابها، ستذهب للجامعة باليوم التالي، شردت بعقلها لا تتخيل كيف سترى صديقتها دون أن تقترب منها!! لن تحدثها أو ترتمي بأحضانها تبكي وتشكوا، كيف ستتجاهلها وتهجرها؟!!  ستفقد ملاذها الأخير وحضنها الدافئ،  سترهقها الوحدة ويقتلها برد المشاعر، فكرت كثيرا كيف تعلمها بسبب ابتعادها عنها، لن تستطيع ان تتحدث معها فإن رآها  شهاب ستتعرض لعقاب أخر وهي لم تتجاوز نفسيًا ما حدث. بعد تفكير طويل توصلت لفكرة، ستكتب لها وتوضح تفاصيل ما حدث واضطراها للابتعاد، تبثها حنينها وافتقادها، بقي شيء واحد يجب ألا يعلم شهاب، لذا وجدت أن الأفضل كتابته قبل ذهابها للجامعة مباشرةً ستخفيه بملابسها، وهناك وقبل المحاضرة تخفيه بكتبها ثم تلقيه عليها أثناء مرورها جانبها دون لفت انتباه الأخرين. 


حل المساء بقتامة سمائه، استمعا لطرقات قاسية، فأمرها والدها لإجابة الطارق، وما أن فعلت ارتجفت أوصالها، انتفض قلبها خوفًا، فلم يكن سوى شهاب: 

-ما كنتيش متوقعة طبعًا. 


اخفضت رأسها هربا، دلف للداخل بثقة، فتبعته باستسلام، جلس أمام والدها ملقيًا عليه التحية بعملية ورتابة، فبادله والدها بحنق  واستهجان: 

-أهلًا، ما قولتش إنك جاي، خير في حاجة؟ 

-هو أنا محتاج استأذن وانا جاي! ده بيت مراتي. 

-ٱه محتاج، ده بيتي أنا، ومراتك اللي هي بنتي، تبقي تحت طوعك لما تكون في بيتك، طول ما هي هنا بسيبك تعمل مَعَها اللي عايزه بمزاجي، لكن كل شيء له حدود، أنا عايز أرتاح في بيتي، يا ريت كلامي يكون واضح. 


رفع شهاب نظره لطيف التي تخفض رأسها بانكسار تتابع حديثهما بصمت، وتحدث بأمر: 

-أعملي شاي. 


أومأت بطاعة وتحركت؛ فوجه حديثه لوالدها: 

-مش هقدم الفرح وهيتم في معاده مش عندي استعداد اتحمل مذاكرة بعد الجواز، على العموم فاضل شهر والامتحانات تبدأ لمدة ثلاث اسابيع، وبعد الأسبوع الرابع الدخلة وتخلص، باختصار كلها شهرين استحملهم بالطول أو العرض. 

-ما قولتش جديد، بص يا شهاب، أحنا فاهمين بعض كويس، زي ما أنا مش هنط لك كل شوية بعد الجواز وهاتشوفني كل فين وفين، أنت كمان ما تزهقنيش، هي عندك طول اليوم في الجامعة، أعمل هناك اللي يريحك، أنا أشوفك هنا يوم واحد كل أخر أسبوع، يا خميس يا جمعة، اختار يوم منهم ، تيجي من نص اليوم، الأسبوع اللي فات سيبتك تربيها، لو كان عليَّا كنت هبدتها العلقة وربطها ورميتها لحد ما تتوب، أنت دماغك غير؛ فسيبتك في النهاية اسمها مراتك، أنت عملت اللي عايزه، وهي كشت، اتحبست في البيت أسبوع، فضلت رايح جاي علينا كل يوم، كتير كده أنا زهقت، فخلاص بح كفاية قوي، ماشي. 


ابتسم شهاب بسخرية: 

-يعني كل مشكلتك إني باجي كتير على العموم وجودي كتير اليومين اللي فاتوا له سبب، وجودي النهاردة  بردو له سبب، ومش هتشوفني غير يوم في الأسبوع، إلا إذا حصل حاجة تاني؛ فارتاح. 

-أنا داخل اوضتي ومش عايز دوشة، أه ما تتدخلش اوضتها مش حكاية هي، هنا أو الصالون، يا ريت كلامي يكون واضح. 


