رواية سدفة ج2 (عن تراض) الفصل العشرون 20 بقلم أيه شاكر


 رواية سدفة ج 2 (عن تراض) الفصل العشرون

ران عليهما الصمت مرة أخرى، حتى قطعه «عمرو» بصوت متردد هش، كأنه لا يصدق ما يقوله:

-تقبلي تتجوزيني يا سراب؟

اتسعت عيناها في ذهول، وكأن الزمن تجمد للحظة. خمدت الأصوات من حولها، ولم يبقَ سوى خفقان قلبها العـ ـنيف، وكأنه يكاد يثب من خلف أضلعها. شعرت بحرارة تتسلل إلى وجنتيها، فاحمرّتا على الفور.

استدارت إليه ببطء، كأنها تخشى أن يكون ما سمعته مجرد وهم...

تلاقت عيناها المرتبكتان بعينيه، فوجدت فيهما مزيجًا من الترقب والقلق، مما زاد ارتباكها.

كانت شفتاها نصف مفتوحتين، لكن خذلها صوتها، وكأن الكلمات علقت في حنجرتها، تأبى الخروج.


ظل السؤال معلقًا بينهما، يثقل الهواء من حولهما بتوتر يكاد يُسمع، حتى جاء صوت «شيرين»، حادًا، ممزقًا الصمت إلى شظايا متناثرة:

-يا سراب... بدر بره، عايز يشوفك.

وكأن الزمن عاد للدوران التفتت «سراب» ببطء نحو «شيرين»، بينما كان عقلها لا يزال عالقًا في تلك اللحظة التي كُسرت قبل أن تكتمل...


بدّلت «شيرين» نظراتها بينهما، قرأت ارتباكهما لكنها ركزت على «سراب»، متفحصة ملامحها المضطربة قبل أن تقول باندهاش:

-مالك يا بنتي مَطروبة كده ليه؟ الواد ده ضايقك تاني؟

قالتها وهي تشير نحو «عمرو»، الذي أطرق رأسه كمن ينتظر حُكمًا قاسيًا.

أما «سراب»، فارتجفت شفتاها، وتلعثمت:

-آآ... أنا... أنا... لازم أمشي ضروري.


قطّبت «شيرين» حاجبيها وقالت وهي تراقب اضطرابها المتزايد:

-بدر بره، عايز يطمن عليكِ.

تسربت الكلمات إلى مسامع «سراب» كأنها تصدر من مكان بعيد، مشوش، وكأن ضجيج أفكارها يبتلع كل صوت آخر...

ارتعشت عيناها المضطربتان بين «شيرين» و«عمرو»، ازدردت ريقها بصعوبة، ثم هزت رأسها نافية، لكن نفيها لم يكن ردًا على شيرين، بل كان إجابة عن السؤال الصامت في عيني عمرو.

قالت سراب:

-مينفعش...


-هو إيه ده اللي مينفعش؟

قالتها «شيرين» باستغراب، لكن «سراب» لم تمهلها إجابة، فقد استدارت بسرعة، كأن الهروب هو طوق نجاتها الوحيد... غير أن قدميها خانتاها.

تعثّرت عند دخولها من باب الشرفة، فاصطدم كتفها بالحائط، اندفع ألمٌ خافت عبر جسدها، لكنها واصلت السير.

لم تكد تخطو خطوات قليلة حتى علق طرف قدمها بالسجادة، فاختل توازنها للحظة، إلا أن يدها المرتجفة امتدت سريعًا إلى الطاولة، فأحدثت فاهتزت المزهرية فوقها...

شهقت سراب بخفوت وهي تراقبها تتمايل، وكأنها ستسقط...

في اللحظة الأخيرة، قبضت عليها بأصابع متشبثة، كأنها تستميت في الإمساك بشيء ملموس وسط دوامة مشاعر تبتلعها بلا رحمة.

وحين رفعت رأسها أخيرًا، التقت عيناها بعينيه، مجرد لحظة... لكنها كانت كافية ليضطرب نبضها أكثر.

التوتر في نظرات «عمرو» كان واضحًا، خشى أن يكون قد تسرع بعرضه! لكنه لم يتحرك... فقط راقبها بصمت.

استدارت «سراب» مجددًا، لكن خطواتها هذه المرة كانت أسرع، وأكثر اضطرابًا، كأنها تهرب من شيء يطاردها. وعند عتبة الباب، توقفت للحظة، ترددت، ثم استدارت ببطء... كأنها تقتنص نظرة أخيرة نحوه، نظرة محمّلة بالارتباك، بالخوف، وربما بشيء آخر ظل معلقًا بين ضلوعها، غير قادر على الإفلات.

ومن فرط شرودها، لم تلحظ أنها ضغطت زر إغلاق الضوء قبل أن تغلق الباب خلفها، وتختفي.

أظلمت الغرفة، فارتسمت على شفتي عمرو ابتسامة صغيرة، ثم انطلقت منه ضحكة خافتة، لم يكن يعلم إن كانت سخرية أم دهشة.

ومن زاوية أخرى، كانت «شيرين» تراقب وحاجباها معقودان، كأنها تحاول فك طلاسم ما لم يُقال بينهما.

لم تتحمل الغموض أكثر، فاندفعت نحو المصباح، أشعلته مجددًا، ثم اقتربت من «عمرو» وهمست بقلق:

-كنت بتقولها إيه؟ إوعى تكون زعلتها، البنت على آخرها أصلًا.


رفع «عمرو» عينيه نحوها، يرمقها بنظرة فارغة، كأن شيئًا ما أثقل روحه للحظة، قبل أن يزفر ببطء، ثم قال بنبرة مطمئنة:

-متقلقيش يا ماما، مزعلتهاش... بس تقريبًا كده هي زعلت!


اتسعت عيناها قلقًا وفضولًا:

-عملت إيه؟


تأملها للحظات وهو يفرك ذقنه، قرر التملص، فانحنى ليقبّل رأسها قائلاً:

-متقلقيش... مفيش حاجة.

ثم خرج، تاركًا شيرين تحدق خلفه بدهشة، تحاول تحليل ما حدث، وكأنها تبحث عن ثغرة في كلماته. هزت رأسها مستنكرة، وتمتمت لنفسها:

-هو إيه أصله ده؟!

ثم أطلقت خطاها متوجهة إلى الغرفة الأخرى، حيث تتناثر الهمسات بين نداء، ورغدة، ورحمة، وتُقى، بينما وفي إحدى الزوايا...

 كانت سراب واقفة، لا تشارك، لا تتفاعل، فقط متسمّرة في مكانها، عيناها شاردتان، وأسنانها تعض شفتها السفلى بارتباك جليّ... كأنها لا تزال عالقة هناك، هل عرض عليها عمرو الزواج للتو؟ أم أنها تتخيل فقط؟


-إنتِ كويسة يا بنتي؟

انتفضت سراب قليلًا، بعدما ربتت شيرين على ذراعها بلطف قائلة تلك الجملة...

رمشت بعينيها مرتين، تستعيد إدراكها للمكان، ثم أومأت ببطء، وقالت بصوت خافت:

-الحمد لله، بخير... حضرتك عاملة إيه؟

ضيّقت «شيرين» عينيها، كأنها تحاول التفرس في ملامحها، ثم ردت بنبرة تشوبها سخرية لطيفة:

-حضرتي كويسه الحمد لله...

ثم جذبتها برفق لتجلس جوارها، وظلت تحدّق بها، تحاول أن تقرأ ما يجول في رأسها.

أما سراب، فجلست بصمت، لكن عقلها كان يعج بضجيج لا يهدأ...

تتساءل هل تخبرهن؟ أم تنتظر؟

ربما كانت مجرد دعابة من «عمرو»، ذلك المستفز! هل يعبث بمشاعرها؟ أم أن طلبه كان جادًا تمامًا؟

لا، لن تتسرع. ستنتظر.

ستتصرف وكأن شيئًا لم يكن، حتى يعيد طرح الأمر مجددًا، عندها فقط ستتبين نواياه... قبل أن تسمح لقلبها بأن يركض خلف آمال قد لا تجد لها أرضًا تحتضنها.

مالت «شيرين» نحوها وسألتها بنبرة دافئة، وعيناها تدرسان كل حركة في ملامحها:

-عمرو ضايقك تاني؟

انتفضت سراب قليلًا، كأنها لم تكن حاضرة هنا بعقلها، ثم حمحمت بارتباك وهمست:

-لأ...

رفعت «شيرين» حاجبها بشك واضح:

-طيب كان عايز منك إيه؟


تحاشت «سراب» نظراتها، وقلبها يخفق بشدة، عبثت بأطراف وشاحها، وكأنها تبحث عن شيء تشتت به انتباهها، ثم تمتمت بصوت شبه مسموع:

-كان بيطمن عليّا...

ابتسمت «شيرين» ابتسامة ذات مغزى، وقالت بمكر:

-بيعزك أوي عمرو... على فكرة أنا عارفه إن الجدال اللي بينكم ده مش كراهية، بالعكس دي محبّة!

تجمدت يد «سراب»، ارتعشت أنفاسها للحظة والكلمة تتردد داخلها، محبة؟! هل يحبها عمرو؟ أم أنها مجرد علاقة أخوية لا أكثر؟اخترق صوت عمرو ذاكرتها فجأة، وكأنه يُصرّ على البقاء في رأسها:

"تقبلي تتجوزيني يا سراب؟"


ثم جاء صوت تُقى جافًا:

"عمرو عصبي... مش زي عامر... إنتِ وعمرو متنفعوش لبعض."


ثم مجددًا، نظرات «عمرو» الحنونة، صوته العميق وكأنه يكرر الطلب بإلحاح:

"تقبلي تتجوزيني يا سراب؟"

أطبقت «سراب» جفونها بقـ ـوة، كأنها تحاول طرد كل تلك الأفكار التي تتلاعب بها. دفنت رأسها بين يديها، تبحث عن لحظة من الهدوء وسط فوضى عقلها، لكن التوتر ظل يزحف تحت جلدها.


