رواية كرسي لا يتسع لسلطانك الفصل السابع والثلاثون 37 بقلم مريم غريب


 رواية كرسي لا يتسع لسلطانك الفصل السابع والثلاثون 

في أعقاب الحفل الذي اجتمع فيه الأقارب و الأصدقاء.. كان الهدوء سائدًا في القصر.. قبل أن يتناثر فجأة دوي طلقة رصاص من الحديقة الخلفية .. 

صوت الطلقة كان مدويًا و مفزعًا.. فغرق الجميع في حالة من الصمت.. أعينهم مشدوهة.. ثم تحولت النظرات نحو الخارج في حالة ذعرٍ ..

"رحمة".. التي كانت تقف بين الحضور.. شعرت بشيءٍ غريب يجذبها نحو الحديقة.. قلبها بدأ ينبض بشدة.. و عقلها يُنذرها بشيءٍ لا تحب أن تراه ..

-شمس.. بنتي شمس ! .. همست لنفسها.. بينما تجري خطواتها بسرعة نحو الحديقة.. و لم يكن في رأسها إلا "شمس" ..

وصلت إلى الحديقة بسرعة.. لترى المشهد أمامها الممتد على مسافةٍ بعيدة عنها .. 

كان "عثمان" يحاول جاهدًا أن يمسك بـ"شمس" التي كانت على وشك إنهاء حياتها.. كان هناك ألم في عينيها.. و فقدان للأمل في ملامحها.. حاول "عثمان" بكل قوته أن يوقفها.. لكنه كان في صراع مع قدره ..

______________

-اهدي يا شمس ! .. هتف بها "عثمان" و هو يضغط على يديها كي يمنعها من إلحاق الأذى بنفسها :

-أرجوكي اهديِ… انا معاكي.. انتي مش لوحدك… ده مش الحل.. افتكري كل حاجة بتحبيها.

أخيرًا من تمكن من انتزاع السلاح من يدها.. ألقاه نحو أحد أفراد الحراسة و تنفس الصعداء قليلًا ..

لكن "شمس" كانت في حالة من الانهيار التام.. نظراتها فارغة.. و كأنها فقدت كل شيء.. كل كلمة من "عثمان" كانت تذهب في الهواء دون أن تلامس قلبها المتألم ..

هزت رأسها بشكلٍ يائس.. و عينيها تتساقط منها دموعٍ ثقيلة.. و كأنها تريد الهروب من هذا العالم كله.. في لحظةٍ.. نظرت إلى عثمان بنظرةٍ مليئة بالحزن.. ثم همست بصوت مرتجف :

-انا مش قادرة اتحمل.. كل حاجة بتنهار من حواليا.. و انا مش قادرة اعيش كده !

"عثمان".. الذي كان يحاول إظهار قوته.. امتلأ قلبه بالأسى.. هو يعلم أن هذا ليس مجرد ألمٌ نفسي.. بل هو صراعٌ بين قلبه و عقله.. لم تكن "شمس" أخته فحسب.. إنها وصيّة أبيه.. و لا يمكنه أن يقبل فكرة أن حياتها تتوقف بسبب شخصٌ آخر ..

كان "رامز" لا يزال في قبضة الحراس.. لكنه كان يصرخ باسم شمس و كأن عقله قد انفجر بسبب الأحداث الأخيرة التي جرت أمام عينيه و هو مسلوب الإرادة بهذا الشكل المزرٍ ..

-شمـس ! .. نادى "رامز" بصوتٍ يملؤه الخوف 

نقل عينيه نحو "عثمان" ينظر له بحقدٍ.. و قد ابتسم ابتسامةٍ مريرة وهو يهتف :

-ده اللي انت عايزه يا عثمـان ؟ لا انا و لا هي نقدر نعيش منغير بعض.. عايز تموتها.. شمس كانت احسن معايا.. معايا انا سـااامع ؟؟؟؟

كانت "شمس" قد إلتفتت إليه حين سمعت صوته.. عينيها مليئة بالتساؤل.. و حبها المكبوت إليه يضغط على قلبها.. رغم كل شيء ...