تركه بغَضَب وتحرك نحو غرفته، فجلس شهاب بحرية أكبر، وضع يديه خلف راسه وأراح ظهره للخلف، وعندما أتت طيف ومعها الشاي، وقف وتحدث بأمر 

-تعالى ورايا. 


دخل غرفة الصالون جلس بكبر، وضع ساق فوق الأخرى. 

-حطي الصنية، واقفي قدامي. 


فعلت بخوف، ووقفت أمامه ترتجف. 

- يا ريت اللي حصل لك ده يكون درس فهمك جوزك، وإن كل فعل له رد فعل، أي غلطة لها حساب لازم يدفع، المرة دي عقابك صغير؛ لأنَّها أول مرة بالرغم أن الغلط كبير، بعد كده مافيش تهاون ولا أعذار، هتندمي لو عملتي حاجة غلط تاني، أنت جربتي الخفيف، فاعلقي واحسبي خطواتك أحسن لك، اسمعي الكلام بطاعة عمياء، فاهمة. 


أومأت عدة مرات، تردد: 

-فاهمة، حاضر. 

-صاحبتك دي تنسيها فاهمة، عايز أسمع صوتك بوضوح. 

-فاهمة. 

-بعد المحاضرة تيجي المكتب عندي. 

-حاضر. 

-كل يوم قبل ما تمشي من الجامعة تعدي عليا توريني كشكول محاضراتك، وبعدها تعملى اللى أقول عليه. 

-حاضر. 

-أي حاجة تحصل بينا ما تخرجش عننا، حتى أمي ما تفتحيش بؤك معاها بكلمة، وإلَّا ما تلوميش غير نفسك، فاهمة. 


أجابت بارتجاف، يتزايد مع كل أمر: 

-فاهمة والله، حاضر. 


استقام من مجلسه وتحرك نحوها بهدوء ثم وقف امامها مباشرةً، مال عليها، وتحدث بفحيح: 

-همر عليكِ الصبح أوصلك، سبعة بالدقيقة تكوني جاهزة، مش عايز ثانية تأخير. 

-حاضر. 

غادر؛ فدلفت غرفتها تلوذ بها، تلاحقت أنفاسها واضطربت، ظلت تهدئ روعه حتى سكنت أخيرًا. 

_______

اولًا بعتذر لقصر البارت إن شاء الله يكون طويل بكرة.

ثانيًا بفكركم برواية المعرض ٢٠٢٥😊🤭🙈.


اقتباس 

اتسعت عيناها بصدمة لشعورها بكتلة خفية تهبط عليها وتحبسها داخلها كالصَّندوق، بحثت بذعر تحاول رؤيتها ولم ترَ سوى الهواء، تملَّكها الهلع حين شعرت بشيء يلتف حول عنقها، بدأ الحيز حولها يَضيِق يخنقها، صمَّت أذنها وتضاعف الألم.


#سلوى_فاضل #soly_fadel 

#صالة2_جناحa52 

#اندروميديا_آسر_البشر #دار_طريق_العلا_للنشر_والتوزيع_والترجمة 

#معرض_القاهرة_الدولي_2025


الفصل التاسع 

القى كلماته وغادر تاركها خلفه ترتجف بذعر، تنظر لوالدها وعقلها يصور لها أبشع ما قد يفعله بها؛ لم تتوقع أو يجول بذهنها اكتفائه بعقاب شهاب، وأنَّه لن ينقض عليها، فهو لم يتهاون يومًا ولم يترك هفوة بدون حساب عسير، ولكنه فاجأها بكلماته: 

-اللي جوزك قاله يتعمل، اتنيلي اتحركِ، مفيش نوم ولا راحة لحد ما تخلصي. 