شق صوت «شيرين» سحابة أفكارها، بدا بعيدًا رغم قربه:

-معلش، روحي يا نداء، اعملي عصير للجماعة... أصل أنا حاسة بإرهاق كده مش قادرة... هتلاقي المانجا هناك في المطبخ.


تحركت «نداء» للقيام، لكن رغدة سبقتها بردّ سريع، بنبرة حملت ما يشبه الإصرار:

-خليكِ، هروح أنا يا طنط.

رفعت «سراب» رأسها ببطء، والتقت عيناها بنظرة غريبة رمقتها بها رغدة، نظرة أثارت في صدرها تساؤلًا، لمَ تنظر إليّ هكذا؟

خرجت «رغدة» من الغرفة بخطوات ثابتة، لكن صدرها كان يغلي.

همهمت بضيق، بدر جاء لرؤية سراب إذًا...


توقفت مكانها للحظه، وهناك شعور غريب ينهش صدرها... ربما هي نار الغيرة!!

نظرت إلى ساعتها، ثم حولها، كأنها تبحث عن مهرب، عن شيء يبعدها عن هذه الدوامة لكن... لا مهرب.


حدثت نفسها بأن لا، لن تسمح لنفسها بالضعف.

شدّت قبضتها، كأنها تمسك بخيوط تماسكها الأخير، ثم زفرت بحدة، تجمع شتات نفسها، وأكملت طريقها نحو المطبخ مقررة أن تتجاهله... كما يفعل هو معها.

استغفروا 🌸 

                 ★★★★★

وفي صمتٍ جلس «عمرو» مع «عامر» و«رائد»، بينما تبادل نظرات التحدي مع «بدر» الجالس قبالته حتى حمحم «بدر» متخابثًا وقال:

-أومال فين سراب يا جماعه؟ عايز أطمن عليها قبل ما أمشي.

رمقه «عمرو» رافعًا حاجبه بابتسامة بطيئة ذات مغزى، ثم قال بنبرة مستفزة:

-ما أنا قولتلك إنها كويسه، إنت اللي مصمم تضيع وقتك... يلا خليك منوّرنا.


ارتسمت على ملامح «بدر» ابتسامة هادئة قبل أن ينهض، فظنه «عمرو» أخيرًا قرر المغادرة، لكن فاجأه «بدر» بقوله:

-شوفلي الطريق كده يا عمرو، عايز أروح الحمام.


رمقه «عمرو» بنظرة متفحصة، وقال بضجر:

-هتروح الحمام عندنا ليه! ما تمشي وتروح في بيتك.


حدجه «رائد» بنظرة حادة، فنهض «عمرو» واقفًا دون كلمة قبل أن يشير لبدر ليتبعه...


وبينما يسير معه نحو المرحاض، انحنى «بدر» قليلًا وهمس بصوت خافت:

-جاوب بأمانه يا عمرو... بتحب سراب؟


طالعه «عمرو» بنظرة جانبية ثم أومأ بابتسامة صغيرة، وقال:

-بس مش عارف هي شيفاني ازاي!


-كلمها واعرض عليها الجواز وإن شاء الله توافق.

قالها بدر فوقف «عمرو» قبالته وقال بندم:

-أنا برده لسه مش متأكد من مشاعري ناحيتها، يمكن بحبها زي أختي... بس أنا اتسرعت أوي يا بدر، عرضت عليها الجواز من غير أي مقدمات! معرفش عملت كده ازاي! 


التفت له «بدر» بعينين واسعتين وقال بذهول:

-بتهزر؟


سرعان ما تلاشى ذهوله وابتسم بسعادة قائلًا:

-يعني هيبقى عندنا خطوبة قريب؟


قال «عمرو» بمرح:

-بس هي توافق ومش هنعزمك أصلًا...

-مش مهم، توافق بس وأنا هقف في بلكونتنا وأصقف.

قالها «بدر»بنبرة مرحة، بينما فتح «عمرو» باب المرحاض وأشار له قائلاً ببرود:

-ادخل ياخويا، وإن شاء الله نشوفلك عروسة عشان نرتاح منك، بدل ما إنت عامل زي الشوكة في الحلق كده.

ضحك «بدر» بخفوت قبل أن يقول بنبرة أكثر جدية، لكنها لا تخلو من المرح:

-عارف يا عمرو المشكلة فين؟ المشكلة إني بحبك، ولو بهدلتني كده ودوّختني، مش هحب غيرك.

نظر إليه «عمرو» بطرف عينيه وردّ بلا اهتمام ظاهري:

-تمام، حبّني لوحدي بقى، ومتقربش من الحاجات اللي تخصّني.

ارتسمت على شفتي «بدر» ابتسامة ذات مغزى، ثم قال فجأة بنبرة غير متوقعة:

-اطمن... وعايز أعترف لك باعتراف، أنا كمان ليا حاجات تخصني يعني قلبي مليان... وفيه حد تاني غير سراب، اطمن يا أخويا.

قالها «بدر» وهو يلكز عمرو بخفة، بينما اتسعت عينا «عمرو» قليلًا، وسرعان ما سأله بفضول لم يحاول إخفاءه:

-مين؟

تجاهل «بدر» سؤاله تمامًا وهمّ بدخول المرحاض، فجذبه «عمرو» من ذراعه، وهو يحدّق في وجهه بإصرار:

-الحاجه اللي تخصك دي من هنا ولا من القاهرة؟


عقد «بدر» ذراعيه أمام صدره وظلّ صامتًا، ازداد فضول «عمرو»، فردد:

-انطق يا هندسة.


ابتسم «بدر» بمكر وقال بنبرة متحدية:

-مش هقولك طبعًا... أوعى بقى، سيبني أدخل الحمام.

قالها ودخل ثم صفع الباب بوجه «عمرو» الذي وقف يتمتم بإصرار وهو يراقب الباب:

-أكيد هعرف يا بدر!


عاد «عمرو» للجلوس مع «رائد» و«عامر»، حيث كان التوتر لا يزال يخيّم على الأجواء، فالنقاش حول واقعة اختطاف عامر لم ينتهِ بعد. رائد لا يكف عن مطالبة عامر بإعادة سرد التفاصيل، ينصت له بتركيزٍ شديد، وكأنّه يحاول انتزاع أي خيط قد يقودهم إلى فهم ما يحدث.


تنهد «عامر» بعمق، ثم قال بصوتٍ مثقل بالقلق:

-أنا متأكد إن حسين هو اللي ورا كل ده... بس ليه؟


عقد «رائد» حاجبيه، يفكر للحظة قبل أن يجيب:

-يمكن عشان يضغط على تُقى وسراب... ويمكن بيخوفهم عشان يسلموه الحاجة اللي هما مش عارفين هي إيه أصلاً!


حرك «عامر» أصابعه بعصبية فوق الطاولة، ثم ضـ ـرب كفه عليها وقال بضيق:

-والله الموضوع ده شاغلني لدرجة إني مش قادر أركز... حتى الاختراع مش عارف أحط إيدي فيه!


ساد الصمت للحظات، بدا فيها الجميع غارقين في أفكارهم، حتى قرر «رائد» أن يخفف من حدة التوتر بطريقة غير متوقعة. التفت إليهما فجأة، وقال بنبرة ساخرة:

-حد فيكوا يروح يشوف الراجل اللي في الحمام ده، لا يكون محرج يخرج... بقاله جوه كتير!


ارتسمت على وجه «عمرو» ابتسامة جانبية، قبل أن ينهض متكاسلًا وهو يتمطّى قائلاً بخفة:

-حاضر، هروح له... أصل يكون اختفى هو كمان لا احنا بقينا جوه فيلم كوميدي.


قال عامر:

-كوميدي ايه دا أكشن خالص يابني.

وضحك الثلاث بخفوت...

بقلم آيه شاكر 

                       ***********

أعدّت «رغدة» العصير، ولم تكن تسمع أي أصوات بالخارج بسبب ضجيج الخلاط المرتفع...

تنفست بعمق، محاولةً كبح التوتر الذي كان يتغلغل في أوصالها. لم تكن ترغب في رؤية «بدر»، لكنها ستفعل... فقط لتُريه كيف يكون التجاهل الحقيقي. رفعت ذقنها بإصرار، والتقطت الأكواب بحركة ثابتة قبل أن تخرج بها نحو غرفة المعيشة...

وأثناء مرورها في الرواق، التقطت أذناها صوتَي جدّيها، دياب وضياء، يتحدثان بهدوء خلف أحد الأبواب المغلقة. لم تكن تنوي التوقف، لكن اسم والديها تسرّب وسط حديثهما، فجمدت قدماها في مكانهما، وبدأ قلبها بالخفقان أسرع.


ناشدها الفضول، كأنه قـ ـوة خفية تدفعها، فاقتربت أكثر ووضعت أذنها على الباب، تحاول التقاط الكلمات بوضوح.

-أنا عارف إنك رافض تجوز عمرو وعامر لرغدة ورحمة عشان غلطة أمهم وأبوهم زمان، بس افتكر إن صالح وريناد كانوا متجوزين عرفي! يعني متجوزين! والبنتين مالهمش ذنب يا دياب... مالهمش ذنب في غلطة أهلهم.

خُيّل إليها أن الأرض اهتزت تحت قدميها، واتسعت عيناها بصدمة، وكأن الكلمات اخترقت صدرها مثل طلقات مباغتة. ازدردت لعابها بصعوبة،تذكرت على الفور ما قالته لها رحمة عن نادر حين عيّرها بوالديها، لكن لم يخطر لها يومًا أن يكون الأمر حقيقي...


ضغطت بأذنها على الباب أكثر علّها تلتقط المزيد، لكن فجأة، اخترق صوت «عمرو» الحاد سمعها:

-بتعملي إيه يا رغدة؟

شهقت مرتعبة، كأن صوت السؤال اخترق عمق وعيها بغتة، وارتعشت يداها بعنـ ـف، فسقطت الصنية من يدها وتهشّمت الأكواب على الأرض، محطمـة الصمت بصريرها القاسي، تراجعت «رغدة» خطوة، وصرخة مذعورة انفلتت منها دون وعي!


