![]() |
رواية سدفة ج2 (عن تراض) الفصل الرابع والعشرون
وبحركة مباغتة، قطع المسافة بينهما وعانقها فتجمدت بين ذراعيه، تسارعت أنفاسها، وارتجفت شفتيها دون أن تنبس بكلمة، لكن قلبها كان يهدر في صدرها كطبول حـ.ـرب.
استعادت وعيها فجأة، وكأنها خرجت من غيبوبة، دفعته بكل قوتها، وارتدت خطوة للخلف، حدقت به بعينين واسعتين، كأنها تحاول استيعاب ما حدث، كانت تتساءل: هل يفعل ذلك فقط لإثارة حفيظتها؟ هل يستفزها؟ وأجابت نفسها أنه كذلك بالطبع.
اندفعت نحوه، تضـ ـربه بقبضتيها على صدره وهي تصيح بصوت مختنق:
-إنتَ عملت كده ليه؟! عملت كده ليه؟
أمسك بقبضة يدها بتحدٍ ورد بابتسامة جليدية:
-عملت إيه؟ إنتِ اللي بتعملي كده ليه؟
سحبت قبضة يدها منه بقـ.ـوة، وتلفتت حولها وكأنها تفتش عن تفسير لما يحدث الآن، ثم ثبتت نظراتها عليه، وعيناها تضيقان كأنها تحاول أن تزن كلمتها التالية، قبل أن تنطق بصوت قاطع:
-طلقني حالًا...
تردد صدى كلماتها بينهما ثقيلًا، فأطلق «عمرو» ضحكة باردة، ومال برأسه قليلًا، وهو ينطق بعناد متهكم:
-لأ...
-هو إيه اللي لأ؟!
قالتها هادرة بانفعال، وأخذت تدفعه بكل قوتها وكأنها تثيره ليتشابك معها، لكنه لم يقاوم، فقط كان يتراجع مع كل دفعة، وعيناه متسعتان بصدمة مما تفعله...
كانت تتنفس بصعوبة، ووجهها يشتعل احمرارًا، وصدرها يعلو ويهبط بجنون.
توقفت فجأة، وكأنها أدركت أنها تهدر أنفاسها سُدى، رفعت سبابتها بوجهه، وقالت:
-اوعى تكون فاكرني ضعيفة!
مسح «عمرو» وجهه ليهدأ من انفعاله، وتنهد بعمق، ثم قال بهدوء:
-وأنا مقولتش إنك ضعيفة يا سراب... بالعكس إنتِ قوية جدًا... وأنا أوعدك إني هكون معاكِ دائما عشان أقويكِ أكتر...
نبرته الهادئة جعلتها تستسلم وتنهي الجدال، جلست على المقعد، وأطرقت رأسها تفكر في كلامه، فسحب مقعدًا آخر وجلس قبالتها، مال نحوها قليلًا، وقال بنفس الهدوء:
-سراب... أنا اتجوزتك عشان...
كاد يخبرها أنه يحبها، لكنه ابتلع كلماته وهو يزدرد لعابه باضطراب، جالت عيناه بالغرفة للحظة، قبل أن يسلط نظراته عليها وهو يقول:
-إنتِ متتخيليش غلاوتك عندي يا سراب... إنتِ غالية أوي أوي يا بِت...
رفعت عينيها ببطء تحدق بملامحه وكأنها تبحث عن مدى صدق كلماته، ثم مدت يدها ببطء ومررتها برفق على لحيته، لمسة خفيفة كأنها تلامس سرابًا، لكن أثرها عليه كان كالصاعقة، اقشعر جسده واضطربت أنفاسه فأغمض عينيه للحظة...
لمعت عينيها بالدموع وهي تلمس لحيته ثم كتفه، وكأنها تتأكد أنه أمامها بالفعل، وهمست بنبرة مرتعشة:
-إنت كمان غالي عندي أوي أوي والله...
فرن منها دمعة رآها حين فتح عينيه، فمد يده ليمسح دموعتها، لمعت بينهما ألف جملة غير منطوقة، لكن قبل أن يفهم أيٌّ منهما معنى كل هذا، انتفضت «سراب» فجأة، ووثبت واقفة، مسحت وجهها بسرعة وكأنها تزيل أثر أنامله على وجنتيها، تراجعت خطوة للخلف، وأنفاسها تتسارع بعنـ ـف، وكأنها لا تريد الاستسلام له، وقالت بانفعال:
-إنت زي أخويا وبس... فاهم؟
نهض «عمرو» واقفًا وأصرّ على أسنانه وهو يقول بانفعال مكبوت:
-أنا جوزك مش أخوكِ... سواء رضيتِ أو لأ، أنا جوزك يا سراب.
قالها وهو يشير لنفسه، حدقت بملامحه المنفعلة لبرهة، رمشت مرتين وفي تلك اللحظة، اجتاحتها موجة عنـ ـيفة من الذكريات، بداية من اختفاء جدها، مرورًا بظهور والدها، وصولًا إلى كل لحظات القهر التي عانتها... وكل مرة أثار فيها «عمرو» حفيظتها، شعرت أنها تختنق، وكأن جدران الغرفة تضيق عليها.
أخذت تتراجع للخلف بظهرها، وعيناها متسعتان في ذعر، فاقترب منها، وامتدت يده تلقائيًا يمسك ذراعها، وخرج صوته قلقًا:
-سراب! إنتِ كويسة؟
أبعدت يده عنها بعنـ ـف وهي تقول بغضب:
-إياك تلمسني تاني!
-واشمعنا إنتِ لمستي دقني وأنا متكلمتش!
قالها بنفس نبرتها، فارتبكت وازدردت لعابها، ارتعش صوتها هامسة:
-طلقني... مكنش ينفع نتجوز... أنا مش قد المسؤولية دي... وإنت ضحكت عليا وقلتلي هنعيش إخوات... ودلوقتي بتغير كلامك...
-مش ذنبي إن إنتِ فهمتِ غلط! محدش بيعتبر مراته زي أخته...
تبادلا نظرات التحدي للحظة، ثم هزّت «سراب» رأسها بعـ ـنف، وكأنها تحاول طرد أفكارها القاتمة، قبل أن ترتفع نبرتها فجأة:
-أنا بكرهك يا عمرو... مكنش لازم أوافق عليك! بكرهك... طلقني...
ارتبك «عمرو» من صوتها المرتفع، خشي أن يسمعه أحد بالخارج، فاقترب منها قائلًا باضطراب:
-طيب اهدي... وأنا هعملك اللي إنتِ عايزاه، بس اهدي.
رفعت رأسها إليه بصدمة، تراقبه بعينين متوجستين، وبنبرة حادة مترددة قالت:
-هتطلقني؟
حبست دموعها، تنتظر ردَّه كأنه حكم بالإعدام.
لم يرد فورًا، بل مشى إلى الباب، وأغلقه ببطء، زفر بقـ ـوة ثم التفت إليها مجددًا، وخرجت نبرته حادة بعض الشيء:
-اهدي... ووطي صوتك، وقلت هعملك اللي إنتِ عايزاه.
نظرت إليه بذهول، وكأن كلماته ضـ ـربتها في مقتل، نطقت بخيبة أمل:
-هتطلقني بسهولة كده؟ ده بدل ما تطمنّي؟
عضّ على شفته بعصبية، خطا نحوها خطوتين، ثم قال بنفاد صبر، وهو يضغط على كل حرف:
-إنتِ عايزة إيه يا سراب؟ عايزاني أطمنك ولا أطلقك؟ عرفيني إنتِ عايزة إيه بالضبط، وأنا هعمله.
تسمرت مكانها، ونظراتها تتفرس ملامحه، ثم فجأة، اقتربت منه ودفعته بقـ ـوة وهي تصرخ:
-أنا بكرهك! اطلع بره! مش عايزة أشوفك تاني!
اتسعت عيناه، وشدّ فكيه بغضب، ثم رفع يديه ونطق بهدوء في محاولة يائسة لتهدئتها:
-يا بنتي اصبري... الجماعة بره، متخليش صوتي يعلى عليكِ ويسمعونا...
لم تهتم، بل زادت من صراخها:
-لا! خليهم يسمعوا! وبقولك اطلع بره! وطلقني...
استمرت تدفعه بجنون نحو الباب، وهو يحاول استيعاب انفجارها هكذا، ويكبح غضبه بصعوبة، حتى لم يعد قادرًا على التماسك...
ثبت قدميه في الأرض أخيرًا، وهدر بنبرة مرتفعة غاضبة:
-بـــــــس بـــقـــــــى! إيه يا سراب؟ في إيــــــــــــه؟ دي مش طريقة والله!
جفلت من صوته، ارتدت خطوة للخلف، ثم انفتح الباب فجأة، وظهرت «شيرين»، بدلت نظرها بينهما وسألت بقلق:
-في إيه؟ إنتوا بتتخانقوا ولا ايه؟
ثم ظهرت «وئام» و«هيام» و«تُقى» و«نداء»، وملامحهن مذهولة مما يحدث...
تجاهل «عمرو» من حوله، ولوّح بيديه في الهواء بعصبية وهو يخاطب «سراب» بنبرة لم يحاول تهذيبها:
-إنتِ تعبانة في دماغك؟ مش عارفة إنتِ عايزة إيه؟ قولتلك هعملك اللي إنتِ عايزاه! بس إنتِ أصلًا متعرفيش إنتِ عايزه إيه...
ارتعشت شفتاها، شعرت بالهواء يهرب من رئتيها، تملّكها الخوف، وهربت الدماء من وجهها تمامًا، لكن رغم ذلك صرخت بانهيـ ـار:
-متعليش صوتك عليا...
رد بنفس الإنفعال:
-لا! هعلي صوتي، وطول ما دماغك تعبان كده هعلي صوتي، وهضـ ـربك بالجزمة كمان...
وقفت «شيرين» بينهما، وكأن عاصفة اقتلعت جذورها من الأرض، وحدّقت في ابنها بحدة، قبل أن تهدر بصوت قـ.ـوي:
-تضـ ـرب مين؟! طيب وريني هتضـ ـربها إزاي؟!
تشنج فك «عمرو»، وتبدلت نظراته بين أمه وسراب، لكنه لم ينطق بكلمة، بل استدار وخرج من الشقة بعصبية، وصفع الباب خلفه.
راقبه «رائد» وهو يغادر، ثم زفر بضيق وتبعه وهو يتمتم نازقًا، فقد كان على وشك إخبار «تُقى» بسر «عامر»، لكنه الآن بات مجبرًا على تأجيل ذلك مرة أخرى...
التفتت «شيرين»، إلى «سراب»، وقالت بسخط:
-أنا كنت عارفة... وقلت الجوازة دي هتجيبلي وجع الدماغ!
لم ترد «سراب»... لم تسمعها حتى.
كانت مشدوهة، كأنها فقدت الإحساس بكل شيء، كأنها مجرد شبح هائم وسط العاصفة التي أثارتها بنفسها...
لم ترَ من حولها، لم تشعر بالأيدي التي ربتت على كتفيها، ولم تستوعب حتى الخطوات القلقة التي دارت حولها...
كانت جامدة تمامًا، وكأن جسدها موجود لكن روحها غادرت مع العاصفة...
