رواية حصاد الصبار الفصل الثاني عشر 12 بقلم مريم نصار


 رواية حصاد الصبار الفصل الثاني عشر

ترجلت زينب من السيارة امام المصنع تحمل بين يديها حقيبة الطعام عباءتها السوداء تنسدل حولها بخفة وحجابها الأسود يغطي شعرها بإحكام. مع كل خطوة تخطوها داخل المصنع تنبعث منها رائحة الطعام الساخن التي تعبق في المكان. عيناها تتنقلان بين العمال المنشغلين بعملهم حتى لمحته قادما من السلم.
ياسر ابنها كان ينزل بخطوات سريعة وابتسامة خفيفة تتسلل إلى ملامحه حين رآها. ناولته حقيبة طعامة الخاصة وسألته
أمسك غداك أهو ياضنايا بألف هنا. قولي هي غفران فين! في المكتب ولا خرجت
مسح ياسر جبينه بإصبعه ورد بينما يتناول الطعام منها
فوق كانت رايحة المكتب وأنا لسه كنت مقابلها هناك.
حركت رأسها وقالت بإبتسامة حنونه
طيب أنا هطلع أودي لها الأكل تلاقيها جعانه يانضري.
أشار ياسر نحو المصعد واقترح بلطف
تعالي

أطلعك في الأسانسير.
ابتسمت زينب وهي تلوح بيدها رافضة وقالت بنبرة مازحة رغم جديتها
لأ إنت عارف إني بخاف! هطلع على السلم وأبقى أدهن فولترين بعدين!
ضحك الاثنان ثم صعدت زينب الدرج بخطوات ثابتة ولكن ما إن وصلت إلى الرواق المؤدي إلى المكتب حتى توقفت فجأة. شهقت متوجسة وهي تضع يدها على خدها وقد اتسعت عيناها بدهشة.
هناك أمام المكتب رأت غفران تقف بوجه محمر كالجمر وأمامها رجل طويل القامة أنيق المظهر تتسم ملامحه بحدة لا تخلو من الجاذبية. كان يتحدث بثقة وعندما لاحظت أنه يمد يده نحو غفران ازدادت دهشتها وأرهفت السمع لما يجري بينهما.
قال الشاب بصوت عميق هادئ وهو يمد يده لمصافحتها معرفا عن نفسه
أدهم الدسوقي.
ارتبكت غفران ومدت يدها بخجل وهي ترحب به قائلة
أهلا بحضرتك.
رفع حاجبيه قليلا وكأن الترحاب لم يكن كافيا ليعرف من
تكون فقال وهو ينظر إليها باهتمام
ما تعرفتش باسمك وياريت ما تعتبيرهوش فضول مني.
نزعت يدها سريعا وابتسمت بعفوية قبل أن ترد
لا أبدا مفيش فضول ولا حاجة أنا غفران. غفران مصطفى المهدي.
تغيرت ملامحه قليلا وكأن الاسم قد أثار في داخله دهشة خفية ثم قال بتعجب
معقول! أنت بقى تبقي بنت الأستاذ مصطفى المهدي صاحب المصنع ده والعلامة التجارية المعروفه
أومأت برأسها وهي تبتسم بخجل لكنها سرعان ما استعادت رباطة جأشها وسألته بحذر
ممكن أعرف حضرتك هنا ليه. أقصد يلزم أي خدمة
ارتسمت ابتسامة خفيفة على شفتيه وهو يجيب بنبرة ساخرة لكنها لم تخف نواياه الحقيقية
الظاهر إن وجودي مضايقك!
قبل أن تبرر له رفع يده مستدركا وقال وهو يضحك قليلا
عارف عارف. قبل ما تقولي حاجه أنا بهزر! ومعلش بقى استحملي أسلوبي أنا شخص اجتماعي زيادة عن اللزوم.
ثم
أردف بجدية أكثر
أنا جاي أقابل الأستاذ مصطفى ممكن أعرف مكتبه فين وآسف طبعا إني جاي من غير ميعاد.
ترددت للحظة ثم أجابته
بابا للأسف مش موجود. مسافر.
زم شفتيه وكأن الخبر لم يعجبه واردف باهتمام
مسافر يا خسارة! كنت محتاجه ضروري. طيب ما تعرفيش هيرجع إمتى
أجابت بأسف
لسه مسافر النهارده الصبح ومش راجع قبل أسبوع على الأقل.
تنهد أدهم وانتاب وجهه القلق وهو يتمتم
طيب والعمل! كنت محتاج مساعدته ضروري.!
