رواية صراع الذئاب الجزء الثالث (غابة الذئاب) الفصل الخامس والعشرون 25 بقلم ولاء رفعت علي


رواية صراع الذئاب الجزء الثالث (غابة الذئاب) الفصل الخامس والعشرون 


هؤلاء هم البشر يمقتون كل ما هو سهل، و يعشقون كل ما هو صعب المنال. 


يتمدد كنان علي مضجعه في سكون يحيطه دخان سيجاره الذي ينفثه و ينفث معه كل ما يشعر به الآن، هل كان يجعلها تشعر بتلك الإهانة طوال السنوات المنصرمة عندما كان يقترب منها دون مشاعر؟! 


خرجت من باب المرحاض، تسير بزهو نحو مرآة الزينة، ترتدي مأزر الحمام و علي رأسها منشفة قطنية، قامت بتجفيف شعرها أولاً ثم تركتها جانباً وجلست علي الكرسي أمام الطاولة الرخامية المليئة بزجاجات العطور و مستحضرات التجميل. 


أخذت الفرشاة وبدأت تمشط شعرها، رأته عبر المرآة ينهض ويسير نحوها، تتابعه بعينيها حتي توقف خلفها مباشرة، تركت الفرشاة علي الطاولة وظل يتبادل كليهما النظرات، انحني بجذعه ووضع يديه علي أعلي ذراعيها، رأسه بجوار رأسها وينظر إلي إنعكاسها في المرآه يخبرها بهدوء مخيف لما يحمله في طياته من تهديد: 

"اللي حصل منك من شوية هاعتبر نفسي ما اسمعتوش، لأن لو سمعته كان رد فعلي مش هايعجبك أبداً، اتجنبي غضبي أحسن لك" 


حدقت إليه بقوة دون أن ترف أهدابها قائلة: 

"إيه حسيت بالوجع والإهانة؟" 


رد بغرور وتعجرف: 

"محدش يقدر يوجعني و لا يهيني و اللي هايعمل كدة أنا هامحيه من علي وش الدنيا" 


ابتسامة ساخرة ظهرت علي شفتيها تبعها قولها: 

"ما أنا عارفة، بأمارة اللي عملته سيلينا هانم لما استغفلتك وهربت منك" 


ليتها ما ذكرت اسم هذه الحية الصفراء، فمجرد تذكيره بما فعلته معه يجعل شيطانه الخامد يستيقظ من جديد، لملم خصلاتها في قبضة واحدة، و من بين أسنانه يخبرها بتهديد: 

"لو السيرة دي جت علي لسانك تاني، هاتشوفي مني وش أظن إنك جربتيه قبل كدة، بلاش تقفي قصادي يا دنيا لأنك مش قدي" 

ترك شعرها وابتعد ذاهباً إلي المرحاض، صفق الباب بقوة أجفلتها، قوتها الآن تلاشت فذرفت عيناها الدموع، كلما تريد الإنتقام والثأر فينتهي الأمر فوق رأسها، لا يوجد أمامها الآن سوي أن تكرس اهتمامها إلي الخطوة القادمة و أن تبني لها كياناً. 

※※※


مع مرور الأيام، حالة من الهدوء النسبي تغلب علي أحوال الجميع، و لكن كما قال السابقون دوام الحال من المحال، فهناك بعض الرياح التي تهب أحياناً، فهل تلك الرياح نذير للعاصفة التي سبقها ذلك الهدوء! 


يترجل كلاهما من السيارة أمام إحدى الأندية الشهيرة في العاصمة، فسألته وهي تراقب المكان بإعجاب وإبهار: 

"الله يا طه، المكان تحفة أوي، أنا كنت بشوفه ديماً في التليفزيون بس علي الحقيقة أحلي بكتير" 


وقف بجوار وخلل أنامله بين خاصتها فنظر إليها بسعادة وحب قائلاً: 

"و أنا مش ناسي لما قولت لي نفسك تتفسحي في مكان زي ده" 


ترك يدها ليحاوط كتفيها بذراعه، حدقت إليه و عينيها تتلألأ بالفرح نابع من فؤادها: 

"ربنا ما يحرمني منك يا أبو سالم" 


ابتسم و في عينيه لمحة عتاب فأخبرها بتوكيد: 

"أبو سالم وأبو ريتاچ" 


تحولت ابتسامتها من الفرح إلي الحرج، فأردف حتي يرى السعادة مجدداً في عينيها: 

"و قبل منهم أبو شيماء، مش أنا بالنسبة لك جوزك و حبيبك و أخوكي و أبوكي؟" 


أجابت و بريق عينيها يضوي من إنعكاس تلك الأضواء المتحركة عليه: 

"أنت كل أهلي و ناسي ومليش غيرك في الدنيا أنت وولادنا" 


كم أسعده تلك الكلمات البسيطة النابعة من القلب لتستقر في فؤاده، فمنذ ليلة الحفل و تصالح كليهما، حينها كان التفكير بتلك الجارة الحسناء يسيطر علي ذهنه بقوة فيبدد هذا التفكير بالتقرب إلي زوجته بعقله و قلبه قبل جسده، يعلم أن الشيطان لا يتركه بسهولة و سوف يكون له بالمرصاد حتي يقع في المعصية. 


"يلا بينا ندخل قبل ما أتهور و يمسكونا بفعل فاضح في مكان عام" 

لكزته بخفة في صدره وتضحك قائلة: 

"يا مجنون" 


في الداخل جلس كليهما حول طاولة مطلة علي مياه النيل، نسمات الهواء تلفح بشرتها وهي تراقب اليخت العائم علي متنه حفل زفاف، انتبهت من تأملها إلي صوت النادل الذي يسألهما: 

"طلباتكم إيه يا فندم؟" 


سأله طه: 

"عندكم فتة كوارع؟" 


نظرت شيماء إليه بدهشة، فأجاب النادل: 

"عندنا طواجن يا فندم، أتفضل بص علي الـ menu و قولي طلبات حضرتك" 


ألقي نظرة علي قائمة الطعام و المشروبات، لم يفهم أغلب أسماء المؤكلات، أغلق الكتيب وقال: 

"أنا عايز أتنين طاجن كوارع و ممبار و فتة، و كفتة مشوية علي الفحم و ياريت لو سلطة بلدي وطحينة" 


دون الأخر كل ما طلبه طه، فسأله: 

"أي طلبات تانية؟" 


"لما نخلص أكل هابقي أقولك علي الحلو" 


أومأ له الأخر قائلاً: 

"تحت أمرك" 


ذهب النادل فمالت شيماء بجذعها علي جانب الطاولة لتقترب من زوجها: 

"كوارع و ممبار إيه اللي عايز تاكلهم هنا!، كنت قولي وأنا أعمله لك في البيت أحسن" 


أمسك يديها وأخبرها: 

"أنا عايزك تريحي نفسك من شغل البيت اللي بيهد حيلك" 


سألته بإندفاع: 

"و مين اللي هيطبخ و يغسل و يروق؟" 


حدقها مبتسماً: 

"هاجيب لك واحدة تعملك كل ده"


سألته بسخرية: 

"أومال أنا بقي أعمل إيه بقي؟! " 


"كل المطلوب منك تهتمي بنفسك وبس" 


اتسعت عيناها بصدمة صاحت بغضب: 

"قصدك إن أنا معفنة يا طه؟!" 