الآن، أدركت حجم خطئها، حين وافقت على عمرو...
هوت جالسة على أقرب مقعد، أنفاسها تتسارع، وكأن التوتر يمزقها من الداخل، همست بصوت بالكاد يُسمع، وكأنها تسأل نفسها قبل الآخرين:
-إيه اللي حصل ده؟
تجمدت دموعها في مقلتيها، واكفهر وجهها أكثر، بقيت على حالها، صامتة، شاحبة ولولا رمشات عينيها وصدرها الذي يعلو ويهبط بصعوبة، لما أدركوا أنها لا تزال على قيد الحياة.
وخارج الغرفة...
جلست «رغدة» بجوار «رحمة»، تتبادلان نظرات قلقة مع أروى ومريم، والتوتر يخيم على الأجواء...
تسللت «رغدة» بلمسة خفيفة إلى ذراع أختها، كإشارة خفية للمغادرة، فنهضتا بخطوات مترددة وغادرتا، تاركتين وراءهما أثر العاصفة...
أما «أروى» و«مريم»، فتبادلتا نظرة ذات معنى، قبل أن تتجها نحو «البدري»، الذي ظل مسندًا على عصاه، مغمض العينين، لم يتحرك، ولم تصدر عنه أي ردة فعل، رغم أن كل كلمة قيلت وصلت إليه بوضوح.
تقدمت «مريم» بحذر، تراقب ملامحه الجامدة، ثم سألت بصوت هادئ متردد:
-حضرتك كويس يا جدو؟
وببطء، رفع «البدري» رأسه، وحين وقعت عيناه على «مريم»، تجمدت نظراته، واتسعت عيناه في دهشة غارقة في شيء أعمق... صدمة متجذرة في أعماقه، كأنما يرى أمامه طيفًا من زمن مضى.
بيدين مرتجفتين، التقط نظارته المعلقة حول عنقه، وضعها على عينيه ببطء، وكأن الرؤية الواضحة ستؤكد له ما يخشى تصديقه، وحين انجلت الصورة أمامه، خفق قلبه بقوة... كانت تشبه طليقته إلى حدٍ موجع، كأنما أعاد الزمن وجهها إليه، بعد أن ظن أنه لن يراه مجددًا.
شعرت مريم بتوتر النظرة الممتدة، فابتلعت ريقها بصعوبة وسألته مجددًا، بصوت أخفض هذه المرة:
-حضرتك كويس؟
انتبه «البدري» من شروده، وارتجفت أصابعه على عصاه، ثم أومأ عدة مرات دون أن ينبس ببنت شفة، أبحر ببصره بعيدًا، كأنما يهرب من ظلٍ طارده في وجه مريم، سأل بلهفة ورجاء أن يجد إجابة ترشده:
-تعرفي واحده اسمها صفيه؟
هزت مريم عنقها نافية، وهي تردد:
صفيه! لـ... لأ...
فأغمض «البدري» عينيه بيأس، فقد انشغل مجددًا ونسي أولاده...
جذبت «أروى» «مريم» من ذراعها بحركة خاطفة، اتبعدها عن البدري، وهمست بصوت منخفض لكنه مشحون بالقلق:
-هو مالُه ده؟
رمشت «مريم»، ورفعت كتفيها في حيرة، قبل أن تهمس بخفوت وهي تراقب تعابير «البدري» المتوترة:
-ولا أعرف!
التفتتا إليه معًا، ونظراتهما مشوبة بالريبة، قبل أن تهمس «مريم» فجأة وقد لمعت في ذهنها فكرة:
-أنا هروح أحكي لماما...
لم تنتظر رد «أروى»، بل التفتت على عجل...
استغفروا🌸
★★★★★★
أسفل البيت
وقف «بدر» و«عامر» متجاورين، يعقدان أذرعهما أمام صدرهما، بينما كانت «سعيدة» تتحدث بحماس مفرط، تلوّح بيديها وكأنها تسرد قصة عظيمة، ترفع ذقنها بفخر لأنها رأت مالا يراه أحد حين أدركت منذ أمد بعيد أن عمرو لسراب...
وفجأة أمالت رأسها للأمام، وخفضت صوتها قائلة بنبرة ماكرة:
-بص يا متواضع إنت وهو، أنا عندي سر... بس أنا حلفت مقولهوش، لكن لو عايزين تعرفوه، يبقى تدفعولي كفارة اليمين، وأنا أقوله... أنا كنت هصوم ٣ أيام وخلاص بس الشيخ قالي دفع الكفاره الأول بما إني اقدر... وانتوا هاتوا فلوس السر وأنا أقوله.
رفع «بدر» حاجبًا وهو يرمقها بريبة، وسأل بصوت حذر:
-سر بخصوص إيه؟
ابتسمت «سعيدة» بذكاء، ورفعت سبابتها بحركة تحذيرية:
-لا، أنا مش هقول حاجة إلا لما تدفعوا كفارة اليمين!
تبادل «بدر» و«عامر» النظرات سريعًا، ثم زفر «بدر» بملل قبل أن يلتفت إلى «عامر» متسائلًا:
-هي كفارة اليمين دي كام؟
لكن قبل أن يفتح «عامر» فمه، بادرت «سعيدة» بالإجابة، وكأنها كانت تنتظر هذا السؤال تحديدًا:
-٣٥٠ جنيه!
عقد «عامر» ذراعيه ونظر إليها بتمعن، ثم مال برأسه قليلًا وقال بنبرة متمهلة وهو يراقب تعابيرها:
-طيب، قولي لنا الأول السر بخصوص إيه، ولو يستاهل، هندفع...
راقبها «بدر» وهو يومئ بتأييد، بينما ضيّقت «سعيدة» عينيها بارتباك للحظة، قبل أن تبتسم مجددًا، ومدت يدها قائلة:
-الفلوس الأول...
تبادل «بدر» و«عامر» النظرات سريعًا، وكلٌّ منهما ينتظر الآخر لينطق، لكن قبل أن يخرج أي صوت، ظهر «عمرو» فجأة، يسير بخطوات واسعة، وملامحه متجهمة، وخلفه «رائد» يحاول تهدئته.
رفعت «سعيدة» حاجبيها بدهشة، ثم ابتسمت بفضول وهي تميل للأمام قليلًا، متسائلة بنبرة مرحة:
-إيه اللي حصل يا عريس؟
لكن «عمرو» لم يلتفت، ولم يرد.
مرّ بجوارها كأنها غير موجودة، واندفع نحو البيت بخطوات غاضبة، بينما زفر «رائد» بملل، ثم تبعه بسرعة.
تبادل «عامر» و«بدر» نظرة قصيرة، ثم تحركا للحاق بهما، وبينما كانت «سعيدة» تستعد للحاق بهم، فاجأها «عامر» بإغلاق الباب في وجهها دون أي تردد.
شهقت بصدمة، وضعت يدها على صدرها وكأنها تلقت صفعة، ثم رفعت ذقنها بأنفة وقالت بغيظ:
-آه يا شوية متكبرين! أنا غلطانة طيب... وربنا...
لكنها سرعان ما ابتلعت كلماتها، ووضعت يديها على خصرها، تحركت يمينًا ويسارًا للحظة، قبل أن تهز رأسها بإصرار، وتتمتم لنفسها:
-لا، أنا مش هحلف تاني... قلبي طيب بزيادة وبرجع في كلامي...
وقبل أن تخطو خطوة واحدة، ظهرت «رغدة» تتأبط ذراع «رحمة»، ارتسمت على شفتي «سعيدة» ابتسامة ماكرة حين رأتهما، اتجهت نحوهما بخطواتٍ ثابتة، وقالت بصوت مرح:
-عقبالكم يا أميرات الشارع...
تجمدت ملامح «رغدة» للحظة، لكنها سرعان ما استعادت رباطة جأشها وابتسمت ابتسامة مجاملة لم تصل إلى عينيها:
-وإنتِ طيبة يا خالتي سعيدة.
حدقت «سعيدة» فيهما بعينين ضيقتين، ثم سألت بنبرة تحمل فضولًا حادًا:
-هو إيه اللي حصل؟ عمرو ماله زعلان كده؟
تبادلت «رحمة» و«رغدة» نظرة خاطفة، قبل أن تندفع رحمة بتلقائية:
-اتخانق مع سراب كالعادة.
اتسعت عينا «رغدة»، وركلت قدم رحمة بخفة ثم ابتسمت ابتسامة مرتبكة وقالت:
-مش خناقة، بس هما عندهم مزاج يستفزوا بعض يا خالتي سعيدة.
زمّت «سعيدة» شفتيها، وعقدت ذراعيها أمام صدرها وهي تحك ذقنها بتفكير عميق، قبل أن تهمس بمكر:
-أمممم... طيب... وإنتِ يا رغدة، كنت عايزة أطمن... المهندس بدر وصلك كتاب العربي ولا لأ؟
احمر وجه «رغدة»، وتجمدت في مكانها للحظة، قبل أن ترمش بعصبية وتتبادل نظرة متوترة مع «رحمة»، ثم قالت بصوت خافت:
-آه... وصله... عن إذنك يا خالتي سعيدة.
لم تنتظر ردًا، أمسكت بذراع «رحمة» وسحبتها بعيدًا بخطوات متسارعة، لكن صوت سعيدة أوقفهما:
-استنوا!
لحقت بهما «سعيدة»، لتمشي بجوارهما وتجاري خطواتهما السريعة، وقبل أن تنطق بكلمة، توقف الزمن أمامهما عندما توقفت سيارة أمام بيت جدهما ضياء.
تسمرت أقدام «رغدة» و«رحمة» في مكانهما، وتبادلتا نظرات مذهولة...
فتح الرجل باب السيارة، وخرج منها وهو يحمل ابنته الصغيرة، بينما لحقت به زوجته وأمسكت بيد طفلهما، ارتجف صوت «رحمة» وهي تهمس:
-دا... بابا!!
ابتسمت «سعيدة» بفضول وراحت ترحب بصالح وزوجته، بينما تشبثت رغدة بذراع أختها بأصابع مرتجفة، وعيناهما معلقتان على والدهما...
تسارعت أنفاس «رحمة»، وشعرت بضيق في صدرها وهي تهمس بصوت مرتعش:
-أعتقد مكاننا مش هنا الفترة دي... المفروض نروح عند تيته داليا...
هزت «رغدة» رأسها بارتباك، وعيناها لا تزالان معلقتين على والدها، الذي انشغل بحمل الحقائب دون أن يلقي نظرة باتجاههما، نظرت لزوجته تلك التي تترك شعرها يتطاير خلفها وترتدي ملابس ضيقة جدًا تشبه الراقصات! إن لم تكن واحدة منهمن، لا تدري كيف انجذب والدها إلى تلك السيدة!
نظرت لرحمة وهمست بصوت مبحوح:
-تعالي نرجع عند جدو دياب.
تبادلت الفتاتان نظرة سريعة، قبل أن تستديرا وتسرعا الخطى بعيدًا، لم تلتفتا خلفهما ولو لمرة واحدة.