لاحظت غفران اضطرابه فسألته بلطف
طيب ممكن أعرف نوع المساعدة اللي محتاجها يمكن أقدر أفيدك أو أتواصل مع بابا وأوصله طلبك.
نظر إليها بإعجاب واضح وقال بامتنان
فكرة كويسة ومشاعر جميلة منك جدا يا آنسة غفران. ياريت لو تقدري تساعديني هيكون ليكي جميل كبير عندي.
أشارت له بالدخول إلى المكتب بينما كان يتفحص المكان بانبهار ظاهر. وقبل
أن تلحق به لمحت زينب واقفة عند الباب تراقب المشهد بعينين متسعتين. ابتسمت غفران بحرج قائلة
أهلا يا دادة.
لكن زينب لم تكن مهتمة بالتحية بل عيناها كانتا معلقتين بأدهم قبل أن تقول بصوت خاڤت لكن مشحون بالمكر
أهلا يا غفران. مين الجدع الحليوة أبو عيون خضرا المسبسب ده!
اتسعت عينا غفران ړعبا والتفتت بسرعة نحو أدهم خوفا من أن يكون قد سمعها. همست بارتباك وهي تجر زينب بعيدا
إيه يا دادة! إنت جايبة الغدا ولا جايبة تراقبي المكان مش خاېفة يسمعك ويفتكرك بتعاكسيه!
قهقهت زينب بخفة وردت ساخرة
هأ! أعاكس مين! هو أنا يملى عيني غير سي صالح جوزي! والله مافي راجل يدخل زمتي بلميم أحمر غيره ياختي شاله يخليه لينا ويحميه يا رب.
ابتسمت غفران بحب وقالت
عمو صالح يستاهل كل خير ربنا يخليكم لبعض يا دادة.
لكن زينب لم تكن راضية بعد ونظرت إلى غفران نظرة
ماكرة وكأنها تستجوبها بصمت. شعرت غفران بالإحراج فحاولت صرف انتباهها قائلة
والله ده واحد معرفوش وجاي في شغل وعايز بابا ضروري يا دادة.
راقبت زينب ملامحها التي كانت مشدوهة به دون أن تدرك ولوحت أمام عينيها قائلة بسخرية
روحتي فين يا غفران! واضح إنه جاي في شغل ما شاء الله!
انتبهت غفران إلى نفسها وارتبكت وهي تأخذ منها سلة الطعام. ربتت زينب على كتفها بحنان قائلة بحكمة
خلي بالك من نفسك يا بنتي انا هرجع البيت يدوبك أحط الغدا لعمك صالح فوتك بعافية.
راقبتها غفران وهي تبتعد ثم التفتت إلى أدهم الذي كان لا يزال واقفا يتفحص المكتب باهتمام. وضعت الطعام على منضدة جانبية وجلست خلف المكتب قبل أن تشير له بالجلوس قائلة بابتسامة معتذرة
آسفة اتأخرت عليك.
جلس أمامها وقال بابتسامة ودية
أنا اللي
بعتذر إني جيت من غير ميعاد وعطلتك. واخدت من وقتك.
ردت بلطف
لا أبدا انا مواريش حاجه تقدر تقولي نوع المساعدة اللي محتاج بابا فيها
استند أدهم بظهره إلى الكرسي زفر أنفاسه ببطء ثم بدأ يروي قصته وكأنه بحاجة إلى إخراج كل ما يثقل صدره
والدي مټوفي من سنين طويله وليا عم واحد بس وعمي ده قبل ما يتوفى كان عنده مصنع كبير لتفصيل الملابس وأنا عندي جيم كبير. كل واحد فينا كان مستقل بنفسه والأمور ماشية تمام أو أنا اللي كنت فاكر كده! لكن للأسف عمي توفى من فترة ومعندوش غيري واكتشفت بعدها إن المصنع عليه ديون كبيرة والعمال مقبضوش مرتباتهم آخر تلات شهور. وفي الفترة الأخيرة احتجوا وعايزين حقهم. وأنا مكنش قدامي غير حلين يا أكبر دماغي وأبيع المصنع وأشرد العمال وأكتفي بالجيم بتاعي يا إما أبيع
الجيم وأسدد الديون اللي على المصنع وأحافظ على سمعة العيلة.