صفع الباب بقوة عقب دلوفه لغرفته؛ فانهارت أرضًا باكية، احترقت أعصابها، لا تعلم كيف ستنظف المكان كما أُمرت، أدركت وأيقنت أن زوجها ما هو إلَّا شهاب حارق، ستكوى بناره ولهيبه، انتحبت بضعف وانهاك، حاولت النهوض عدة مرات وفشلت؛ فأعادت المحاولة مرة تلو الأخرى حتى استطاعت، بدلت ملابسها بوهن، ثم غسلت وجهها ربما تستعيد قدرا ولو بسيط من قوتها الضائعة، ثم بدأت رحلة العذاب، بالأوقات العادية تنهي ما طُلب منها على مدار ثلاثة أيام متتالية لنحافة جسدها وهزله، تشعر بالإعياء من أقل مجهود، أكلت جسدها الأنيميا، فضلا عن حالتها النفسية التي لا تتحسن أبدًا، وتشعر إنها لن تتحسن يومًا. 


بغرفة والدها، جلس على فراشه نصف مستلقي، يدور برأسه ما حدث، يراجع أفعال شهاب منذ أن تقدم لابنته، يفكر مضيقًا عينيه، يسترجع تعبيرات وجه الآخر بكل حديث دار بينهما اليوم وقبلا، وكذلك كل فعل، زفر بقوة، ثم حدث نفسه بصوت هامس بالكاد يسمع. 

-مش سهل أبدًا يا شهاب، وطيف شكلها مش هتاخد في إيدك غلوة، لو كانت أختها كانت استحملت شوية، منال عفيه عنها، لكن طيف مش هتقدر، اللي خلاها تعمله النهاردة أصعب من الضرب مية مرة، هتواصل يومين صاحية ده لو تحملت، مضروبة ودمها هرب منها، والله أعلم شافت منه إيه في الجامعة، خبيث وتعلب يا شهاب. 


عاد لبيته سعيدا منتصر، بداخله القليل من الغَضَب، لم يتوقع أن تكن طيف أي مشاعر لذلك الضابط، لكن ما رآه اليوم دل على عكس توقعه، يقين فتك بعقله، لكنه بالنهاية لقنها درسًا لن تنساه ما حيت، نظر لساعة يده بنشوة: 

-أكيد لسه ما خلصتش، ما كانتش قادرة تقف؛ عشان بعد كده تحسب لكل حركة ألف حساب، ولسه الجاي أكتر يا طيف، هنشوف. 


عدة ساعات مضت عليها بين عمل وتنظيف وتلميع الأثاث، بالكاد انتهت من تنظيف غرفتي الصَّالون والصَّالة، كما انتهت قوتها أيضًا، بالكاد تفتح جفونها، عادت للبكاء بضعف وانهزام، يتردد في عقلها كلمات شهاب «مش هتنامي غير وأنتِ منفضة الشَّقة كلها، قبل كدة ما فيش نوم ولا حتى تقعدي» 


عدة شهقات صامته خرجت منها، ثم تمالكت نفسها بصعوبة بالغة وتحركت بوهن تكمل عقابها. 


انتصف الليل، سكنت جميع الأصوات حولها، كل آوى لفراشه سواها، تعمل وتعمل، كاد قلبها يتوقف من شدة الإرهاق، وحتَّى هو أبَى أن يُريحها؛ فظل يعمل ببطء شديد، تمنت بكل جوارحها أن تخمد نبضاته وتسكن حركتها للأبد. 


انشق الليل، وظهرت خيوط الشمس، تعلن عن بدء يوم جديد ونهار جديد، وما زالت طيف تعمل، انهت تنظف البيت عدا غرفة والدها، الذي كان بين الاستيقاظ والغفوة، عندما سمع آذان الفجر نهض توضأ وذهب للمسجد على غير عادته، لكنه بهذا اليوم يختبر شعور جديد، لا يعلم ماهيته أهو مشفق على طيف؟ هل يمكن أن يفضلها على نفسه ويتراجع عن تلك الزيجة؟ بالنهاية تغلبت طبيعته وسحقت ضميره؛ فهزمته هزيمة نكراء. 


  حاولت الإسراع قدر طاقتها، عاد والدها القى عليها نظرة سريعة، ثم دخل غرفتها ينام فيها فما زال أمامها عمل كثير حتى تنتهي، استمرت بالعمل حتى آذان الظهر، لا راحة ،لا طعام ولا جلوس، فقط تعمل، بدأت تشعر وكأن الأرض تميد بها وتتراقص أسفل قدميها، تُمَنِّي نفسها بقرب راحتها بعد ساعات من الشقاء. 