كانت قلوبهما ترتجف قلقًا، وذكريات الطفولة تومض أمام أعينهما، كان «صالح» يومًا ما الأب الحنون الذي يخشى عليهما من نفحة الهواء الباردة، كان الأب الذي يرفع كل واحدة منهما عاليًا ليضحكهما، لكن اختفى ذلك الرجل منذ زمن بعيد... الآن، كل ما تبقى منه نظرات باردة وكلمات قاسية.
كانت «رغدة» تشد على ذراع أختها بقوة، حتى شعرت رحمة بأصابعها المغروسة بذراعها، وكأنها تتشبث بآخر خيط أمان، لم تفهما أبدًا سبب غضبه الدائم منهما، وكأنه يعاقبهما على ذنب لم ترتكباه... على حقيقة أنهما ابنتا ريناد.
دخلتا لبيت دياب ابتلعت «رحمة» غصتها، وترددت الكلمات على لسانها قبل أن تهمس:
-بيعاقبنا على غلطه هو... يعني غلط هو وماما واحنا اللي بنتعاقب.
انعقد حاجبا «رغدة» وارتجف فكها، قبل أن تقول بملامح متشنجة:
-أنا مش طايقة أشوفه...
تبادلت الفتاتان نظرة حارقة، وعيونهما تلمع بدموع حبسها الكبرياء، قبل أن تستديرا بسرعة وتصعدا الدرج بخطوات ثقيلة...
وصلتا أمام باب بيت «دياب»، ورفعت «رحمة» يدها المرتجفة لتقرع الجرس، لم تمر سوى لحظة حتى فتح «عامر» الباب، رمقهما باستغراب وقال:
-إيه يا بنات؟ ماما وإخواتي لسه عند سراب...
تجمدت «رغدة» للحظة، وعيناها تلتقطان تفاصيل وجهه دون أن تستطيع الرد....
ضغطت على شفتيها، لكن الدموع خانتها وسالت على وجنتيها، حاولت الكلام، فخرج صوتها بحشرجة:
-عايزين... جدو دياب.
اهتزت شفتا «رحمة» وهمست بصوت مختنق:
-بابا ومراته وعياله هنا يا عامر.
اتسعت عينا «عامر» بصدمة، لكنه سرعان ما أفسح لهما المجال للدخول، قائلاً بصوت مهدئ:
-طيب... طيب، ادخلوا... اهدوا...
أغلق الباب خلفهما، وأخرج من جيبه علبة مناديل ورقية، مدّها لرغدة وهو يقول بنبرة حانية:
-متقلقوش... مش هيعملكم حاجه.
أخذت «رغدة» المناديل بيد مرتعشة، وخلعت نظارتها لتمسح دموعها التي رفضت التوقف، بينما ظلت «رحمة» تراقبها بعينين زائغتين، تشعر بالعجز والضعف.
دخل «عامر»إلى الغرفة حيث يجلس «دياب» مع البقية، يتحدثون مع «عمرو» الذي كان وجهه محتقنًا بالغضب...
توقف الحديث فجأة عندما قال «عامر» بصوت قلق:
-بابا... رغدة ورحمة بره بيعيطوا... وبيقولوا إن صالح هنا.
ارتفع حاجبا «دياب»بدهشة، قبل أن يزفر بعمق ويقول بغيظ:
-دا إيه اللي جابه ده كمان!
نهض «عمرو» بغتة، وعضلات فكه مشدودة وعيناه تلمعان بتصميم غاضب:
-طيب... يبقى يقربلهم، وأنا هفرغ فيه غضبي كله إن شاء الله.
التفت «عمرو» نحو «بدر» حين سأل:
-صالح ده أبوهم، صح؟
قال عامر بعصبية:
-أيوه أبوهم... بس شوفت حسين بيعمل إيه مع سراب؟ دا أو*سخ منه بشوية...
انقبض وجه «دياب»، ونهض واقفًا، وقال:
-يا ترى ضياء في البيت ولا فين!
اندفع خارج الغرفة بخطوات سريعة متوجهًا إلى حيث وقفت رغدة ورحمة، بينما كان «محمد» يطرق رأسه في صمت، تجمدت ملامحه وكأنما يسمع اسمًا ثقيلًا «صالح»!
تنفس بعمق، قبل أن يلحق بدياب، محاولًا السيطرة على ارتجافه فقد كان يتجنب التعامل مع صالح منذ سنوات، رغم أنه أخيه الأكبر من الأب، لكن صالح يكرهه...
في الخلفية، كان «رائد» يحدق في «يحيى» بنظرة صارمة...
اقترب منه وقال بنبرة جامدة:
-على فكرة... أنا زعلان منك.
رمش «يحيى» بذهول، واتسعتا عيناه بدهشة حقيقية وهو يقول:
-زعلان مني أنا؟!
نهض «رائد»، وجسده مشدود كوتر، وقال بجمود:
-قوم... تعالى نتكلم فوق في الشقة.
وقف «يحيى» بحذر، ارتسم القلق على ملامحه، وقال بتردد:
-دا الموضوع شكله كبير ولا إيه؟
وفي شقة رائد أخذ يعاتب يحيى، الذي كان يسمعه دون النطق بكلمة، فهدر به رائد:
-إيه! ساكت ليه؟ مش عارف تدافع عن نفسك؟
تنهد بحيى بعمق ثم قال:
-كويس إنك مقولتش لتقى... إنت أصلًا مش فاهم حاجه، كنت هتغلط غلطه كبيرة... هفهمك...
★★★★★★
في دار رعاية المسنين، كان الصمت يلفّ المكان بثقله، بينما ارتسمت علامات الترقب على وجوه ثلاثة مسنين تابعوا المشهد بأعين فضولية...
حدّق «نادر» في وجه «راشد» للحظات، باحثًا في ملامحه ثم جال بنظره على الجدران التي زُينت بصور باهتة لأزهار ذابلة الألوان، وكأنها شاهدة على مرور زمنٍ على إنشاء هذا المكان.
عاد ببصره إلى الرجل الجالس أمامه، وقال بصوت يحمل نبرة أمل ممزوجة بشيء من التردد:
-حضرتك عمي كارم؟ احنا بندور عليك من زمان أوي...
رفع الرجل بصره ببطء، تلاقت عيناهما، كانت عيناه تحملان نظرة غامضة، بها مزيجًا من الدفء والحيرة، صوب «نادر» له شاشة الهاتف بحذر وقال:
-دي صورتك... بص...
حدّق الرجل بالصورة، ضيّق جفونه وكأنما يحاول استرجاع ذكرى بعيدة، لوهلة، بدا وكأن الزمن قد توقف، ثم انفـ ـجر ضاحكًا، ضحكة قصيرة لكنها ملأت المكان بحيوية غير متوقعة، وقال:
-فعلًا الراجل ده فيه شبه مني... بس هو أصلع وأنا الحمد لله عندي شعر.
تحسّس شعر رأسه بحركة عفوية، فاهتزت ضحكات خافتة في المكان، حتى أن «نادر» ابتسم رغم ارتباكه، لكن الفضول دفعه للمتابعة:
-طيب إنت جيت هنا ليه؟ وازاي؟ يعني عملت حادثة وفقدت الذاكرة ولا إيه اللي حصل...
هزّ الرجل رأسه نافيًا، قال وعيناه تلمعان بمزيج من الدعابة والجدية:
-يابني، الراجل اللي في الصورة صحيح يشبهني، لكن أنا اسمي راشد... وبطاقتي أهيه...
أخرج من جيبه بطاقة هوية قديمة، متبقي على تجديدها عام واحد، ناولها لنادر، فأمسك نادر بالبطاقة بحذر، قلبها بين يديه، ثم نظر إلى وجه الرجل، كانت ملامحه تحمل صدقًا لم يستطع نادر تجاهله، سأله مجددًا:
-حضرتك هنا من إمتى؟ وجيت هنا إزاي؟
أطلق «راشد» تنهيدة ثقيلة، ارتخت كتفاه وكأن عبئًا غير مرئي قد أُزيح عنه، نظر عبر النافذة إلى الأشجار الذابلة وقال بصوت خافت:
-كنت عايش لوحدي بعد ما ولادي كلهم اتجوزوا، بقيت أحس بالوحدة، فجيّت قدمت هنا في الدار، حسّيت إنه أهون من إني أموت لوحدي ومحدش يعرف عني حاجة...
عبر شعور حزين إلى قلب «نادر»، لكنه تمالك نفسه وقال بتصميم:
-يعني إنت مش الراجل ده؟ يعني مش فاقد الذاكرة ولا حاجة؟
صمت «راشد»، ونظر للخارج حيث مرّت سحابة كسولة عبر السماء، ثم قال:
-هو فيه أحداث أنا مش فاكرها فعلًا، لكن الدكتور قالي إن دي ممكن تكون من الشيخوخة...
انتفض نادر من مكانه بحركة غير متوقعة، قال وعيناه متسعتان بدهشة:
-ما هو مش معقول الشبه الكبير اللي بينك وبين عمي كارم ده!
أخذ «راشد» الهاتف مرة أخرى، حدّق بالصورة مطولًا، وعيناه تضيّقان بتركيز كأنه يغوص في أعماق ماضي بعيد، ثم هزّ رأسه وقال:
-لا والله مش أنا...
ساد الصمت، كان صوت عقارب الساعة على الجدار يتردد ببطء في المكان...
شعر نادر بالتيه، وأخذ يسأل «راشد» عن تُقى وسراب، عن ذكريات قديمة، لكنه أصرّ بثبات أنه راشد، مجرد رجل مسنّ يبحث عن رفقة، وأن الأسماء لا تعني له شيئًا.
خرج «نادر» من المكان بخطوات ثقيلة، وقلبه مثقل بالحيرة، وقف ينظر إلى الباب الذي تركه خلفه وتمتم لنفسه:
-معقول الشبه ده!!! غريب جدًا...
نظر أمامه مجددًا، كان المكان هادئًا حدّ السكون، قرر ألا يخبر أحدًا بما اكتشفه، على الأقل ليس بعد، عليه أن يراقب هذا الرجل عن كثب... ويتأكد من هويته بنفسه.
سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم 🌸
★★★★★
مر يومان
وفي اليوم الثالث مع إشراقة شمس الصباح، انسكبت أشعتها الذهبية من النافذة على درجات السلم الحجري، فأضاءتها بوهج دافئ...
كان «عمرو» واقفًا أعلى السلم يمسك بيده مكنسة خشبية، يدفع بها الغبار بتتابع منتظم...
ارتفعت ذرات التراب في الهواء قبل أن تتلاشى مع نسمات الصباح الرقيقة.
تسللت قطرات العرق على جبينه تحت وهج الشمس، فمسحها سريعًا بظهر يده، وأكمل مهمته بحماس لا يخلو من التعب...
أنهى الكنس، وأمسك بجردل الماء، سكبه على الدرجات فانسابت المياه على السطح الحجري لتزيل الأتربة العالقة...
انحنى «عمرو» بجسده، وأخذ يفرك الدرجات بفرشاة خشنة، لإزالة أثر الطلاء الذي يلتصق بالأرض فتردد صريرها في المكان، بينما كانت رائحة الطلاء لاتزال عالقة بالمكان...
توقف «عمرو» للحظة، واتجه للبوابة، رفع رأسه ورمق شرفة سراب فلم يجدها...