كانت غفران تنصت إليه بكل تركيز ولم تستطع إخفاء تأثرها فكرت في مئات العائلات التي كان يمكن أن تتأذى لو اختار الحل الأسهل. رفعت حاجبها بفضول وسألته وهي تكاد تخشى الإجابة
ها وعملت إيه يا رب تكون أنقذت المصنع لأن حرام العمال مالهمش ذنب.
رأى في ملامحها صدق قلقها فابتسم رغما عنه وقال بثقة
أنا كمان قلت زيك بالظبط. ضميري مسامحليش إني أشرد أسر بسببي. بعت الجيم وسددت كل الديون وقبضت العمال التلات شهور كمان.
ارتسمت ابتسامة رضا على وجه غفران شعرت بإعجاب خفي تجاه قراره لكنها لم ترد أن تظهر ذلك بوضوح فاكتفت بأن قالت بصدق
والله ربنا لا يجازيك خير وهيقف جنبك علشان خاطر الناس المساكين دي.
رأى في كلامها دعوة صادقة أكثر منها مجاملة
لكنه لم يستطع منع تنهيدة ثقيلة أفلتت منه ثم قال بنبرة أكثر جدية
فعلا أنقذتهم... وورطت نفسي.
انعقد حاجباها نظرت إليه بحيرة قبل أن تسأله
إزاي
عدل جلسته ثم مرر يده بين خصلات شعره قبل أن يجيب
مستقبلي كان مرهون بالجيم لأني بحب الرياضة جدا وكان حلمي يبقى عندي بدل الجيم مجموعة كاملة لكن الظروف كانت أكبر مني. وده السبب اللي جيت علشانه للأستاذ مصطفى بعد ما ناس كتير نصحتني بأنه الوحيد اللي هيساعدني ويقف جمبي.
ظلت تنظر إليه للحظات تحاول أن تفهم أبعاده أكثر قبل أن تقول بتأن
طيب ممكن تشرحلي وأنا أوعدك إني هتكلم مع بابا بنفسي.
شعر بأمل يتسلل إليه فارتسمت على وجهه ابتسامة امتنان وقال بإخلاص
متشكر جدا. أنا دلوقتي زي ما قلتلك المصنع كان مديون واضافة كمان الناس المقربة لعمي بعدت والكل شال أيده حتى المحاسب اختفى
ومحتاج أدير المصنع وأنا معنديش أي فكرة أو خلفية عن أي حاجة. أروح فين وأتعامل مع مين أجيب قماش بجودة عالية وبأسعار مناسبة إزاي عايز أدرس الموضوع ومحتاج مساعدتكم. وإلا كده كل هتروح من أيدي وأرجع ابدأ من الصفر.
رغم أنه كان يطلب المساعدة إلا أن كلماته لم تكن تحمل استجداء بل إصرارا وكأنها فرصة أخيرة له فرصة لا ينوي التفريط فيها.
راقبته غفران شعرت بمزيج من التعاطف والإعجاب ثم تنهدت وهي تفكر في الطريقة التي ستبدأ بها الحديث مع والدها..تراجعت غفران في مقعدها قليلا تأملت ملامحه التي يغطيها الإرهاق لكنها لمست في عينيه إصرارا خفيا رجل قرر أن يواجه كل شيء وحده. اعتدلت في جلستها وقالت
طيب مبدئيا أنت عندك فكرة عن نوع الأقمشة اللي المصنع كان بيشتغل بيها
زفر أدهم ببطء ثم قال
عندي فكرة
بسيطة لكن المشكلة مش بس في الخامات ديون المصنع مأثرة على سمعته والموردين اللي كان بيتعامل معاهم رافضين يوردولي أي حاجة إلا لما أدفع مقدم كبير وده مش متاح حاليا.
هزت رأسها بتفهم وقالت
طيب بص خليني أتكلم مع بابا يمكن يعرف موردين يوافقوا يساعدوك في البداية وكمان ممكن يساعدك في تنظيم الإدارة لأنك مش بس محتاج خامات أنت محتاج حد يفهمك إزاي تدير المصنع نفسه.
ارتسمت ابتسامة امتنان على وجهه ثم قال وهو يميل للأمام
بصراحة مش عارف أشكرك إزاي أنا كنت متردد أجي هنا لكن واضح إن ربنا هداني للمكان الصح.
ابتسمت غفران وقالت بحنو
طالما أنت فعلا عاوز تنجح وتقف على رجليك من تاني إن شاء الله هتوصل بس لازم يكون عندك عزيمة وشوية صبر.
