رواية علاقات سامة الفصل الخامس عشر
لا زال يفاجئها، بل يصدمها أخذت قرار بمحاولة اصلاح ما فسد، تُمنِّي نفسها بعدم فوات الأوان، ستنقذ طيف ولو مؤقتًا، ابنها هو أهم دوافع انفصالها رغبت أن يكن كوالدها وليس كوالده، لكن كيف أصبح؟ ومتى؟ لا تملك إجابة.
عزلتها عن كل ما يخص ابنها، حتى غرفته القديمة لم تكن لها، ستغدقها بحنانها، لعلها تعوضها ولو قدرًا هيّنًا عمَّا تعايشه، ولم تغفل طيف عن غايتها وامتنت لها، صمت أحاط كلتاهما، لأول مرة تنعم طيف بنوم مريح منذ وفاة والدتها، لكنه أرَّقها بنومها؛ فاستيقظت فزِعة تنفذ ما أمر به قبل مغادرته، بدأت رحلتها لتنظيف المكان، بعد فترة استيقظت الأم، ظنَّت تعمق طيف بالنوم، التي ادهشتها بنشاطها، انهت تنظيف المطبخ بالكامل؛ عمل كان سيستغرق منها وقتًا طويلًا؛ فقد انهكها ما علمته عنه بالأمس واستنزف كل طاقتها، تخلت عن دهشتها سريعا واسرعت تعاتبها:
- ليه كده يا بنتي؟ ايه اللي بتعمليه ده؟
ارتبكت، هل أفسدت أمرًا دون دراية، ماذا إن علم شهاب:
- أنا أسفة، مش قصدي والله! أنا عملت أيه؟ طب ما تقوليش لشهاب.
ضمتها بحنان وتجمعت الدموع بعينها كيف دفع بها لهذه الحالة! ربتت على ظهرها تطمئنها بكلماتها المحتوية:
- اهدي يا حبيبتي، ما عملتيش حاجة، اهدي، أنا مش عايزاكِ تعملي حاجة، ترتاحي وبس، أنتِ هنا عشان اهتم بِكِ، الحوامل خصوصا في الآخر ما لهمش الوقوف، التمشية حاجة والمجهود اللي بتعمليه حاجة تانية، بصي، الأم وبنتها بينهم أسرار ما يعرفاهاش غيرهم، صح؟
طالعتها بترقب وأومأت مؤكدة؛ فاسترسلت الأم:
- يبقي ده سرنا اصحي ونامي وقت ما تحبي، لما يجي شهاب ابقي أعملي أي حاجة، تمام.
أومأت مبتسمة، آه لو كان يشبه والدته! لكانت حياتها معه مختلفة، استمعت لباقي كلماتها الحنونة:
- شكلك ما فطرتيش، هعمل لك أحلى فطار.
منذ سنوات لم تشعر بهذا الكم من الراحة والصفاء، ازداد حبها وتعلقها بهذه الأم الحنونة، فقد زُرِع حبها في قلبها من الوهلة الأولى، تسعد برؤياها، تشعر وكأن والدتها أُحيت من جديد، أن الله أهداها مَن يُحَلِّي مُر الأيام، عادت البسمة لوجهها، نسيت معاناتها، تذوَّقت حلاوة الراحة والحنان، تبادلتا النظرات شاكرة ممتنة، ومعتذرة خجلة، تُعرب الأعين وتشرح ما عجز البوح عنه، وتتحدث الأفعال.
يكاد يميز غيظًا، ما تفعله والدته سيعيده عدة خطوات للخلف، بل قد تثور عليه وتتمرَّد، فقد أدركت، بل وأيقنت أن والدته تقف لجوارها، إن ثارت ساندتها، شغل تفكيره وايقظ جميع حواسه وسخرها ليحكم الشِّرك حول عنقها، لإحكام سيطرته عليها؛ فتوقن ألا مهرب منه ولا مفر، وإن والدته لن تستطيع مد يد العون لها، أنَّ حقيقتها الوحيدة هي: خضوعها له، وأنه يسري بأوردتها، تحيا به وله وفقط.
حسب جدولها مضى على موعد استيقاظها ساعتين وأكثر، سحب الهاتف الأرضي ليتصل بوالدته. توقعت اتصاله، وكي لا تزيد الأمور تعقدًا جعلت طيف تجيبه:
- السلام عليكم.
- صحيتي في معادك، ولا الهانم راحت عليها نومة.
كادت أنْ تنساه حقًا، ليته يختفي من حياتها فجأةً كما اقتحمها، أسرعت تجمع الحروف والكلمات فهو لا يطيق الانتظار:
- آه والله! ونضفت المطبخ كله، حتى اسأل طنط.