نظر للبوابة وعينيه تجولان بإعجاب على تفاصيلها، شفتاه تتراقصان بابتسامة خافتة، امتدت يده ببطء، بأصابع مفرودة، ليلمس الزخارف الفاتنة، تراجع خطوة للخلف، أمال رأسه قليلًا، وعيناه تلمعان برضا عميق...
شهيق طويل ملأ صدره، كأنه يتنفس انتصارًا صغيرًا، فقد أنهى طلائها بنفسه بالأمس.
عاد للداخل وانحنى ليواصل تنظيف درجات السلم، وكل حركة منه كانت تنبض بالأمل والانتماء لهذا المكان الذي شهد أحلامه.
-خلصت يا عريس؟
رفع رأسه نحو «عامر»، مسح عرق جبينه بظهر يده، وأجاب بابتسامة منهكة:
-خلاص أهوه، إنت خلصت فوق ولا لسه؟
-أيوه، ركبت المطبخ في شقتي وشقتك، وكل حاجه اتظبطت... أعمل معاك حاجه؟
نظر «عمرو» إلى قدمي «عامر» وهز رأسه بضيق مصطنع:
-اخلع بس الشبشب ده الأول لأنه بيزحلق...
ضحك «عامر» بلامبالاة، وقال:
-متقلقش، أنا واخد بالي...
أخذ «عامر» نفسًا عميقًا، ثم تمطى بكسل:
-الواحد نفسه يغمض ويفتح يلاقي نفسه اتجوز وخلص من الضغط الرهيب ده.
تسربت ضحكة خافتة من عمرو، وهو يرد:
-هانت... كلها تلت أيام.
تنهد عامر:
-تلت أيام من الضغط...
واصل الاثنان عملهما، وحديثهما يتناثر بين ضربات المكنسة ودقات المطرقة، حتى وقفا أخيرًا أمام البيت، متأملين جهدهما بعينين متعبتين...
تنفس عمرو بعمق، كأنه يتذوق طعم الراحة لأول مرة:
-تم بحمد الله...
دنا منه عامر وسأله بخفوت:
-اتكلمت مع سراب؟
هز عمرو رأسه وهو يقول بأسفٍ:
-مكلمتهاش خالص يا عامر...
استدار عامر نحوه، وحاجباه ينعقدان بقلق:
-وبعدين؟ هتفضلوا كده؟ الفرح بعد يومين!
مرر «عمرو» يده في شعره، وقال وعيناه تائهتان:
-مش عارف أعمل إيه...
ربّت عامر على كتفه:
-لازم تتكلم معاها، وإن شاء الله ربنا يهديكم الحال.
صمت «عامر» هنيهة ثم تنهد بعمق وأضاف:
-أنا بقى مش عارف تُقى مالها... مخطوفة ومخضوضة، فيها حاجة بس أنا مش عارف هي إيه!
نظر إليه عمرو بتعاطف:
-طبيعي، أعتقد... كل البنات بيبقوا كده لما فرحهم يقرب... تلاقيها متوترة.
هز عامر رأسه ببطء، عيناه تغوصان في قلق دفين:
-لا، لا... مش توتر ده! حاسس إنها مخبّية عليا حاجة...
ساد بينهما صمت ثقيل، لم يقطعه سوى صوت النسيم الذي داعب أوراق الأشجار، وكأنما يحمل معه أسرارًا لم تُفصح بعد...
★★★★★★
اجتمعوا حول مائدة الإفطار في بيت «ضياء»، يعلو الصمت بينهم بينما كانت أصوات الملاعق تحتك بالأطباق...
مضغ صالح طعامه ببطء، وعيناه تراقبان رغدة ورحمة بنظرات حادة، وجفونه تضيق وكأنها تُمعن التحديق في داخلهما...
شعرت الفتاتان بوطأة نظرته، فارتبكتا دون أن تنطقا.
قطع «صالح» الصمت فجأة، وصوته خالٍ من أي تردد:
-أنا قررت أنقل رغدة ورحمة مدرسة في مطروح وأخدهم معايا.
تجمدت يد «رغدة» في منتصف الطريق إلى فمها، سقطت الملعقة من يدها وأحدثت رنينًا مكتومًا على الطبق...
رفعت رأسها بحدة، وعيناها تلمعان بتحدٍ:
-لأ، أنا مش همشي من هنا.
لم يرمش «صالح»، ولم يهتز صوته وهو يرد ببرود:
-مش باخد رأيك.
همست «رحمة» بصوت مهتز:
-وأنا كمان مش موافقة.
التفت «صالح» إليها بحدة، كأنه يجلدها بنظراته قبل أن يقول بلهجة قاسية:
-وهو حد قالك إني باخد رأيك.
ارتعشت شفتا «رغدة» قبل أن تتفجر غضبًا:
-يعني إيه... هو بالعافية؟ إنت بقالك سنين مبتسألش عليا، اشمعنا دلوقتي يعني؟
تقوس فمه بابتسامة جافة خلت من أي عاطفة، ورد بجفاء:
-أنا حر.
التفتت «رغدة» نحو جدها، عيناها متوسلتان:
-قول حاجة يا جدو...
أطلق الجد تنهيدة ثقيلة، نظر إلى رغدة بنظرة عجز قبل أن ينطق بصوت منهك:
-أبوكوا وهو أدرى بمصلحتكم.
تصلبت «رغدة» للحظة، كأن كلمات الجد سقطت كالصخر فوق صدرها، ثم وثبت واقفة، ارتعش جسدها من شدة الغضب:
-وأنا مش هروح معاه، أنا أهون عليا أموت ولا إني أعيش معاه ومع مراته دي...
قالتها وهي تشير لزوجته الجالسة بهدوء ولا تشارك بأي كلمة أو حركة...
وأضافت وهي ترشق «صالح» بنظرات حادة:
-وياريت تنسانا خالص حتى الفلوس اللي بتبعتها متبقاش تبعتها...
في لحظة خاطفة، انقض صالح عليها كالصاعقة. أمسك بشعرها وجذبه بعـ ـنف، فانطلقت صرختها تخترق جدران المنزل، بينما هدر بصوتٍ كالرعد:
-إنتِ مشوفتيش تربية! بتعلي صوتك عليا!
تجمّد الجميع للحظة، قبل أن تنهض والدته ووالده ورحمة دفعة واحدة، يحاولون فك قبضته عن رغدة، بينما تتردد صرخاتها في أرجاء المنزل، هدر بها صالح:
-طيب، هشوف كلمة مين اللي هتمشي يا رحمه.
اشتدت قبضة صالح على شعرها حتى شعرت وكأن فروة رأسها تُنتزع، لكن شفتيها انفرجتا عن ابتسامة ساخرة، خرجت مشوبة بالألم والمرارة:
-إنت حتى مش عارف أنا رغدة ولا رحمة... مش هروح معاك يعني مش هروح.
تصلب وجهه للحظة، ارتبكت عيناه، ثم احمرّت وجنتاه من الغضب والإحراج...
زاد من قسوة قبضته كأنه يعاقبها وهدر بصوت غاضب:
-يا بت بطلي عِند... وإنت شبه أمك كده!
رماها بعيدًا بقـ.ـوة، فهوى جسدها على المقعد بقـ.ـسوة، وصرخت وهي تشعر بظهرها يرتطم بخشب الكرسي، وضعت يدها على رأسها تتحسس مكان الألم...
حدّق «صالح» في يده، فوجد خصلات من شعرها قد التفّت على أصابعه، للحظة، تراجع خطوتين، عيناه تحدقان في الخصلات وكأنه لا يصدق ما فعله.
اخترق صوت «ضياء» الحاد الصمت:
-إنتِ إيه ياخي بتغيب تغيب وتيجي بقرفك... ارحمنا بقا...
تجمدت عضلات وجه «صالح»، رفع رأسه ببطء، وعيناه تشتعلان بتحدٍّ، وقال بصوت متهكم:
-متتدخلش يا بابا... بناتي وبربيهم...
ضحك «ضياء» بسخرية وقال:
-بتربيهم! لا ياخويا شكرًا... أنا ربيتهم أحسن تربية ملكش دعوه بيهم.
خرج صوت «صالح» كطنين نحلة غاضبة:
-متتدخلش يابابا قولتلك...
كانت أنفاسه تتلاحق، وصدره يرتفع ويهبط كمن يحاول السيطرة على بركان داخلي، بينما كانت «رغدة» جالسة على المقعد، تراقب كل هذا من بين دموعها، وعيناها تقدحان بنظرة تمرد، رغم جسدها المرتعش من الألم، و«رحمه» تقف خلف المقعد متوجسة تربت على كتفها ونظراتها تتذبذب في خوف.
وفي الزاوية...
وقفت زوجة صالح تراقب المشهد، وشفتاها ترتعشان بكبح ابتسامة خبيثة، وعينها تلمع بمكر.
كانت هي من دبرت كل شيء؛ رتبت لتزوج إحداهما لرجل سعودي يكبرها بأربعين عامًا لكنه يملك نفوذًا يكفي لتوسيع عمل صالح...
كان كل شيء يسير كما خططت له، لكن يبدو أن «ضياء» عقبة كما توقعت...
تأملته وهو يتدخل بحزم، وعقلها يعمل بسرعة... الخطة البديلة جاهزة، ولن تسمح لأحد بإفسادها...
وقبل أن يصطدم صالح مع والده في شجار أخر، أمسك بيد ابنه وأشار لزوجته، فنهضت على الفور، حملت ابنتها وخرجوا جميعًا من الشقة دون أن يلتفتوا للخلف، صفع الباب خلفه فتردد الصدى في الأرجاء.
وفي الداخل،شعرت «رغدة» بذراعي جدتها تطوقانها بحنان، ضمّتها إليها وكأنها تحاول أن تحميها من كل شيء...
تذكرت ابنتها المتوفية رغدة وغامت عيناها بالدموع، فقالت بصوت مخنوق:
-حبيبتي... خلاص...
وقف ضياء مكانه، مشدوهًا، حدّق في الباب المغلق قبل أن يهز رأسه ببطء، زفر بضيق، وهز رأسه مرة أخرى وهو يتمتم بصدمة:
-الواد دا مش طبيعي...
التفتت إليه الجدة بسرعة، وعيناها مشتعلة بالقلق والخوف:
-إنت هتسيبه ياخدهم؟
لم يجب فورًا، بل ظل صامتًا، وثقل الصمت يملأ الغرفة، ثم قال بصوت متردد:
-مش عارف.
نهضت رحمة من مكانها، وانقضت على ذراع جدها، تشبثت به كالغريق الذي يتعلق بخشبة نجاة، عيناها المتوسلتان تبحثان عن أمل في وجهه:
-بالله عليك يا جدو... متخليهوش ياخدنا... أرجوك.
تجمد «ضياء» في مكانه، شعر بقبضتها ترتعش على ذراعه... نظر إلى وجهها البريء الملطخ بالدموع، ثم تنهد بعمق وقال:
-أبوكوا دماغه ناشف ولما بيحط حاجه في دماغه بينفذها... ومع ذلك أنا مش هسمحله يعمل حاجه إنتوا مش عايزينها...
استغفروا 🌸
★★★★★★
دخلت «تُقى» الغرفة بخطوات هادئة، كان الهواء راكدًا والستائر مسدلة، لكن خيوط الضوء تسللت عبر حوافها، مرسومة بخفوت على الجدران...