أطلق زفرة و حاول أن لا يغضب من صوتها المرتفع، أجاب بهدوء: 

"وطي صوتك يا حبيبتي، طبعاً ما قصدش اللي فهمتيه، أنا بقولك تهتمي بنفسك يعني تنزلي تشتري لي هدوم جديدة و ياريت لو الحاجات المدلعة، تروحي الكوافير و لا بيوتي سنتر تعملي نيو لوك، من الأخر عايزك تدلعي نفسك، مش عايز منك أكتر من كدة" 


كانت تستمع إليه بفم مفتوح، بينما كان ينتظر الرد لفت إنتباهه علي بعد أمتار قليلة وجود جمع من الشباب يتجمعون حول إمرأة، لم يتمكن من رؤيتها جيداً سوي إن ابتعدوا جانباً فتقدم أحدهم منها ويقف بجوارها، يرفع هاتفه ليلتقط صورة selfie معها، في تلك اللحظة انتبهت إلي طه و تلاقت عيناها بخاصته، لكنه تهرب من النظر إليها علي صوت زوجته التي تقول: 

"ما أنا بشتري و بلبس و كل شهر بروح كوافير البت بيسه اللي علي ناصية الحارة لأن ما برتاحش غير معاها" 


عقب بصوت خافت من بين أسنانه: 

"بقولك بيوتي سنتر و أنتي تقوليلي بيسة اللي في الحارة!، تصدقي بالله أنا غلطان و حقك عليا" 


و قبل أن تنطق شيماء تدخل صوت أنثوي ناعم: 

"هاي طه" 


و كأن مسه تيار كهربائي، ينظر إلي زوجته تارة و إلي الأخري ذات القد المثالي ترتدي ثوباً ضيق للغاية يصل إلي ركبتيها بنصف أكمام وفتحة صدر تظهر بشرتها البيضاء، شفتاها الممتلئة و المطلية بالحمرة تتحرك لتسأله بدلال: 

"أنت مش فاكرني و لا إيه؟، أنا روميساء جارتك اللي ساكنة جمبك" 


نهض علي الفور دون تردد، مد يده إليها تلقائياً للمصافحة: 

"لاء طبعاً فاكر حضرتك، أهلاً وسهلاً" 


رأي شيماء تجلس في هدوء عكس طبيعتها في تلك المواقف، رسم ابتسامة علي ثغره يخفي بها توتره، يخبر جارته مشيراً نحو زوجته: 

"شيماء مراتي" 


هزت زوجته الأخري رأسها و بإبتسامة صفراء تخبرها: 

"و أم ولاده" 


أخذت الأخري تتفحصها لتري أمامها إمرأة ثلاثينية يبدو علي مظهرها إنها من الطبقة الشعبية، بينما الجمال فالمقارنة ليست في صالح شيماء. 


حدقت روميساء الأخري بكبر وزهو: 

"أهلاً وسهلاً"  


أجابت شيماء و مازالت تحتفظ بهدوئها إضافة إلي الابتسامة الساخرة: 

"أهلاً بيكي يا أخت روميساء" 


ألتفت الأخري بإهتمام و دلال إلي طه تسأله: 

"أنتم هنا تبع الفرح و لا جايين تتفسحوا؟" 


"جايين نشم شوية هواء و نتغدي، أتفضلي معانا الأكل زمانه جاي" 


أجابت بلباقة و تزيح خصلات شعرها خلف ظهرها: 

"Thanks، أنا هنا كان عندي سيشن تصوير زي ما قولت لك أنا بشتغل موديل " 


جاء إحدي الشباب: 

"ممكن أتصور معاكي يا فنانة؟" 


"طبعاً" 

وقف الشاب بجوارها ملتصقاً و رفع هاتفه يلتقط الصورة، اقتربت شيماء من زوجها وهمست إليه: 

"أنا عايزة أروح" 


عقد ما بين حاجبيه ثم خبرها: 

"إحنا جايين نقضي وقت حلو مش نتخانق و لا ننكد علي بعض، و بعدين لما نروح هافهمك كل حاجة" 


عقبت بابتسامة تخفي خلفها بركان علي وشك الإنفجار: 

"و أنا بقولك عايزة أمشي ياطه، بدل و رحمة أبويا لأسيبك و أروح لوحدي" 


جز علي أسنانه و حدقها بوعيد قائلاً: 

"ماشي يا شيماء" 


تفرغت روميساء من التصوير فألتفت إليه وقالت: 

"معلش ممكن تستناني أروح أغير هدومي و راجعة لكم؟" 


لم تستطع شيماء أن تتحلي بالصبر أكثر من ذلك فقالت له: 

"أنا هستناك في العربية" 


ذهبت في الحال فما كان بيد طه سوي الإعتذار من الأخري قائلاً: 

"معلش خليها مرة تانية، مضطرين نمشي عشان سايبين الأولاد لوحدهم في البيت، عن إذنك" 

قالها و علي الفور ذهب ليلحق بزوجته تحت نظرات روميساء التي تدرك كل ما يحدث جيداً، تتابع كليهما بنظرة مبهمة. 

※※※

وصل لتوه أمام المشفى، ترجل من سيارته يحمل حقيبة سوداء، هناك علي بُعد خمسة أمتار سيارة سوداء ذات زجاج معتم، تنظر إليه من خلف نظرتها الشمسية، حاولت الإتصال لكن كما يعطيها في كل محاولة _مشغول_ أدركت أن رقمها محظور لديه ألقت هاتفها علي الكرسي المجاور لها بغضب، فتحت أحد أدراج التابلوه، أخذت منه علبة معدنية صغيرة و ورقة نقدية بعملة أجنبية، قامت بفتح العلبة بها كيساً صغيراً شفافاً يحتوي علي مسحوق أبيض، أفرغت منه القليل داخل العلبة و وضعتها علي فخذها ريثما تطوي الورقة النقدية علي شكل أنبوب رفيع، قامت بإستنشاق المسحوق بفتحة أنفها من خلال الأنبوب التي صنعته، عادت إلي الوراء بأريحية تشعر بالإنتشاء بسبب هذا المخدر اللعين الذي اعتادت عليه حتي الإدمان عندما كانت في المصحة النفسية. 