- يا ويلك يا طيف لو ما التزمتيش بالجدول، الحاجة الوحيدة اللي تتغير هي الأكل اللي ماما تحطه تكليه، حتى لو شبعانة، حتى لو مش قادرة، اللي زيك ما لهمش اختيار.
- حاضر.
تتابع باهتمام، جعلتها تجيبه لتَمْتَص غَضَبه، لكن يكفي ما سمعت؛ فشحوبها جلي ورجفتها واضحة، اقتربت منها مدعية الجهل به، وقفت جانبها تمسد على رأسها، تحدثت ببشاشة تجذب سماعة الهاتف بيد وعانقت كف طيف بالأخرى:
- مين يا طيف؟
- شهاب.
- روحي نضفي أوضتك زي ما قولت لك.
لم تمنحها فرصة للحركة، وشعر شهاب ببعض الراحة بالرغم من عدم تصديقه، وهذا ما أرادت، تحدثت تكمل مبغاها:
- صباح الخير يا حبيبي، بقالك كتير ما صبحتش عليَّا كويس إنك افتكرتني، أخد مراتك كتير بعد كده؛ عشان تفتكرني.
- صباح النور، خليها تكلمني أول ما تنضف، ماما بلاش تدلعيها، بلاش تكوني سبب اذيتها.
ابتلعت غصة مؤلمة، لم تتصور أن يهددها يومًا، التزمت الهدوء وأغلقت قلبها على جراحه:
- بتتصل عشان كدة! حاضر، عايز حاجة تاني.
- شوفتي بسببها زعلتي مني لأول مرة، شايفة عمايلها.
صدمت! يقلب الأحداث، يحمل زوجته ما اقترفه، تحدثت تنفي التهمة عن الجميع:
- مش زعلانة ولا حاجة، افتكرتك بتسأل عليا، أنت ابني الوحيد وكل اللي بعمله عشانك يا حبيبي، أنت متأكد من ده، صح؟
- ماشي يا ماما، اديني طيف.
- دخلت الحمام، اوعى تتأخر على الغدا يا حبيبي، شوفت نسيت العلاج، هروح أخده قبل ما انسى تاني، عايز حاجة يا حبيبي؟
- لا شكرًا.
تنفست بعمق ونظرت لطيف تطمئنها، رسمت بسمتها مردفة:
- الشمس في الوقت ده مفيدة جدًا، تعالى ندخل البلكونة.
جذبتها برفق ودلفتا للشرفة، استمتعتا بجو لطيف مرح دون توتر أو ضغوط، حظيت فيه طيف بالاهتمام الذي افتقدته مع والدها ثم زوجها، اغدقتها فيه الأم بالرعاية والحنان، تحاول تعويضها عمَّا منعه ابنها عمدًا. نَعِمَت طيف بالسعادة، أنهت طعامها بمرح ظنته لن يزورها يومًا.
حلق التوتر بالأرجاء مع عودته، سكنها القلق والخوف، لم تكن الوحيدة؛ فشاركتها الأم حالتها، وكلٍ لأسبابه، أما شهاب فملأه التحفز بضراوة، استقبلته والدته بابتسامة قلقلة، أما طيف ففعلت كما اعتادت، ثبتت بمنتصف المكان، تخفض وجهها، كتلميذ بليد وتحدثت بنفس الوضع.
- حمد الله على السلامة.
طالعها بنظرات مبهمة، حلَّ السكون المشحون لثوانٍ، الذي تبدل لذهول وصدمة حين التفَّت والدته ووجدت طيف بتلك الوضعية، وزَّعت نظراتها بينهما؛ فتقدم شهاب بضع خطوات، ووقف مقابلًا لطيف، حلق الصَّمت بالمكان حتى تمكنت الأم من الخروج من صدمتها:
- طيف، أنتِ واقفة كدة ليه؟!
سكون خجل تغلغل بالأجواء، تباينت تعابيرهم، نمت بسمة ساخرة على جانب فمه، سعد بكشف ذلها أمام والدته المصدومة، استمتع بحالتها قليلًا، ثم اردف يحمل سلسلة كَسْرِها:
- بتحب تستقبلني كدة يا ماما، صح يا طيف؟
- أيوه، كده.
لم يخفى عنها نبرة الرعب المتغلغلة بحروفها؛ فطريقته مخيفة، تشك أنه ابنها الذي تربى على يدها، تشهد الله أنها لم تقصر في تربيته. اقترب شهاب حتى التصق بطيف، طوقها بيده غرس أصابعه أسفل كتفها؛ فشددت على إغلاق فمها تحبس وجعها، وما زالت تخفض وجهها، تحدث بهدوء يطيل وقوفهم:
- يومكم كان ازاي النهاردة؟ طيف زعلتك يا ماما؟! لو زعلتك أفهمها غلطها.