في اللحظة ذاتها، انفتح باب الغرفة، وخرج منه «دياب» و«ضياء»، يتبادلان نظرات قلقة، بينما فُتح باب المرحاض أيضًا، ليخرج منه «بدر»، حاجباه معقودان بدهشة، ونظره يتنقل بين الوجوه المتوترة.

وعلى درجات السلم، ظهرت «شيرين»، تتبعها البقية، وكأن الجميع قد انجذب إلى مركز هذا الانفـ ـجار العاطفي.

أطبقت «رغدة» يدها على فمها، وعيناها تهيمان على وجوههم المصدومة، وكأنها تبحث عن نفي مستحيل.

تسارعت أنفاسها فجأة، قبل أن تنفلت الكلمات من شفتيها، متكسرة، لاهثة:

-أنا سمعت... يعني جابونا في الحرام، صح؟ وكـ... وكلّوا عارف؟ حتى نادر... نادر عاير بيها رحمه...

اهتز صوتها وهي تلفظ الجملة الأخيرة، كأنها تذوق مرارتها في حلقها، وكأن شيئًا داخليًا قد انكـ ـسر بلا رجعة.

تلمّعت عيناها بدموع تجمعت بسرعة، ثم انفـ ـجرت بغتة بصوت مرتجف، لكنه غاضب، كمن ينتزع كرامته وسط العاصفة:

-بس إحنا أصلًا مكناش هنوافق نتجوز عمرو وعامر!

رمقت الوجوه حولها بأنفاسٍ متقطعة، ونظراتٍ ضائعة، كأنها لا تزال تتوقع تكذيبًا لم يأتِ.

ثم استدارت فجأة نحو «بدر»، وعيناها الغارقتان بالدموع تومضان بانهيار كامل، صرخت تلومه بصوت موجوع:

-إنت هنا ليه؟! إنت مينفعش تكون هنا... بس ما هو كله عارف إعرف إنت كمان بقا!

اهتز جسدها بعـ ـنف، وغشيتها الدموع تمامًا، فاندفع «دياب» نحوها، يجذبها إليه محاولًا تهدئتها، لكنها كانت ترتجف بين يديه كعصفورٍ جريح.

ساد صمت ثقيل، ثقيل جدًا... كأن الهواء نفسه قد صار عبئًا يسحق الأنفاس.

في ركن آخر، ضمّت شيرين رحمة إلى صدرها، حين شهقت الأخيرة باكية، فقد وجدت الإجابة دون حتى أن تطرح السؤال...

خرجت «رغدة» من بين ذراعي «دياب»، وعيناها مسمّرتان على «ضياء»، نظرة عتاب مريرة كأنها تحمّله الذنب بأكمله.

قال ضياء، محاولًا الحفاظ على هدوئه رغم التوتر الذي ملأ الغرفة:

-إنتوا ملكوش دعوة بأمكوا وأبوكوا، أنا اللي مربيكوا وأنا...

قاطعته رغدة بضحكة ساخرة، امتزجت بأنين مكتوم، ومسحت دموعها سريعًا قبل أن تهوي بنظراتها عليه كنصل خنجر يغرس بلا رحمة:

-ما هو حضرتك اللي مربي بابا برضه... وتيتة داليا أختك اللي ربتنا هي اللي مربية ماما...

كلماتها كانت كالصفعة التي لم تُحدث صوتًا، لكنها زلزلت المكان...

صمت «ضياء» للحظة، فقط للحظة، قبل أن يشدّ قامته محاولًا استعادة سيطرته على الموقف.

أما «رغدة»، فابتسمت ابتسامة باهتة، كأنها تحارب رغبتها في الانهـ ـيار، ثم استدارت نحو «بدر» قائلة بتهكم موجع:

-أكيد بقا حضرتك يا مستر بدر اتأكدت إني فعلًا متربتش.

لم يرفع «بدر» بصره عن الأرض وكأنها لم تُحدثه، في حين تحرك «ضياء» نحوها بخطوات سريعة وقال بحدة:

-فوقي، واوعي للكلام اللي بتنطقيه.


مدّت «نداء» يدها تمسك بذراع «رغدة» بلطف، لكن الأخيرة أفلتت يدها بقـ ـوة وصاحت، من خلف عبراتها:

-كلكوا كنتوا عارفين ومخبين عليا! ليه؟ يمكن حتى الشارع كله عارف... وأنا وأختي اللي مغفّلين!


زمّ ضياء شفتيه، وفي عينيه تلاقت ألسنة الغضب بالكسر، قبل أن يقول بصرامة:

-محدش يعرف... بس إنتِ بصوتك العالي ده، إن شاء الله، هتعرفي الشارع كله.


مرة أخرى، حاولت نداء الإمساك بها، بينما سراب ربتت على ظهرها في محاولة لتهدئتها. هذه المرة، لم تقاوم رغدة، فقط انهارت بين ذراعي نداء، أنينها مكتوم في صدرها، لكن نظراتها زحفت نحو بدر، وقالت بصوت منكسر:

-بتتفرج على إيه؟! امشي... امشي يا مستر...


كان «بدر» واقفًا كتمثال، كأنه فقد القدرة على التنفس، على التفكير، على الاستيعاب... ثم، بلا كلمة واحدة، استدار وانسحب من المكان بخطوات متعثرة، وكأنه فقد القدرة على رؤية الطريق أمامه، تبعه عمرو وعامر، بينما بقي الجميع في صمت ثقيل.


مرت ثوانٍ ثقيلة، قبل أن يتحرك «ضياء»، ليجذب «رغدة» من ذراعها، ثم «رحمة» بالأخرى، واحتضنهما بقـ ـوة، كمن يحاول احتواء شرخ لا يُرمم.

لم يحاول إخفاء دموعه، بل تركها تنساب بحرارة على وجنتيه، وهو يتمتم بصوت متحشرج:

-أنا آسف... آسف إني معرفتش أربي أبوكوا... آسف ليكم يا بنات...


رفعت «رحمة» وجهها إليه، عيناها اللامعتان تعكسان كل الحب والأمان الذي غرسه في قلبها طوال حياتها. وبصوت مرتعش، همست:

-أنا بحبك أوي يا جدو... إنت أبونا، إحنا مطمنين وإنت جنبنا، ومش مهم أي حاجة تانية... عشان خاطري متزعلش من رغدة.


أما «رغدة»، فأفاقت من صدمتها على صوت نشيجه.

لم تفكر، لم تتردد، فقط انحنت تقبّل يده، وارتجفت شفتيها بين دموعها المتساقطة، وهي تهمس بصوت متهدّج:

-أنا آسفة... أنا آسفة يا جدو... والله آسفة...


لم يقل شيئًا. لم يكن بحاجة إلى ذلك. فقط شدّ على يدها بحنان.

مرّت دقائق، دقائق ثقيلة امتلأت بالأنفاس المتقطعة، قبل أن يخرج «ضياء» مع حفيدتيه، يحيطهما بذراعيه كدرع يحميهما من أوجاع العالم، كأنهما كل ما تبقى له ليحميه.


في الداخل...

جلست «شيرين» قرب زوجها، تربّت على صدره برفق، تحاول أن تمتص شيئًا من الثقل الذي جثم عليه بعد هذا المشهد العاصف. أنفاسه كانت بطيئة، كأنها تحمل على ظهرها أوزانًا من هموم الماضي والحاضر.


وفي الزاوية الأخرى، انحنت «تقى» و«نداء» تجمعان بقايا الأكواب المهشمة، شظايا متناثرة تعكس قلوبًا ممزقة... قلوبًا لن تُجمع بسهولة.


أما «سراب»، فظلت واقفة وحدها، عيناها تائهتان، تسترجع كلمات رغدة... وتتساءل كيف مرّ ذكر نادر، ولم يعلّق أحد؟!


                    على الصعيد الأخر

كان «رائد» بالشرفة يتابع «بدر»...

حيث كان يقف، مشدوهًا تحت أضواء الشارع الخافتة، في مهبّ المشاعر التي لم يفهمها بعد.


اقترب منه عامر وعمرو، يلهثان بعد أن نادياه مرارًا.

وقفا يتأملاه بصمت حتى قال «عمرو»:

-إنت أكيد مش زعلان إن رغدة كلمتك كده! دي عيلة يا عم.


هزّ بدر رأسه ببطء، كأنما يستوعب الفكرة ثم قال، بنبرة لم تخلُ من المرارة:

-مفيش حاجه.

تبادل عامر وعمرو النظرات قبل أن يربّت عمرو على كتف بدر قائلًا بابتسامة مطمئنة:

-أنا هجيبهالك بنفسي تعتذرلك يا بدر.

ابتلع «بدر» لعابه، خشي أن تفضحه نظراته، أن يُفضح ذاك الشعور الذي يجتاحه دون إذن.

فقال بسرعة، كمن يهرب من الموقف:

-أنا مش زعلان... أنا هطلع بقا، سايب جدي لوحده من بدري.

استدار بدر، تاركًا خلفه صخب الحديث، لكنه لم يستطع ترك الغصّة التي استقرت في حلقه.

لمَ أراد أن يبكي؟ لماذا شعر وكأن ضلعًا منه قد انكسر بغتة؟


وداخل شقته بعدما أغلق الباب...

رأى جده مستلقيًا على الأريكة، تغشاه سكينة النوم، لكن ملامحه كانت مثقلة بتعب السنين.

اقترب «بدر»، وانحنى ليوقظه بلطف، فانتفض الجد قليلًا قبل أن يستند عليه ليجلس، ثم سأله بصوت مبحوح:

-عملت إيه؟ اتكلمت مع سراب؟

ابتسم بدر، رغم كل شيء، وقال بهدوء:

-أيوه يا حبيبي... بس سيبك من الموضوع ده، قوم نام جوه وإن شاء الله بكرة نتكلم في كل حاجة.

سأل الجد:

-وملقتش الصورة؟

-لا والله يا جدو...

-ماشي يا بدر.

قالها الجد ونهض متأوهًا بوهن، فساعده بدر حتى غرفته، ثم عاد إلى الأريكة، حيث لا شيء سوى صدى الأحداث الأخيرة يتردد في رأسه.