أومأ برأسه مؤكدا ثم قال
عندك حق. بس امتى تتوقعي أقدر أكلم أستاذ
مصطفى
ردت غفران
انا هحاول أكلمه النهارده ولو وافق ممكن نتقابل في أقرب وقت.
وقف أدهم ومد يده مصافحا بامتنان
متشكر جدا آنسة غفران.
ترددت لثانية قبل أن تمد يدها وتصافحه سريعا ثم قالت
العفو وإن شاء الله تلاقي حل للمشكلة دي وتعدي على خير.
تحرك نحو الباب لكنه توقف فجأة ونظر إليها بابتسامة جانبية قائلا
على فكرة أنت عندك أسلوب قيادي لو كنت مكاني كنتي هتديري المصنع بنفسك
رفعت حاجبها بسخرية خفيفة وقالت
مش لازم أكون مكانك أنا أصلا بساعد بابا في الإدارة. لكن خبرتي مش كبيره.
اتسعت ابتسامته وقال
وأكيد والدك فخور بيكي أشوفك قريب.
غادر أدهم بينما جلست غفران لثوان تستوعب كل ما دار بينهما ثم زفرت وهي تهز رأسها وتتمتم
هو إيه اللي بيحصلي بالظبط!
خرجت ياسمين من بوابة جامعة MSA الخاصة ترفع
رأسها عاليا رغم أنها كانت متعبة من يوم دراسي طويل. حقيبتها السوداء الكبيرة كانت تتدلى من كتفها بشكل يبدو عصريا لكنها لم تشعر بالسعادة التامة التي كانت تأملها. كانت تقترب من بداية السنة الثانية في قسم تصميم الأزياء القسم الذي لم تكن تود الالتحاق به في البداية ولكن أحلام هي التي فرضت عليها هذا الطريق.
تذكرت كيف كانت تتردد في بداية الأمر معترضة على رغبة أمها الملحة أن تدرس هذا المجال فقط لتكون قادرة على التحكم في مستقبلهم ومستقبل زوجها مصطفى كما كانت تقول لها دائما
أنا دخلتك جامعة خاصة علشان تليق بإسمك ولو درستي تصميم الأزياء بذكاء هتكوني قادرة تبني مستقبل كبير في مجال الموضه ولازم تشتغلي في البراندات الكبيرة. دا اللي هيساعدك تكسبي كتير وخصوصا عشان ابوكي في مجال الأزياء. ده الطريق الوحيد اللي هيوصلنا لهدفنا ونبعد غفران عن طريقنا.
ولا انتي عايزه زي ما استحوذت على حب باباكي. وخدته منك تاخد شقاه وتعبه كمان!
كانت كلمات أمها تتردد في ذهنها كلما فكرت في حياتها الدراسية وتشعر بأن هذا الاختيار لم يكن اختيارها هي.
لكن الآن مع مرور الوقت ومع تقدمها في السنة الثانية بدأت ياسمين تشعر بتغيير داخلي. بعدما درست المزيد عن تصميم الأزياء واكتشفت كيف يمكن أن تعبر عن نفسها من خلال الأقمشة والألوان بدأت تقتنع نوعا ما بأن هذا المجال ليس مجرد وسيلة لتحقيق طموحات والدتها أو الحصول على مكانة اجتماعية. بدأ شغفها يظهر شيئا فشيئا وحلمها بأن تكون لها بصمة في عالم الأزياء أخذ شكلا أكثر وضوحا.
كانت تمشي في الحرم الجامعي وتفكر من الممكن جدا أن يكون لدي مكان في هذا المجال مثلما كانت تقول أمي. يجب عليا أن أحقق ذاتي وأكون المنتصرة دائما. وبينما كانت
تذكر كلمات والدتها شعرت بأنها بدأت تصدقها.
ركبت ياسمين سيارة الأجرة بصمت والنوافذ مغلقة على الرغم من الهواء الحار الذي كان يلف المدينة. كانت أفكارها تتنقل بين ذكرياتها وأحلامها القادمة. عندما وصلت إلى المنزل شعرت بإرهاق شديد من يوم طويل في الجامعة.
فتحت باب المنزل ودخلت لتجد أحلام جالسة على الأريكة في الصالة تمسك بهاتفها النقال وتتحدث بحماسة مع صديقتها. كانت يدها تتحرك بسرعة في الهواء بينما صوتها يملأ المكان بتفاخر
طبعا يا نهلة اومال اي ياسمين في جامعة خاصة ودي مش اي جامعه دي بتدرس في قسم تصميم الأزياء جامعة أكتوبر للعلوم الحديثة والآداب MSA University. زي ما قولتلك قبل كده دي من أكبر جامعات في مصر. لأن بنتي مش اي حد. وعلشان هتكون حاجة كبيرة ومصطفى هيساعدها هتبقى في البزنس حاجه كبيرة ولازم
تبقي على علاقة مع الناس الصح. علشان توسع من شغل باباها اومال إيه ياحبيبتي هو خلف غيرها.