ذهب شهاب لعمله بالصباح، ثم انصرف  مبكِّرًا ، متوجها إلى طيف، وصل بعد آذان الظهر مباشرةً، كانت طيف انتهت للتو من عملها، لا تحملها قدمها. 

طرق شهاب الباب؛ فاستقبله والد طيف، تبادلا نظرات صامتة، ثم دلف شهاب يعاين ما تم وعلى وجهه بسمة انتصار متهكمة، وقف بمنتصف المكان ثم نادى عليها بحزم وصرامة: 

-طيف. 


أسرعت إليه بوهن جامح، وقفت وهي لا تعرف للثبات طريق تمرد جسدها وثارعليها، بتمايل يمينًا ويسارًا، رمقها بنظرة ثاقبة جعلتها تبكي بصمت. 

-خلصتي ولا لسه. 


جاهدت لإظهار صوتها الوهن: 

-خلصت كله، تعبانة تعبانة قوي. 

-ما سألتش تعبانة أو لأ، اللي حالتك بسببك، عشان تعرفي بعد كده تحترمي زوجك، وأنك بقيتي شايلة اسم رَجل، ولازم تتصرفي باحترام، فاهمة؟ 


أومأت بضعف ودموعها تشق سبيلها، ولم يهتم واستطرد في إملاء أوامره: 

-اعملي لي شاي، اغسلي وشك وغيري هدومك الأول. 


لا يريد سوى تكملة عذابها واستنفاذ الشَّحيح المتبقي من طاقتها، يبغى انهيارها وقد كان ما أراد؛ فبعد أن بدلت ملابسها واتجهت للمطبخ، شعرت بالأرض تتهاوى وكأنَّها تسقط في بئرٍ عميق، شعرت بروحها تفيض، تحولت رؤيتها إلى شاشة سوداء؛ فسقطت أرضًا، خرج والدها على صوت ارتطامها، رمق شهاب الذي تحرك نحوها مبتسمًا، حملها وادخلها غرفتها، وضعها على الفراش، دثرها بالغطاء، ثم جلب كرسي ووضعه جانبها، رمقها بتفحُّص وانتصار، بدأ تلقينها دروسه بجسارة وقوة. 


بعد فترة توجه للمجلس حيث يجلس والدها، تبادلا النظرات  شهاب بقوة واثقة، عنف وإصرار، ووالدها يطالعه بحدة وتدقيق، وعدم فهم، دارت بينهما حرب نظرات صامتة، انتصر فيها شهاب باكتساح،  فوالد طيف فضل نفسه التي لا يرى سواها، يريد الخلاص من ابنته؛ فدخل غرفته وصفع الباب خلفه، ابتسم شهاب بتهكم وسخرية نهض يُعد كوب من القهوة وعاد لغرفتها يفرز محتويتاها، تعامل في البيت بأريحية شديدة. 


عدة ساعات مرت، ثم بدأت طيف تتململ في فراشها بتعب وآنين، تصدر عنها همهمات متألمة، تتحرك بفراشها بوهن، يداهمها صداع يوشك أن يفتك برأسها؛ فزاد آنينها وامتزج ببكائها. يستمتع بمعاناتها ارتسمت علي وجهه ابتسامة صغيرة، أخفاها سريعا حدثها بعملية، اكمالًا في تأديبها وترويضها:  

-مش هنبطل تمثيل ولا أيه؟ 


انتفضت برعب وتوقفت عن الحركة، توقفت حتى أنفاسها، واتسعت عينها بصدمة وثبتت عينها عليه بفزع، استكمل حديثه اللاذع: 

-اللي حصل إمبارح ده قرصة ودن، عشان تتأكدي إن بعد كلامي مافيش كلام، أوامري أنا بس اللي تتنفذ، خافي مني يا طيف، أنا زعلى وحش، وحش قوي فوق ما تتخيلي، وشوفتي إن حتى أبوكِ نفذ كلامي، كان ممكن اسيبه يأدبك إمبارح بطريقته، وأنتِ تستاهلى، لكن كلمتي كانت كافية أنه يوقف ويسكت خالص.