أغمض عينيه قليلًا، لكن الصور تدفقت عليه كالسيل، رغدة وانهيارها، صراخها، نظراتها التي حملت أكثر مما نطقت به شفتيها... ثم، كأن الباب فُتح على ذاكرة أليمة، تذكر إخوته، والديه، والمواقف التي جعلته يشعر وكأن العالم يضيق عليه يومًا بعد يوم.

تذكّر الألم حين ضـ ـربه أخواه، وكيف انقض عليه اثنان وأبرحاه ضـ ـربًا دون رحمة... تردد الصدى في ذاكرته وفي جسده وفي صدره الضيق، تشنج فمه، فأطبق شفتيه بقـ ـوة محاولًا كتم شهقة متمردة أرادت الخروج.

نهض فجأة، وكأن المقعده صار جمرة تلسعه، تحرك بخطواتٍ مضطربة كأنما يهرب من شيء يطارده، لكن ما يطارده كان داخل رأسه وهي تلك الأفكار التي تضج داخله.

انزوى في ركن معتم بغرفته، حيث لا أحد سيرى هشاشته. التفت حوله، كأنه يتأكد من وحدته، وحين أدرك أنه وحيد تمامًا... باغتته دمعة ثقيلة.

لكن سرعان ما تماسك! شدّ فكه، وأجبر عينيه على الصمود. هو رجل! والرجل لا يبكي... أليس البكاء للنساء لأنهن ضعيفات، أما الرجال فأقوياء، قلوبهم صلبة كالفولاذ؟

لكن... 

البكاء يكون للنساء حين يولي الضغط ظهره للرجال، فيتراكم فوق أغصانهن وحدهن، بينما تُعلّق على أغصان الرجال سُحبٌ من غزل البنات الهش، تتلاشى عند أول نفخة ريح.

ضم «بدر» ساقيه إلى صدره، ونكس رأسه بينهما، وأطبق جفونه في محاولة يائسة للهدوء. لكن الضيق ظل يطوّقه، كدوامة لا مخرج منها.

 زفر ببطء، ومسح وجهه بكفه، ثم التقط هاتفه بتردد. راح يمرّ بين الأسماء، يتساءل مع من يتحدث؟ من يمكنه أن يحتمل ثقل ما بداخله؟

توقفت عيناه عند اسم يحيى... تردد للحظة، ثم ضغط على الرقم مرة واحدة، وانتظر، حتى جاءه الصوت على الطرف الآخر، دافئًا كعادته. جاهد ليبدو ثابتًا وهو يرد السلام، لكن صوته خانه، فخرج مبحوحًا:

-أنا محتاج أتكلم معاك يا شيخ يحيى.


-اتكلم يا غالي... صوتك مالُه؟

قالها يحيى بلهفة، فابتلع بدر غصته ثم تمتم بصوت متكسّر:

-مخنوق أوي يا شيخي.

لم يستطع أن يكمل... تصدّع جدار تماسكه فجأة، واندفع بكاؤه بلا استئذان...

شهقات قصيرة متتابعة، يحاول كبحها، ولكن حلقه كان يضيق أكثر، وكأن الهواء نفسه يرفض العبور.

ساد الصمت للحظات، لم يُسمع خلالها سوى أنفاس بدر المتحشرجة، حتى جاء صوت يحيى، هادئًا لكن يحمل مسحة قلق:

-وحد الله يا بدر... فيه إيه؟ متقلقنيش عليك؟

حاول «بدر» استجماع نفسه، أخذ نفسًا مرتعشًا، ثم راح يروي ليحيى ما فعلته رغدة.

كان يتحدث بسرعة أحيانًا، ويتوقف فجأة أحيانًا أخرى، وكأنه يترنح بين الانفعال والتردد.

وحين انتهى، جاءه صوت يحيى، لا يزال هادئًا، لكن فيه نبرة حسم هذه المرة:

-يعني اللي مزعلك إيه؟ إن رغدة كلمتك بطريقة مش لطيفة، ولا عشان كانت بتعيط ومنهارة؟ أنا لسه مش فاهم إنت عايز تقول إيه يا بدر!

سرت في جسد «بدر» قشعريرة باردة، كأن الكلمات اخترقته إلى موضع الألم مباشرة، مسح وجهه بارتباك، أدرك أنه انكشف... أن يحيى لم يسمع كلماته فقط، بل قرأ ما خلفها.

ازدرد لعابه بصعوبة، والحرج يتسلل إلى صوته وهو يتلعثم:

-دا... دا أنا افتكرت إخواتي يا شيخ، هو دا اللي وجعني وهزّني من جوايا... ادعيلي بالله عليك.

أطلق «يحيى» تنهيدة طويلة، وكأنه يرى ما لا يقال، ويفهم أكثر مما يُحكى، وقال:

-بدعيلك والله يا بدر... خلاص، هنتظرك بكرة ونتكلم أكتر، ونشوف علاج للموضوع ده.

حاول «بدر» أن يستعيد توازنه، حمحم بصوت منخفض، وقال بارتباك:

-خلاص، أنا... مفيش حاجة نتكلم فيها تاني... أنا كنت بفضفض معاك مش أكتر...

سرعان ما أغلق «بدر» المكالمة، كأنه يهرب من مواجهة أخرى.

أسند رأسه إلى كفه، وضغط شفتيه بين أسنانه باضطراب، بينما كانت الحقيقة جاثمة أمامه الآن... لقد كُشف أمره.

داهمته الأفكار لذا نهض مسرعًا ليصلي ويشتكي لله، ولم تتغير دعواه الثابتة:

"اللهم لا تفتني..."

وبعدما انتهى من الصلاة نظر لأعلى وقال:

-يارب... يارب أنت الأعلم بما يختلج به صدري...

بقلم آيه شاكر 

                      ★★★★

حين دخل «عمرو» و«عامر» إلى البيت، اقتربت «سراب» منهما بخطوات متوترة، متجنبة النظر إلى «عمرو»، ووجهت حديثها مباشرة إلى عامر، وعيناها تلمعان بالقلق:

-عامر! هو إزاي محدش علق على اللي رغدة قالته عن نادر؟


قال«عامر»بخفوت، وكأنه يحاول تصديق كلماته بنفسه:

-يمكن محدش خد باله!

أطرقت «سراب» للحظة، ثم رفعت رأسها وقالت بقلق متزايد:

-أنا حاسة إن رغدة هتحكي لجدها كل حاجة.


تدخل «عمرو» فجأة، بصوت بارد خالٍ من الاهتمام:

-متحكيله إيه المشكلة؟ نادر أصلًا غلط في حق رحمة.

التفتت إليه «سراب» بسرعة، وعيناها تضيقان بحدة، وقالت بنبرة لم تخلُ من الاتهام:

-بس رجع وتاب.


هز عمرو كتفيه بلا مبالاة، ورد بنبرة متجمدة:

-الله أعلم.


ضيّقت سراب عينيها أكثر، ورفعت حاجبها، وقالت بإصرار مغلّف بالحدة:

-لا تاب يا عمرو... إنت اللي بتشك في صوابع رجلك أصلًا... يعني عصبي وشكاك!


رفع «عمرو» حاجبيه بسخرية، وهو يرد بلهجة لا تقل تهكمًا:

-شوف مين اللي بيتكلم! ده على أساس إنك مش عصبية؟ ده أنا كل يومين بجري وراكِ أهديكِ.

عقدت «سراب» ذراعيها أمام صدرها، وحدّقت فيه بإصرار وهي ترد بسخرية مماثلة:

-أنا اللي لسه مهدياك امبارح على فكرة، ولولا أنا مكنتش هتحضر كتب كتاب أخوك.

ارتسمت ابتسامة ساخرة على زاوية فم «عمرو»، وقال بصوت متهكم:

-مش عارف أودي جمايلك فين الصراحة.

شعرت «سراب» بالغليان، فهتفت غاضبة:

-إنت مستفز أوي بجد!


رفع حاجبيه بخبث، وقلد نبرتها بسخرية مستفزة:

-والله من بعض ما عندك بجد!


ارتفع صوتها أكثر، لكن قبل أن يتطور الجدال، جاء صوت والده الحاد:

-بس يا عمرو...

التفت إليه، بينما جذبه «عامر» بعيدًا، وكأنّه ينقذه من بركان يوشك على الانفـ ـجار.

زفرت «سراب» بضجر، متجاهلة النبض المتسارع في صدرها، وغمغمت بصوت مشحون بالانفعال، كأنها تحاول كتم غضبها:

-إيه ده! إنسان مستفز بجد.

لم تحتمل البقاء لحظة أخرى، فاستأذنت على عجل، ثم استدارت تغادر البيت، تتبعها تُقى، التي خرج عامر معها أيضًا، وكأنّه شعر بحاجتها لمن يسير بجانبها، دون أن تنطق بذلك.

في الداخل، كان دياب يراقب المشهد بعينين ضيقتين قبل أن ينادي بصوتٍ جاد:

-عمرو!

اقترب عمرو وجلس قبالته، يترقب توبيخًا لم يتأخر. زمجر والده بحدة، نبرته مشبعة بنفاد الصبر:

-هو إنت مش هتعقل بقى؟! البنت كانت في حاله ما يعلم بيها إلا ربنا الصبح، وإنت بتجر شكلها؟


فتح عمرو فمه ليرد، محاولًا التبرير:

-يا بابا، أنا...


لكن «دياب» لم يمنحه فرصة، شوح بيده بقـ ـوة وهو يقاطعه بخشونة:

-اسكت! بلا بابا بلا بتاع... قوم من قدامي!


ارتبك «عمرو» للحظة، وكأن الكلمات صفعت روحه قبل أن تهبط على أذنيه، لكنه نهض على الفور ودخل غرفته، يغلق الباب خلفه بصمتٍ أثقل من أي ضجيج.

جلس على مقعده، وراح صدى كلمات والده يتردد في رأسه، وكأنها أيقظت شيئًا غافلًا داخله... تساءل في مرارة، وهو يمرر يده على وجهه المرهق...

لماذا يفقد أعصابه أمام سراب بهذه السرعة؟ كيف تشتعل نيرانه لمجرد كلمة منها؟!

