رواية جمر الجليد الفصل التاسع بقلم شروق مصطفي
نظر إليها بابتسامة ساخرة وقال:
"جربي تخرجي، وهنشوف مين اللي بيتحكم في مين."
سيلا كانت غاضبة وصوتها يعلو بالاعتراض:
"هو كل حاجة عندك لا؟! إيه القرف ده؟"
لكنه لم يجب. ألقى الحطب بقوة على الأرض، وصوت ارتطامه أظهر حجم غضبه. اقترب منها بخطوات غاضبة كأنه عاصفة لا تهدأ.
شعرت بالخوف يعتريها، فتراجعت سريعًا وركضت إلى الأعلى. عقلها يضج بالأسئلة:
"جايبني هنا ليه؟ هعمل إيه؟"
لكن وسط ارتباكها، لمعت شرارة التحدي في عينيها. همست لنفسها بحزم:
"مش هستسلم... لسه ما تعرفش مين سيلا."
وبينما كانت الأفكار تدور في رأسها، تسلل التعب إليها، فاستسلمت للنوم رغم كل ما بداخلها من اضطراب.
على الجانب الآخر، كان زال يعمل بصمت في الخارج. قطع الحطب بعناية من الأشجار وحمله إلى الداخل، حيث أكمل تقطيعه ليتناسب مع المدفأة. بعد الانتهاء، أغلق الباب بإحكام ليمنع برد الليل من الدخول.
دخل الحمام وأخذ حمامًا دافئًا، وكأن الماء يزيل عن جسده تعب اليوم. ارتدى بنطالًا رماديًا بيتيًا وتيشيرتًا أسود بسيطًا، ثم توجه بهدوء إلى غرفتها.
وقف عند الباب للحظات، يتأملها وهي تغط في نوم مضطرب. اقترب منها، قام بتغطيتها بعناية لتدفئتها، وبينما كان يهم بالمغادرة، سمعها تهمس في نومها:
"ههرب... أنا ههرب منك."
توقف عند الباب وابتسامة صغيرة تشكلت على شفتيه، وهمس لنفسه:
"وأنا بقا كابوسك من دلوقتي."
.....
معتز أخذ إجازة من العمل، مرهقًا من السفر. جلس وحده، وذهبت أفكاره إلى وجهها البريء وكلماتها:
"الله، أنت بتضحك زينا أهو."
بقلم شروق مصطفى
ابتسم دون وعي، لكن سرعان ما عاد لعقله ونفض الفكرة. تمتم بحدة:
"لو الأقرب خان، البعيد هيكون إيه؟ كلهم نفس الشيء... ظاهرهم بريء، وجوّاتهم شياطين."
حاول أن ينشغل بأي شيء، لكنه لم يستطع الهروب من ظلال الماضي.
....
استيقظت همسة وظلت للحظات تستجمع وعيها، ثم نهضت وكادت أن تخرج، لكنها سمعت رنة غريبة. عادت وأمسكت الهاتف، متسائلة:
"إيه النغمة دي؟ مش بتاعتي."
نظرت إلى الشاشة فرأت اسم "عامر". استغربت وقالت:
"مين ده؟ هو أنا مكنتش بحلم؟"
ردت بحذر:
"ألو؟"
جاءها صوت يقول:
"أنتِ مين؟ ده رقم وليد أخويا. أنتِ تبقي مين؟"
نظرت مجددًا إلى الهاتف ولاحظت صورة خلفية غريبة. ردت بسرعة بعدما أستمعت لتأفأفه:
"آسفة، بس شكل الموبايل اتلخبط بعتذر جدًا وهكلم رقمي عشان نبدله."
رد عامر مطمئنًا:
"ماشي، ولا يهمك. كنت بس بطمن إنه وصل. مع السلامة."
أنهت المكالمة وقالت لنفسها:
"إزاي مخدتش بالي؟ هكلمه دلوقتي أزاي وأنا مش فاكرة أسمه!."
اتصلت برقمها، وبعد رنين طويل، رد وليد بصوت مفعم بالتعب، لكنه سرعان ما تغير حين عرفها:
"ألو؟ حضرتك أنا همسة، أخت سيلا، اللي اتقابلنا صدفة في الغردقة، و..."
قاطعها بابتسامة:
"كانت أحلى صدفة، بجد."
تلعثمت همسة بخجل:
"أحم... واضح إن تليفوناتنا اتبدلت."
رد بمزاح:
"لحسن حظي عشان أسمع صوتك."