وقبل أن تكمل جملتها قطع صوت المكالمة. وقفت أم ياسمين فجأة وابتسمت بينما هي تضع الهاتف جانبا وأخذت نفسا عميقا.
أهلا يا ياسمين أتأخرتي كل ده ليه
جلست ياسمين بجانبها على الأريكة ببطء ووضعت حقيبتها بجانبها. كانت متعبة وجهها شاحبا قليلا بسبب ضغوط اليوم الطويل. فانهت أحلام المكالمة مع صديقتها وسألت ياسمين عن يومها فقالت بوهن
تمام يا ماما كله تمام بس النهاردة كان اليوم طويل شوية.
أخذت أحلام نفسا عميقا ثم قالت بحماس معتاد
أنا عارفة إنك تعبتي بس لازم تفتكري إنك في مكان مهم. السنتين اللي جايين دول هيكونوا الفيصل ليكي وانا واثقه إني هشوفك في الموضة العالمية قريب. لازم تتعاملي مع الناس الصح والاغنيا وتبني لنفسك اسم.
لازم تكوني مهمة وحاجة كبيرة وكل الناس ينبهروا بيكي وبجمالك.
ابتسمت ياسمين ابتسامة باهتة بينما كانت عينها تائهة في الأفق تفكر فيما إذا كان هذا هو مستقبلها بالفعل أم أن كل شيء كان مجرد حلم بعيد. لكن في داخلها بدأت تقتنع أكثر فأكثر بمسارها الجديد.
مساء دخلت غفران المنزل منهكة آثار التعب والتوتر واضحة على وجهها. كان ضغط العمل شديدا طوال اليوم وكان البيت هادئا لا يسمع فيه سوى صوت الأثاث الذي يئن مع كل خطوة تخطوها. دخلت غرفة نومها بسرعة غيرت ملابسها وهي تشعر بثقل اليوم على جسدها ثم أدت فريضتها واتجهت إلى المطبخ لتحضير العشاء. الأجواء في البيت خالية من الضوضاء المعتادة والظلام يكسو المكان إلا من النور الخاڤت الذي ينبعث من المصباح العتيق في الزاوية. ولكنها كانت رغم هذا تشعر بالارتياح لعدم رؤيتها لتلك الطاغيه.

بعد أن انتهت من تناول الطعام توجهت إلى غرفة ياسمين بخطوات بطيئة تحمل داخلها رغبة في التحدث مع أختها والاطمئنان عليها. خبطت على الباب برفق ثم دخلت لتجد ياسمين جالسة على مكتبها تذاكر بتركيز شديد. ابتسمت غفران في حب ودفء وقالت بصوت هادئ
ممكن أدخل
هزت ياسمين رأسها بإشارة واضحة وأغلقت الكتاب ببطء ثم قالت
تعالي ادخلي يا غفران.
جلست غفران على السرير في مواجهة مكتب ياسمين وبعد أن اطمئنت على أحوالها صمتت قليلا وتنهدت قليلا قبل أن تفتح قلبها لأختها. ثم قالت بصوت صادق حزين بعض الشيء
ياسمين أنا عاوزه أسألك على حاجة.
رفعت ياسمين نظرها إليها واستبشرت وكأنها تتهيأ لمناقشة أمر مهم ثم أجابت
خير يا غفران إيه حصل تاني بينك وبين ماما
تنهدت غفران بعمق كانت كلماتها تحمل ألما مكبوتا ثم قالت
لأ اللي بين ماما وبيني
شكله هيفضل مستمر. وأنا خلاص اتأقلمت على الۏجع لكن مش ده اللي جايه علشانه.
ابتسمت ياسمين ابتسامة خفيفة وكأنها تحاول تخفيف الأجواء ثم قالت
أمال عايزة تسألي عن إيه
أجابت غفران بصوت جاد مع قليل من التردد
انتي يا ياسمين.
رفعت ياسمين حاجبيها بتساؤل وقالت
أنا.! أنا إيه
أجابت غفران وحركت يديها بحركة سريعة كأنها تبحث عن الكلمات
انتي متغيرة بقالك فترة كبيرة من ناحيتي وكل ما أسألك تقوليلي الدراسة.