بحثت بعينيها عن شىء ما فوجدت ضالتها تقع أسفل الكرسي المجاور، دنت من علبة السجائر وسحبت منها سيجارة، قامت بإشعالها و نفثت دخانها في الهواء، تقول بوعيد: 

"ما بقاش أنچي المهدي غير لما أرجعك ليا يا يوسف" 


وبداخل المشفي يخرج من غرفة تبديل الثياب، يرتدي الثياب الخاصة عندما يجري العمليات، هذا الزي الأزرق و لدي صدره مطرز بإسم المشفى، أتجه إلي غرفة مكتبه و عندما فتح الباب، وجدها تقف أمام المكتب تبتسم إليه: 

"واحشني يا يوسف" 


وقف بصدمة في مكانه، يحدق إليها والشرر يتطاير من عينيه، بحدة يسألها: 

"أنتي دخلتي هنا إزاي؟" 


يصدر منها صوت استنشاق كالمصاب بالزكام، ابتسمت وأجابت وهي تقترب منه آن واحد: 

"دخلت من الباب عادي، و لو قصدك دخلت من باب المستشفي إزاي، ما تنساش بابا الله يرحمه كان شريك هنا، و ما تنساش برضو أنا أبقي أم بنتنا لوجي"


أصبحت علي مقربة منه كادت تلتصق بصدره، قبض علي رسغها يسألها من بين أسنانه:

"عايزة مني إيه يا إنجي؟" 


نظرت إلي عينيه لثوان وضعت يدها علي صدره فأجابت بثقة: 

"عايزة نرجع أنا وأنت لبعض" 


أبعد يدها عنه بعنف قائلاً: 

"واضح إنهم خرجوكي من المصحة قبل ما تكملي علاجك" 


انسدل من أنفها خط من الدماء، شعرت به ففتحت حقيبتها تناولت محرمة وأخذت تجفف بها الدماء وترجع برأسها إلي الخلف لثوان ثم قالت باستنكار: 

"بالعكس أنا أتعالجت و أتغيرت للأحسن، حتي إسأل لوجي، دي حتي هي بتقعد تقولي يا مامي نفسي أنتي و بابي ترجعوا لبعض" 


حدقها بازدراء وكراهية حينما أدرك سبب تلك الأعراض التي تحدث لها فأخبرها: 

"أتغيرتي!، بأماراة شمك للبودرة اللي مبهدلاكي و مخلياكي تنزفي من مناخيرك" 


قالت بدفاع عندما كشف لها أمرها: 

"لاء، ده ده إلتهاب في الجيوب الأنفية هو اللي عاملي النزيف" 


ابتسم بسخرية قائلاً: 

"جيوب أنفية!، عموماً أنا مليش دعوة بيكي تشمي و لا تولعي بجاز أنا اللي يهمني بنتي، لو أتأذت بسببك في يوم من الأيام أو حتي لاقيتك ضيقتيها أنا مش هرجعك المصحة، لاء هخلي حبايبي اللي في الداخلية ياخدوكي بتهمة التعاطي" 


وجدت إن محاولتها لا تجدي نفعاً فلجأت إلي حيلة تظن إنها ستؤثر عليه، جلست علي ركبتيها أمامه تمسك بيده بتوسل، ترفع رأسها وتنظر إليه برجاء و بكاء زائف: 

"أرجوك يا يوسف أنا مليش غيرك، بابا مات و ماما عايشة برة مع أخواتها، و أي حد من قرايبنا لو كلمتهم ما يردوش عليا، كلهم بعدوا عني، مليش غيرك أنت ولوجي، أنا عارفة إنك بتحب علياء ومش هتقدر ترجعني عشانها، أنا راضية ترجعني و أكون مراتك في السر و أوعدك هاعيش تحت أمرك" 


عبس ونظر إليها بضيق، سحب يده من يدها وابتعد إلي الوراء: 

"قومي يا أنجي وبطلي اللي بتعمليه ده عشان ما تنزليش من نظري أكتر ما أنتي نازلة، حتي لو علياء مش في حياتي، قولي لي مين الراجل المحترم اللي يقبل يرجع لمراته اللي كانت بتخونه؟!، ده غير إن عمري ما حبيتك، يعني مفيش أي حاجة تشفع لك و تخليني أرجع لك" 


نهضت وقلبها في الحقيقة ينفطر من الألم أثر طعنات كلماته المهينة لها، أصابها نزيف أخر في أنفها، وضعت المحرمة لدي فتحة أنفها. 


أنقذه منها طرق الباب وصوت الممرضة في الخارج: 

"دكتور يوسف العمليات والحالة جاهزين" 


أخبرها بصوت جهوري: 

"أنا جاي حالاً" 


و قبل أن يذهب أخذ علبة المناديل من فوق المكتب وأعطاها إليها قائلاً: 

"اللي بيحصلك ده نتيجة أفعالك زمان ودلوقت، و لو عايزة تتغيري فده عشان نفسك و عشان بنتك اللي للأسف أنتي وصمة العار اللي في حياتها، عن إذنك عندي عمليات" 


غادر الغرفة تركها داخل خليط من عواصف المشاعر السلبية كالغضب والحقد، لم تبكي ولم تصرخ بل أخذت تضحك كمن أُصيبت بالجنون، توقفت عن الضحك تدريجياً عندما رأت المأزر الطبي، رفعت يدها تتحسس القرط في أذنها، قامت بخلعه وقامت برفعه أمام عينيها تحدق نحوه عن كثب و بداخل عقلها تقبع وساوس إبليس. 

※※※

تجلس ريتاج تستذكر دروسها في الغرفة و شقيقها في الردهة يشاهد التلفاز، أمسكت بهاتفها و رأت رسالة واردة لم تسمع صوت رنينها، قرأت محتواها في الحال

«ريتاچ عشان خاطري ممكن تردي عليا، أخر مرة هكلمك و مش هزعجك تاني» 


ترددت في الإتصال ثم قررت أن تلبي طلب هذا المحب المراهق، نهضت فذهبت لتطمئن بإنشغال شقيقها بالمشاهدة ثم عادت إلي غرفته وأغلقت الباب، قامت بلمس عدة أرقام تحفظها عن ظهر قلب، وضعت الهاتف علي أذنها تنتظر الرد. 