أغمض عينيه، فاندفعت الذكريات إلى ذهنه كطوفان... تذكر كيف نطق بطلب الزواج منها دون تفكير، كيف فاجأها قبل أن يفاجئ نفسه.

ضغط على صدغه بقـ ـوة وهو يهمس لنفسه في ضيق:

كيف له أن يعيش معها؟ مع فتاة تُشعل أعصابه قبل مشاعره؟!

                   ومن ناحية أخرى

كانت «سراب» تخطو مسرعة، تحاول الهرب من دوامة الأفكار التي لا تكفّ عن الدوران في رأسها، وحين التفتت قليلًا، وجدت «عامر» و«تقى» يسيران جوار بعضهما، خطواتهما متقاربة، وحديثهما الخافت بالكاد يصل إليها.

كان الضيق يتصاعد داخلها كدخان كثيف يخنق أنفاسها.

كيف ستتزوج هذا المستفز؟

تذكرت حين عرض عليها الزواج بصوت رخيم ونظرات دافئة... 

أي تناقض هذا؟ يعرض الزواج، ثم بعد قليل يشعل فتيل الشجار بنفسه!

ضغطت شفتيها بقـ ـوة، وصعدت السلم...

 يبدو أن هذا الرجل لن يكفّ عن إرباكها.

بعدما دخلت شقتها، تركت «عامر» و«تقى» يجلسان في الردهة، بينما اتجهت هي مباشرة إلى غرفتها.


أغلقت الباب خلفها، وأسندت ظهرها إليه للحظة، ثم زفرت بعمق وأخرجت هاتفها، فتحت المحادثة مع «عمرو»، وبدأت في كتابة رسالة... رسالة تضع حدًا لكل شيء. ترفضه وتُنهي الأمر بلا رجعة.

لكن...

توقفت أصابعها فوق الشاشة، نظرت إلى الكلمات المكتوبة، ثم تنهدت بحيرة، ومسحتها دفعة واحدة.

ألقت الهاتف جانبًا، واستلقت على فراشها، وعيناها مثبتتان على السقف، وأنفاسها متثاقلة.

 نفخت بضجر، ثم وضعت يدها على صدرها، كأنها تحاول مخاطبة قلبها الهائج:

-وبرغم كل ده... برده بتختاره؟! هتعيش معاه إزاي؟

لم تجد إجابة، فقط شعرت بحرارة الدموع تتسلل إلى وجنتيها في صمت...

أغلقت جفونها بإحكام، وأخذت تتنفس بعمق، تحاول تهدئة اضطرابها.

وفي همس بالكاد سمعته هي نفسها، غمغمت:

-أنا ليه بحبه؟

مرت لحظات ثقيلة قبل أن يُفتح الباب بهدوء، وتدخل «تقى».

تظاهرت «سراب» بالنوم كي لا تفتح معها «تقى» أي حديث، فأغلقت جفونها آملة أن يمنحها الظلام بعض الهدوء الذي تعجز عن العثور عليه.

صلوا على خير الأنام ❤️ 

                ★★★★★

مرّت عدة أيام، لم يرَ «بدر» فيها «رغدة» منذ لقائهما الأخير، لكن طيفها لم يفارقه لحظة.

كانت حاضرة في ذهنه، تسكن أفكاره بين الانشغال بها والقلق عليها.

وفي ذلك المساء، وبعد صلاة المغرب، حيث تحوّل الشفق الأحمر إلى زرقة باهتة، ثم إلى ظلام عميق، كأن الليل يمدّ رداءه على الأرض بحنوّ، بينما أضواء المصابيح الخافتة بدأت تتوهج، تقاوم العتمة لكنها لا تبددها تمامًا.

جلس «بدر» في المسجد يتلو القرآن على «يحيى»، لكنه كان يتتعتع على غير عادته، وكأن عقله عالق في مكان آخر. تردد في الآيات، وتلعثمت حروفه، حتى أغلق يحيى المصحف ونظر إليه متفحصًا قبل أن يقول:

-حسبُك... كفاية... إيه يا بدر، مالك؟

مسح بدر وجهه بكلتا يديه، زفر ببطء وقال بصوتٍ مضطرب:

-والله حافظ يا شيخ... بس مش عارف مالي...

-إنت مشغول بإيه؟

ازدرد «بدر» لعابه وأطرق للحظات، وكأنه يبحث عن كلمات مناسبة، قبل أن يتمتم بتردد:

-هو أصل... يعني... جدي زعلان شوية... ضاعت منه صورة مهمّة، وأنا بفكر فيه.


رفع «يحيى» حاجبًا وهو يتأمله بنظرة مريبة، وقد لاحظ شروده والتوتر الذي تسلل إلى صوته، ثم افتر ثغره عن ابتسامة ماكرة وقال:

-يا راجل! بقا دا اللي شاغلك؟

أومأ «بدر» بسرعة، لكنه لم يرفع عينيه.


 زفر «يحيى» متفهمًا، أسند ظهره إلى الجدار وقال بنبرة هادئة:

-بص يا بدر، أنا زمان كنت بحب وئام جدًا، لكن مكنش عندي أي إمكانيات أتقدملها. حاولت كتير أطلعها من قلبي، كنت بغض بصري عنها وأتجنب وجودي معاها... كنت بتعفف عنها، خاصة إنها أخت صاحبي. لكن ربنا كتب لنا النصيب واتجوزنا... الخلاصة يا بدر؟ يا تتجوز يا تتعفف.

ارتجف جفن «بدر»، أيقن أنه كُشف تمامًا، فلا فائدة من المراوغة.

مال قليلًا ناحية «يحيى» وهمس بصراحة:

-أنا مش عارف أعمل إيه! دي صغيرة أوي يا شيخ، يعني على الأقل لازم أستناها تلت سنين.


هزّ «يحيى» رأسه قائلاً بثقة:

-لا تلت سنين ولا حاجة... عمّك ضياء كان عايز يجوزهم لعمرو وعامر، يعني لو اتقدمت هيوافق... ولو عايزني أشوفلك الدنيا، أنا جاهز.


انعقد حاجبا «بدر» وهو يتأمل وجه «يحيى»، يبحث عن أي تلميحٍ للمزاح، لكنه لم يجد سوى الصدق. عضّ على شفته وهو يفكر، ثم قال باندفاع:

-بتتكلم بجد يا شيخ؟


ضحك «يحيى» قائلاً:

-وأنا ههزر معاك ليه؟ هو إحنا من سن بعض؟


لم يتمالك «بدر» نفسه، فجذب يد «يحيى» بحماسة وقال بإصرار:

-إيدك أبوسها!


قهقه «يحيى» وهو يسحب يده سريعًا:

-إوعى يله... قوم! قوم امشي!


نهض «يحيى»، فهبّ «بدر» واقفًا وقال بجدية:

-طيب، هرد عليك الليلة أو بكرة، بس متتكلمش إلا لما أقولك.

ابتسم «يحيى» وربّت على كتفه قائلاً:

-ماشي يا غالي.

ثم استدار ليغادر، تاركًا بدر غارقًا في أفكاره، وعيناه تلمعان بحيرة وأمل.

سار «بدر» في الطريق، متهلل الأسارير، وكأن الدنيا بأكملها أصبحت أخف على كتفيه.

لمحته «سعيدة» من بعيد، فابتسمت بمكر وأشارت إليه قائلة:

-إيه يا متواضع، كنت بتعمل إيه في المسجد لحد دلوقتي؟

نظر إليها مبتسمًا وقال:

-كنت مع الشيخ يحيى.

وقبل أن تكمل فضولها المعتاد، تذكر «بدر» فجأة صورة جده المفقودة. ربما تكون «سعيدة» قد رأتها؛ فهي لا يخفى عليها شيء مما يدور في الشارع. اعتدل في وقفته وقال:

-سيبك مني يا خالة سعيدة، مشفتيش صورة كان فيها ست لابسة طرحة سودة؟


ضيّقت عينيها بفضول وقالت:

-ليه؟

أدرك «بدر» أنها لن تهدأ قبل معرفتها أصل الحكاية، فزفر بخفة وقال:

-دي صورة طليقة جدي اللي بيدور عليها.


شهقت سعيدة، واتسعت عيناها وهي تتذكر همس شيرين قبل أيام:

"دي صورة أمي! بس معتقدش إني عندي صورة زي دي..."

لكنها تماسكت، ولم تُظهر شيئًا مما دار في عقلها، بل ابتلعت كلماتها بصمت، وقررت ألا تتسرع حتى تتأكد بنفسها وتعرف أصل القصة كاملة.

راقبها «بدر» بريبة، لاحظ لحظة التوتر في ملامحها، فتح فمه ليسألها، لكن قبل أن ينطق، لاحت «رغدة» وهي تدخل مع «رحمة» للبيت، فاغتنمت سعيدة الفرصة لتغيير الموضوع هامسة:

-البت رغدة دي خسارة والله... عامر خسر كتير أوي... دي طلعت الأولى على المحافظة السنة دي! يعني لو كان خطبها، مش كانت أحسن من تُقى؟


استدار «بدر» نحوها ببطء، وحدجها بنظرة حادة جعلت الكلمات تتجمد في حلقها. لم يقل شيئًا، فقط أدار ظهره وانصرف، بينما علّقت سعيدة بصوتٍ خافت:

-آه يا متكبر...

استغفروا 🌸 

                      ★★★★

وقفت «سراب» بشرفتها بينما امتلأ الشارع بصيحات الأطفال وهم يركلون الكرة بحماس، تراقبهم أعين الجيران من الشرفات بين ابتسامة وضحكة خافتة.


وقفت تحدق بالشرفة قبالتها شارده فعمرو لم يُحدثها مرة أخرى كان بينهما جدارٌ غير مرئيٍّ من الجفاء. 

لم تدرك أن برودها وجمودها، جعله يوقن أنها لا تريده زوجًا، بينما هي تنتظر منه خطوةً أخرى... خطوة تجعلها تفكر في الأمر بجدية.


انتبهت حين تسللت سيارة «نادر» إلى الشارع وتوقفت قبالة بيت دياب، وحين ترجل منها، تدحرجت الكرة حتى استقرت عند قدميه، كأنها تناديه.