ابتسمت ياسمين بخفة وكأنها تحاول تهدئة الموقف وقالت
طيب ما هو ده فعلا اللي شاغلني يا غفران إنتي شايفه بنفسك. ماما أصرت إني أدخل جامعة خاصة وأدرس علشان أحقق مستقبلي.
ثم توقفت قليلا وأردفت بابتسامة هادئة ذات مغزى
ولا يمكن ده مضايقك!
تعجبت غفران وقالت بسرعة
وأنا إيه اللي هيضايقني في تحقيق حلمك! بالعكس ده أنا مبسوطة
بيكي أوي. بس ليه بتقولي كده
شعرت ياسمين بشيء غريب يطرأ على قلبها وكأنها غير قادرة على السيطرة على مشاعرها فقالت بهدوء
يمكن علشان مثلا لما أخلص دراستي همسك المصنع مع بابا وهبقى انا الديزاين وليا الأولوية في كل حاجه و وقتها هنشوف مين اللي هيحقق نجاح كبير وقتها.
عقدت غفران حاجبيها ولم تفهم تماما ما تعنيه ياسمين لكنها قالت بلهجة صادقة
حقيقي أنا مش فاهمة تقصدي إيه! بس لو فاكرة إني ممكن أضايق من وجودك جمبي تبقي غلطانة.
ثم تنهدت غفران بحزن عميق وجاءت كلماتها أكثر عاطفية وكأنها تفتح قلبها أمام أختها
ربنا يعلم أنا مستنية اليوم اللي تكوني فيه معايا. قد إيه انتي مش عارفة إن الشغل كبير وتقيل عليا إزاي ومحتجالك أوي تسندي معايا. ياسمين انتي أختي وأنا ماليش غيرك.
فركت ياسمين يديها بتنهيدة عميقة وكأنها شعرت
بالندم على كلماتها السابقة ثم قالت معتذرة
سوري يا غفران أنا حقيقي مقصدتشي حاجة. ومش عارفة قولت كده إزاي. يمكن علشان الضغط الكبير اللي عليا. أرجوكي متزعليش مني أوكي
ابتسمت غفران ابتسامة صادقة وهمت بالوقوف فربتت بحب على وجنة أختها وقالت بنبرة دافئة
عمري ما أزعل منك يا حبيبتي. تصبحي على خير.
ثم خرجت غفران ببطء واتجهت إلى غرفتها بينما ياسمين تركت مكتبها وتوجهت نحو النافذة. وقفت هناك متأبطة ذراعيها وكان القلق يسيطر على ملامح وجهها. كانت تنظر إلى الشارع لكن عينيها كانتا ضائعتين في أفكار بعيدة. كانت حائرة بين الاختيارات التي تواجهها بين الضغط الدراسي والأمور العائلية.
أما غفران فقد جلست على سريرها في غرفتها وراحت تفكر في نبرة ياسمين التي بدت لها غريبة في تلك اللحظة. شعرها بالقلق كان يتزايد وأصبحت مشاعرها مختلطة بين القلق
على أختها والريبة من تصرفاتها الأخيرة. كان هناك شيء في أعماقها يحاول أن يتضح لكنها لم تستطع أن تضع أصبعها عليه بعد.
مع إشراقة يوم جديد بداخل المصنع كانت الأضواء تتسلل من النوافذ الصغيرة مما يخلق جوا دافئا من خلال ضباب خفيف يتلاشى مع بداية النهار. كان ياسر يجلس أمام الميكنة منشغلا في حياكة بعض الملابس أمامه. أصوات الآلات كانت تتناغم مع بعض خرير الماء في الزوايا البعيدة. ولكن سرعان ما توقف ياسر عندما شعر بشيء غريب يتسلل إلى أجواء المكان.
فاجأه الشاب الذي جاء قبل يومين أدهم يقف أمامه متسائلا
صباح الخير. كنت بسأل على الأنسة غفران. ألاقيها موجودة فين دلوقتي
نظر ياسر اليه للحظات وعينيه تتسلق ملامح وجهه. كان شابا وسيما جدا طويل القامة وملامحه حادة وعيناه تحملان شيء من الجدية والاهتمام. شعر ياسر
بشيء غريب يتملكه نوع من الغيرة التي لم يكن يتوقعها. لماذا يسأل عن غفران! كان هذا السؤال يتردد في ذهنه بينما يراقب الشاب وتمنى لو كان هو من يسأله عن غفران.