حاولت تحريك جسدها لعله يخفف من وطأة ألمها، فكان رده غرس أظافره بخشونة مقصودة. صدمات متعددة تتلقاها منذ الأمس، جعلتها بحالة تخبط قصوى، دارت بها الدنيا تسلبها قواها، نفضت رأسها؛ لتعود إلى أرض الواقع حين رأت طيف تتألم بين يديه، فخطت نحوهما، وجذبتها إليها تحتضنها؛ فتركها على مضض، خرجت منها الحروف تائهة حزينة:
- طيف، آنست وحدتي، يا ريت كل الستات زيها، تعالى يا بنتي نحضر الغدا.
- اقعدي يا ماما طيف حتعمل كل حاجة.
- هتتحكم فيا، عايزني اتحرك على هواك.
- أنا عايز اريحك، لكنك تعصبتِ بصورة مبالغ فيها.
حافظ على جمود تعابيره رغم اشتعال دواخله، ولم تدري والدته بما تجيبه، ألا يشعر بسوء أفعاله، حاولت التحلي بالهدوء تحاول اصلاح الامور لا افسادها:
- ما قصدتش، انا بس عايزة اتغدى، تعالى يا طيف نحط الأكل.
اجتمعوا على المائدة وقد اعدتها الأم ليجلسا على جانبيها، لاحظ شهاب ولم يبدِ اعتراض حتى كادت طيف أن تجلس؛ فصدح صوته بأسلوبه الآمر:
- الست تقعد جنب جوزها يا طيف أدام مش هو اللي على رأس السفرة، انقلي الأطباق هنا، ده مكانك.
- سيبها جنبي عشان اخد بالي من أكلها.
- أنا هأهتم بها يا ماما، ما هي مراتي.
لديه الحجة والمنطق؛ فصمتت مرغمة، يرتب لكل خطوة، سيذيقها قدرًا بسيطًا هينًا مما ينوي فعله بها لاحقًا، دعس قدمها وثبت قدمه فوقها، تضغط بقوة من حين لآخر، عضَّت شفتها السفلية تكتم ألمها مالت على المائدة تخفي وجهها عنهما، فاتاها صوته أمرًا:
- كُلى.
ملأ صحنها بالكثير من الطعام، تعجبت والدته:
- -كفاية يا ابني، مفيش بني آدم يقدر يخلص الكمية دي.
- دي حامل يا ماما لازم تتغذي، مش ده كلامك؟ كُلي يا طيف، كُلي كله.
التهبت بشرو ثدمها ولا زال مستمرًا، تشعر بتخمة معدتها يراودها الشعور بالغثيان، وتتابع الأم متحسرة على ابنها، ثم حاولت وقف معاناتها:
- لو شبعتي يا بنتي خلاص قومي.
- شبعتي يا طيف؟
حمل سؤاله أمر صريح، رافقه بضغط أكبر على بشرة قدمها؛ فكتمت تأوهها مردفة:
- لا لسه، لسه باكل.
- شوفتي بقى أنا حافظها.
تدرك أنه يؤلمها بطريقة تجهلها، ويهذبها بالطعام، فتحركت تحاول انهاء المهزلة الواقعة بتبجح، سحبت الطبق من أمامها:
-لا كفاية أوي كده.
اختفت داخل المطبخ؛ فوجدت طيف خصلاتها ملفوفة حول كفه، يجذبه للخلف يلوح لها بوعيده:
- انبسطي النهاردة واستعدي للي جاي، مش هحرق الأحداث هنتظر تشوفي بنفسك، وهسيب خيالك يرعبك لوحده.
دفعها بغلظة وأمرها باللحاق بوالدته لمساعدتها؛ أطلعته راضخة، لا تقوى على الحركة اثقلتها كمية الطعام واعيتها، تحركت بوهن. انسابت دموع الأم لثوان، ثم جففت دموعه؛ لا وقت للانهيار الآن، رأت طيف تتحرك بوهن، فعاونتها للجوس:
- اطلعي اقعدي يا بنتي، انا هعمل كل حاجة.
- لا يا طنط انا هعمل كل حاجة.
سبحت مقلتيها على جسدها تبحث عن موضع ألمها، زلزلت حين رأت التهاب قدمها، بل نزفت الدماء، لهذا كانت تتألم اثناء تناول الطعام، ابتلعت غصتها،
-اغسلي رجلك، وفي مرهم كدمات في التلاجة ادهني منه، اعملى الشاي الكاتل مليان.
❤️❤️❤️❤️❤️❤️❤️
تدرك أنه يؤلمها بطريقة تجهلها، ويعذبها بالطعام، فتحركت تنهي المهزلة الواقعة بتبجح، سحبت الطبق من أمامها:
-لا كفاية أوي كده.
