![]() |
قصه عالم ليلي كامله بقلم شهد الشوري
كان الليل قد أسدل ستاره، والمدينة تغرق في صمت ثقيل يخنق الأنفاس. جلس يوسف في غرفته المعتمة، غارقًا في بحر من أفكاره المتشابكة، تلك الأفكار التي كانت تتناوب عليه مثل أمواجٍ عاتية، تضرب قلبه دون رحمة. كانت الغرفة مظلمة، ولكن الظلمة الحقيقية كانت تلتف حول روحه ذلك الجرح العميق الذي خلفته والدته في داخله لم يندمل، بل ظل ينزف على مر السنوات، وكأنها بغيابها قد تركت شيئًا لا يمكن للزمن أن يخفف من وطأته.
كان يوسف يعيش أسيرًا لحيرته، كيف يمكن لمن أحبها أكثر من أي شيء في هذا العالم أن تستسلم للضعف، أن تختار الموت هروبًا من الحياة؟ تلك الفكرة كانت تثقل صدره كلما تذكرها، كأنها حجر يسحق روحه ببطء. والدته، التي كان ينظر إليها كملاذه الوحيد من قسوة والده، خذلته في لحظة واحدة، وتركت خلفها فراغًا لا يُملأ. منذ ذلك اليوم، صار يوسف يبحث في كل امرأة يقابلها عن صورة معاكسة تمامًا لها، امرأة قوية، صلبة، لا تستسلم مهما كانت الظروف، لا تهرب كما فعلت والدته.
في خضم هذه الحيرة والبحث الذي يبدو بلا نهاية، عثر يوسف على كتب ليلى لأول مرة. لم يكن يتوقع أن كتابًا قد يغير شيئًا في حياته، لكن كلمات ليلى كانت شيئًا آخر، كانت أشبه بطوق نجاة ألقي إليه من عالم آخر. كانت رواياتها تتحدث عن نساء لا يعرفن الاستسلام، عن محاربات يقفن في وجه الحياة بكل ما أوتين من قوة، يتحدين الظلم ويواصلن المسير بشجاعة. كان يشعر أن تلك الكلمات ليست مجرد سردٍ عادي، بل كانت تُلامس شيئًا عميقًا في روحه.
عندما كان يقرأ رواياتها، كان يشعر بأن شخصياتها تخرج من بين الصفحات لتلامس وجعه الخاص، وكأن ليلى كتبت تلك الحكايات لأجله هو وحده. كل امرأة في رواياتها كانت تجسد الحلم الذي حمله يوسف في داخله منذ الصغر، الحلم بوجود من تستطيع أن تكون مصدر القوة والثبات الذي طالما افتقده. ومع كل صفحة يطويها، كانت تعلقه بتلك الشخصيات يزداد، وكان إيمانه بأن ليلى هي التي تجسد تلك القوة، يتعزز. في عقله، حتى أصبحت ليلى نفسها رمزًا لتلك الشجاعة التي كان يبحث عنها، امرأة لا تعرف الانكسار، لا تهاب الحياة.
كلما انتهى من قراءة أحد كتبها، شعر كأنه خرج من معركة منتصرًا، معركة لم يخضها بنفسه، لكن كلماته كانت تجعله يشعر بأنه جزء منها. كان يظن أن في كل كلمة تكتبها ليلى، كانت تعكس جزءًا من روحها، جزءًا من القوة التي كانت تنتظره ليجدها.
وعندما علم يوسف عن حفل توقيع كتاب ليلى الجديد، شعرت روحه وكأنها تنتفض من سباتها الطويل. فقد عاش لسنوات محاصرًا في دوامة البحث عن القوة، عن تلك المرأة المثالية التي جسدتها كلمات ليلى. في أعماقه، شعر وكأن لقاءه بها سيكون لحظة فاصلة، كأنها نهاية رحلته وبداية شيء جديد. لم يتردد لحظة واحدة، كان متلهفًا لرؤيتها، ليقف وجهًا لوجه مع المرأة التي نسجت بطولاتها من حبرٍ وورق، المرأة التي كانت بالنسبة له أكثر من كاتبة، بل رمزًا لكل ما افتقده في حياته.