نظر إليه أدهم وهو ينتظر منه إجابة ثم قال مرة أخرى
أنت مش سامعني ولا إيه بسأل عن الأنسة غفران روحت المكتب وما لقيتهاش موجودة.
رد ياسر بتعجرف محاولا إخفاء مشاعره المتضاربة
وحضرتك عايزها في إيه انت واخد منها ميعاد
تعجب أدهم قليلا من السؤال ولكنه أضاف بهدوء
المرة الجاية أوعدك إني هاخد ميعاد. بس لو مش عارف هي فين هاروح أسأل حد تاني. بالإذن.
ثم تركه أدهم وابتعد ولكن كان ياسر يكاد يضغط على يديه بإقتضاب وكأن الڠضب بدأ يتسلل إليه. لم يعرف كيف يتصرف أو ماذا يفعل مع هذه المشاعر.
ظل أدهم يتجول في الطرقات داخل المصنع باحثا عن غفران حتى وجدها أخيرا
عند أحد العمال وهي ترشدهم إلى كيفية أداء العمل بطريقة صحيحة. وقفت هناك بثقة وتوجيهاتها كانت واضحة وهادئة. كانت غفران محط أنظار الجميع بطبيعتها الجادة ونظرتها الثاقبة وكأنها تحمل في عينيها حكايات قديمة عن العمل والاجتهاد.
عندما لمحها أدهم مرة أخرى شعر بشعور غريب يجتاحه. شيء غير مألوف يراوده رغم أنه رأى العديد من الفتيات قبلا وتعامل مع كثيرات إلا أن غفران كانت مختلفة. كما لو أن شيئا غامضا في شخصيتها جعله يتساءل عن نفسه. شعر بدوار مفاجئ وهو يراقبها بصمت.
عندما شعرت غفران بوجوده التقت عيونهم للحظة ثم ابتسمت ابتسامة صغيرة ليقترب منها أدهم قائلا
صباح الخير.
لم تعرف غفران لماذا شعرت بسعادة حين رأته ولكنها ابتسمت بخير واضح وردت عليه
صباح النور.
ثم أكمل قائلا
أنا آسف إني جيت تاني من غير ميعاد بس
كنت عايز أتواصل معاكي. ولكن للأسف ما معيش أي رقم تليفون خاص بيكي أو بوالدك.
تفهمت غفران كلامه وقالت بهدوء
ما فيش أي مشكلة. حضرتك تيجي في أي وقت. أنا برضو كنت عايزة أتواصل معاك ولكن لنفس السبب ما عرفتش.
تفاجأ أدهم قليلا وسألها
ده على كده في جديد بقى
ابتسمت غفران بفرحة وقالت
طبعا في جديد وأخبار حلوة جدا!
تحمس أدهم وسألها بسرعة
إيه الأخبار طمنيني
أجابت غفران وهي تبتسم بثقة
اطمن أنا اتكلمت مع بابا وشرحتله كل حاجة. وفعلا سمع قبل كده عن مصنع عمك لكن ما كانش في تعامل بينهم خالص قبل كده. وأنا حكيتلة كل شيء وأتفضل.....
ثم أخرجت من ملفها ورقة بها جميع المعلومات المطلوبة وأكملت بابتسامة
دي أسماء كل الموردين اللي هيساعدوك ودي كمان قائمة بأرقام ناس هتقدر تساعدك في التسويق. أنا طبعا ماعرفش أي حد فيهم لكن بابا هو اللي عارفهم وأنا على ثقة بكلامه. وإن شاء الله هتقدر تقف على رجليك وتحقق نجاح كبير.
نظر إليها أدهم بامتنان شديد ولم يعرف كيف يعبر عن شكره. أخيرا قال
تعرفي أي حد تاني كان هيرفض يساعدني أو يقدملي النصيحة. لأنه مايعرفنيش أو على الأقل يوجهلي نصيحة لكن بجد يا آنسة غفران... إنت
شخصية طيبة جدا وجدعة وشكلك بنت بلد ويعتمد عليكي.
فرحت غفران لفرحته ولسماعها كل هذا الثناء عليها وقالت
والله أنا بجد مبسوطة إني قدرت أساعد حضرتك. إنت ما تعرفش إحساسي إيه إني قدرت أفيد حد حتى لو لمرة واحدة في حياتي.
عقد أدهم حاجبيه وسألها بفضول
مش فاهم.