ثم اختفت داخل المطبخ؛ تلملم جراحها، وتكفكف دموعها التي انسابت رغم عنها. بابتعاد الأم عنهما جذب خلاصتها واحكمها حول كفه، وبفحيح كلماته توعدها:
- انبسطي النهاردة واستعدي للي جاي، مش هحرق الأحداث، هسيب خيالك يرعبك لوحده.
دفعها بغلظة وأمرها باللحاق بوالدته أطاعته راضخة، لا تقوى على الحركة اثقلتها كمية الطعام، تحركت بوهن وعاونتها الأم على للجوس:
- اطلعي اقعدي يا بنتي، انا هعمل كل حاجة.
- لا يا طنط هساعدك.
رأت ألمها البيِّن، تحارب البكاء؛ فتبعت مقلتيها المثبتة أرضًا وهالها فعل ابنها، دهس قدمها حتى ألهبَّها وأدماها؛ لذا كانت تتألم أثناء تناول الطعام، ابتلعت غصتها:
- اغسلي رجلك، وفي مرهم كدمات في التلاجة ادهني منه، اعملى الشاي الكاتل مليان.
مر وقت مشحون بالتوتر حتى غادر، تنفست والدته الصُّعداء وانسابت دموع طيف بصمت، جاورتها الأم تهون عليها بلمساتها، تحنو وتداوي، وكطفلة صغيرة رافقتها بضجعها حتى غفت، اغدقتها بالحنان تتلو عليها بعض آيات الذكر الحكيم، حين تأكدت إنها غطَّت بنومٍ عميق؛ دلفت غرفتها تختلي بهومها وتلال أحزانها؛ عقلها يبحث عن سبب ما آل إليه ابنها، تعيد شريط حياتها، تركت والده وهو دون العامين، فكيف أصبح أشر منه وأسوأ؟! لم تعنفه يومًا ولم تغرس به التجبر، عدلت عن قرارها بمواجهته، ستتريث حتى تسترد طيف عافيتها، بل حتى تلد مولودها، بعد تفكير طويل وأرق طال، تمكن منها النوم وغلبها.
تقبعان أمام كتبهما، مَن يراهما يظنهما سابحتان ببحور العلم، والحقيقة تُلاطمهما أمواج أفكارهما العاتية، عادت نادية من شرودها تُطالع أختها التي ما زالت أسيرة سيل أفكارها، رأت الحزن يستحوذ على قسماتها، قطعت الصَّمت متسائلة:
- مالك؟ إيه اللي مضايقك كده؟
- جدوا تعبان، وماما بقت تخرج كتير وتزعل جدو أكتر وأنتِ.. أنتِ.
- أنا إيه! أنا معاكِ أهو!
- أنتِ معايا بجد؟!
أربكتها بسؤالها غير المتوقع:
- أنتِ عاملة جو دراما ده عشان جدو تعبان، ولا عشان ماما اللي بتخرج كتير؟
- بتزعل جدو لمَّا يعترض على خروجها، والدكتور حذَّر مِن الزعل، أنا خايفة عليه.
- جدو كويس، ركزي أنتِ في امتحاناتك اللي قربت، أنت إعدادية، شهادة يعني.
رمقتها بعتاب وتمني، ثم ذهبت لجدها تطمئن عليه رافقته بعض الوقت، ثم عادت تحاول التركيز والمذاكرة، لكن عقلها مشتت؛ يفكر بالتغيرات التي طرأت بنادية، لم تعد كسابق عهدها معها، تتبدل أحوالها بين تردد ندم وتيه، وما يعَذِّبها حقًا هو فتورها معها أحيانًا، تخشى ابتعاد روحيهما، وأن تماثل والدتها؛ فتصبح الحاضر الغائب.
حَلَّ صباح جديد على الجميع نعمت فيه طيف بحنان الأم، شعرت أنها مع والدتها، يزدهر وجهها بصحبتها، عكس ما يحدث بوجود شهاب.
انتهت المحاضرة ولا زال أمامها بعض الوقت حتى المحاضرة التالية؛ فاتجهت إلى المكتبة تستغل هذا الوقت في الاطلاع على بعض المراجع، استوقفها صوت احدهم ينادي عليها:
- أنسة نادية، يا أنسة.
- حضرتك تعرفني!
- أنا اعرفك، لكن أنت لسه.
- والله! شكرًا، مش عايزية.
كادت تغادر؛ فوقف أمامها مبتسمًا:
- ثواني بس، اسمعيني الأول.
- مش عايزة، ما ليش في جو الأفلام، وبطل تتابعني وشغل عبد الحليم حافظ.
- لكن أنا زميل حقيقي.