"ألو؟" 


جاء صوت زميلها: 

"أخيراً سمعت صوتك، مش كفاية ما بقتش أعرف أشوفك؟!" 


جلست علي طرف الفراش، وضعت خصلة شاردة خلف أذنها بخجل، أجابت بصوت هادئ للغاية: 

"من وقت ما ماما سمعتنا و أنت بتكلمني بقت تنزل معايا في كل مشوار حتي المدرسة" 


"طيب ينفع أكلم مامتك؟" 


"هتكلمها هتقولها إيه؟" 


"أقولها إن أنا بحبك و بخاف عليكي و عمري ما هأذيكي" 


لطمت خدها: 

"يا نهار أزرق!، ماما لو عرفت أصلاً إن بكلمك لسه ممكن تقتلني" 


"تقتلك ليه ما صاحبتك تولين هي و معاذ صاحبي بيحبوا بعض و مامتها عارفة و بتكلم مامته وبيتقبلوا في النادي كمان" 


"يا بني إحنا لسه أطفال، أخرنا نبقي أصحاب في المدرسة و...، سلام دلوقت هكلمك بعدين" 


انهت المكالمة عندما سمعت صوت صياح والدتها في الغرفة الأخري، و ذلك بعد أن ولج طه من باب المنزل، دفعته عن دربها و ذهبت إلي الغرفة، لحق بها وأغلق الباب خلفه حتي لا يسمعه الصغار

"ممكن أعرف إيه اللي عملتيه ده؟"


صاحت بصوت غاضب وبسخرية: 

"هو أنا لسه عملت حاجة، قال إيه هاي طه أنا روميساء جارتك، تعرفها منين البت دي و شوفتها و قبلتها قبل كدة أمتي؟" 


"وطي صوتك يا شيماء و أتكلمي عدل، و بعدين مالك بتسألني بنبرة إتهام ليه كأني خونتك معاها!" 


لوحت بيديها: 

"الله أعلم، الأيام اللي فاتت قعدت مخاصمني بالعشر أيام و قالب بوزك عليا كأن قتلت لك قتيل، يا تري الوقت ده شوفت الهانم أم فستان ملزق و شفايف هتفرقع من كتر الفيلر؟ " 


أطلق زفرة و حاول جاهداً أن يتحلي بالصبر في هذا الشجار الحاد، أخذ يردد: 

"أستغفر الله العظيم من كل ذنب عظيم، يارب الصبر من عندك" 


عقبت بتهكم: 

"أتاريك عمال تقولي اهتمي بنفسك ألبسي متدلع و غيري من لبسك، روحي بيوتي سنتر، ما كنت تقولي بالمرة روحي أنفخي شفايفك عشان أبقي شبهها و نعجب سيادتك؟!" 


تعجب من تفسيرها للأمور مما جعله يشعر بالضيق و قد نفذ صبره بالفعل، فقال لها: 

"هو أنا عشان بطلب منك أنك ترتاحي و تهتمي بنفسك و عايز أشوفك أجمل واحدة في عينيا تقومي تتهميني بإن عايزك تبقي شبهها؟!، هو ده اللي فهمتيه؟!، علي وضعك يا شيماء" 


شعرت كم هي حمقاء للمرة الثانية، لم تمنحه فرصة للشرح و تطلق الأحكام دون تفكير، تخشي أن يخاصمها مرة أخري، رأته قد استدار و كاد يذهب فأوقفته: 

"طه؟" 


ألتفت إليها و بوجه متجهم أجاب: 

"نعم؟" 


تقدمت نحوه واقتربت منه، فجاءت لها فكرة حتي لا ينقلب عليها كالسابق، أرتمت علي صدره، طوقت جذعه بذراعيها و أطلقت دموعها باكية: 

"غصب عني حقك عليا، أنا من حبي و غيرتي عليك ما بقتش شايفة قدامي و لا عارفة أنا بقول إيه" 


شعر بغصة في فؤاده نحوها، عانقها و أخذ يربت عليها لتهدأ وتكف عن البكاء: 

"خلاص يا شيماء" 


أبعدت رأسها عن صدره و نظرت إليه من بين دموعها تسأله: 

"أنت زعلان مني؟" 


رفع حاجبه يسألها: 

"أنتي شايفة إيه؟" 


توقفت عن البكاء التي أتقنته ببراعة وابتسمت: 

"شايفة إنك بتحبني و ما بيهونش عليك تشوفني في الحالة دي" 


تنهد قائلاً: 

"طيب الحمدلله إنك عارفة إن بحبك و ما بقدرش أشوف دموعك، يعني إستحالة أفكر حتي أخونك" 


فكت ذراعيها لتطوق عنقه بدلاً من جذعه، تبتسم بانتصار دون أن يراها، فقالت له بدلال: 

"و أنا واثقة فيك يا حبيبي، يا أبو ريتاج و سالم، و أبويا أنا كمان" 


"طيب مش هتعوضي بابا ده عن الأكلة اللي ضيعتيها علينا؟" 


ابتعدت قليلاً وسألته بحب: 

"من عيوني يا حبيبي، أحلي فتة كوارع و ممبار لبابا، هغير هدومي و هاروح أحضر لك الغدا" 


جذبها من خصرها بيديه يخبرها: 

"أنا مش عايز كوارع، أنا عايز أكلك أنتي" 

أنقض علي شفتيها بقبلة تلاها عناقاً أنتهي بالغوص في رحلة حب حميمية. 

※※※

إنها السادسة مساءً كما تراها الآن في الهاتف، عادت بأريحية إلي الوراء بعد عناء ساعات من فحص كل حالة لديها، ضغطت علي زر جرس التنبيه والذي صدح بالخارج، ما لبث سوي ثوان وولجت مساعدتها تخبرها: 

"دكتور علياء فاضل عشر حالات أربعة كشف و ستة استشاره" 


أخذت الأخري تمسد جبهتها و تنكمش ملامحها بألم فقالت لها: 

"معلش يا أمل بلغيهم إنهم يجوا بكرة و هيدخلوا الأول" 


سألتها أمل بإهتمام: 

"حضرتك كويسة؟" 


أجابت بصوت ينضح بالوهن: 

"مرهقة و عندي صداع مخليني مش شايفة قدامي" 


"ألف سلامة عليكي" 


نهضت وتخلع المأزر الطبي: 

"الله يسلمك، لما الحالات يمشوا أبقي أقفلي المكان كويس" 


"ما تقلقيش يا دكتور" 


غادرت المركز الطبي وذهبت إلي السيارة، و قبل أن تدخل هاتفت زوجها لكن كالعادة لا يجيب و ذلك لإنشغاله في إجراء العمليات الجراحية للمرضي. 