لم تُرفع الستائر ليومين كاملين، فبدا المكان معلقًا بين ليلٍ طويلٍ ونهارٍ خجول.
رأت تُقى عيني سراب، محدقتين في السقف بثبات، كانت نظراتها جامدة كأنها تحاول فك طلاسم خفية...
أدركت تُقى أنها مستيقظة، لكنها حبيسة أفكارها، فتوجهت نحو زر المصباح وضغطته.
أغلقت «سراب» جفونها كمن يهرب من سطوة النور، ثم فتحتهما ببطء، وعادت نظرتها لتتسمر في السقف، بلا حياة.
اقتربت «تُقى» منها، حملت نبرة صوتها قلقًا مستترًا تحت محاولة حثّها على الحركة:
-هتفضلي كده لحد إمتى يا سراب؟ راقدة ومبحلقة في السقف؟ قومي، خلينا نشوف هنعمل إيه... لازم نرص العزال قبل ما الوقت يزنقنا.
لم تتحرك «سراب»، لم ترمش حتى.
بدت كأنها تسبح في بحرٍ بعيد، لا تصل أمواجه إلى الشاطئ.
خرج صوتها واهنًا، أقرب إلى الهمس:
-أنا مش رايحة في حتة... أنا هنام يا تُقى.
كانت كلماتها ثقيلة، تنزلق ببطء كأنها تُغلق أبوابًا خلفها...
ظلت تقى واقفة، تُحاول عبثًا اقناع «سراب» على النهوض وانتشالها من الغرق في مكانٍ لا يُرى، ثم ارتسمت خيبة الأمل على وجهها، وتصلبت ملامحها قبل أن تقول ببرود تخفي وراءه تعبًا عميقًا:
-بجد؟! طيب... أنا خلاص مش هجادل معاكي... بصراحة تعبت... هروح لوحدي أرص الحاجات في الشقتين أهون عليا من إني أقنعك... خليكِ راقده.
لم ترد سراب، فقط استدارت على جنبها وسحبت الغطاء فوق رأسها كما لو كانت تُحصّن نفسها من العالم.
توهجت شُعلة الغضب في عيني تُقى، استدارت نحو الباب بخطوات حادة، وصفعت باب الشقة خلفها، فتردد صدى الصفعة كطعنةٍ في الصمت، كأنها هزّت جدران الغرفة.
تسلل الصمت من جديد، ثقيلًا ومؤلمًا.
أزاحت «سراب» الغطاء ببطء، ورفعت رأسها قليلًا، كانت عيناها مشوشتان ووجهها شاحب...
حدّقت في السقف مرة أخرى، وكأنها تحاول الهروب من أفكارها، لكن الذكريات كانت أسرع.
ترددت كلمات «عمرو» في ذهنها، ببرودها وجمودها...
انتظرته يومين كاملين، توقعت مكالمة، رسالة، حتى اعتذارًا باردًا... لكنه آثر الصمت...
ضغطت على صدرها بيدها، محاولةً تهدئة ذلك الثقل الذي يسحق أنفاسها، تكدّست الدموع في عينيها، لكنها أبت أن تسيل...
تكوّرت على نفسها في وضعية الجنين، غاصت تحت الغطاء كأنها تبحث عن أمانٍ مفقود.
فقد بات الليل سجنًا لأفكارها التي لا تهدأ، تتراقص أمامها كالأشباح، تهمس لها بلومٍ وألم، وأصبح نهارها للنوم، هروبًا من مواجهة الواقع... وربما من مواجهة نفسها استسلمت وغرقت في سباتٍ ثقيل.
لم تشعر بمرور الوقت، حتى وجدت نفسها فجأة تنفتح جفونها على ظلامٍ دامس يبتلع كل شيء من حولها.
للحظة، انقبض قلبها بقــوة، وتسللت إليها فكرة مرعبة: هل أُصيبت بالعمى؟ هل استيقظت لتعيش الكابوس الذي كانت تخشاه دائمًا؟ كما حدث مع عامر ورائد من قبله وجدها من قبلهما...
تسارعت أنفاسها، وامتدت يدها بتوتر فوق المنضدة المجاورة تبحث عن هاتفها، وأصابعها المرتعشة تلتقطه بعجلة.
ضغطت على الشاشة، فانبثق الضوء في وجهها فجأة، أغمضت عينيها للحظة قبل أن تتنفس بعمق، محاولة تهدئة نبضات قلبها الجامحة.
نظرت إلى الساعة، كان الوقت بعد العشاء...
ارتسمت الدهشة على وجهها: هل نامت النهار بأكمله؟
اعتدلت ببطء، وشعرت بجسدها ثقيلًا كأنها تحمل فوقه أطنانًا من الإرهاق... سحبت قدميها من السرير، وقامت بتثاقل نحو النافذة، حين فتحتها، لفحتها نسمة ليلية ثقيلة، مشبعة بحرارة خانقة، لكنّها شعرت بالبرودة تسري في عروقها رغم ذلك.
تناهت إلى مسامعها أصوات مألوفة من الشارع، فحنت رأسها قليلًا لترى أفرعًا بمصابيح مطفأة معلقة على جانبي الطريق.
شردت عيناها لوهلة وهي تحدق في تلك الأفرع، وفجأة، تذكرت... زفافها بعد ثلاثة أيام.
هي عروس؟ شعرت بوخزة في قلبها، وارتجفت شفتيها بسخرية مُرّة.
تسارعت دقات قلبها بينما التقطت أذنيها صوت دياب يقول:
-مش عارف والله النور قاطع ليه من الصبح؟
ثم أضاف البدري بامتعاض:
-أيوه والله، حتى المايه قطعت، مش عارفين نستحمى، والجو حر خنقة.
رأتهم يجلسون أمام البيت، على عدة مقاعد هربًا من الحر، يتبادلون الأحاديث والشكوى.
نظرت إليهم من بعيد، كان الجو خانقًا، لكنّها شعرت ببرودة غريبة تزحف على جسدها.
احتضنت ذراعيها بقـ ـوة حول صدرها، كأنها تحاول حماية نفسها من شيء لا يُرى.
تركت النافذة مفتوحة، وعادت إلى فراشها، وهبط جسدها بثقل فوقه...
شعرت بأن المرتبة تبتلعها، تغرقها في أعماقها...
مدت يدها بتردد إلى هاتفها، وضغطت على الشاشة، لتظهر أمامها قائمة طويلة من المكالمات الفائتة... تُقى، نداء، شيرين... الجميع يبحث عنها، والجميع يجهل أنها ضائعة في أفكارها.
زفرت بعمق، وأغمضت عينيها للحظة، لكن صوت الرنين المفاجئ أيقظها من شرودها، نظرت إلى الشاشة، وقرأت الرسالة:
"حبيبة أبوها العروسة المنتظرة... اعذريني، جدك حسين توفّى والشغل كله عليا، لكن أوعدك يا قلب أبوكِ هتلاقيني قدامك في أي لحظة..."
شعرت بتقلص في معدتها، وامتلأت عيناها بدموع لم تنهمر.
ضغطت على أسنانها بقوة، وكتمت أنفاسها قبل أن تهمس بغلٍ مكتوم:
-ربنا ياخدك إنت كمان... وتحصّله ونرتاح.
ألقت الهاتف بعيدًا، سقط على الفراش بلا مبالاة، وعادت لتنظر إلى السقف، عيناها زائغتان، أفكارها تتدافع في رأسها بعنف.
تذكرت كارم... كلماته تتردد في عقلها وهو يُحذرها أن تبحث عن عائلة والدها.
تمتمت بصوت مرتعش:
-ياريتني سمعت كلامك يا جدو... يا ترى إنت فين دلوقتي؟ وحشتني أوي...
شعرت بالدموع تحرق عينيها، لكنها رفضت أن تستسلم لها...
تكوّرت على نفسها في وضعية الجنين، ولفّت جسدها بالغطاء كأنها تحتمي من كل شيء... من الذكريات، من الألم، من الحاضر الذي ينهشها دون رحمة.
★★★★★
في شقة «عمرو» حديثة الطلاء، تعبق فيها رائحة الأثاث الجديد، وتتوزع في زواياها مصابيح مشحونة تُشع بضوء خافت، كجزر صغيرة من النور وسط بحر من الظلام.
تحرك «عمرو» بين الغرف بخطوات بطيئة، يساعد هيام ووئام في ترتيب الأثاث، لكنّ حركاته كانت آلية، كأنه دمية تحركها واجباتها، بينما عقله في مكان آخر.
عيناه تتسللان بين الحين والآخر نحو باب الشقة، نظرات خاطفة، وكأنه ينتظر أن تظهر «سراب» في أي لحظة...
سأل تُقى أكثر من مرة، لكن الرد لم يتغير: "لازالت نائمة."
مر النهار بثقل ممل، يتباطأ وكأنه يعاند الزمن، ومع كل دقيقة كان شعور الفراغ يتسرب إلى قلبه كخيوط دخان لا تُرى.
حاول أن يخفي قلقه خلف قناع من اللامبالاة، لكن ظلال المصابيح الهادئة كانت تفضح انتظاره.
قطعت «هيام» الصمت وهي تمسح جبينها من قطرات العرق:
-يلا كفاية بقا... الجو حر وضلمه، نكمل لما النور يجي.
سألت وئام وهي تنفض الغبار عن يديها:
-هي سراب مجتش ليه؟
تصلّب جسد «عمرو» لوهلة قبل أن يرد ببرود مُصطنع:
-تُقى بتقول إنها نايمة.
ضيّقت «وئام» عينيها، وراقبته بحذر قبل أن تقترب منه فجأة وتضــربه على كتفه بخفة قائلة بحدة:
-إنت شكلك مصالحتهاش... حرام عليك يا عمرو.
شعر بلسعة الضمير تسري في صدره، لكنه تظاهر بالتماسك وقال بجمود:
-ما هي مجتش عشان أصالحها يا وئام.
نظرت إليه «هيام» بعينين لامعتين بالعطف، ثم قالت بنبرة آمرة:
-روحلها... امشي روحلها وصالحها... إنت مستنيها تيجي لك؟
قالت «وئام» وهي تهز رأسها باستنكار:
-يا حبيبي، الست حتى لو غلطانة لازم إنت اللي تعتذرلها... دي كرامتها أهم من أي حاجة.
ضحكت «هيام»، فشاركتها «وئام»، ووقفتا تهمسان لبعضهما بكلمات لم ينتبه لها عمرو...
ظل «عمرو» صامتًا، عيناه تهربان من نظراتهما، بينما تجمّدت يداه في مكانهما، كأنه يحاول كبت ارتجاف أصابعه.
زفرت «وئام» بضيق، ثم اقتربت منه ووضعت يدها على كتفه برفق قائلة:
-متبقاش عنيد... أكيد هي مستنياك، حتى لو مش بتقول.
مرر يده في شعره بعصبية، ثم زفر بعمق كأنه يحاول طرد الأفكار المزعجة من رأسه وأخيرًا، حسم أمره واستدار نحو الباب بخطوات سريعة.