في يوم الحفل، كان يوسف يقف في الطابور الطويل، محاطًا بالغرباء، لكنه لم يكن يرى سوى هدف واحد....لقاء ليلى
كان قلبه ينبض بشدة، خليط من الترقب والتوتر يتصاعد بداخله. مع كل خطوة يقترب فيها من الطاولة التي تجلس خلفها، كان خياله يسبق الواقع، يصور له لقاءً فارقًا مع امرأة تمتلئ عيناها بالقوة والتحدي، تمامًا كما رسمها في عقله.
وأخيرًا، جاء دوره. وقف أمامها، وتوقفت لحظة الأنفاس. لكنه، فجأة، شعر بشيء يشبه الانهيار الخفي، صدمة هادئة تسللت إلى أعماقه دون أن يلاحظ. كانت ليلى تقف أمامه بالفعل، لكنها لم تكن كما تخيلها. لا، لم تكن تلك المرأة القوية الصلبة التي صنعها من خلال كلماتها.
كانت ليلى هناك، لكن بهدوء غريب، كأنها طيف يتراقص بين الضوء والظل. ملامحها الناعمة كانت تخفي وراءها حزنًا لا يوصف، عيناها المنكسرتان لم تحمل فيهما أي أثر من الجرأة أو القوة التي كتب عنها في رواياتها. لم يكن هناك في نظرتها ذلك التحدي الذي ألهمه عبر صفحات كتبها. على العكس، بدا في عينيها شيء غامض، أشبه بالانكسار أو ربما الهروب.
أصابته صدمة لم يكن مستعدًا لها. كيف لامرأة كتبت عن الصمود والشجاعة أن تحمل كل هذا الضعف في عينيها؟ كان يتوقع أن يجد في ليلى المرأة التي كانت، في خياله، تقود جيوشًا ضد العالم. لكنه بدلاً من ذلك، وجد شخصًا يبدو أقرب إلى الانطفاء، امرأة تمشي بحذر فوق حافة الهاوية.
رغم الصدمة التي عصفت به، حاول يوسف مقاومة شعوره بالتشوش. لم يرغب في الاعتراف بأن الصورة التي صنعها في ذهنه كانت مجرد وهم. ربما، فكر، ما يراه أمامه الآن مجرد قناع، مجرد واجهة تختبئ خلفها المرأة الصلبة التي قرأ عنها. كان يبحث في عينيها عن ذلك البريق، عن أثرٍ من الشجاعة التي تغنت بها صفحات رواياتها، لكنه لم يجد سوى صمت ثقيل، ونظرة ضائعة.
لحظة توقيع الكتاب كانت قصيرة، أقصر مما توقع. لم يقل شيئًا، ولم تقل هي شيئًا أيضًا. لكنه أدرك، في تلك اللحظة الصامتة، أن هناك فجوة لا يمكن جسرها بين الكلمات والواقع.
بعد الحفل، بدأت لقاءات يوسف وليلى تتكرر شيئًا فشيئًا، وكأن القدر كان ينسج بينهما خيوطًا غير مرئية. في كل مرة كان يوسف يلتقي بها، كان يأمل أن يجد خلف تلك الملامح الهشة شيئًا مختلفًا، قوة خفية لم تظهر بعد، شجاعة مكبوتة تنتظر الفرصة لتخرج. كانت المحادثات بينهما لطيفة، تسودها المجاملات والمشاركة السطحية. بمرور الوقت، نجح يوسف في خلق علاقة ودية بينهما، علاقة تحمل في ظاهرها الود، لكنها في داخله كانت مزيجًا من الفضول العميق والبحث المستمر عن حقيقة ليلى التي لم يكن يعرفها بعد.
لكنه مع كل لقاء كان يصطدم بحقيقة مؤلمة، حقيقة بدأت تنسج حوله جدارًا من الخيبة. ليلى لم تكن سوى امرأة هشة، خائفة من الحياة، تفضل العزلة على المواجهة، تعيش في ظل خيالاتها مثلما فعلت والدته يومًا ما. تلك العيون المنكسرة التي كانت تخفي خلفها عالمًا من الألم والضعف، كانت بالنسبة له خيانة لكل شيء آمن به من قبل. في كل مرة كانت تحدثه عن مخاوفها أو هروبها من المواقف الصعبة، كان يشعر وكأن شيئًا في داخله ينهار. كان يحاول أن يقنع نفسه بأن هذه ليست الحقيقة كاملة، بأن هناك جانبًا لم يكتشفه بعد، لكنه كلما تعمق في معرفتها، وجد أن الحقيقة أكثر مرارة مما كان يتصور.