- زميل! صدقتك، فعلًا الكليتين جنب بعض، يا استاذ حضرتك طب عين شمس، وأنا كلية أثار القاهرة، فين الزمالة دي؟ وقبل ما تقول سألت عليك بص للبالطو والكتاب اللي في ايدك.
احرجته بالفعل، تلون وجهه بألوان الطيف جميعًا، تنحنح يجلى صوته:
- احم، بما أني مكشوف فأنا أولا قصدي زمالة لإننا طلاب في كليات زي بعض، وعشان أكون دوغري، شوفتك مع اختي هي زميلتك والله، صحيح أنتم مش اصحاب ومش بطيقوا بعض، لكن أنا ماليش دعوة، سواء كنتم اصحاب ولا لأ، أنسة نادية انا معجب بيكي جدًا، أكتر مما تتخيلي، وكنت حابب...
قاطعته بتذمر
- ماليش في جو الأصحاب والحب، تكلمني ونحلم سوا فاكس، شوف واحدة غيرى، أنا لا عايزة حد يغني عليا ولا أغني عليه، أقول لك حاجة، أنا أصلًا معقدة، ومفيش في حياتي غير مستقبلي بس، وفوق كل ده بكره الرجالة.
- طيب واحدة، واحدة، أولًا جو الأصحاب، لا بحبه، ولا ارضاه ليكِ، مش سكِّتي، بالنسبة لنحلم سوى، أتمنى والله! ولو مش عايزة أحلم لك أنا، أمَّا مستقبلك فيهمني زي ما يهمك، بتكرهي الرجالة ليه؟! طيب اعملى لى استثناء، أوعدك والله عمري ما أخذلك! أنا عايز ادخل البيت من بابه.
- أنت عايز أيه بالظبط؟!
- هو ده السؤال، أنا بحبك، وعايز اتقدم، فاضل لي سنة وأتخرَّج وإمكانياتي معقوله، هاقدر أجهز شقة كويسة وإن شاء الله اشتغل بسرعة.
- كل ده حصل من بعيد لبعيد، بص بقي جو الشباب التافهة اللى تتسلى باللعب بالبنات المستقيمة عشان توقعها ويبانوا شباب جامدة؛ فأعمله بعيد عني، ولو أختك اللى قولت إنها مش طايقاني رميتك في طريقي لسبب ما مش عايزة أعرفه؛ فبقولك من دلوقت «كان غيرك أشطر»، على جنب كده، عشان مش فاضية.
تركته دون أن تلتفت إليه، وهو بقدر ما حزن لعدم اهتمامها، بقدر ما سعد لقوتها وعدم وقوعها بتلك الدعوات باسم الحب؛ فمعظمها واهية، بالنهاية بسمة عريضة ارتسمت على وجهه، فهي تلاحظه منذ فترة، لن يتركها وبعد أن ينهي جامعته سيخطبها، لقد أسرت قلبه، مختلفة عن الجميع، ثابته، قوية، يراها شخصية فريدة.
أيام تلتها أيام، واكتمل شهر مرَّ على البعض بثبات والبعض الآخر بقلاقل، أنهي الجميع امتحانات نهاية العام، حاولت إنكار أن ذاك الشاب قد استحوذ على قدر من تفكيرها، كرهت نادية تلك الهزة الداخلية التي انتابتها، اعجبت باستمراره على مراقبتها دون حديث أو لفت الانتباه.
سكن الحزن قلب شيماء؛ لازدياد الفجوة بينها وبين نادية مع تملك المرض من جدها الغالي. نَعِم رامي بجو أسري دافئ وأبوين بديلين، هما الجد والجدة. أمَّا حسن فبين كل حين وأخر يتصل به والده يشجعه للمضي قدمًا، والدته تارة تتودد له وتارة تبتعد؛ فهو بات نسخة مصغرة من والده، حتى نبرة الصوت تكاد تكون واحدة. ولأول مرة تحيا طيف بسعادة حقيقية، كادت أن تتنسى شهاب، رغم أنه يقضي معها ليلية بنهاية أسبوع تجعلها طريحة الفراش ليومين؛ لشدة إجهادها، إلَّا أن ما تقدمه لها والدته من رعاية وحنان تخفي بطياتهما شفتها تجعلها تشعر ببعض الأمان والغبطة، لم تدرك أن يحوي لها داخل جعبته الكثير، فهو يخطط ويعد عدته لها، فقط يتحين اللحظة المناسبة.
تركهما تظنان اكتفائه بليلته التي يقضيها معهما، يدرس نمط يومهما يحدد الساعة التي سينقض عليها فيها، وكان بوقت تسوق والدته الأسبوعي؛ حيث تغيب لأكثر من ساعتين، فترة كافية ليفعل ما أراد، تربَّص بهما أوهمهما ككل صباح بذهابه للعمل، لكنه بالواقع عاد يراقبهما ينتظر خروج والدته، تأكد من ابتعادها، ثم صعد لطيف.