جلست علي كرسي القيادة، قامت بتشغيل المحرك وقد سمعت صوت تنبيه رسالة واردة

«مش قولت لك إن يوسف هيرجعي لي، روحي له المكتب و هاتعرفي كل حاجة، و بليز ممكن تدوري لي علي فردة الحلق بتاعي، أصل لما روحت أكتشفت إنها وقعت مني لما كنا أنا ويوسف مع بعض» 


أسفل الرسالة صورة فردة القرط الأخري و صورة للمأزر الطبي الخاص بزوجها والمطرز عليه اسمه ملطخ بحمرة الشفاه. 


رغماً من شعورها بالتعب لكن بمجرد قراءة تلك الكلمات و رؤية الصور جعل دمائها تغلي كالماء داخل المراجل، قررت بدلاً من الذهاب إلي المنزل عليها أن تذهب إلي المشفى. 

※※※


"أهلاً وسهلاً دكتور علياء، المستشفي نورت" 

قالتها موظفة الإستقبال، اكتفت الأخري بابتسامة رسمية و ردٍ مقتضب: 

"أهلاً" 


قادتها ساقيها إلي غرفة المكتب الخاصة بزوجها، و حينما وصلت اقتحمت الغرفة دون أن تطرق الباب، لم يكن بها يبدو إنه لم ينته من العمليات بعد، تركت حقيبتها علي الكرسي أمام المكتب، وقعت عيناها علي محارم ورقية ملقاه علي الأرض أمام الكرسي، دنت منها فوجدتها ملطخة بآثار الحمرة، و قبل أن تنهض لمحت بريق معدني، مدت يدها إلي هذا الشئ فوجدتها فردة القرط مثل الصورة المرسلة إليها. 

نهضت تبحث عن المأزر فوجدته معلقاً علي المشجب المعدني، اقتربت منه وأخذت تتفحصه جيداً فرأت آثار الحمرة كما يوجد بالصورة الأخري. 


فُتح الباب فجأة فالتفت، ولج فرآها تقف أمام  المشجب تمسك المأزر، ابتسم دون أن ينتبه إلي نظرات عينيها التي يتطاير منها الشرر: 

"للدرجدي وحشك أوي، ماسكة البالطو بتاعي وشكلك كنتي بتحضنيه، أهو صاحب البالطو واقف قدامك" 


أشارت بعينيها إلي آثار الحمرة علي المأزر تسأله بهدوء قاتل: 

"إيه ده؟" 


نظر حيثما تشير رفع كتفيه مجيباً: 

"معرفش"


رفعت أمام عينيه فردة القرط تسأله باتهام صريح: 

"و دي كمان متعرفهاش؟"  


شعر كأنه أحمق لوهلة، سألها و بدي عدم فهمه للأمر علي ملامح وجهه: 

"أيوة مش فاهم تقصدي إيه، دي فردة حلق و ده البالطو بتاعي" 


ضيقت عينيها قائلة: 

"أنا قصدي علي أحمر الشفايف اللي علي البالطو و فردة الحلق اللي كانت لابسها الست أنچي، اللي كانت هنا بتعمل إيه؟" 


الآن اتضح له الأمر كالشمس، جلس علي الكرسي وعقد ساعديه أمام صدره فأخبرها: 

"أيوة كانت هنا قبل ما أبدأ العمليات، جت وبتتحايل عليا أرجع لها حتي لو في السر، خيالها المريض مصور لها إن أنا ممكن أطوعها بس أنا عرفت أوقفها عند حدها وعرفتها لو السما أنطبقت علي الأرض مستحيل نرجع" 


"يعني ده كل اللي حصل بس؟" 

عقد ما بين حاجبيه قائلاً: 

"أظن أنتي عارفاني كويس، مليش في الكدب و لا الحوارات، واضح الهانم حبت تلعب لعبة قذرة عشان توقع ما بينا" 


جلست علياء علي الكرسي المقابل له: 

"أتاريها عمالة تبعت لي في رسايل بتقولي إنها مش هاتسيبك غير لما ترجع لها و النهاردة بعتالي صورة الحلق و البالطو و رسالة فيما معناه إنها كانت معاك وحصل ما بينكم... 


لم تكمل حديثها فأصابته نوبة من الضحك مما أثار غضبها، صاحت تسأله: 

"هو أنا قولت إيه يضحك؟"


توقف عن الضحك رويداً فأجاب: 

"مش قصدي أضايقك والله، أنا بضحك إزاي تصدقي إن ممكن يحصل حاجة ما بيني و بين أنچي و أنتي أكتر واحدة عارفة يوم ما أتجوزتها كان إجبار من بابا الله يرحمه و جوازنا أنتهي لما أكتشفت خيانتها وبعدها قتلت ابن خالتها اللي كان عشيقها، مش عارف شكيتي فيا إزاي؟!" 


"ده مش شك لأن عمري ما شكيت فيك، الموضوع و ما فيه مجرد التخيل خلاني أتجننت، و رسايلها مستفزة جداً، بصراحة لوجي صعبانة عليا أوي إن واحدة زي دي تبقي مامتها" 


تنهد وقال: 

"ما هو عشان كدة أنا قررت إنها ما تروحلهاش"


"ما ينفعش يا يوسف، مهما كانت دي مامتها مش لو عشان أنجي يبقي عشان لوجي اللي المفروض أنك تقرب منها و تصالحها عشان واخدة علي خاطرها منك لما زعقت لها قدامنا" 


"أنا اللي عصبني منها لما عرفت إنها باتت عندها اليومين اللي سافرنا أنا وأنتي فيهم، رغم كنت منبه عليها قبل كدة ممنوع تبات عند مامتها، كفاية إن بخليها تروح لها كل أسبوع"  


عقدت حاجبيها فسألته بعد أن شعرت هناك خطب ما: 

"ما جتش من يومين يا يوسف في الأول و الآخر دي مامتها و عمرها ما هتأذيها" 


أطلق زفرة يخرج ما يجول و يثور في صدره قائلاً: 

"أنجي لسه محتاجة تكمل علاج نفسي، ده غير الكارثة الكبيرة الهانم مدمنة كوكايين" 


شهقت بصدمة ثم قالت: 

"ده كدة بتدمر نفسها و ممكن تدمر البنت وتأذيها نفسياً" 


حدق نحو الفراغ ليخبرها بأمر محسوم: 

"ما أنا مش هخليها تشوف بنتها غير لما تتعالج الأول نفسياً و من الإدمان" 

※※※


و في صباح اليوم التالي... 