ارتبكت غفران لحظة ثم قالت بعفوية ولكن كلماتها تلعثمت قليلا
لا... أبدا ما أقصدش حاجة. يا خبر الكلام خدنا ومجبتلكش اي حاجه. اتفضل على المكتب أجيبلك قهوة ولا عصير
لاحظ أدهم بذكائه وفطنته أن هناك شيئا غريبا في عيون غفران. لم تكن الفتاة السعيدة التي تظهر للآخرين. كانت هناك أمواج هادئة في عينيها لكن خلفها بحر عميق من الفقدان وكأنها تحمل هموما أكبر من عمرها. فرك الورقة بين يديه ثم نظر في عينيها بثقة وقال
مرة تانية إن شاء الله هنشرب القهوة مع بعض أكيد.
ثم أخرج بطاقة وقال
ده رقم تليفوني وأنا عايز رقمك أو رقم أي حد في المصنع علشان لو حبيت أفهم اي حاجه في الشغل ده لو مش هيضايقك أو يضايق والدك.
أخذت غفران البطاقة وأعطته بطاقة هواتف المصنع ثم شاركته في رقمها الخاص ورحبت كثيرا به وعلى أتم الاستعداد لتقديم
أي مساعدة له مادامت قادرة على فعل هذا. شكرها أدهم مرة أخرى قبل أن يغادر ولكنه ترك عقله هنا أمامها. كل خطوة كانت له نظرة تأمل في عينيها ولا يزال في ذهنه هذا الشعور الغريب الذي اجتاحه عند رؤيتها.
ظلت غفران واقفة في مكانها عينيها معلقتين على هيئته تلك الهيئة التي كانت تحمل شيئا غريبا. شعرت بشيء مختلف يتسلل إلى قلبها شيء يجعلها ټغرق في أفكارها وتنسى لحظات الزمن. كانت نظراته وتعبيرات وجهه تحمل شحنة غامضة مما جعل قلبها يطرق بقوة أكثر من المعتاد. لم تستطع تحريك عينيها عنه وكأنها تراقب كل تفصيل فيه. لكن فجأة انفصلت أفكارها عن الواقع عندما سمعت صوت الأقدام تقترب وكان الصوت مميزا... كان صوت أحلام.
تفاجأت غفران بقدومها قبض قلبها فجأة وكأنها شعرت بشيء غير مألوف شعور بالقلق يسيطر عليها مثل رياح عاصفة قادمة من بعيد. وجهها شحب قليلا وعينيها اتسعتا في محاولة لاستيعاب الموقف. لم يكن في مخيلتها أن تأتي أحلام في
هذه اللحظة دون وجود والدها جانبها. كانت تدرك أن هذا الظهور لها قد يعني شيئا سيئا وأن القادم لن يكون كما توقعت.
وقفت غفران في مكانها عيونها تراقب أحلام
التي ظهرت فجأة أمامها. شعور غريب اجتاح قلبها وكأن هناك شيئا غير مرئي يربطهما في هذه اللحظة. كانت نظرات غفران مليئة بالقلق والتوجس وعيناها تتنقلان بين ملامح وجه أحلام التي كانت تقف بثبات عيونها تشع بالثقة والخداع في آن واحد بينما كانت غفران ټغرق في شعور غامض.
أحلام بكل ثقة نظرت إليها بعينيها المليئتين بالخبث وكأنها على يقين من أن لا شيء يمكن أن يهددها. في تلك اللحظة لم تستطع غفران أن تفسر ما تشعر به كان قلبها ينبض بسرعة غير معتادة وكأنها في انتظار شيء لا تعرفه بعد.
ظلتا تراقب كل واحدة منهما الأخرى في صمت ثقيل وكل واحدة منهما تعلم ما يدور في رأس الأخرى ولكن لا واحدة منهما تستطيع أن تقول كلمة. كانت عيون غفران مليئة بالخۏف بينما عيون أحلام تتلألأ بثقة غريبة.
أحلام ابتسمت ابتسامة خبيثة وكأنها تقول بغرور أنت خائڤة وأنا أعلم ذلك. بينما كانت غفران تظل مشلۏلة في مكانها تستشعر أن القادم سيكون أسوأ مما تتخيل.
نظراتهما تعانقت للحظة طويلة ثم قالت أحلام بنبرة جادة 
حصليني على المكتب.
غفران لم تجب ولكن قلبها كان ېصرخ في داخله مستغيثه با أبيها وعينيها
تكادان تفضح مشاعرها المتأزمة. 

تعليقات



×