بدأت الشكوك تتسلل إلى قلبه مثل خنجر بطيء، يغرس نفسه ببطء، لكنه لا يرحم. كيف يمكن لشخص أن يكتب عن الشجاعة وهو غارق في الضعف؟ كيف لامرأة صنعت في خيالها بطولات عظيمة أن تعجز عن أن تكون بطلة في واقعها؟ كان يحدق في ليلى، يتحدث معها، لكنه لم يعد يرى سوى تناقض صارخ بين كلماتها المكتوبة وحياتها الحقيقية.
وفي إحدى الليالي الهادئة، بعدما انتهى من لقاء آخر معها، عاد يوسف إلى غرفته، لكن هذه المرة كان قلبه مثقلًا بعبء الخيبة التي لم يعد يستطيع تحملها. جلس على طرف سريره، محاطًا بكتب ليلى التي كان قد جمعها بشغف على مر السنين. كانت الكتب مبعثرة حوله كأنها شواهد على كل خيبة أمل عاشها. أخذ إحدى الروايات بين يديه، تلك الرواية التي كانت يومًا ما مصدر إلهامه، وبدأ ينظر إلى الغلاف بصمت. كان الغلاف يحمل صورة امرأة قوية، تقف شامخة في وجه العواصف، لكنه الآن، وهو يحدق في تلك الصورة، شعر بالمرارة تغمره.
رفع عينيه عن الكتاب وهمس لنفسه بصوتٍ مشحون بالخذلان، وكأن الكلمات نفسها تحمل في طياتها كل ثقله الداخلي :
كيف يمكن لكلمات أن تكون أقوى من البشر الذين كتبوها؟
في تلك اللحظة، شعر وكأن الكون بأكمله يتلاشى من حوله. لم يكن يتحدث عن ليلى فقط، بل عن كل شيء. عن والدته التي كانت بالنسبة له أول خيبة أمل، عن كل امرأة بحث فيها عن القوة، وعن كل شيء ظنه ملاذًا ثم اكتشف أنه سراب....الكلمات التي كتبها ليلى لم تعد تحمل نفس السحر، لم تعد تلك الحروف على الورق تنبض بالقوة، بل كانت مجرد أحلام نسجتها امرأة ضعيفة تهرب من واقعها كما تهرب من مواجهة نفسها.
شعر يوسف وكأن تلك الكلمات قد أطفأت آخر بصيص أمل كان يتمسك به. كان قد آمن بأن الشجاعة والقوة التي كتب عنها ليلى يجب أن تكون جزءًا من شخصيتها، لكنه أدرك الآن أنها كانت مجرد ظلال، مجرد خيالات كتبها عقلٌ خائف لم يعرف يومًا كيف يواجه واقعه.
لم يعد بإمكان يوسف كبح مشاعره، فقد اجتاحت روحه عاصفة من الغضب والخذلان، وكأن ثقل العالم بأسره قد استقر على صدره في تلك اللحظة الحاسمة، اتخذ قرارًا عازمًا على مواجهة ليلى، موقنًا أنه آن الأوان لإزالة القناع الذي لطالما رآها من خلاله كرمز للبطولة والقوة
في اليوم التالي، اجتمعا في مقهى صغير، حيث كانت الأضواء الخافتة تنعكس على الوجوه، ورائحة القهوة تعبق في الأجواء، لكن الجو بينهما كان مشحونًا بتوترٍ يكاد يُحس.
استقر نظره على ليلى، عينيه مليئتين بالحيرة، وصوته متهدج كالسلك المشدود على وشك الانقطاع، حين سألها:
كيف استطعتِ أن تخدعي الجميع؟ كيف جعلتِنا نصدق أنكِ قوية؟ كل ما كتبته كان كذبة،أنتِ أضعف من أن تكوني مثل بطلاتك
كان لكلماته وقع السهم الذي اخترق قلب ليلى، ووجدت نفسها محاصرة بألمٍ لا يمكن تجاهله، أدركت في أعماقها أنه على حق، لكنها لم تستطع إخفاء العواطف المتضاربة التي تراكمت على مر السنين. كانت الدموع تتأهب للانهيار في عينيها، وعندما همست بصوتٍ خافت كأنه ينزف:
كتبت عن القوة لأنني لا أملكها، وكتبت عن الشجاعة لأنني أفتقدها. كل ما كتبته كان هروبًا من واقعٍ لم أستطع مواجهته
تلك اللحظة كانت كفيلة بأن تصبح نقطة فاصلة في علاقتهما. أدرك يوسف أن ليلى لم تكن تلك المرأة المثالية التي نسجها خياله، بل كانت إنسانة تحمل أوجاعها وعيوبها كما يحمل الجميع. ومع كل كلمة تخرج من فمها، شعر بشيء ما ينكسر داخله، كأن شغفه يتفكك أمام عينيه، وعالمه المثالي ينهار.