عبرت جهاز التفتيش الإلكتروني في مدخل بوابة الجامعة، تتحدث في الهاتف: 

"أنا وصلت يا حبيبي أول ما هخلص الـ section  هكلمك" 


أجاب آدم علي الجهة الأخري داخل مكتبه: 

"أهم حاجة خدي بالك من نفسك، و ملكيش دعوة بحد" 


ابتسمت وقالت ساخرة بمزاح: 

"ناقص تقولي أعملي الواجب، هو اللي بعمله مع يوسف ابننا أنت بتعمله فيا و لا إيه؟" 


"ما أنا فعلاً ناوي لما أرجع النهاردة هذاكر لك بنفسي، عملي و نظري، و العملي قبل النظري كمان ولا عندك إعتراض؟" 


أدركت مغذي حديثه فقالت ضاحكة: 

"يارب أكون فهمت غلط" 


"لاء أنتي فهمتي صح، عارفة ليه؟" 


"ليه يا دومي؟" 


"عشان بحبك و وحشاني علي طول" 


"طيب بذمتك أنا هارد عليك إزاي دلوقت و... 

اصطدمت بفتاة فوقعت حقيبة اليد خاصتها

"هقفل معاك دلوقتي وهكلمك بعدين، سلام يا حبيبي"

دنت من الحقيبة فسبقتها الفتاة تعطيها إياها معتذرة: 

"آسفة، أصلي كنت بمد عشان ألحق الـ section قبل ما تبدأ"


ابتسمت خديجة وقالت: 

"و لا يهمك، حصل خير" 


مدت الأخري يدها: 

"معلش ملحقناش نتعرف المرة اللي فاتت، و شكراً علي وقفتك معايا أنتي والأستاذ اللي كان معاكي، اسمي فجر الدسوقي، سنة أولي للمرة التانية" 


صافحتها مبتسمة: 

" أنا خديجة البحيري، وبعدين مفيش شكر علي واجب، و بما إننا طلعنا زملاء دفعة واحدة ممكن نبقي أصحاب" 


"ده شرف ليا طبعاً، بس أنا أفتكرتك سنة رابعة و أتنقلتي من جامعة تانية لهنا" 


هزت الأخرى رأسها بالنفي وقالت: 

"لاء أنا كنت ثانوي تجاري و جبت مجموع عملت معادلة منزلي و كنت بروح علي الإمتحانات، و لما نجحت أنشغلت في تربية يوسف ابني عن أكمل دراستي" 


"ربنا يوفقك، أنا بحب الإنسان المجتهد و مش بيوقف عند حد معين في طموحاته، كل ما يكون عندك هدف كل ما هاتسعي لحد ما تحققيه" 


"برافو عليكي، ده اللي بقوله لنفسي فعلاً، واضح إن تفكيرنا متقارب" 


ابتسمت الأخري وقالت: 

"ده أنا اللي فرحانة جداً أخيراً لاقيت حد يفهمني... 


شهقت عندما تذكرت موعد المحاضرة: 

"شوفتي الكلام خدنا إزاي!، يلا تعالي نلحق ندخل قبل الدكتور بدل ما يطردنا، أصله لما بيدخل ممنوع أي حد يدخل بعده"


بعد قليل... 

يجلس الطلاب خلف المقاعد في صمت يستمعون إلي استاذهم ذو الملامح الحادة، رجل أربعيني يرتدي بدلة سوداء. 


"النهاردة هنتكلم عن الحرية، حرية الرأي و حرية الفكر، أنت حر في إختيار عقيدتك حتي ميولك" 


رفعت احداهن يدها، أشار إليها فوقفت 

"أتفضلي" 


"حضرتك بتقول الواحد حر في ميوله معني كدة أنك بتؤيد اللي بيحصل من فترة زي الشباب و البنات اللي بيهاجروا برة بسبب أنهم منبوذين من المجتمع العربي بسبب ميولهم إنهم يعني رينبو" 


عقب حديثها صوت ضحكات الطلاب علي الكلمة الأخيرة، فأوقفهم الأستاذ بجدية: 

"قصدك علي المثـ ليين، لو هنتكلم علي الحرية فهم أحرار في إختيار ميولهم طالما ما بيضروش اللي حواليهم" 


رفعت خديجة يدها تنتظر أن يسمح لها الأستاذ بالتحدث والمناقشة، اقتربت منها فجر هامسة إليها: 

"أنتي رافعة إيدك ليه؟" 


"هرد علي كلامه" 


"بلاش تتناقشي معاه لأنه متعصب لأفكاره و لو أتكلمتي معاه مش هتخلصي منه و ممكن يحرجك قدامنا" 


ما كان من تحذير زميلتها سوي إنه زادها إصراراً فقالت: 

"لما نشوف هيخرجني إزاي!"  


أشار إليها الأستاذ بأن تقف و تتحدث، فسألها: 

"أنا أول مرة أشوفك معانا، ممكن تعرفينا بنفسك"


أجابت بملامح صارمة تخبئ خلفها غضب عاصف لما لمسته من حديث هذا الأستاذ بعد أن أدركت توجهاته و أفكاره. 


ابتلعت ريقها وبقوة وثبات بدأت بتعريف نفسها: 

"اسمي خديجة سالم يحيي البحيري" 


"اتفضلي يا خديجة قولي سؤالك" 


"هو مش سؤال، هو تعقيب علي كلام حضرتك، دلوقتي أنت بتتكلم عن الحرية، ربنا سبحانه و تعالي خلقنا كلنا أحرار، و في نفس الوقت نظم حياتنا بالدين والشرائع السماوية، و زي ما كلنا عارفين إن الإسلام و المسيحية و اليهودية كلهم فيهم تحريم ما فعله قوم سيدنا لوط" 


بدي علي ملامحه الإنزعاج الذي يشوبه الغضب، فقال بهدوء زائف: 

"إحنا مش في محاضرة دين و لا أنا شيخ و لا قسيس" 


ابتسامة هادئة زينت ثغرها، تخبره بثقة: 

"لكن كلامك مخالف للدين" 


عقد ما بين حاجبيه وسألها: 

"قصدك إيه باللي قولتيه؟" 