قالت بخجل:
"محتاجه تليفوني، وأخوك كلمك مرتين."
قال وليد:
"طيب، نتقابل عند الكافيه جنب بيتك بعد ساعة؟"
وافقت وأغلقت المكالمة. بعدها ذهبت إلى والدها ووالدتها وقالت:
"تليفوني اتبدل في الغردقة، وحد هييجي يرجعه. ممكن تروح تقابله، يا بابا؟"
رد والدها:
"ماشي، هشرب الشاي وأنزل."
أما وليد، فكان سعيدًا، جهز نفسه بسرعة وتوجه للكافيه، ينتظر لقاءها بشوق.
انتظر وليد داخل الكافيه حتى جاءه اتصال، لكنه فوجئ بصوت رجل خشن يقدم نفسه:
"أنا محسن، والد همسة اللي تليفونك اتبدل معاها."
نهض وليد ورحب به قائلًا:
"أهلاً بحضرتك، أنا وليد، وآسف لو تعبتك."
رد محسن:
"مفيش تعب، اتفضل تليفونك."
تبادلوا الهواتف، ثم أصر وليد:
"تشرب حاجة، يا عمي؟"
لم ينتظر رده ونادى النادل الذي أخذ طلب القهوة. بدأ محسن الحديث:
"همسة قالت إنك وابن عمك وصلتوهم من الغردقة."
أجاب وليد بارتباك:
"أيوه، يا عمي. كنا راجعين بعد الافتتاح، ووصلناهم."
تضييق عيني محسن أربك وليد أكثر حين سأله:
"مين عاصم ده؟"
رد وليد بتوتر:
"ده صاحب أكبر سلسلة شركات سياحية، وإحنا كلنا شركاء."
قاطعه النادل بإحضار الطلب، لكن محسن أكمل:
"عاوز رقم عاصم لو ممكن."
أعطاه وليد الرقم بقلق، ثم استأذن وغادر وهو يتمتم:
"إيه الراجل ده؟ حاسس إني في تحقيق! ماشي يا همسة، بتسلميني كده؟ استني عليّ!"
عاد محسن للمنزل وأعطى همسة الهاتف قبل أن يغادر لعمله، عازمًا على الاتصال بعاصم لاحقًا للاطمئنان على ابنته.
وضعت همسة الهاتف في الشاحن ثم عادت لإكمال لوحتها. بعد قليل، اهتز الهاتف بمكالمة من مي. أجابت بسعادة:
"أهلاً، حبيبتي. عاملة إيه؟ وحشتيني."
ردت مي بقلق:
"الحمد لله. طمنيني، في أي جديد عن سيلا؟"
تنهدت همسة:
"بابا وماما طلعوا عارفين كل حاجة."
تفاجأت مي:
"بجد؟ كانوا عارفين إنها مش راجعة معانا؟"
ردت همسة:
"آه، وطلع الموضوع كبير أوي."
قالت مي بحماس:
"طيب احكي بسرعة!"
هتفت همسة:
"مش هينفع في التليفون. تعالي بكرة عندي، أشرحلك كل حاجة."
وافقت مي:
"خلاص، هعدي عليكِ بعد الشغل. بس ماما بتناديني دلوقتي عشان الغدا، هقفل."
ردت همسة:
"ماشي، سلام، حبيبتي."
...
في صباح اليوم التالي، ذهبت مي إلى الجريدة لمتابعة عملها. وصلت إلى مكتبها وكانت بالكاد تجلس حين قال زميلها ياسر:
"المدير عاوزك ضروري، بيسأل عنك كل شوية. روحي له الأول."
تأففت مي وهي تسأله:
"إيه الموضوع؟ عارف هو عاوزني ليه؟"
هز ياسر كتفيه بمعنى أنه لا يعرف. فقالت وهي تهم بالذهاب:
"ماشي، رايحة أهو. يا خبر دلوقتي بفلوس بعد شوية يبقى ببلاش."
ثم همست لنفسها بمرح:
"شكلي هتعلق! فينك يا سيلا تجيبي حقي!"
ضحك ياسر وأدهم عليها، فقد كانت تضيف جوًا مرحًا دائمًا في المكتب.
وصلت مي إلى مكتب المدير، استأذنت بالدخول، وعندما أذن لها، دخلت.
استقبلها بابتسامة وقال:
"حمد لله على السلامة يا مي."
ردت:
"الله يسلمك يا فندم."