-رامز ! .. همست باسم حبيبها في صوتٍ خافت

و كان كأنها تقول له شيئًا لم تستطع أن تقوله من قبل ..

اهتاج "رامز" و قد بدأ يفقد السيطرة على نفسه.. قال بلهفةٍ : 

-انا بحبك يا شمس.. و دي مش نهاية.. مهما حصل.. انا هفضل جنبك.. مش هسيبك لحد ..

لكن "عثمان" الذي كان يستمع لكل كلمة.. شعر بأن قلبه ينفطر.. رمق "رامز" بنظرةٍ قاسية.. و قال بصوتٍ منخفض و لكنه ملييء بالغضب :

-انت مش هاتبني مستقبل على خراب.. و على دموعها اللي انت سبب فيها.. حبك ده مش هاينقذها من اللي احنا فيه !!

تنظر "شمس" بين كلًا من "عثمان" و "رامز".. و كانت ملامح وجهها تعكس صراعًا داخليًا مريرًا.. على الرغم من حبها لـ"رامز".. إلا إن قلبها كان يثور ضد الواقع.. ضد الألم الذي تسببه هذه العلاقة في حياتها ..

قالت "شمس" بصوتٍ ضائع.. و كأنها تفقد نفسها في دوامة لا مفر منها :

-أنا مش قادرة أتحمل كل ده… أنا ضايعة بينكوا.. بين حب مش قادر أكمل فيه وبين أخ مش قادر يصدق فيا.. أنا تعبت.. تعبت.. تعـ ... 

و لم تستطع اكمال عبارتها.. سقطت مغشيًا عليها بين ذراعيّ أخيها ..

تصل "رحمة" في تلك اللحظة أخيرًا.. لم تتمكن من كبح دموعها.. فركضت نحو "شمس" صارخة و كأنها ترى الدنيا تنهار أمامها :

-شـمــــــــــس.. بنتـــــــــــــي !!! .. صرخت بصوتٍ مبحوح و هي تنهار على ركبتيها بجانبها :

 -ايه اللي حصل ؟ في ايه جرالك ايه !!؟؟؟ 

و حانت منها نظرةً ضارية نحو "رامز" و صاحت بشراسةٍ :

-عملت فيها أيـه ؟؟؟ عملت في بنتي ايه ؟؟؟؟
لو جرالها حاجة مش هاتكفّيني روحك ...

"إبراهيم" الذي لحق بـ"رحمة" على الفور خطوةً بخطوة.. تباطأ ما إن اقتربا ..

كان يراقب الموقف محافظًا على المسافة بينه و بين العائلة.. شعر بالعجز في البادئ.. فإنه على وشك أن يتخطّى حدوده.. تردد للحظةٍ.. ثم اقترب منها و قال بصوتٍ منخفض لكنه حازم :

-رحمة.. لازم نتصرف بسرعة.. دي مش لحظة انهيار.. شمس محتاجة تتنقل فورًا للمستشفى !!

أما "رامز".. الحبيب الذي كان سبب كل هذا الخراب.. فقد كان لا يزال في قبضة الحرّاس.. يصيح في هستيريا.. يحاول أن يتملّص من قبضتهم لكنه فشل.. كان في حالةٍ من الانهيار.. غير قادرٍ على تصديق ما جرى ...

-لما كانت في ايدي مكانش لازم اسيبها.. مكانش لازم اسمع كلامها.. انتوا السبب.. انت و أمها يا عثمان.. انت اللي ضيعتوا شمس.. انتوا ...

كان يصرخ و كأن عقله لا يستطيع استيعاب الحقيقة المرة التي كانت أمامه ..

الحرّاس كانوا يقفون حوله بثباتٍ.. لا يتركونه لحظة.. كان يزداد هياجًا بينما كان يفقد توازنه أكثر.. لكن لم يكن أمامه خيار سوى الاستسلام ..