"قصدي حضرتك فهمه كويس أوي، بلاش بث أفكار مسمومة في عقول طلابك حتي لو كانت دي أفكارك و معتقداتك، دلوقتي كنت بتقول اللي بيعملوا فعل قوم لوط هم احرار في إختيار ميولهم، لكن هم مش أحرار لأنهم بيعملوا ذنب عظيم بيهز عرش ربنا و إلا مكنش أول قوم ابتدعوا الفعل المقرف ده أتخسف بيهم الأرض هما و زوجة سيدنا لوط اللي خدت نصيبها من العذاب عشان موقفها و دعمها ليهم زي موقفك كدة بالظبط" 


تفهم جيداً الخلفية الثقافية والدينية لديها، و بخبث أراد أن يقلب دفة الحوار لصالحه: 

"و معني كلامك نطبق الشرع والعقوبة علي اللي بيعمل زيهم، أحب أقولك أنتي لو في أمريكا أو فرنسا و قولتي الكلام ده هيعتقلوكي في الحال بتهمة العنصرية" 


"و أنا مش في أمريكا و لا فرنسا، أنا في مصر بلد عربي فيها مسلم و مسيحي، لينا أخلاقنا و مبادئنا و عادتنا وتقاليدنا، و حضرتك عارف كويس البلاد اللي ذكرتها بتنفذ تعليمات مين" 


ساد الصمت و نظراته إليها تحمل الكثير، أشار إليها قائلاً بأمر: 

"اقعدي" 

※※※


و بعد انتهاء المحاضرة، خرج جميع الطلاب و جميعهم يتهامسون بالمناقشة التي دارت بين الطالبة الجديدة و بين الأستاذ. 


تركض فجر خلف خديجة: 

"خديجة، استني هنا رايحة فين؟" 


ألتفت إليها وأجابت: 

"رايحة أشتري مايه" 


"تعالي نشتري و نروح ناكل في الكافتريا، أنا ما فطرتش وجعانة جداً" 


أخبرتها خديجة: 

"معلش يا فجر، كولي أنتي أنا ماليش نفس" 


"أوعي تكوني مضايقة من دكتور هاني، ده أنتي المفروض تفرحي إنك إديتيله علي دماغه و هو بصراحة يستاهل، ده معرفش يرد عليكي" 


"بيتهيئ لك يا فجر، هو حاطني في دماغه لأن أنا و اللي زيي بالنسبة له خطر علي تحقيق أهدافه" 


نظرت الأخري باستفهام: 

"مين زيك؟، و خطر إيه؟" 


"اللي بيحب دينه و عارف الصح من الغلط، اللي أتربي علي الأخلاق والقيم، اللي ما بيحبش يشوف الحرام أو أي شئ منكر قدامه ويسكت" 


و كأن الأخري قد تذكرت شيئاً ما فقالت: 

"أنتي صح يا خديجة، و بالنسبة للخطر مش أنتي بالعكس ده دكتور هاني هو كل اللي زيه، ما تعرفيش إن هو خلاني أكره أكتر شخص حبيته" 


استمعت إليها خديجة باهتمام فتابعت الأخري: 

"تعالي و إحنا بناكل هحكي لك" 


تجلس كلتيهما حول المنضدة، ابتلعت فجر ما بفمها ثم قالت: 

"الموضوع ابتدي من سنتين، كنت أنا وباسم بنحب بعض، رجله علي رجلي من أول ما أخرج من البيت لحد ما أخلص يومي و أرجع، كان بيخاف عليا جداً حتي من نفسه، كان محترم و قريب من ربنا مكنش بيسيب فرض، لحد من سنة و نص ظهر في حياتنا دكتور هاني الله يحرقه، باسم ذكي جداً و مثقف كان عامل زيك ما بيسكتش، يفضل يتناقش و يجادل، و في يوم طلبه دكتور هاني في مكتبه و قعد يتكلم معاه" 


تناولت زجاجة المياه المعدنية وشربت منها القليل ثم أغلقت الغطاء وتركتها لتسطرد حديثها: 

"من بعدها قربوا من بعض و بقوا أصدقاء تقدري تقولي بقي قدوته، استغربت جداً إزاي باسم يبقي صديق لدكتور هاني و هو نقيضه تماماً، عرفت الإجابة لما لاقيت باسم بدأ يتغير، يقصر في الصلاة لحد ما بطلها، بقي يتكلم معايا في حاجات غريبة، حتي طريقة لبسه والتاتو اللي مالي جسمه رسومات غريبة شبه الطلاسم، وتصرفاته بقت أغرب، كأنه واحد ما عرفهوش، الكارثة بقي لما اكتشفت إنه بيشرب خمرة ومخدرات، و لما جيبت أخري معاه من نصايح و محايلات عشان يبعد عن الطريق ده لاقيته بيقولي دي حياته و هو حر فيها و أنا المفروض عشان بحبه أتقبله زي ما هو وماليش حق أعترض" 


تراجعت بظهرها إلي المسند الخلفي للكرسي، تنظر إلي الفراغ: 

"قررت وقتها إن أبعد، كنت فاكرة إن كل حاجة انتهت لكن للأسف بُعدي عنه كان تحدي له، بقي يطاردني في كل مكان زي ما أنتي شوفتي قبل كدة، و كل ما أقوله مش عايزاك يزيد عناد و إصرار ويقعد يهددني" 


عقبت خديجة قائلة: 

"كلمي حد من أهله و أحكي لهم" 


ابتسمت بتهكم وأخبرتها: 

"مامته متوفية و باباه متجوز وعايش في كندا، ليه أخ واحد متجوز و عايش في دبي، يعني باسم عايش لوحده، ما لهوش غير عم يبقي نائب في البرلمان بس ما بيسألش عنه و لاحتي في دماغه" 


"خلاص يبقي كلمي أهلك أنتي، مامتك أو باباكي يتكلموا معاه ويوقفوه عند حده" 


"بابا الله يرحمه و أنا وماما عايشين لوحدنا، لولا الورث اللي بابا سابوا لينا و محل مفروشات، مكنش زماني دخلت الجامعة، ده غير ليا عم ظالم بيتلكك لماما من زمان عشان يستولي علي المحل غير عايز يجوزني ابنه، مش عايزاه يعرف بموضوع باسم و يستغله لصالحه و... 