انحنى قليلًا والتقطها، ثم رفع رأسه إلى الشرفة حيث ظهر «عمرو» قبل لحظات حين سمع صوت السيارة تتوقف قبالة البيت، وقف مستندًا إلى الدرابزين، فقال «نادر» بصوت يحمل دعوة غير مباشرة:

-تنزل؟

افتر ثغر «عمرو» عن ابتسامة صغيرة، وقال دون تردد:

-أنزل طبعًا.

وفي لحظة، كان يقف قبالته، ثم لم يلبث أن انضم إليهما «بدر» و«عامر»، فتوزعوا في فريقين وأخذوا يلعبون مع الأطفال، يركضون، يضحكون، يتقاذفون الكرة كأنهم عادوا صغارًا إلى زمنٍ لم تكن فيه الحياة تضـ ـربهم بسياطها.

وقفت «سراب» تراقبهم، يحملها دفء لم تدرك كم افتقدته حتى هذه اللحظة. وكأنها عادت طفلة صغيرة، تراقب عمرو وعامر ونادر وهم يتقاذفون الكرة بحماس، بينما تُقى تهتف بحماس تشجع عامر، وهي تجلس وحدها في ركن بعيد، تمشط شعر دميتها وتزينها بمساحيق التجميل، حتى يأتي عمرو ويعبث بها مستفزًا، فتطارده بغضب طفولي...

انتبهت إلى صوت ضحكة «عمرو»العالية وهو يلتفت إلى «بدر» ساخرًا:

-إنت مبتعرفش تلعب أصلًا، أهو دخلوا فينا جون!

رمقه «بدر» بضيق وردّ بنزق:

-إنت اللي مبتعرفش تلعب!

ضحك «عامر» بمرح وهو يرفع حاجبيه بمكر:

-إنتوا الاتنين مبتعرفوش تلعبوا أصلًا...

ثم باغتهم بدفعة مفاجئة للكرة، لتدخل المرمى. قفز عامر فرحًا وصاح بانتصار:

-وجوووون!

على مقربة من سراب في الشرفة، كان «تُقى» و«البدري» يراقبان المشهد ببسمة دافئة، تعكس فخرًا خالصًا.

هتف «البدري» بحماسة، وصوته يفيض بالاعتزاز:

-الله عليك يا عامر! مشرفنا ورافع راسنا.

رفع «عامر» يديه بانتصار، بينما أخذت «سراب» نفسًا عميقًا، كأنها تسمح للطمأنينة بأن تتغلغل في صدرها لأول مرة منذ زمن.

شعرت أن الخوف بدأ يتلاشى، أن الأيام قد تصالحها أخيرًا. همست لنفسها، والرجاء يلون أفكارها:

"ربما بدأت الحياة تهدأ أخيرًا... حسين لم يظهر منذ فترة. ربما... ربما تزهر حياتنا من جديد، وننسى طيف الماضي إلى الأبد..."

لكنها لم تكن تعلم أن هذا لم يكن سوى الهدوء الذي يسبق العاصفة.

★★★★★

دلفت «رحمة» و«رغدة» إلى المنزل، عائدتين من درس القرآن.

ما إن وضعتا أقدامهما داخله حتى ألقت «رغدة» السلام على جدها، ثم كادت تتجه إلى غرفتها لولا أن استوقفها صوته الجاد:

-استني يا رغدة... اقعدي، عايزك.

تبادلت نظراتٍ صامتة مع «رحمة» قبل أن تخطو نحو جدها ببطء، وجلست قبالته، فيما أشار «ضياء» «لرحمة»أن تنصرف.

بقيت الأخيرة مترددة للحظة، لكنها أطاعت، تاركة خلفها توترًا لم تستطع إخفاءه.

انحنى «ضياء» قليلًا نحو «رغدة»، وعيناه تنقبان عن الحقيقة في ملامحها، قبل أن يهمس بصوت منخفض لكنه نافذ:

-أنا عرفت كل حاجة... بس عايز أسمع منك إنتِ. احكي، نادر عمل إيه مع رحمة؟

شعرت «رغدة» بوخزة قلق، لكنها سرعان ما تنفست براحة، فقد ظنت في البداية أنه يتحدث عن أمرها هي مع بدر.

ابتلعت ريقها بتوتر، واندفعت تقول:

-والله يا جدو، رحمة كانت بتحبه، وهو اللي ضحك عليها، ولما راحت معاه الشقه كانت واثقة فيه...

انتفض ضياء كأن سهمًا أصابه، حدقت عيناه بها بصدمة وهو يردد بذهول:

-راحت معاه شقته؟!

أدركت «رغدة» حجم زلتها فورًا، عضت لسانها، لكن الأوان كان قد فات.

 اتسعت عينا جدها، وصوته اكتسى بصرامة لا تحتمل وهو يقول:

-احكي.

انحبست الكلمات في حلقها، لكنها أيقنت أنها وقعت في فخه، لا مهرب الآن...

بدأت تحكي بنبرة مرتعشة، تحاول انتقاء كلماتها، لكن الحقيقة كانت أكبر من أن تُدارى.

ومع كل كلمة تنطقها، كانت ملامح ضياء تزداد حدة حتى لم يعد قادرًا على الجلوس.

هبّ واقفًا بغضب مكتوم، واتجه بخطوات ثابتة نحو غرفة «رحمة»، حيث كانت تجلس. فتح الباب دفعة واحدة وقال بحدةٍ هزت جدران الغرفة:

-بتروحي لنادر شقته ليه يا رحمة؟!

شهقت «رحمة»، ورفعت عينيها إلى «رغدة» التي وقفت عند الباب، ترمقها بنظرة نارية، وكأنها تلقى عليها اللوم.

ضغطت أسنانها قبل أن تهتف بانفعال:

-هي اللي قالتلك؟!


لم يكن ضياء في حالة تسمح بالجدال، صوته ارتفع بغضب جارف:

-ردي عليا يا رحمة!!!

جفلت كلتاهما من حدة نبرته، وارتعشت أنفاس رحمة قبل أن تهز رأسها بعنف، تهرب من نظراته وهي تقول بصوت مرتجف، لكن مليء بالتحدي:

-مش لوحدي... ما هي رغدة كمان راحت لمستر بدر وقالت له إنها بتحبه...

ساد صمت ثقيل، قبل أن يضيق «ضياء» عينيه، ينقل بصره بينهما، ونظراته تشي أن هذه الليلة لن تمر بسلام.


استدار «ضياء» يطالع «رغدة» بصدمة، وكأن كلمات «رحمة» صفعته أكثر من مرة.

أطرقت «رغدة» رأسها بخزي، ثم رفعت عينيها إليه سريعًا تحاول تبرير موقفها بصوت متوتر:

-بس أنا روحت واعتذرت له تاني، والله يا جدو!


لم يعلّق ضياء، فقط زفر بغضب ونادى على زوجته التي حضرت على الفور، القلق واضح في ملامحها وهي تسأل بلهفة:

-في إيه؟

لم يحتج ضياء إلا للحظات قبل أن يطلق كلماته بمرارة:

-أثبتولي إني فعلًا مبعرفش أربي... واحدة راحت لنادر شقته، والتانية راحت لبدر وقالتله بحبك!


صك كفيه معًا فانتفضت رغدة، ونطقت بسرعة وهي تنظر إلى جدتها بانفعال:

-أنا مقولتش كده!

لم يكن «ضياء» في حالة تسمح له بسماع التبريرات. حرك يديه بعصبية، وقال بنرة قاطعة لا تحتمل النقاش:

-تلمّوا هدومكوا، عشان تروحوا عند جدتكم داليا... ملكوش قعدة في بيتي!

-لا يا جدو!

صرختا بها معًا، واندفعتا نحوه تتوسلان، لكن وجهه كان جامدًا، وعيناه لا تحملان سوى الحزم. ردّ بصوت صارم، لا مجال فيه للتراجع:

-هروح أصلي العشا، وأرجع ألاقيكم لمّيتوا حاجتكم...


ثم استدار وغادر البيت بعصبية، صافعًا الباب خلفه بقـ ـوة، متجاهلًا نداءات زوجته، وتوسلات رغدة ورحمة، بل حتى بكاءهما الذي تصاعد كأنما يحاول كسر القرار الذي بدا أقسى من أن يُحتمل.


               ومن ناحية أخرى

جلس الشباب على الأرض، أنفاسهم تتلاحق، وقطرات العرق تنزلق على جباههم. كان الضحك لا يزال يتردد بينهم، خفيفًا، هادئًا، كأنهم تذوقوا للحظة طعم البراءة التي سرقتها منهم الأيام.


كان «عمرو» يتحدث مع «نادر» بأريحية، وكأن شيئًا لم يكن، وكأن المشاجرات التي مزقت علاقتهما لم تترك في القلب ندوبًا.

رفع «عمرو» رأسه حيث سراب ورمقها بنظرة خاطفة فدخلت «سراب» من الشرفة وتبعها البدري وتقى...


بينما التفت عمرو حوله ليلاحظ نظرات «بدر» المتفهمة ثم همسه جوار أذنه:

-هو إنت غبـ ـي يا عمرو؟

-عايز ايه يا بدر؟

-إنت يا حبيبي عامل زي اللي رمى الصناره في البحر وغمزت لكنه مسحبهاش ومستني السمكه تطلع...


حدق «عمرو» أمامه للحظات، وقبل أن يتحدث مرة أخرى لاحظ اقتراب «ضياء» منهم بخطوات واسعة لكنها مضطربة، وكأن الأرض تضيق تحت قدميه. عيناه كانتا مسمرتين على «نادر»، تموجان بالغضب والقهر.

-نادر!

علا صوته الحاد، فانتفض «نادر» واقفًا على الفور. مد يده ليصافحه، لكن «ضياء» لم يتحرك، فقط ثبت عينيه في عينيه وقال بجفاء حاد:

-تصدق وتأمن بالله... إنت إنسان مشافش تربية، وأنا ليا كلام تاني مع أبوك.