رمقها بوعيد وهي تغط بنوم هانئ عميق، صور به عقله كذبها ومخالفة أمره، لا يدرك انها تضع لنفسها قيود فوق قيوده لتتجنب أذيته، كانت تستيقظ بالموعد الذي حدده بالفعل، لكن والدته دومًا تصر عليها للبقاء بمضجعها، تدَّعي الحزن إن نهضت؛ فيغلبها النوم من جديد حتى اعتادت الرَّاحة، فجَسَـدها طالبها بها وبشدة.
بسمة هازئة ارتسمت على جانب فمه؛ فوالدته تهيئ لها جو مثالي للراحة؛ فالبيت هادئ دافئ، الأنوار خافتة، تنسدل الستائر على نوافذه، يعُم به الصفاء الذي انتهي بدلوفه، نظراته الشيطانية لا تنذر بالخير، وجهها البشوش والراحة التي افترشته جعلت غَضَبه يتفاقم، لا يراه مظهر مغري كباقي الأزواج للاقتراب بشوق، هو بالفعل اقترب منها، لكن بشَـر كَنَّه ومكر، تركها بنعيم طويل -كما يرى- ليكون العقاب أشد ألمًا وأكثر وطأة، وكأي مختل نفسيًا أعد عدته، أخرج من جيبه حبل ومقص.
رائحة عطره اقتحمت نومها، كما فعل هو بأحلامها، شعرت بيد خشنة تقبض على معصميها فانتفضت فَزِعة، اتسعت عينيها برُعـب؛ هو حقيقة أمامها، ابتسامته الشَّيـطانيَّة المرتسمة على وجهه جعلتها توقن أنها وقعت بالشِرك وباتت بين براثنه، تملكها الهَلَع، فقد قيَّد كفيها واوثقهما بهيكل الفراش، تصارعت دقات قلبها، وزلزل جَسدها من تخيلاتها لما سيفعله بها، فلَجِم لسانها، وتبعت مقاتيها الجاحظ. تحركاته وما يفعله بها.
يستمتع بحالتها، وارتجَافها الواضح كشف ساقيها، ثم قيدهما معًا ووثقهما بالهيكل كفعله الأول، بات فرارها أو تحركها مستحيل، ضَـرب الصقيع روحها وجسدها، ووصلت لأقصى درجات الفَــزع؛ فبدأ يعزف على أوتار رعبها، يكشف عن نواياه:
- كنت فاكرة إني مصدق كذبك وأنك ماشية على الجدول، سيبتك وانتظرت توصلي لأخر مراحل كذبك، لفيتي الحبل على رقبتك يا طيف، وجه الوقت لأني أشده واخنقك.
حاولت التحدث مرارًا، ولم تطاوعها الكلمات، تبخَّرت جميعها، عقلها يتساءل: ماذا سيفعله بها؟ ولمَ كشف ساقيها؟ طالعها ببسمة ماكرة تعلمها جيدا، تحدث يجيب أسئلتها الصَّامتة، وليته لم يفعل! اخرج من جيبه شيئا ببطء:
- الخوف لجم لسانك، صح؟ لسه رجلك هتتشل.
لم تفهم مقصده، ولم ينتظرها، عبس وجهه وانطلق الشرار من مقلتيه المصوبة جهتها أحرقها:
- في العادي بحب أضرب بإيدي، بستمتع لمَّا تعلم، لكن المرة دي ليكِ واجب شهر كامل، متخيلة! ده غير أنك دوستي على كلامي، وده تحدي كبير، تحديتِني بوقاحة فقررت إن العقاب يكون مخصوص يسيب علامات، ما تتنسيش، وممكن تصاحبك باقي عمرك.
اخرج من جيبه شريط أسود عريض نظر له بفخر وهي بفزع:
- عارفة ايه ده؟
أومأت نافية، وجاهدت لتتحدث؛ فخرج صوتها ضعيف مهزوز:
- لأ.
- واحدة جاهلة زيك تعرف منين! ده سير عربية، كاوتش بس نضيف قوي يا طيف وخفيف، بيلسع ويعلم، هنشوف علامات على رجليكِ الحلوة اللي تخنت على عز أمي.
سبحت مقلتيه عليها بسعادة، شحوبها وانتفاضها جعلاه يوقن انه بدأ تحقيق هدفه، وضع وسادة صغيرة أسفل انتفاخ بطنها:
- دي عشان تحمي بنتي، ما تتحركيش نهائي؛ عشان لو وقعت ممكن تتأذي ويا ويلك وقتها!