"فجر، تعالي عايزك"

و كأنه قد جاء علي ذكر اسمه، ألتفت إليه و حدقته بازدراء قائلة: 

"و أنا مش عايزة أتكلم معاك يا باسم، عشان كل اللي ما بينا أنتهي" 


يهز رأسه و يجز علي شفته السفلي ثم دنا منها يهمس إليها بتهديد: 

"قومي معايا أحسن ما أعملك فضيحة في الجامعة وخلي الموضوع يوصل لعمك" 


تدخلت خديجة للدفاع عن الأخري: 

"أنت إزاي قابل علي نفسك تجبر واحدة مش عايزاك إنها ترجع لك؟!" 


حدق إليها بازدراء و بتهكم أخبرها: 

"خليكي في حالك أنتي يا ست الشيخة" 


نظرت خديجة إلي فجر ثم إليه وقالت: 

"ده لحق دكتور هاني يحكي لك!، ده أنتم فعلاً طلعتوا أصحاب، فعلاً الطيور علي أشكالها تقع" 


رد باستهزاء ساخراً: 

"دكتور هاني أكبر من إنه يرد علي حد رجعي ومتخلف"  


وقفت خديجة و حدقت إليه بابتسامة ثقة وتحدي تخبره: 

"التخلف في حد ذاته لما تغمض عينيك و تمشي ورا الشيطان اللي كلنا عارفين مصيره جهنم هو و أتباعه، يبقي مين بقي فينا اللي متخلف وغبي كمان؟!" 


شعر بشئ ما داخل نفسه قد اهتز، أراد الهروب من نظرات و كلمات هذه المرأة، ألتفت إلي فجر و أمسك رسغها قائلاً: 

"يلا يا فجر قدامي" 


أمسكت خديجة ذراع فجر وجذبت رسغها من قبضة باسم وقالت له بتحذير: 

"أول و آخر مرة تمد إيدك عليها أو تتعرض لها تاني، لو كنت بتحبها بجد يبقي لازم تستحقها الأول، تغير من نفسك وتبعد عن طريق الشر اللي ماشي فيه يا كدة يا تنساها أحسن لك"


نظرت إلي فجر: 

"يلا يا فجر ورانا محاضرة"  

جذبتها من يدها وذهبت فجر معها تحت مرأى باسم وعيناه تنضح بالشر والوعيد دون أن يتفوه بحرف واحد. 

※※※


خرجت لوچي من بوابة النادي وكان هناك سيارة أجرة في انتظارها، دخلت السيارة وانتبهت إلي رنين هاتفها، لم تكن تريد أن تجيب لكن هذه المرة المائة التي تتصل بها زوجة والدها، و بعد تردد أجابت: 

"ألو يا علياء؟" 


"أنتي فين؟" 


"لسه خارجة من النادي وراكبة أوبر" 


"طيب ممكن تخليه يغير الرحلة و يوصلك عندي في المركز" 


"بالله عليكي أنا مش عايزة أتكلم في حاجة، مش بابي حلف عليا ما أروحش عند مامي تاني، قولي له إنه هو كدة خسرني" 


قاد السائق السيارة وأنطلق، جاء صوت علياء لها عبر الهاتف

"عشان خاطري أنا، تعالي و أنا و أنتي هانتكلم معاه و نوصل لحل حلو و في نفس الوقت تشوفي مامتك، بس بلاش تسيبي البيت" 


زفرت بضيق فقد فاض بها الأمر، لم تستطع أن تتحمل أوامر والدها التي تراها ظلم يوقعه عليها بلا سبب

"معلش يا علياء مش هقدر أتكلم، باي" 


أنهت المكالمة وأغلقت الهاتف ثم ألقت به داخل حقيبتها، فرت عبرة من عينها وهي تتذكر ما حدث قبل أن تذهب إلي النادي، جاء إليها والدها في الغرفة ليتحدث معها ويريد الاعتذار لها عن ما بدر منه منذ أيام أمام الجميع عندما كانوا يتناولون الفطور. 

قدم إليها هدية ذات زوق رفيع، سلسلة من الذهب الأبيض بها قلادة ماسية لونها زمردي لامع، كم اسعدتها تلك الهدية و بعد حوار يدور حول بضع أسئلة ليطمئن علي أحوالها، انتهي بطلبه الذي جعلها تنسي اعتذاره في الحال عندما قال: 

"لو بتحبي بابي ياريت تسمعي كلامي، بلاش تروحي لمامتك الفترة دي و من غير ليه قبل ما تسألي" 


تلاشت ابتسامتها وقالت: 

"معلش يا بابي، من حقي أعرف ليه" 


أخبرها بحسم: 

"هو كدة و اللي أقول عليه يتسمع" 


وقفت أمامه تحدق إليه بتحديٍ قائلة: 

"أنا هاسمع كلامك في أي حاجة إلا تمنعني عن مامي، مش عشان حضرتك بتكرهها تقوم معاقبها بأنك تحرمها مني" 


صاح بتعجب: 

"بكرهها!، مين اللي قالك كدة؟، طبعاً هي كل ما تشوفك تقعد تقولك الكلام ده، مش بعيد تقولي لي أن أنا اللي كنت الظالم والقاسي، لوچي أنتي مش صغيرة و أكيد فاكرة اللي حصل زمان، واحد غيري مكنش خلاكي شوفتيها خالص" 


انتابتها حالة من البكاء فقالت: 

"هي عملت كدة عشان أنت السبب و مكنتش بتحبها، و علي طول كنت بتجرحها عشان جدو الله يرحمه خلاك تسيب علياء و تتجوز مامي غصب عنك، مش كدة؟!"


تأكد يوسف من حدسه وأدرك أن وجود أنجي في حياة ابنتها خطر عليها نفسياً، و ها هي نتيجة سمومها التي تبخها في مسامع ابنتها، زاد إصراره فأخبرها بصرامة: 

"كلمة و مش هاكررها تاني يا لوچي، أنسي تروحي لمامتك تاني"  


"يبقي تنساني أنا كمان" 

أخذت حقيبتها من فوق الطاولة و قبل أن تغادر الغرفة ألقت السلسلة في الأرض و ذهبت من القصر. 


عادت من الذاكرة علي هزة قوية نتيجة توقف السيارة فجأة، سألت بقلق وخوف: 

"هو إيه اللي حصل؟" 


لم يلحق أن يجيب علي سؤالها ويخبرها أن هناك سيارة مجهولة أجبرته علي التوقف فجأة، نزل منها ثلاثة شباب، فتح أحدهم باب السيارة، صرخت لوجي بخوف: 

"أبعد بدل ما أتصل علي البوليس" 


جذبها الشاب عنوة قائلاً بسخرية: 

"تعالي و إحنا هنتصلك عليه" 

الفصل السادس والعشرون من هنا

تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1