تشنج فك «نادر»، لكن قبل أن ينطق، رفع «ضياء» سبابته في وجهه محذرًا:

-إن قربت من رحمة تاني، أنا مش هسمي عليك.


تحرك «عامر»، وكأن صدمة اللحظة دفعته لمحاولة التبرير، فقال بسرعة:

-يا عمي، نادر معملش حاجة، هو اللي أنقذ رحمة من حد عملها فيديو و...

رفع «ضياء» يده قاطعًا إياه بحدة جعلته يبتلع بقية كلامه، وقال:

-اسكت يا عامر! إنتوا كمان كنتوا عارفين باللي حصل ومخبيين عليا؟! 

التفت «ضياء» إلى «نادر»، وعيناه تزدادان اشتعالًا، وصوته ينخفض لكن نبرته صارت أشد وقعًا:

-بقولك أهو يا نادر، أحفادي خط أحمر!

-أنا...

قالها «نادر» ولكن لم يمنحه «ضياء» فرصة، هدر بصوت حمل كل الغضب والاحتقار المتراكم داخله:

-مش عايز تبرير! إوعى تكون فاكر إني مصدق حكاية التوبة دي! إنت بس ملقتش مكان في التمثيل، فقولت تجرب تسلك مسلك الدين، لكن حتى ده مش هينفعك... لأنك و**سخ.

وقعت الكلمة حادة على مسمع «نادر» حتى شعر وكأنها مزقت شيئًا داخله، لكنه لم يقل شيئًا. فقط أطبق على قبضتيه، وطاف بنظراته على وجوههم جميعًا قبل أن يستدير فجأة، وينصرف بخطوات سريعة، والنداءات تلاحقه.


استدار «ضياء» وحدّق في «بدر» بنظرة حادة اخترقت أعماقه، لكن «بدر» تظاهر بعدم الإنتباه، وأدار وجهه سريعًا قبل أن يركض خلف «نادر»، متحاشيًا أي جدال قد يورطه...

صعد إلى جواره بصمت ثقيل، واستقر في مقعده دون أن ينبس بكلمة، قبل أن تنطلق السيارة مغادرة الشارع، تاركة خلفها توترًا غير مرئي.

نظر ضياء لعمرو وعامر وقال بحدة:

-أنا ليا كلام تاني مع أبوكوا!

ثم غادر «ضياء» مترنحًا في خطواته، وكأن قدميه لم تعودا قادرتين على حمله.

لم يكن عمرو وعامر قد استوعبا ما حدث بعد، لكن قبل أن ينبسا بكلمة، توقفت أمامهما سيارة أخرى، انفتح بابها ليترجل منها حسين.

وقف للحظة، رفع رأسه ببطء نحو شرفة سراب وتقى، وعيناه تضيقان بصمت، ثم دون أن ينطق، بدأ في صعود الدرج بخطوات واثقة.

تبادل «عمرو» و«عامر» النظرات، إدراك صامت مرّ بينهما، قبل أن ينطلقا خلفه مهرولين.

                  وعلى نحوٍ أخر

وقفت «رحمة» بالشرفة، عيناها تتابعان ما يجري في الشارع بالأسفل، بينما وقفت «رغدة» إلى جوارها، تتبادل معها نظراتٍ متوترة تخللها عتاب صامت.

ازدادت ضربات قلبها اضطرابًا حين رأت جدها يقترب من «نادر» بخطواتٍ غاضبة، وكأن العاصفة على وشك أن تشتعل.

لم تفكر طويلًا، لم تنتظر إذنًا أو تسأل أحدًا. استدارت فجأة واندفعت خارج المنزل، تتبعها «رغدة» التي لم تجد وقتًا للتفكير، فقط لحقت بها، تسألها بنبرةٍ مرتعشة وهي تلهث خلفها:

-رايحة فين؟

-اصبري.

قالتها «رحمة» بحدةٍ مقتضبة دون أن تبطئ من خطواتها. توقفتا عند رأس الشارع، وراحت رحمة تشرئب برأسها، عيناها تمسحان الطريق وكأنها تنتظر شيئًا أو أحدًا، بينما ظلت رغدة تراقبها بقلق، تتأرجح بين الحيرة والريبة.

فجأة، خرجت سيارة «نادر» من الشارع، فرفعت رحمة يدها بإشارةٍ حازمة ليوقف السيارة.

انتفضت «رغدة» وقد تسارعت أنفاسها، وهمست بذهول:

-إنتِ بتعملي إيه؟

لكن «رحمة» لم تلتفت، ولم تجب. ظلت ثابتةً حتى توقفت السيارة وارتجل «نادر» منها، وقبل أن تفتح فمها بالكلام، انفتح الباب الآخر للسيارة، وخرج بدر.

شعرت «رغدة» بتيارٍ بارد يسري في أوصالها، وارتعشت أناملها وهي تتابع المشهد، قبل أن تغمغم بذهولٍ وامتعاض:

-منك لله يا رحمة...

سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم 🌸 

                    ★★★★★★

جلس «البدري» قبالة «سراب»، يرمقها بين حين وآخر، وكأن الكلمات تتزاحم على طرف لسانه، تنتظر لحظة الإفلات. لاحظت نظراته، لكنّها تظاهرت بالانشغال بهاتفها، وكأنها لم ترَ شيئًا. هي تعرف تمامًا ما يريد قوله... حتمًا سيتحدث عن بدر، عن إصرارها الذي لا يفهمه أحد على رفض الزواج منه.


تنحنح قليلًا قبل أن ينطق باسمها بصوت هادئ، لكنه كان يحمل بين طياته شيئًا آخر، مكرًا خفيًا أو إلحاحًا متوارياً خلف الهدوء:

-سراب!

ارتفع حاجباها قليلًا وهي ترفع عينيها نحوه، ملامحها متحفّزة، مستعدّة لمواجهة هذا الحديث الذي باتت تمقته. أما هو، فابتلع ريقه قبل أن يردف بنبرة حملت نوعًا من المناورة:

-بدر بيحبك وشاريكِ، أنا اتكلمت معاه وعرفت اللي جواه... هو بس مش عايز يضغط عليكِ.

تجمّدت أنفاسها للحظة، باغتتها كلماته، فلم تجد ردًّا سريعًا. لم تتخيّل أن يكون لبدر مشاعر نحوها، لم يسبق أن فكّرت في الأمر أصلاً! شعرت بثقل غريب في صدرها، لكنها هزّت رأسها سريعًا، وكأنها تطرد الفكرة قبل أن تتسلل إليها، ثم قالت بصوت صارم:

-الموضوع ده انتهى يا جدو، أنا بعتبره أخويا، وحتى لو بيحبني، مش هغيّر رأيي... وياريت كفاية بقى، متتكلمش معايا في الموضوع ده تاني.


تغيّر وجه «البدري» في لحظة، تصلّبت ملامحه، وتحوّلت نبرته من الهدوء إلى حدّة لم تألفها منه من قبل:

-إنتِ دماغك ناشفة، ومتعبة! أنا جبت آخري منك!


نهض فجأة، بحركة مباغتة كصفعة هواء باردة، ثم أضاف بغضب مكبوت بالكاد يسيطر عليه:

-أنا طالع فوق! ومش هتكلم معاكِ تاني، لا في الموضوع ده ولا في غيره!

استدار بعنـ ـف، وخطاه المتسارعة تهزّ الأرض تحته، فتحت «سراب» فمها لتتحدث، لتطلب منه أن يهدأ، لكن الغضب استحوذ عليه تمامًا. كادت تلحق به، لكنه سبقها نحو الباب...

فوقفت «تقى» أمام الباب لتمنعه من الخروج...

وفي تلك اللحظة... قُرع الجرس.

استغفروا🌸

بقلم آيه شاكر 

                       ★★★★★

منذ أن سأل «بدر» «سعيدة» عن الصورة، وهي شاردة تحاول ربط الخيوط في رأسها...

قادها فضولها فقررت زيارة «شيرين» طرقت الباب وانتظرت، وحين فتحت الأخيرة، استقبلتها بابتسامة مجاملة، لكن عينيها لم تستطع إخفاء نظرة الاستغراب. لم تكن معتادة على زياراتها غير المتوقعة.

جلستا سويًا، وبلا مقدمات، أمطرتها سعيدة بوابل من الأسئلة، بصوت يحمل مزيجًا من الفضول والتلميح المبطّن:

-هو إنتِ اسمك شيرين إيه؟

-شيرين عبد الوهاب...


لم تستطع سعيدة كتم ابتسامة ساخرة قبل أن تنفجر بضحكة قصيرة قائلة:

-طيب ما تسمعينا حاجة يا فنانة...

زفرت «شيرين» بضجر، وشفتيها ترتجفان بابتسامة صفراء، بينما كانت «سعيدة» مستمتعة بمداعبتها.

 لكن فجأة، تغيرت نبرتها إلى الجدية:

-طيب، هو فين أبوكِ؟


تصلبت ملامح شيرين قليلًا، ثم أجابت بصوت هادئ لكنه مشحون بذكرى موجعة:

-أبويا الله يرحمه، توفّى من سنين طويلة... بتسألي ليه؟


تجاهلت سعيدة السؤال مباشرة وقالت وهي تميل للأمام قليلًا:

-وإنتِ عندك كام أخ؟


رمشت «شيرين»، وكأنها بدأت تشعر بأن هناك ما هو أبعد من مجرد فضول عابر:

-اتنين، الصغير في كندا، والكبير هنا، أبو يونس... ما إنتِ شفتيه قبل كده.


أومأت سعيدة ببطء، نظراتها تائهة للحظات، وكأن عقلها يربط الخيوط أخيرًا. ثم تمتمت بشرود، صوتها بالكاد يُسمع:

-بس هو ملوش غير بنت وولد؟!


رفعت رأسها مجددًا وحدّقت في شيرين، وهذه المرة عيناها تضيقان بتركيز أشد وهي تسأل بصوت منخفض لكنه محمل بالريبة:

-أمك كانت متطلقة من أبوكِ؟


قطبت «شيرين» حاجبيها، نظرة شك ارتسمت على ملامحها وهي تسأل بحدّة، وكأنها بدأت تستشعر نوايا غير مريحة خلف هذا التحقيق المفاجئ:

-ليه كل الأسئلة دي يا حجة سعيدة؟


لوّحت «سعيدة» بيدها سريعًا، محاولةً نفي أي نية خفية:

-لا مفيش... فضول مش أكتر...