خرج من الشقة، وعيناه تبحثان عن «تُقى» وجدها في شقتها المجاورة، ترتب الأغراض مع عامر الذي كان يرفع صندوقًا عن الأرض، ثم وقف يمسح قطرات العرق عن جبينه بكمّ قميصه...
شعر «عمرو» بوخزة غيرة طفيفة، لكنه تجاهلها، وتقدم نحو تُقى قائلاً بنبرة هادئة:
-عايز مفتاح شقتكم عشان اتكلم مع سراب...
توقفت «تُقى» عن العمل وحدقت فيه بحذر قبل أن ترد بتردد:
-اصبر دقيقة وهاجي معاك.
هز رأسه بعزم، وظهرت في عينيه نظرة إصرار:
-لا... عايز أتكلم معاها لوحدنا.
نظرت «تُقى» إلى «عامر» وكأنها تبحث عن دعمٍ أو مشورة، فابتسم عامر وأومأ لها مطمئنًا.
شعرت بالراحة تتسلل إلى قلبها، أخرجت المفتاح من جيبها ومدته إلى «عمرو» قائلة:
-بس بالله عليك بلاش خناق متستفزهاش عشان شكلها مرهق جدًا...
-متقلقيش...
قالها «عمرو» وأخذ المفتاح بيدٍ متوترة، ترددت عيناه للحظة، فقالت تقى:
-أنا مولعه شمعه هناك وممكن تكون خلصت فخد معاك لأن مفيش كشاف.
أومأ ثم استدار بخطوات سريعة نحو شقة «سراب»، وقلبه ينبض بعنف في صدره... يتساءل هل ستسمع له؟ أم سيواجه جدارًا من الصمت واللامبالاة؟
كُل خطوة نحو باب شقتها كانت تُثقل كاهله بمشاعر متضاربة؛ الندم، الخوف، والحب... كلها تجمعت داخله كعاصفة لا تهدأ.
توقف أمام الباب، وقبضته المشدودة على المفتاح ترتجف قليلًا، ثم زفر بعمق وأداره ببطء، مستعدًا لمواجهة عاصفة أخرى... داخل قلب سراب.
★★★★★★
وقف «عامر» قبالة «تُقى»، وعيناه تحفران طريقًا إلى أعماقها، يبحث عن الحقيقة المختبئة خلف بريقها، قطب حاجبيه وهمس بصوت خافت، لكنه مشحون بالتوتر:
-إيه بقا يا تؤتؤ؟
ارتبكت ملامحها، ورفعت حاجبيها بحذر:
-إيه إيه؟
اقترب خطوة أخرى، حتى كاد يسمع دقات قلبها المتسارعة:
-مخبية عني إيه؟
جفّ حلقها، واهتزت الكلمات على شفتيها قبل أن تخرج واهنة:
-ولا حاجة...
استدارت بسرعة، كأنها تتهرب من سهام نظراته، وبدأت تعبث بأطراف الأثاث بعشوائية.
رفعت مزهرية ثم أعادتها مكانها، أمسكت بكتاب ثم أسقطته دون قصد.
كانت حركاتها أشبه برقصة هروب، لكن عينيها لم تستطع الفكاك من أطياف الماضي، التفتت له وكان يتابعها زامًا جفونه، فركت أصابعها لبرهة وتلعثمت:
-أنا هروح الحمام...
اندفعت إلى المرحاض وأغلقت الباب بعنف، ثم أسندت ظهرها إليه...
في الخارج، كان صوته يتردد متوترًا، يقسم مرارًا وتكرارًا بأن هناك شيئًا غريبًا يحدث معها... شيئًا لا يفهمه بينما أغمضت تقى عينيها، تحاول حبس دموعها، لكن ذكريات حديث «شيرين» قبل أسبوع اقتحمت أفكارها بلا رحمة، لتعيد إليها كل كلمة، كل نظرة، وكل شعور حاولت دفنه.
قبل أسبوع
بعد الحاح من «يحيى» اقتنعت «شيرين» أن تخبر «تقى» بحالة «عامر»...
في غرفة شيرين، حيث كان الهواء ثقيل وكأن الجدران تحفظ سرًا مؤلمًا...
أغلقت «شيرين» الباب بإحكام وجَلست قبالة «تُقى»، وعيناهما تتشابكان في صمتٍ قلق.
. قبل أسبوع
بعد الحاح من «يحيى» اقتنعت «شيرين» أن تخبر «تقى» بحالة «عامر»...
في غرفة شيرين، حيث كان الهواء ثقيل وكأن الجدران تحفظ سرًا مؤلمًا...
أغلقت «شيرين» الباب بإحكام وجَلست قبالة «تُقى»، وعيناهما تتشابكان في صمتٍ قلق.
ارتعش صوت «شيرين» وهي تبدأ:
-إنتِ فاكرة الحادثة اللي عامر عملها من سبع سنين؟ لما... لما التاكسي عمل بيه حادثة وهو راجع من الدرس...
عقدت «تُقى» حاجبيها وقالت ببطء:
-أيوه، ودي حاجة تتنسي؟ الحمد لله إن الأيام دي عدت...
ارتعشت يد «شيرين» وهي تمسح دمعة عصيّة:
-الدكتور كان بيقول مش هيعيش، وإن عاش هيكون مشلول... لكن ربنا شافاه والعملية نجحت... بس...
تقطعت الكلمات على شفتيها، وارتعشت أنفاسها قبل أن تتسلل الدموع إلى وجنتيها، همست وكأنها تخشى أن تسمع صدى الحقيقة:
-الحادثة أثّرت عليه يا تُقى... محدش يعرف الموضوع ده، ولا حتى عامر نفسه... أنا آسفة إني خبيت عليكِ، كان لازم أقولك قبل كتب الكتاب.
تسارعت أنفاس «تُقى»، وشعرت ببرودة تجتاح أطرافها، لا تتخيل أن تفقد «عامر» لأي سبب، وقبل أن تحملها أفكارها لخيالات مؤلمة، قالت بلهفة:
-أثرت عليه إزاي يا طنط؟
اختنق صوت «شيرين» بالدموع، وارتجفت كتفاها وهي تهمس:
-مش بيخلف... بس ممكن ينفع بحقن مجهري...
وضعت «تقى» يدها على صدرها وهي تتنفس بارتياح ثم همست:
-الحمد لله... حرام عليكِ يا طنط، وقّعتي قلبي...
مسحت «شيرين» دموعها، ونظرت إليها بدهشة:
-يعني... مش هتسيبيه؟
رفعت «تُقى» رأسها بثبات، وارتسمت ابتسامة دافئة على وجهها:
-أسيبه؟ عشان إيه؟ الأولاد دول رزق يا طنط، وأنا واثقة إن ربنا هيرزقنا... طيب ما أنا ممكن يطلع عندي أنا مشكلة، يعني عمري ما كشفت ولا أعرف... السؤال بقا: هل عامر كان هيسيبني؟
طالعت «تقى» ملامح شيرين المترقبة، وابتسمت ابتسامة ملؤها الحب وهي تتابع:
-أنا مش عايزه إلا عامر يا طنط.... عامر ده من الأشخاص اللي مبتتكررش في العمر إلا مرة واحدة... عارفه يا طنط لما حاجه بتخوفني تلقائي صورته بتترسم قدامي فبتطمن، عامر... حنين وتقي ومؤدب، وبيخاف عليا وبيحبني...
لمعت عيناها بدمعة صادقة، ثم قبضت على يدي شيرين وهمست بصوت متهدج:
-وأنا بحبه أوي... أوي يا ماما... واسمحيلي بقا أناديكِ ماما...
ارتعش صوت «شيرين» وضمتها بقوة:
-دا أنا اتشرف إني أسمع اسم ماما منك... الهي يرضيكي ويريح بالك زي ما ريّحتي بالي... جميلك ده فوق راسي يا تُقى...
خرجت تُقى من أحضانها، وابتسامتها لا تزال عالقة على وجهها، ومسحت دموعها وهي تهمس:
-دا إنتِ اللي جميلك فوق راسي... شكرًا... شكرًا إنك مقولتيش لعامر... شكرًا إنك صُنتِ السر ومكسرتيش بخاطره.
عودة إلى الوقت الحالي
مسحت «تُقى» دمعة فرت منها، فلم تشعر يومًا بشوقٍ جارفٍ للأمومة، لكن خوفها عليه كان يلتهم قلبها...
لم تخشَ على أحلامها بل على جرحه هو، وتمنت من أعماقها أن يظل هذا السر مدفونًا للأبد.
دق «عامر» على باب المرحاض بنبرة قلقة:
-تقى! إنتِ كويسه؟
-آآ... أيوه... حاضر... طالعه أهوه يا عامر.
قالتها بنبرة مرتعشة، وأسرعت إلى الحوض، غسلت وجهها بالماء لتخفي آثار دموعها، ثم أخذت نفسًا عميقًا قبل أن تفتح الباب، لكن... قبل أن تلتقي عيناها بعينيه، شق الصمت صرخة مدوية في الأرجاء.
تجمدت للحظة، ثم تبادلا نظرة فزع خاطفة قبل أن ينطلقا ركضًا نحو مصدر الصوت.
★★★★★
سار «بدر» وحده بين ضجيج السيارات وصخب الشارع المزدحم...
دفن كلتا يديه في جيبي بنطاله، وكأنما يحتمي من الفوضى التي حوله.
كان عقله في مكان آخر، منشغلاً بشاشة هاتفه الصامتة؛ أرسل لباسل عشرات الرسائل عبر الواتساب، ولم يتلقَ أي رد.
انتظر بقلق، متمسكًا بأمل هشّ أن يبادره «باسل» بالحديث مرة أخرى، لعلّه يكشف له شيئًا عن سر حسين... وذلك الشيء الغامض الذي يبحث عنه.
تمنى لو تنقشع سحابة الألغاز التي تطارد أفكاره.
أين اختفى كارم؟ وما الذي يريده حسين حقًا؟ هل ما زال أخواه يطاردانه، أم ارتاحا من عناء ملاحقته بعدما ابتعد عنهما؟
مرّت بجواره دراجة نارية مسرعة، كادت تلامس كتفه، فارتد إلى الوراء، وهو يطلق زفرة انزعاج.
شعر بالضيق يتزايد داخله، وأخرج هاتفه مجددًا، يحدّق في الشاشة منتظرًا أي إشارة، لكن لا شيء.
أطلق تنهيدة طويلة، خرجت من أعماق صدره محملة بثقل تلك الأسئلة التي لا إجابة لها.
رفع رأسه ببطء، فتوقف فجأة عندما لمح «رغدة» تقترب منه...
كانت تشق طريقها وسط الزحام، تحتضن كتبها إلى صدرها بقــوة كمن يحتمي بها من صخب العالم.
كانت ملامحها مرهقة، وعيناها تحملان ظلال قلق عميق، لمحها «بدر» من بعيد، فتسارعت دقات قلبه دون إرادة منه.
تلاقت نظراتهما للحظة خاطفة، شعرت هي بحرارة وجهها فأبعدت عينيها سريعًا إلى الأرض، بينما شعر هو بشيء من الحرج، فعدل من وقفته وأخرج إحدى يديه من جيبه، مترددًا بين تحية عابرة أو تجاهل حائر.