دنا إلى وجهها كاد يلتصق به، ينظر داخل عينها الجاحظة بخوف ورهبة:
- قولت لك وحذرتك يا طيف، قولت لك هتندمي، اتحاميتي في أمي، وبردو قولت لك ما لكيش غيري، أنا بس المتحكم الوحيد فيكِ، جه وقت الحساب.
قص السير باستمتاع تحت نظراتها المترجية المرتجفة، وبدأ يسرد عليها أخطاءها الشنيعة من وجهة نظره، تزامنًا مع عزف نشاذ سيمفونيته على ساقيها، خرجت منها صرخة مدوية رجت المكان مصاحبة لأول ضربة:
- مش خسارة الفلوس اللى دفعتها، واضح انه هيقوم بالغرض، كذبتي عليا، كَسَرتي كلامي، نسيتي الجدول، ما اتحركتيش وما شيلتيش قشاية، قفلتي الموبيل اللي اشتريته مخصوص عشان اتابعك، ما اللى زيك يوم ما اشتري لها حاجة يبقي زي النهاردة حاجة لتأديبها، عقلك صور لك أني هصدق حركاتكم، أمَّا غلطتك الكبيرة واللي هتفضلي طول عمرك تدفعي تمنها هي المشكلة اللي حصلت بيني وبين امي بسببك، وانها فضلت واحدة زيك عليا.
صاحبت كلماته صوت أداته، يتبعه صرخة مدوية لم تستطع كتمها، وبكل مكان حطَّ به السير يترك خطين متوهجين، مع ازدياد الألم، انطلق لسانها، بالكثير من الاعتذارات والرجاء، والصرخات أيضًا.
- اسفة، والله أسفة! رجلي يا شهاااااااااب، مش قادرة، حرااااااااام، يا رب! يا رب تعبت.
- ايه الغلط اللي بتعذري عنه؟
- كل حاجة ضايقتك، كل حاجة، مش هكررها، بس ارحمني! آاااااه.
- اعتذري لحاجة حاجة.
- والله مش عارفة! عقلي وقف، قول وانا هعيد وراك، كفاية، عشان خاطر ربنا كفاية، أبوس ايدك ورجلك، هموت.
- اديني سبب يخليني أساعدك، على مهلك،أنا مش مستعجل، ومبسوط بصريخك، مش عارف اقولك مستمتع إزاي.
تلاحقت انفاسها بشدة، عانت لتذكر ما ألقاه على سمعها، وبالكاد تذكرت أمر الكذب، تحاول فعل أي شيء؛ لتتحمل ألمها غير المنتهي والمتصاعد، أغرقت دموعها وجهها ألهَبَتْه، ولم يرحم ضعفها، انهال على ساقيها بقوة أكبر:
- أيه تاني؟
- مش فاكرة، مش فاكرة والله! أيوة ايوة، همشي على الجدول، هموت نفسي في الشغل، هعمل كل حاجة واي حاجة تؤمرني بها، هبوس رجلك كل يوم، بس كفااااااااية، كفاية، آه.
لم يرضى حتى أسودت ساقيها، فتوقف وكادت ان تتوقف أنفاسها، تدفقت دموعها كشلال، واغرقت وجهها، تلهث كمن كانت بالمخاض للتو. وقف بكل تجبر يهدد ويأمر:
- اتعودي على اللي حصل، هيتكرر كتير بعيد عن بنتي، اغلطي براحتك وهحاسبك براحتي.
دنى منها واحكم قبضته على فكِّها، وفاح الشَّر من كلماته:
- وجودك هنا ما حماكيش مني، ولو في آخر الدنيا مافيش حاجة هتحميكي مني، آخر هدية النهاردة، أني هسيبك كدة لحد ماما ما ترجع، وتحس أنك طولتي في النوم.
حيوان ضاري، بل أكثر عدائية؛ فالحيوان لا عقل له، تتحكم به غريزته، بنفذ قانون الغاب، لكن عندما تصبح البشر حيوانات ضارية بعقل ذو أفكار سوداوية، فتلك هي نهاية المجتمع.
تداخلت رائحة عرقها مع رائحة الدِّمَاء المنساب من ساقيها، مع رائحة أخري مهينة، أثارت غثيانها، تتخيل هيئتها المزرية والمهينة، تسللت رائحتها لأنفها تثير غثيانها، خرجت منها صرخة قَـهْـر مدوية أحــرَقَـت المكان:
- يا رب خدني! أنا تعبت، يا رب! يا ماما سيبتيني ليــــه؟ ليه خدتي منال وأنا ولأ، عايزة أموت، عايزة أرتاح.
وهنت، وضعف صوتها ونبرتها:
- -تعبت قوي، يا رب! يا رب! يا رب الرحمة! أنت الرحيم، يا رب!