بينما كانت كلماتها تنساب، كان يوسف في حالة من التشتت، إذ لم يكن مستعدًا لتقبل هذه الحقيقة. كان يبحث عن بطل، عن شخصٍ يقاتل من أجله، ولم يكن في مقدوره أن يحب ليلى كما هي، بشجاعتها المفقودة وضعفها المتأصل. كل شيء قد تقوض في عقله، إذ كان يتوق إلى شخص يُلهمه، شخص يُعيد بناء أحلامه التي تكسرت.
كانت ليلى تجلس أمامه، تتظاهر بالهدوء، لكنها كانت تعيش صراعًا مضنيًا في أعماقها. كانت مشاعرها المتشابكة تؤلمها بصمت، وكأن كل كلمة نطق بها يوسف حول ضعفها كانت جرحًا مفتوحًا يذكرها بماضٍ لم تتجاوزه. كيف يمكنها أن تشرح له أن ضعفها لم يكن اختيارًا؟ كيف يمكنها أن تصف له ذلك الإحساس الذي رافقها طوال حياتها، بأن وجودها غير مرغوب فيه، وأنها لم تكن يومًا محط اهتمام حقيقي؟
أغمضت عينيها للحظة، عائدة بذاكرتها إلى تلك الأيام التي تنقلت فيها بين منزل والدها ووالدتها بعد انفصالهما. في كل مرة كانت تعود إلى أحدهما، كانت تشعر وكأنها ضيفة عابرة، لا بيت لها هنا أو هناك. والدها، بملامحه الصارمة وابتعاده العاطفي، كان يرمي إليها بالاهتمام كمن يؤدي واجبًا ثقيلًا، دون أن يمنحها دفء الحب. أما والدتها، فكانت مكسورة، غارقة في همومها، غير قادرة على أن تمنح ليلى ذلك الحضن الآمن الذي كانت تتوق إليه.
كبرت ليلى وهي تشعر بأنها غير مرغوبة، وكأن وجودها في حياتهم كان عبئًا لا يرغبون فيه. تحولت هذه المشاعر إلى حاجزٍ سميك بينها وبين العالم، حاجز ملأته بالخوف والانعزال. كلما حاولت أن تبني علاقة مع أحد، كانت تلك الذكريات تعود لتهمس في أذنها: أنتِ لستِ كافية.....لن يحبكِ أحد كما أنتِ
لكن بدلاً من مواجهة هذا الشعور، كانت ليلى تهرب إلى الكتابة صنعت شخصيات قوية وشجاعة، نساء يرفضن الاستسلام ويقاتلن لأجل حقوقهن، كانت تلك الشخصيات تمثل كل ما كانت تتمنى أن تكونه، كل ما فقدته في حياتها. كتبت عن القوة لأنها لم تعشها يومًا. كتبت عن الشجاعة لأنها لم تملكها قط.
رفعت ليلى عينيها إلى يوسف، الذي كان يراقبها بنظرة مليئة بالحيرة والغضب. أدركت في تلك اللحظة أنه يبحث عن شيءٍ ليس بداخلها...هو الآخر كان يهرب من ألمه الشخصي، وكان يبحث في ليلى عن القوة التي لم يجدها في والدته. لكنه لم يكن يدرك أن ليلى نفسها كانت تبحث عن ذلك البطل الذي ينقذها من ضعفها وخوفها.
بصوتٍ مبحوح، مليء بالأسى، قالت:
يوسف، أنت تبحث عن شيء لم أكنه يومًا، كتبت عن القوة لأنني لا أملكها، عشت حياتي وأنا أشعر أنني غير مرغوبة، غير كافية....كيف يمكنني أن أكون قوية وقد كبرت وأنا أتنقل بين والدين لم يمنحاني الأمان؟
صمتت للحظة، وكأنها تبحث عن الكلمات المناسبة، ثم أضافت: كتبت لأخلق عالمًا أستطيع الهروب إليه لأن واقعي كان مليئًا بالخوف والوحدة....كنت أحلم ببطلاتٍ قويات لأنني تمنيت أن أكون واحدة منهن، لكنني لست كذلك، ولن أكون كذلك
كانت كلماتها تمزق روحها، لكنها كانت الحقيقة التي حاولت إخفاءها لسنوات. فهم يوسف أخيرًا أن ليلى لم تكن تلك المرأة القوية التي كان يبحث عنها، بل كانت مجرد إنسانة تحمل جروحًا لم تلتئم، تمامًا كما كان هو. لكنه لم يكن مستعدًا لتقبل هذا. كان يريد شيئًا آخر، شيئًا أكبر من الواقع المرير الذي عاشاه كلاهما.