ودون تفكير اقتربت «رغدة» حتى وقفت أمامه، وخرج صوتها خافتًا، مترددًا:
-إزيك يا مستر؟
تراجع خطوة إلى الوراء، وقال وهو يحاول أن يبدو طبيعيًا:
-الحمد لله، إنتِ عاملة إيه يا رغدة؟
صمتت للحظة، وعيناها تتفادى نظراته، ثم قالت بصوت مكسور:
-الحمد لله...
تردد لوهلة قبل أن يسأل:
-أومال رحمة فين؟ لسه تعبانة ولا إيه؟
أطلقت تنهيدة طويلة، وعانقت كتبها أكثر وكأنها تستمد منها القــوة، ثم همست:
-والله يا مستر... أنا اللي تعبانة... وتعبانة أوي.
انعقد حاجباه بقلق حقيقي، واقترب خطوة منها دون أن يدرك:
-ألف سلامة عليكِ، مالك؟
نظرت إليه بعينين لامعتين، قبل أن تهمس بصوت مخنوق:
-مش لازم يكون التعب جسدي... التعب النفسي وجعه أشد.
سألها بحذر:
-باباكِ؟
أومأت برأسها، وكأنها تحاول كبت دموعها، وقالت:
-عايز يحولنا ورقنا لمدرسة في مرسى مطروح وياخدنا معاه... بس والله العظيم لو عمل كده أنا هـ... ههرب يا مستر...
ارتعش صوتها، وبدت كمن يقف على حافة الانهيار. شعر «بدر» بانقباض في صدره، لكنه أخفى شعوره بتكتيف ذراعيه أمام صدره، محاولًا أن يبدو هادئًا، سألها:
-وجدك ضياء؟ مقالش حاجة؟
هزّت رأسها بمرارة:
-محدش بيقدر على بابا يا مستر...
وقفت تنتظر منه كلمة تطمئنها، لا تدري لمَ تحدثت معه، لكنها تمنّت للحظة أن يشفق عليها... أن يمنحها أمانًا لم تعرفه من قبل، أن يخبرها أنه سيتزوجها ويأخذها بعيدًا عن هذا الصخب، لكن...
عقد ذراعيه أمام صدره، وهو يطالع الأفق بصمت، كان بقلب الكلمات في رأسه، محاولًا السيطرة على شعوره الغريب، ثم قال بنبرة حازمة:
-يلا امشي قدامي... وأنا وراكِ لحد ما توصلي البيت.
تسمرت في مكانها للحظة، أضناها الندم وتمنت لو لم تقف لتحدثه شعرت بالإهانة، وكأنها ألقت بقلبها تحت قدميه...
ودون أن تعلق بكلمة واحدة، استدارت وسارت أمامه، تحتضن كتبها بقــوة كمن يتمسك بآخر خيط من كرامته، وبداخلها صوت عقلها يصدح بجملة واحدة: "يا لكِ من حمقاء."
سار «بدر» خلفها، وعيناه مسمرتان على خطواتها المرتبكة، وقلبه مثقل بكلماتها...
وكانت هناك جملة واحدة تتردد في رأسه بإصرار: "لازالت صغيرة... والزواج... ليس الآن."
انتشله من أفكاره رنين هاتفه، نظر إلى الشاشة فرأى رقم باسل فأجاب بسرعة:
-أيوه يا باسل... اختفيت فين؟
جاء صوت «باسل» ودودًا:
-معلش يا غالي، كنت مشغول الفترة اللي فاتت... طمني عليك، وأخواتك عاملين إيه معاك؟
ضاقت عيناه وهو يحدق في الأرض لبرهة، وكأنه يقرأ الأسئلة التي تدور في رأسه، ثم سأله:
-مش مهم إجابة السؤال ده دلوقتي، المهم تقولي حسين بيدور على إيه؟
صمت «باسل» لوهلة قبل أن يقول بصوت خافت:
انتوا مش عارفين إنه بيدور على كتاب؟!
توقف «بدر» في مكانه، مقطبًا جبينه، وسأل:
-كتاب إيه ده؟
رد «باسل» بنبرة مترددة:
-والله ما عنديش خلفية، بس اللي أعرفه إنه بعت لكارم فلوس ذهب كتير عشان يسلمه الكتاب ده... لكن كارم اختفى...
صمت «بدر» هنيهة وهو يسرع للحاق برغدة التي كانت خطواتها سريعة، بينما كان عقله غارقًا في حديث باسل، ثم عاد يسأله:
-كتاب إيه اللي يدفع فيه حسين فلوس من ذهب؟
-والله ما أعرف يا بدر، دا اللي نرمين حكتهولي.
أطلق «بدر» تنهيدة طويلة وظل يتحدث مع باسل يسأله عن مواصفات الكتاب، وكانت إجابة باسل أنه لا يعلم! تحدثا لفترة يطمئن كل منهما على الأخر قبل أن يستأذنه باسل ويغلق على وعد بالحديث مرة أخرى...
تاهت الأفكار في رأس بدر، كان هناك شيء غامض، شيء يربط بين كل تلك الخيوط المتشابكة...
لكن قرر أن ينتظر حتى انتهاء زفاف عمرو وعامر، ثم سيتحدث معهما ويشاركهما ما عرف لعلهم يتوصلون لشيء...
★★★★★★
كانت «سراب» غارقة في أفكارها، تتقاذفها الذكريات والكوابيس، حين سمعت صوت الباب يُفتح بهدوء، تسلل الصرير البارد إلى أذنيها، ثم تلاه وقع خطوات ثقيلة تتجه نحو غرفتها ببطء...
شحبت ملامحها وازدردت لعابها بصعوبة، وكأنها تحاول ابتلاع خوفها.
تجمدت في مكانها للحظة، قبل أن يتسلل إلى ذهنها وجه «حسين» بملامحه القاسية، فوثبت من فراشها كما لو أن شبحًا قد لامسها.
اتجهت نحو النافذة بخطوات مضطربة، كأنها تبحث عن مهرب، وتلاحقت أنفاسها بشكل متسارع، وكانت خفقات قلبها تدوي في صدرها كطبول الإنذار.
وحين ظهر ظل «عمرو» في عتمة الغرفة، خرجت منها صرخة عالية حادة مزقت السكون، وتراجعت للخلف وهي تصيح:
-متقربش يا حسين!
ارتبك «عمرو» للحظة قبل أن يُسلط ضوء مصباح هاتفه على وجهه، كاشفًا عن ملامحه المذعورة، وقال بلهفة:
-أنا عمرو يا سراب... اهدي...
كانت تلهث بشدة، نظراتها زائغة تبحث عن طوق نجاة، قبل أن تتوقف على ملامحه المألوفة...
تراجعت أنفاسها ببطء، لكنها لم تستطع السيطرة على ارتعاش جسدها وهي تقول بصوت متقطع:
-دخلت... هنا... ازاي؟
-بـ... بالمفتاح... كنت جاي أطمن عليك... اهدي...
جلست على طرف الفراش، ضمت ذراعيها إلى جسدها كمن يحتمي من برد قارس، وهمست بصوت مرتجف:
-إيه اللي جايبك... حرام عليك... افتكرتك حسين...
جلس على ركبتيه أمامها، محاولًا تهدئتها:
-إيه اللي هيجيب حسين هنا... اهدي... أنا كنت جاي أطمن عليكِ... إنتِ نائمه من الصبح؟
أشاحت بوجهها بعيدًا وكأنها تحاول طرد بقايا الكابوس، وردت باقتضاب:
-منمتش بالليل... فمحستش بنفسي.
وضعت يدها المرتجفة على صدرها، محاولة تهدئة دقات قلبها الهوجاء، وقالت:
-روح... هاتلي مايه يا عمرو...
رمقها بنظرة قلق قبل أن يركض نحو المطبخ...
في تلك الأثناء، دوى طرق عنـ ـيف على الباب، فتحه فظهرت «تُقى» بملامحها المتوترة، وخلفها نساء العائلة وقد ارتسم الفزع على وجوههن.
هتفت «تُقى» بحدة:
-تصدق أنا اللي غلطانه... مكنش لازم أسيبك تيجي هنا لوحدك.
لم تنتظر رده وهرولت نحو «سراب»، التي ما إن شعرت بذراعي «تُقى» تحيطانها حتى انفجرت في البكاء، جسدها يرتعش كعصفور مبتل تحت عاصفة.
رمقته والدته بحدة وتبعت تقى وكذلك هيام ووئام ونداء...
بينما اقترب «عامر» من «عمرو» وهمس بغضب مكبوت:
-إنت عملت إيه؟
-والله ما عملت حاجه.
في تلك اللحظة، عاد التيار الكهربائي، وأغرق المكان في ضوء قاسٍ كشف عن الوجوه الشاحبة والعيون القلقة...
تجاهل «عمرو» كل النظرات المتسائلة والكلمات اللاذعة، واندفع نحو «سراب» بزجاجة المياه.
حاولت الإمساك بها، لكن أصابعها المرتعشة أبت الاستجابة.
اقترب منها بحذر، رفع الزجاجة نحو شفتيها وهو يقول بصوت دافئ:
-اهدي... كلنا جنبك...
شربت ببطء، وحين ابتلعت أول رشفة، شعرت بأنفاسها تهدأ قليلاً، لكنها لم تستطع منع دموعها من الانهمار، تاركة أثرًا على خديها الشاحبين.
وقف «عمرو» صامتًا متجاهلًا تساؤلاتهن نظراتهن المتحفزة، موجهًا كل انتباهه نحو «سراب» التي كانت ترتجف...
اقترب منها ببطء، وجلس على ركبتيه أمامها، محاولًا أن يجعل نظره في مستوى عينيها الغارقتين بالدموع....
وبصوت خافت مفعم بالندم، قال:
-آسف... آسف إني خوفتك... مكنتش أقصد أبدًا...
كانت تحدق فيه بعينين واسعتين، تومئ برأسها لكل كلمة يقولها، وكأنها تتشبث بصوته ليعيدها من حافة الهاوية.
لم تستطع التوقف عن الارتجاف، وكانت دموعها تنساب على وجنتيها في صمت.
تابع بصوت دافئ محاولًا تهدئتها:
-أنا مش هعمل كده تاني... والله... كنت بس قلقان عليكي...
لم ترد، فقط استمرت في التحديق فيه، وكأنها تخشى أن يختفي إذا رمشت...
حاول رسم ابتسامة خفيفة ليخفف من حدة الموقف، واقترح بلطف:
-طيب... إيه رأيك نشيل آخر قانون وننفذ الباقين؟
ظهرت شرارة خافتة من الحياة في عينيها وهي ترد بارتعاش:
-عمرو... إنت مستفز...
ضحك بخفة، ناظرًا نحو والدته التي كانت تراقب المشهد بقلق، وقال بابتسامة مشاكسة:
-جدًا والله... وماما أهيه تشهد...
ثم عاد بنظره نحوها، وملامحه تفيض بالحنان، وأكمل مبتسمًا:
-موافق على كل قوانينك... وهعملك كل اللي إنتِ عايزاه... إلا حاجة واحدة... إنك تبعدي عني يا بت يا سراب...
رغم الارتعاش الذي ما زال يعصف بجسدها، لم تستطع منع شفتيها من الانحناء بابتسامة صغيرة، وهمست:
-بت! برده بتغلط أهوه...