وقت مر عليها لا تعلم كمه، ولم تعد الأم بعد، لم تتحمل سوء الرائحة المحيطة، ثَـارت معدتها وتقلَّصت حتى نفرت ما داخلها وتناثر، بكــت قَـهْرًا حتَّى جفت دموعها، اشتدت ألامها البدنية والنفسية؛ فارغمها عقلها على الإغماء هروبا من واقع أليم.
عادت الأم مُجهدة، وضعت ما جلبت بالمطبخ، تعجبت من نوم طيف لهذا الوقت، روادها الشك اعتادت أن تستقبلها بابتسامة بشوشة، دب الرعب بقلبها؛ أزارها شهاب؟! لم تعد تستبعد أي فعل، باتت تراه غريبًا عنها، ليس ابنها الذي تربي معها وعلى يدها، حسبته يومًا حنونًا مراعيَّا، صدمت حين وجدته على النقيض تمامًا مع زوجته.
طرقت باباها برفق، وحين لم إجابة فتحته باستحياء وكل ما جال بذهنها أن تجدها تبكي، لكن صدمت وهوى قلبها أرضًا، كادت مقلتيها أن تترك وجهها، ارتعشت والتصقت قدمها محلها، ثوانٌ مرَّت حتى بدأ عقلها للعمل من جديد، تحركت بتعثر، تكاد ألَّا تحملها قدميها، كممت فمها بكفها؛ تحول دون شعورها بالغثيان، بدت طيف كمن داهمه وحش مفترس التهمه وترك المتبقي للصقور والغربان تنهشه، شل عقلها لثواني، نبهها عقلها يجب عليها إغاثة تلك المسكينة.
حاولت فك قيودها؛ ففشلت، انتبهت للمقص الذي تركه شهاب، بدأت حَلّ الحبال وازالتها سقطت دموع الحسرة على تلك الهالكة بحصون ابنها، حاولت افاقتها، احضرت منشفة مبللة؛ لتنظف وجهها:
- طيف، قومي يا حبيبتي، حقك عليا، فوقي يا بنتي.
استعادت وعيها، فداهمتها ألام عدة، طالعت نفسها بحسرة، ثم نظرت للأم ترثي حالها، فاحتوتها الأم بين ضلوعها تدفنها بصدرها الحنون، بكت تنعي قسوة الأيام، لم تجد الأم أي كلمات تواسي أو تهون؛ فهي تشعر مثلها، ضاع عمرها هباءً، حاولت معاونتها لتغسل وتبدل ملابسها:
- مش قادرة، مش قادرة والله! رجلى مش حاسة بها.
تذكرت شيئًا، كأنَّها وجدت مخرجًا، خرجت من الغرفة، ثم عادت تجر أمامها كُرسي متحرك كان لوالدها بأواخر أيامه، ساعتدتها لتجلس فوقه، وكلتاهما لم تتوقف دموعها، قلبيهما ينزف وجعًا وحسرة، ترددت بعقل الأم كلمات الله تعالى:
"وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ"
هاتفت الأم أحدى صديقاتها، طبيبتها ثم ربطت بينهما صداقة قوية، اشتدت بعد معرفة ما مرَّت به وإصرارها على الحفاظ على كرامتها وكيانها.
حضرت الطبيبة سريًا هالتها حالة طيف وما أَلَمَ بها، ساقيها بها قطوع متعددة ومتورمة بشكل مخيف، كادت أن تبلغ الشرطة لولا رجاء صديقتها وإلحاها:
- لولا غلاوتك عندي ورفض البنت تبليغ الشُّرطة، كنت بلغت مهما حصل، لازم والدها يعرف، أنت مش متخيلة درجة تأذي رجلها من شدة الضرب، معقول شهاب يعمل كده!.
- ارجوكِ وطي صوتك! باش تبلغي عشان خاطر طيف نفسها، هى اللي هتشرب في الاخر، أبوها مش سائل، أنا ما شوفتوش من بعد الفرح ولا حتى اتصل.
- أزاى سيبتيه يعمل كده؟! مش متخيله!
- ما كنتش موجودة والله، ممكن تتحسن وقت قد ايه؟
- كتير لحد الجروح ما تلم، وهي غويضة ومش سهلة.
حلَّت الصدمة عليهن جميعًا، عادرت الطبيبة، تاركة الأم لضياعها وحزنها تحوَّل ابنها لذئب بشري مسـعور، عادت لطيف التي نامت من تأثير المخدر، نظرت للمحل ل المعلق بذراعها، لا تدري كيف ستواجهها؟! كيف ستنظر إليها؟! يلاحقها الخزي من أفعال ابنها، الذي لا يتواني في صدمها ودحر أمانيها، بل ونحر فؤادها، تحركت بثقل توصل يومها الأسود، تنتظر وتترقب عودة شهاب ستواجهه، وإن لم يرتجع طلقتها منه، ستقف جانبها مهما حدث.