نهض يوسف ببطء، وشعور الخذلان يغمره. نظر إلى ليلى للمرة الأخيرة، ثم قال بصوت بارد:
أنا لا أستطيع أن أحبكِ كما أنتِ، كنت أبحث عن شيء آخر.
تركها هناك، تجلس وحدها في المقهى، محاطة بصمتٍ ثقيل، وفي تلك اللحظة، شعرت ليلى أنها عاشت ذات الخذلان الذي عرفته طوال حياتها. كانت الكلمات التي لم تُقال، والذكريات التي عادت للظهور، تملأ فكرها، وتؤكد لها أن المعركة الأكبر التي تخوضها هي مع نفسها، مع ضعفها، ومع الخوف الذي لطالما طاردها.
.......
شعرت "ليلى" بشيء غريب يجتاحها، كانت جالسة بمفردها في الزاوية المظلمة من غرفتها، عيونها تائهة بين أوراقها المبعثرة حولها، تلك الأوراق التي كانت يوماً تمثل أكثر من مجرد كلمات؛د، كانت رمزاً لطموحها، لجهادها، لرحلة البحث عن الذات، ولكن الآن، بدا كل شيء مبهمًا، غريبًا، كما لو أنها كانت تحاول فهم لغة لم تعد تتقنها.
أغمضت عينيها للحظة، وسمحت لنفسها أن تغرق في أفكارها هل كانت هذه هي الحياة التي حلمت بها؟ هل هذا هو النجاح الذي سعيت إليه طوال الوقت؟
تساءلت بصوت منخفض، تكاد لا تسمع نفسها
بينما كانت أفكارها تندمج مع الظلام الذي يحيط بها، شعرت فجأة بأن كل شيء كان مجرد وهم. كانت قد كتبت، وكتبت، وظنت أن الكتابة هي مفتاحها الوحيد للنجاح، لكنها الآن بدأت ترى الصورة بشكل مختلف :
هل كانت الكتابة حقًا هي طريقي للخلاص؟ أم أنها كانت مجرد وسيلة للهروب من نفسي؟
تساءلت بصوتٍ خافت، وكأنها تحاول مواجهة حقيقة لم تكن جاهزة لها
كان الزمن قد مر، ولكنها ظلت عالقة في تلك اللحظة، ورغم أن صوت الرياح كان يمر عبر النوافذ المفتوحة، إلا أن فوضى أفكارها كانت أعلى من أي ضجيج آخر، شعرت بثقل الأسئلة التي كانت تحملها على قلبها، واعتقدت للحظة أنها ربما كانت تجري وراء هدف وهمي، وأن المعركة التي خاضتها طوال الوقت لم تكن سوى معركة مع نفسها.
كان الصمت يحيط بها الآن، أكثر من أي وقت مضى، قلبها ينبض بقوة، لكن عينيها كانت لا تزال على الأوراق المبعثرة أمامها، وكأنها تبحث عن إجابة فيها، أو ربما عن معنى جديد للحياة التي اختارتها، بدأت عيناها تملأهما الدموع، لكنها لم تكن دموع الضعف، بل دموع الاستفهام العميق، دموع الفهم المفقود...!!
........
قررت "ليلى" أخيرًا أن تخطو الخطوة التي طالما ترددت عنها، فذهبت إلى الطبيب النفسي!!
كانت تلك اللحظة بالنسبة لها بمثابة انتصار صغير، لكنها شعرت أنها تتجه نحو الطريق الصحيح. كانت تشعر وكأنها تعود إلى نفسها، بعد أن ضاع منها الكثير من الوقت في دوامة الأفكار، حديثها مع الطبيب كان كالماء الذي يسري في جفاف الروح، فتبدأ الجروح في التئامها، والظلام في التبدد تدريجيًا....شيئًا فشيئًا، بدأت تشعر بأن هناك ضوءًا يشرق في مكان ما داخلها، حيث بدأت تتحسن، وتكتشف طرقًا جديدة لفهم نفسها وللتعامل مع الألم الذي كان يطاردها
.......