وضع يده على صدره بإخلاص مصطنع، وقال بجدية مفتعلة:
-والله إنتِ ست البنات كلها...
حينها، بدأت كتفيها بالارتخاء، وظهر بريق خافت في عينيها، كأنها بدأت تستعيد إحساسها بالأمان...
ابتسمت أخيرًا، تلك الابتسامة التي انتظرها الجميع بفارغ الصبر.
فجأة، قطعت «شيرين» الصمت بزغرودة عالية شقت هدوء الشارع، فالتفت الجميع نحوها بذهول، بينما كانت هي تضحك بمرح، قائلة بحماس:
-ألف مبروك يا حبايب قلبي!
عم الضحك المكان، واختلطت دموع «سراب» بابتسامتها، وكأن الخوف قد انزاح عنها أخيرًا، ليحل محله دفء الحب والأمان.
ومرت الأيام سريعًا حتى حلّ يوم الزفاف، وانشغل الجميع بالتحضيرات والبهجة التي ملأت الأرجاء...
★★★★★★★
"من الرائع أن تسعى لتحقيق أحلامك، ولكن...
عليك أن تدرك أولًا أن ليس كل الأحلام مكتوبًا لها أن تتحقق، وإلا فلا تحلم... وتذكر أن بعض الأحلام التي صرفها الله عنك، لو تحققت، لكانت كوابيس، ولكن الله نجاك منها."
قرأت «رحمة» ما نشره «نادر» على فيسبوك قبل عدة أيام حتى حفظت كل كلمة.
رغم كل شيء، تشتاق إليه... ورغم هروبها الدائم منه، ومقاومتها لفكرة رؤيته، تتابع كل ما ينشره، تراقب تحركاته من بعيد دون أن يشعر، لكن... منذ خمسة أيام ولم ينشر شيئًا... ولا تعرف عنه أي خبر.
أطلقت تنهيدة طويلة، وفي تلك اللحظة ارتفع أذان الظهر، فنهضت لتذهب لبيت دياب، فرغدة هناك منذ الصباح، لكن قبل أن تخطو خطوة أخرى...
فُتح باب غرفتها فجأة، دخل والدها بخطوات ثقيلة وعينين قاسيتين.
ألقى بفستان على السرير وقال بلهجة صارمة لا تقبل النقاش:
-البسي ده... ويلا عندنا مشوار.
سألت بصوت متردد:
-مـ... مشوار فين؟
-في داهية... اخلصي البسي.
قالها بغضب مكبوت، قبل أن يستدير ويغلق الباب خلفه بقــوة، اهتزت لها جدران الغرفة.
تسمرت «رحمة» في مكانها للحظات، اضطربت أنفاسها وارتعشت يداها، نظرت إلى الفستان الملقى أمامها، أسود مرصع بفصوص ذهبية لامعة ومعه حجاب ذهبي... وكأنها مدعوة إلى حفل زفاف! تسللت أفكارها إلى أسوأ الاحتمالات، لكن سرعان ما طردتها، محاولة إقناع نفسها أن والدها لن يخطفها مثلًا!!
خرجت من غرفتها تبحث عن جدتها، علها تجد إجابة تُبدد مخاوفها، لكن الجدة أصرّت على تنفيذ أوامر والدها دون نقاش.
شعرت «رحمة» بالاختناق، لكنها لم تجد بدًا من الاستسلام.
ارتدت الفستان بيدين مرتعشتين، وخرجت لترافق والدها وزوجته.
وبينما كانت تسير بجوارهما، مالت نحو زوجة أبيها وهمست بتردد:
-هو احنا رايحين فين يا طنط؟
ردت بابتسامة غامضة:
-لا دي مفاجأة يا سكر...
ركبت السيارة بالمقعد الخلفي، وقبل أن تتحرك رأت «رغدة» فأشارت لها وعلى ملامحها ارتسمت علامات القلق، فتوقفت «رغدة» تنظر للسيارة التي غادرت وهي تشعر بقبضة غريبة في صدرها وصوت ينبهها أنها لن ترى أختها مجددًا...
مرت الدقائق على «رحمه» ببطء قاتل، وشعرت وكأن رحلة السيارة أبدية...
توقفت السيارة أخيرًا أمام فندق فخم، نظرت «رحمة» إلى البوابة العالية بتوجس ودخلت معهما وهي تشعر بقلق ينهش قلبها.
في ردهة الفندق، جلسوا أمام رجل مسن بملامح صارمة، كان يطالعها بنظرات تفحص باردة، كأنها بضاعة تُعرض أمامه.
شعرت «رحمة» بقشعريرة تزحف على جسدها، اقتربت من زوجة أبيها وهمست بخوف:
-مين ده؟
ابتسمت زوجة أبيها بخبث وقالت بصوت مرتفع وهي تشير للرجل:
-الحاج خليل جاي مخصوص عشانك يا رحمة...
تجمدت الكلمات على شفتيها، وبدأت أنفاسها تتسارع، ولتهرب من تلك النظرات أخذت تشرب العصير علها تبتلع غصتها، نظر الرجل إليها بعينين فاحصتين، ثم أخرج علبة ذهبية ووضعها أمامهم قائلًا:
-العروسة ما شاء الله تبارك الله... زينة والله... زينة البنات كلها... وهذا مهر العروسة...
شعرت «رحمة» بدوار، تاهت نظراتها بين وجه والدها المتجهم، وزوجة أبيها المبتسمة بمكر، والرجل الذي لم يتوقف عن التحديق بها.
قالت بصوت مرتجف:
-مين العروسة؟
قهقه الرجل بصوت أجش وقال:
-وش فيكِ يا عروس، ليش مرتبكة؟
كانت عيناه تتفحصانها دون خجل، وكأنه يقيم صفقة رابحة.
هبت «رحمة» واقفة، شعرت بثقل يكتم أنفاسها، وكأن صدرها قد ضاق فجأة.
التفتت نحو الباب، وعيناها تائهتان تبحثان عن مهرب، التفتت نحو والدها بدهشة وكانت ملامحه جامدة، يشير لها أن تجلس مجددًا، باغتها دوار مفاجئ تشوشت الرؤية أمامها، واهتز كل شيء من حولها، فوضعت يدها على رأسها، وقبل أن تسقط على الأرض، اندفعت نحوها زوجة والدها وأسندتها...
★★★★★
في شقة «سراب»، كانت تقف أمام المرآة، مرتدية ملابس الخروج، تُعدل حجابها على عجل وتمسك بحقيبتها بيد متوترة، بينما تحاول إقناع «عمرو» بمرافقتها:
-يا ابني افهم... العروسة عاملة فرحها العصر، يعني هنخلص بدري ونلحق فرحنا عادي...
كان «عمرو» متكئًا على حافة الباب، ذراعيه معقودتان، فاقتربت منه قليلًا وقالت:
-عشان خاطري يا عمرو... يلا...
زفر بعمق، ثم نظر لها بحيرة:
-وهنقولهم رايحين فين؟
ابتسمت بمكر خفيف وقالت:
-الكوافير!
رفع حاجبيه بدهشة، ورد بسخرية:
-يا سلام! والمفروض إن إنتِ ميكب أرتست العيلة أصلًا...
ضحكت ضحكة قصيرة، وهي تحاول إخفاء ارتباكها:
-يا سيدي مبعرفش أعمل لنفسي... يلا بقا عشان منتأخرش... بالله عليك يا عمرو... بص لو مش عايز تيجي خليك وأنا هروح لوحدي...
تحرك من مكانه بحسم، وهو يهز رأسه:
-لا يا ستي... هاجي معاكِ... يلا...
بينما كانا يغلقان باب الشقة، تمتمت «سراب» بصوت خافت، لكن ارتجافة بسيطة في نبرتها كشفت عن قلقها:
-يارب... لو المشوار ده مش خير... ادينا إشارة وهنرجع...
رمقها «عمرو» بنظرة قلقة، ثم اقترب منها وضغط على كتفها برفق، وصوته يفيض بالحنان:
-طيب طالما إنتِ متوترة كده... بلاش منه المشوار ده.
انتفضت كأن لمساته أحرقتها، وأزاحت يده بسرعة وهي ترد بتبرم وحِدة:
-لا... أنا مش متوترة... ومتلمسنيش! قولتك مية مرة.
ارتسمت ابتسامة مشاكسة على شفتيه، وضحك بخفوت وهو يقترب منها أكثر، ويمسك طرف حجابها من الخلف برفق، ثم قال ببرود متعمد:
-وأنا قولتلك حاضر... حاضر، مش هلمسك.
شعرت بحرارة وجهها ترتفع من استفزازه، واستدارت نحوه بحدة، محاولة إبعاد يده للمرة الثانية:
-يا ابني متبقاش مستفز...
تراجع قليلًا، لكنه لم يُزل ابتسامته الماكرة، وأردف ببرود مفتعل:
-هو أنا لمستك دلوقتي؟ أنا ماسك طرحتك... الله!
زمّت شفتيها بضيق، وارتسم على وجهها عبوس مضطرب، تنفست بعمق ولاذت بالصمت، فقد أدركت أن مجادلتها معه الآن لن تفيد...
كانت تحتاجه أن يرافقها، ولن تخاطر بإثارة غضبه.
نظر إليها بطرف عينيه، وبابتسامة صغيرة لم تفارق شفتيه، وكأنه يستمتع بمضايقتها... لكنه لم يُعلّق بشيء.
بعد دقائق، خرجا من الشارع المزدحم بالمقاعد المتناثرة، وأفرع المصابيح المطفأة التي تزينه حتى نهايته.
أشار «عمرو» لتاكسي، فتوقف أمامهما بسرعة.
فتح الباب الخلفي ودعا «سراب» للصعود، ثم تبعها وأغلق الباب خلفه.
أعطى «عمرو» السائق العنوان بصوت ثابت، بينما كانت «سراب» تجلس بجانبه في صمت، تحاول عبثًا تهدئة دقات قلبها التي تضاعفت سرعتها، وكأنها تتسابق مع الزمن.
قطع السائق الصمت بصوت جاف ومألوف بشكل غريب:
-يا بنتي لا... متروحيش... متبقيش حمارة!
تجمدت «سراب» لبرهة وعيناها اتسعتا بدهشة.
انحنت للأمام قليلاً، محاولة رؤية وجه السائق بوضوح، وعرفته، رمقها السائق بنظرة استغراب، لكنه عاد يتحدث عبر الهاتف بنبرة تأنيب:
-مش إنتِ بتثقي فيا وفي رأيي؟
أومأت برأسها ببطء، خفق قلبها بعنـ ـف وهي تهمس:
-آه...
هزّ السائق رأسه بحزم، وعيناه مثبتتان على الطريق:
-يبقا متروحيش يا حمارة... يا اللي مبتفهميش... متروحيش... ارجعي يلا... ارجعي...
تسارعت أنفاسها، وعادت بظهرها إلى المقعد، وشحب وجهها...
نظرت نحو «عمرو»، الذي كان يحدق فيها بقلق ودهشة:
-في إيه؟
همست «سراب» بصوت مرتعش:
-أصل... دا... الراجل ده قالي قبل كده... "متروحيش يا حمارة"... وأنا مفهمتش الإشارة...