وقف ثم أدار لها ظهره، صمت قليلا ثم استرسل: 

-كان المفروض تعملي الغدا، لكن لما اغمى عليكِ اشتريت مِن بره، مش عشان صعبتي عليا لأ، عشان مش هستني كتير على ما تفوقي وتعملي الأكل، وكمان مش هتتحملى عقابين ورا بعض؛ لأن معاد الغدا عندي مُقدس، ومش بقبل فيه أي تأخير، فاهمة. 


أومأت صامتة وارتسمت الرهبة على قسمات وجهها بذعر، لم يىحم ضعفها وواصل سيل أوامره: 

-قومي حضري مكان الأكل، وبسرعة. 


حاولت النهوض سريعًا، فضرب الصداع رأسها بقوة، تؤلمها مع كل نَفَس ، لا تتحمل حتى الكلمات، فتحركت ببطء ووهن؛ فصرخ بها، تحركت تبكي وهي تضع يدها على فمها تكمم شهقاتها، ونحيبها، تأكدت إنها خُلِقَت لتشقى وتتألم فقط. 


وضعت الطعام، جلسوا ثلاثتهم، يتناولون الطعام، ادعت هي تناوله فلا شهية ولا طاقة لها، عم الصَّمت، الأب شارد يعايش صراع داخلي وشهاب سعيد بسير الأحوال كما يهوى، وبتعذيب طيف المُتمهِّل، ابتسم بانتصار، يرشقها بنظرات متوعدة غاضبة كادت تحرقها. 


غادر شهاب أخيرًا فتنفست الصُعداء، دلفت غرفتها وكذلك فعل والدها حاولت الاهتمام بدروسها، ولمَّا فشلت اتجهت لفراشها وغطت بنوم عميق. 


مر أسبوع عِقابها، ستذهب للجامعة باليوم التالي، شردت بعقلها لا تتخيل كيف سترى صديقتها دون أن تقترب منها!! لن تحدثها أو ترتمي بأحضانها تبكي وتشكوا، كيف ستتجاهلها وتهجرها؟!!  ستفقد ملاذها الأخير وحضنها الدافئ،  سترهقها الوحدة ويقتلها برد المشاعر، فكرت كثيرا كيف تعلمها بسبب ابتعادها عنها، لن تستطيع ان تتحدث معها فإن رآها  شهاب ستتعرض لعقاب أخر وهي لم تتجاوز نفسيًا ما حدث. بعد تفكير طويل توصلت لفكرة، ستكتب لها وتوضح تفاصيل ما حدث واضطراها للابتعاد، تبثها حنينها وافتقادها، بقي شيء واحد يجب ألا يعلم شهاب، لذا وجدت أن الأفضل كتابته قبل ذهابها للجامعة مباشرةً ستخفيه بملابسها، وهناك وقبل المحاضرة تخفيه بكتبها ثم تلقيه عليها أثناء مرورها جانبها دون لفت انتباه الأخرين. 


حل المساء بقتامة سمائه، استمعا لطرقات قاسية، فأمرها والدها لإجابة الطارق، وما أن فعلت ارتجفت أوصالها، انتفض قلبها خوفًا، فلم يكن سوى شهاب: 

-ما كنتيش متوقعة طبعًا. 


اخفضت رأسها هربا، دلف للداخل بثقة، فتبعته باستسلام، جلس أمام والدها ملقيًا عليه التحية بعملية ورتابة، فبادله والدها بحنق  واستهجان: 

-أهلًا، ما قولتش إنك جاي، خير في حاجة؟ 

-هو أنا محتاج استأذن وانا جاي! ده بيت مراتي. 

-ٱه محتاج، ده بيتي أنا، ومراتك اللي هي بنتي، تبقي تحت طوعك لما تكون في بيتك، طول ما هي هنا بسيبك تعمل مَعَها اللي عايزه بمزاجي، لكن كل شيء له حدود، أنا عايز أرتاح في بيتي، يا ريت كلامي يكون واضح. 


رفع شهاب نظره لطيف التي تخفض رأسها بانكسار تتابع حديثهما بصمت، وتحدث بأمر: 

-أعملي شاي. 