مرت السنوات، وعادت ليلى لتجسد تجاربها في رواية جديدة، كانت مختلفة تمامًا عن كل ما كتبته من قبل. كتبت عن القوة الحقيقية، تلك التي تنبع من مواجهة الذات والاعتراف بالضعف، قوة لا تتطلب أبطالاً خارقين، بل إنسانًا يسعى للتصالح مع نفسه.
في يوم حفل توقيع روايتها، كان المكان يعج بالزائرين، والوجوه المتطلعة تنتظر الحصول على توقيعها. رائحة الكتب الجديدة والورق الطازج ملأت الأجواء، بينما انطلقت الأحاديث المبهجة بين الحضور، وفي خضم هذا الزحام، رأت يوسف يقف هناك، بعيدًا، بعينين مليئتين بالندم. كانت نظراته تحمل ثقل السنوات، وتجارب لم تُروَ، وهو الذي كان يومًا ما يعكس آمالها وخيباتها.
اقترب منها بحذر، وكأن كل خطوة يخطوها كانت تعبر عن عبءٍ داخلي يثقل كاهله، قال بصوت متردد، وكأن الكلمات قد نضبت في صدره:
ليلى، أدركت أنني كنت مخطئًا، لم أكن أراكِ كما أنتِ، بل كما أردتكِ أن تكوني....وأنا آسف
كان لاعتذاره أثرٌ كالرعد في سماء غائمة، لكنه لم يُحدث التغيير الذي كان يأمله. نظرت إليه ليلى، وابتسمت ابتسامة هادئة، لكنها كانت تحمل عمق الألم الذي عايشته :
سامحتك يا يوسف، لكن في عالمٍ لا تعيش فيه سوى الأحلام، حيث الغفران سهل والمشاعر لا تتآكل، أما في الواقع، فكل شيء مُدون بحروف من الألم، ولا مكان فيه للغفران السهل
وضعت كتابها بين يديه، الكتاب الذي احتوى على كل تلك الأحلام، والآلام، والأماني المعلقة، كان بمثابة جسرٍ بين عوالمهم، لكنه أيضًا كان نقطة فصل بين الماضي والحاضر، ثم ابتعدت عنه، تاركةً إياه يغرق في الندم، في صمتٍ يثقل المكان.
في تلك اللحظة، أدرك يوسف أن الحب ليس مجرد أمل في الآخر، بل هو قبولنا لما هو عليه في جوهره، بكل ضعفه وقوته. كانت كلمات ليلى، التي لم تكن سوى همسات بسيطة، عميقة بما يكفي لتفتح له نافذة إلى نفسه، نافذة كان يعتقد دائمًا أنها مغلقة. تلك الكلمات، رغم صمتها، كانت بمثابة ضوء خافت داخل أعماقه، يضيء له دروبًا غافل عنها. اكتشف أن الحب الذي فقده لم يكن مجرد لحظات عاطفية، بل كان اختبارًا لفهم الذات، وللتصالح مع تلك المساحات الغامضة في القلب.
ومع ابتعادها، بدأ صوت العالم يختفي تدريجيًا، بينما كلماتها تردد في ذهنه كما لو كانت نغمة لا تنقطع "الواقع هو ما يبقى، بينما الخيال هو ما نأمل فيه." تلك الجملة، على بساطتها، كانت تعكس له حقيقة مؤلمة، أن ما كان يظنه واقعًا، لم يكن سوى خيال كان يعيشه في قلبه
في زحمة الحياة، نتعثر في مرآةٍ تعكس لنا صورة من نحب، نرى فيها ما نريده أكثر مما هو موجود. أحيانًا، نتعلق بأبطال خياليين، وننسى أن القوة الحقيقية تكمن في قبول الضعف، في التصالح مع ذواتنا المتصدعة، الحب لا يتطلب الكمال، بل يتطلب شجاعة أن نكون صادقين مع أنفسنا ومع الآخرين. وعندما ندرك أن كل قلب يحمل جراحه، نبدأ رحلة الشفاء، حيث يتحول الألم إلى درس، والخذلان إلى قوة....
في النهاية، قد نجد أن أروع القصص تُكتب بمداد الحقيقة، لا بخيوط الوهم.
......
تمت بحمد الله ♥️