لكن شيرين لم تنخدع بسهولة. زفرت بضيق، وصارت نظراتها أكثر برودًا وهي ترد بنبرة واضحة النفور:

-لا يا ستي، أمي مكنتش متطلقة ولا حاجة، وأبويا كان راجل محترم، الله يرحمه ويغفر له.


ساد صمت ثقيل للحظات. كانت سعيدة تفكر، بينما شيرين تحدق بها ببرود، وكأنها تنتظر أن ترى إلى أين ستأخذها هذه الأسئلة الغريبة...


مالت «سعيدة» للأمام، وصوتها ينساب كهمس خافت:

-احلفي؟


اتسعت عينا شيرين، نظرة متعجبة جمدت ملامحها وهي تقول بنبرة حذرة:

-أحلف على إيه بالظبط؟


نهضت «سعيدة» بغتة، وكأنها اكتفت بما سمعته، وقالت وهي تهمّ بالمغادرة:

-طيب، استأذن بقى...


تابعتها «شيرين» تقطر شكًا، وعقلها يعيد استرجاع أسئلة سعيدة، وأخذت تقلب كفيها بذهول، وكأن شيئًا غريبًا يلوح في الأفق، وقبل أن تغرق في أفكارها أكثر، انتشلها من شرودها صوت شجار حاد، دفعها للتوجه نحو الشرفة...

شهقت حين سمعت صوت أحد أبنائها وخرجت تنادي رائد مسرعة...

بقلم آيه شاكر 

             ★★★★★★

انتفضت «سراب» حين ظهر «حسين» خلف الباب، ليتها لم تفكر فيه! كأن استدعاءه في عقلها استدعاه إلى الواقع.


دفع «حسين» الباب بيده، ودخل بخطوات واثقة، وعيناه تجولان في المكان بثقة مستفزة.


رشق «البدري» بنظرة ساخرة قبل أن يتخطاه كأنه غير موجود، ثم جلس على أحد المقاعد، يضع ساقًا فوق ساق، وقال بصوت ينضح بالاستهزاء:

-مواجهة كان لا بد منها.


وعند الباب...


وقفت «تُقى» متيبسة، لم تغلقه بعد، وكأنها غير قادرة على الحركة. تبادل الثلاثة «سراب والبدري وتقى» النظرات ككلمات صامتة تحمل توترًا مخيفًا، حتى ظهر «عمرو» و«عامر»، واقتحما المشهد كعاصفة...


تقدم «عامر» أولًا، مدّ يده ليحيط كتفي تُقى، نظر إليها مطمئنًا فأومأت له بتوتر، قبل أن تتشبث بملابسه كأنها تستمد منه ثباتها.


أما «عمرو»، فدخل بخطوات ثابتة، وعيناه مسمّرتان على «حسين»، قبل أن يتقدم ليجلس قبالته، حدجه بنظرة صلبة، ثم قال بنبرة لم تخلُ من السخرية والاحتقار:

-خلينا نتكلم بوضوح، لأن سيادتك واضح إنك بتحب اللف والدوران حوالينا... تبعتلنا بودرة، تخطـ ـف عامر... تصرفات بصراحة لا تليق براجل محترم زيك! ولا إيه يا محترم؟


لم يطرف لحسين جفن، وكأنه لم يسمع شيئًا انفرجت شفتاه عن ابتسامة باردة، ثم قال بتهكم وهو ينظر إلى عمرو كأنه يقيّمه:

-أهلًا وسهلًا، نورت... عامل إيه؟


ثم، دون أن ينتظر ردّه، التفت إلى «سراب» وسأل بنبرة مستفزة:

-مين الأستاذ؟


لم تجبه «سراب»، لكن قلبها كان يقرع بقـ ـوة وكأنه يعلن أن هذا اللقاء لن ينتهي بسلام. كانت أنفاسها تتسارع، وجسدها متحفزًا لمواجهة وشيكة.


نظر له «عمرو» وقال مباشرة، بنبرة حادة:

-عايز إيه؟ قول بوضوح، بتدور على إيه؟


أمال «حسين» رأسه قليلًا، وكأنه يستمتع بإطالة لحظة التوتر، ثم قال ببرود مصطنع:

-أنا جاي أطّمن على بنتي... بس ممكن أعرف إنت إيه سبب وجودك هنا؟


أطلق «عمرو» ضحكة متهكمة، قبل أن ينهض واقفًا، ليقترب من «حسين» بخطوات ثقيلة، وعيناه تشتعلان بتحدٍّ صريح.

انحنى قليلًا نحوه، محدقًا في عينيه، قبل أن يهدر بجدية وهو يضغط على كل كلمة:

-عايز مننا إيه؟!

تنهد «حسين» بقـ ـوة، وكأن الأمر كله لا يستحق هذا التصعيد، ثم قال أخيرًا، بنبرة عادية كأنه يطلب شيئًا تافهًا:

-تمام... خلينا نتكلم بوضوح، عايز الحاجة اللي كارم سرقها وهرب... وعايز عامر يطلق تُقى... عشان عجباني.

كلماته الأخيرة كانت كالشرارة التي أشعلت بركانًا. في جزء من الثانية، زمجر عامر كوحش أفلت من قيوده، وانقضّ على حسين بكل غضبه، هادرًا:

-مين دي اللي عجباك يا راجل إنت؟ 

لكن حسين كان أسرع مما توقع دفعه بقـ ـوة فارتطم «عامر» بالأرض، شهقت «تقى» وانحنت تتفقده، بينما وثب «عمرو» نحو حسين دون تردد وقبضته تنطلق نحوه بعنـ ـف، اندلع الشـ ـجار وتصاعدت الأصوات، كانت «سراب» تصرخ دون وعي وتسحب «عمرو» من ملابسه وقلبها يختلج خوفًا عليه، ثم اندفعت تقف بينهما وجسدها الصغير حاجز هش بينهما، دفعت حسين ونبرتها ترتجف من الغضب والرعب:

-سيبه... إنت جاي ليــــه... سيبه، إوعى كده...

لطمها «حسين» على وجهها فاشتغل غضب «عمرو» ووثب يقف أمامها لكنها عادت تقف أمامه فاتحة كلتا ذراعيها ومن عيناها تنطلق نظرات ترشق حسين بتحدٍ...

تشنج وجه «حسين»، وغلى الغضب في عروقه، قبل أن يمد يده فجأة ويجذب «سراب» من حجابها بعـ ـنف، فانسحب القماش عن رأسها، فصرخت وارتجفت...


شهقت «تقى» واتسعت عيناها برعب، لكن قبل أن تتدارك الموقف، انقض «عمرو» كعاصفةٍ هادرة، ودفع «حسين» بكل ما أوتي من قـ ـوة، فسقط الأخير على الأرض مترنحًا.

اندفع «عامر» ليقف بجوار «عمرو»، يشكلان سدًا منيعًا أمام «سراب» التي التصقت بـ «تقى»، وراحت الأخيرة تلملم الحجاب حول رأسها وتشدها إلى صدرها، تحاول تهدئتها بينما شهقاتها تتصاعد بحرقة، كتلك العاصفة التي تدور في المكان.


ساد صمت ثقيل، مشحون بالكثير مما لم يُقال، قبل أن يشقه صوت «البدري» الذي علا بغتةً كأنه طعنةٌ مفاجئة:

-كفاية... كفاية يا حسين! بكفاياك بقى!

نهض «حسين»، وتقدم نحو «البدري»، والغضب يشتعل في نظراته، وعيناه تضيقان كمن يحاول ترويض إعصار يوشك أن ينفجر. وقف قبالته، يرمقه بحدة، ثم رفع سبابته في وجهه، وصوته يخرج هادرًا، ممزوجًا بالغليان والقهر:

-إنت عارف كل حاجة! إنت أُس المصايب كلها... فين الحاجة اللي كارم أخدها؟

اهتزت أنفاس البدري للحظة، وكأن شيئًا اخترق حصونه، لكنه سرعان ما تمالك نفسه، وعيناه ظلّتا ثابتتين بلا وهن. ثم انطلقت كلماته بصوت زلزل المكان بأسره:

-كـــــــــارم مــــيـــن؟! عمك كارم يابني مات من أكتر من عشرين سنة! حلّ بقا اللغز ده الأول يا حسين بيه، وساعتها نشوف إيه الحاجة اللي بتدور عليها! وكارم أخدها منك من عشرين سنه.

تصلّب فك حسين، وصمت هنيهة مفكرًا، بينما أكمل البدري بصوتٍ أشد رسوخًا، ليخترق الصمت كالخنجر:

-فيه أسئلة كتير محتاجة إجابة يا حسين... إمتى اتجوزت بنت عمك كارم؟ وإزاي كارم ليه شهادة وفاة وهو عايش؟ وفين باسل ونيرمين؟ وإيه الحاجة اللي بتدور عليها وكارم هرب بيها؟ أسئلة كتير أوي، وإحنا منعرفش إجاباتها...

ظهرت بسمة ساخرة على شفتي «حسين»، لكنها لم تصل لعينيه، بل ازدادتا حدةً وضيقًا وهو يتمتم بنبرةٍ مشبعة بالريبة والاستهزاء:

-متعملش نفسك بريء وتعيش الدور! الأسئلة دي كلها إجاباتها عندك إنت، ولا تكون فاكر إنك هتضحك عليا زي ما ضحكت على البنتين دول!


تجمدت ملامح البدري، وتسللت موجة من الشك إلى الأعين التي التفتت إليه.

 تبادلت «سراب» و«تقى» النظرات المتسائلة، قلوبهما تنبض بذات السؤال الخفي الذي لم يجرؤ أحد على نطقه...

أيعقل أن مفتاح اللغز كان هنا طوال الوقت... في بيتهما وبينهما، ولم ينتبها؟

الفصل الواحد والعشرون من هنا


تعليقات



×