أومأت بطاعة وتحركت؛ فوجه حديثه لوالدها: 

-مش هقدم الفرح وهيتم في معاده مش عندي استعداد اتحمل مذاكرة بعد الجواز، على العموم فاضل شهر والامتحانات تبدأ لمدة ثلاث اسابيع، وبعد الأسبوع الرابع الدخلة وتخلص، باختصار كلها شهرين استحملهم بالطول أو العرض. 

-ما قولتش جديد، بص يا شهاب، أحنا فاهمين بعض كويس، زي ما أنا مش هنط لك كل شوية بعد الجواز وهاتشوفني كل فين وفين، أنت كمان ما تزهقنيش، هي عندك طول اليوم في الجامعة، أعمل هناك اللي يريحك، أنا أشوفك هنا يوم واحد كل أخر أسبوع، يا خميس يا جمعة، اختار يوم منهم ، تيجي من نص اليوم، الأسبوع اللي فات سيبتك تربيها، لو كان عليَّا كنت هبدتها العلقة وربطها ورميتها لحد ما تتوب، أنت دماغك غير؛ فسيبتك في النهاية اسمها مراتك، أنت عملت اللي عايزه، وهي كشت، اتحبست في البيت أسبوع، فضلت رايح جاي علينا كل يوم، كتير كده أنا زهقت، فخلاص بح كفاية قوي، ماشي. 


ابتسم شهاب بسخرية: 

-يعني كل مشكلتك إني باجي كتير على العموم وجودي كتير اليومين اللي فاتوا له سبب، وجودي النهاردة  بردو له سبب، ومش هتشوفني غير يوم في الأسبوع، إلا إذا حصل حاجة تاني؛ فارتاح. 

-أنا داخل اوضتي ومش عايز دوشة، أه ما تتدخلش اوضتها مش حكاية هي، هنا أو الصالون، يا ريت كلامي يكون واضح. 


تركه بغَضَب وتحرك نحو غرفته، فجلس شهاب بحرية أكبر، وضع يديه خلف راسه وأراح ظهره للخلف، وعندما أتت طيف ومعها الشاي، وقف وتحدث بأمر 

-تعالى ورايا. 


دخل غرفة الصالون جلس بكبر، وضع ساق فوق الأخرى. 

-حطي الصنية، واقفي قدامي. 


فعلت بخوف، ووقفت أمامه ترتجف. 

- يا ريت اللي حصل لك ده يكون درس فهمك جوزك، وإن كل فعل له رد فعل، أي غلطة لها حساب لازم يدفع، المرة دي عقابك صغير؛ لأنَّها أول مرة بالرغم أن الغلط كبير، بعد كده مافيش تهاون ولا أعذار، هتندمي لو عملتي حاجة غلط تاني، أنت جربتي الخفيف، فاعلقي واحسبي خطواتك أحسن لك، اسمعي الكلام بطاعة عمياء، فاهمة. 


أومأت عدة مرات، تردد: 

-فاهمة، حاضر. 

-صاحبتك دي تنسيها فاهمة، عايز أسمع صوتك بوضوح. 

-فاهمة. 

-بعد المحاضرة تيجي المكتب عندي. 

-حاضر. 

-كل يوم قبل ما تمشي من الجامعة تعدي عليا توريني كشكول محاضراتك، وبعدها تعملى اللى أقول عليه. 

-حاضر. 

-أي حاجة تحصل بينا ما تخرجش عننا، حتى أمي ما تفتحيش بؤك معاها بكلمة، وإلَّا ما تلوميش غير نفسك، فاهمة. 


أجابت بارتجاف، يتزايد مع كل أمر: 

-فاهمة والله، حاضر. 


استقام من مجلسه وتحرك نحوها بهدوء ثم وقف امامها مباشرةً، مال عليها، وتحدث بفحيح: 

-همر عليكِ الصبح أوصلك، سبعة بالدقيقة تكوني جاهزة، مش عايز ثانية تأخير. 

-حاضر. 

غادر؛ فدلفت غرفتها تلوذ بها، تلاحقت أنفاسها واضطربت، ظلت تهدئ روعه حتى سكنت أخيرًا. 

الفصل العاشر من هنا 

تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1