قال المدير:
"طبعًا، أخدتِ أجازة، خلاص، ماسمعش كلمة تانية."
ابتسمت وقالت:
"متشكرة جدًا يا فندم."
أشار لها بالجلوس وقال:
"في موضوع مهم عاوز أكلمك فيه."
جلست مي وهي تسأله:
"خير يا فندم؟"
قال المدير بجدية:
"الموضوع متعلق بزميلتك سيلا. أنا عارف كل اللي حصل، والدها صديقي وعلى علم بالموضوع، وأنا اللي خليت سيلا تطلع الرحلة دي تحديدًا."
صمت قليلاً، ومي تحاول فهم ما يحدث دون أن تقاطعه.
أكمل:
"بما إن سيلا مش هتظهر دلوقتي، محتاجك تمسكي شغلها. هتكتبي عن كل اللي شفتِيه في الافتتاحية والحفلة، وتقيمي الحدث مرفقًا بالصور. بس..."
سألته بحيرة:
"بس إيه، يا فندم؟"
قال بحزم:
"هترفقي اسم سيلا محسن على كل المقالات، سواء افتتاحيات، أخبار مشاهير، أو أي حاجة تكتبيها. مش هينفع غير كده لحد ما ترجع."
ترددت مي للحظة، لكنها وافقت بإصرار:
"موافقة طبعًا يا فندم، سيلا مش مجرد زميلة، دي أخت، وأنا مستعدة لأي حاجة تساعدها."
ابتسم المدير بارتياح وقال:
"وده العشم فيكِ. خلصي شغلك وابعتِيه لي للمراجعة قبل ما ينزل العدد بكرة."
ردت مي:
"تمام، بعد إذنك."
خرجت من المكتب وهي تتمتم لنفسها:
"مش فاهمة حاجة، بس يلا. أخلص شغلي وأروح أشوف البت همسة."
عملت بجد طوال اليوم حتى انتهت من المقالات وأرسلتها للمدير، ثم توجهت إلى منزل همسة.
...
أما معتز توجه إلى الشركة للإشراف على العمل ومراجعة الملفات، حيث كانت لديهم عدة فروع يدير كل واحد منها مدير إداري. انشغل معتز بترتيب الأوراق حتى دخل عليه وليد دون استئذان، مما جعله يهتف بانزعاج:
"ما تخبط يا بني آدم! داخل كده زي الثور!"
ضحك وليد قائلاً:
"إيه يا عم، هو أنا داخل عليك الحمام ولا إيه؟"
تنهد معتز باستسلام:
"مفيش فايدة فيك. اتأخرت ليه كده؟"
في الشركة، رد وليد بابتسامة خفيفة على معتز:
"كان عندي مشوار وخلصته وجيت، بس قولي، إيه حكاية أخوك مع الصحفية دي؟ سافر فجأة ليه؟"
رد معتز وهو يضع الأوراق جانبًا:
"عاصم دايماً كده، محدش يعرف بيخطط لإيه. اللي أعرفه إنه في مأمورية شغل، والصحفية دي شكلها عاملة مشكلة كبيرة."
وليد بخبث:
"وصحبتها؟ نظامها إيه؟"
نظر معتز إليه بحدة:
"صحبتها مين يا عم نحنوح؟ ماتلم نفسك شوية، وانشف كده بدل ما تبقى طري."
ضحك وليد وقال:
"مكان قلبك ده صخر، ما بيحسش زي البني آدمين."
ثم أكمل بثقة:
"أتحداك يا معتز، وقت ما تحس إن صورتها مش بتفارق خيالك، تعرف وقتها بس إنك بني آدم عنده قلب."
رد معتز بجفاء:
"مستحيل. قلبي مات من زمان. الحب ده خليته ليك يا عم الرومانسي. قوم نكمل شغل."
أومأ وليد بأسف وقال:
"للأسف، مش هتحسوا بقيمة الكلام ده إلا لما يبقى متأخر. لو حسيت إن قلبك اتحرك، أوعى تخسره."
ثم غادر المكتب وهو يهز رأسه.
تركه وليد في حالة شرود، تتردد كلماته في ذهن معتز رغم تجاهله لها. استغرق في العمل لساعات طويلة حتى شعر بالاختناق من الروتين. قرر المغادرة، فأخذ مفاتيحه ونظارته، وركب سيارته.
ظل يقود بلا هدف في الشوارع لفترة، حتى توقف فجأة عند مكان مألوف، لا يعلم لماذا جذبه هناك!