الموقف أصبح أكثر تعقيدًا.. الكل كان في حالة اضطراب.. "شمس" في غيبوبةٍ شبه تامّة.. و "رحمة" في انهيارٍ.. و "عثمان" يحاول أن يحافظ على تماسكه رغم أنه يشعر و كأن الدنيا تنهار من حوله .. 

أما "رامز" فكان يحاول الوصول إليها عبثًا.. و لكن الحراس كانوا قد قطعوا عليه أيّ فرصة للفرار ..

الجو كان مشحونًا بالألم.. و الدموع.. و الخيبة.. و السؤال الآن ..

ماذا سيحدث بعد هذه اللحظة !؟

**

-أوكي.. فهمت يا عثمان.. بس بليز طمّني اول بأول.. مع السلامة يا حبيبي !

أنهت "فريال" المكالمة القصيرة مع ابنها و هي تزفر بتوتر ..

لا تصدق ما أخبرها به بإيجازٍ.. تسلل صديقه القديم "رامز الأمير" إلى القصر ليختطف "شمس".. لم تعرف بعد لماذا قد يفعل ذلك صديق ابنتها الذي عرفته في وقتٍ خلى !؟

و ما هي علاقته بـ"شمس" ؟

كيف يعرفها أصلًا !؟؟

أسفرت فعلته عن اشتباكٍ بينه و بين حراسة "عثمان".. اختتم بانهيار "شمس" و سقوطها فاقدةً للوعي ..

و أبلغها "عثمان" بأنه قد اضطر لأخذ أخته إلى المشفى.. مصطحبًا معه والدتها.. و بسؤالها عن مصير "رامز" فقد أخبرها بأنه قد أطلق سراحه.. مع التوّعد له بالسوء ما إذا حاول الاقتراب من عائلته مجددًا ..

اعمالًا لوصايا "عثمان".. عمدت "فريال" إلى إعادة الرتابة إلى الحفل.. و طمأنة الحضور بأن الصوت الذي سمعوه لم يكن سوى محاولة لإطلاق بعض الألعاب النارية و لكنها هي من أحبطتها لأنها ترى فيها خطورة و لا تحبذها مطلقًا ..

استطاعت أن تعيد أجواء الاحتفال إلى طبيعتها.. ثم بقيت بالقرب.. تحل محل ابنها متقنة دوره و دورها على أكمل وجهٍ ...

_____________

"حسين عزام" ..

الرجل الذي غاب عن حياة أبنائه ثم حفيدته لعقودٍ.. كان يجلس بثباٍت كأنه ينتظر لحظة المواجهة.. وجهه الذي حمل تجاعيد الزمن بدا قاسيًا.. و عينيه التي لم تفارق صورة "لمى" في طفولتها طوال السنوات الماضية كانت تنبض بالحزن و الشوق إليها ..

أمامه "مراد".. الذي كان يرمقه عن كثب.. لأول مرة شعر بقلقٍ غريب يتسلل إلى قلبه.. فهو كان يعرف تمامًا بأن "حسين" قد جاء خصيصًا من أجل شيءٌ واحد : أن يستعيد حفيدته ..

حاول "مراد" أن يبدو هادئًا.. لكن هذا كان صعبًا بعض الشيء.. فعينيّ "حسين" ظلتا ثابتتين عليه تؤرّقانه.. فكأنه ينتظره ليتحدث أولًا ..

كانا قد ابتعدا عن ضجّة الاحتفال.. و توّجها نحو الطاولة المنعزلة في الطرف الآخر من القاعة ..

جلسا قبالة بعضهما بهدوء.. وكانت نظرات "مراد" حادة.. تدل على الجدية التي حملها قلبه طوال سنوات من الحذر.. قال بصوت هادئ لكنه حازم :

-جيت لحد هنا عشان تزعجنا و تزعج الناس صحاب البيت منغير فايدة يا حسين بيه.. انت عارف كويس ان لمى مش هاترجع لك.. كلنا عايشين حياتنا دلوقتي و مافيش مجال للرجوع لورا.

تنهد "حسين" الذي كان يبدو هادئًا.. لكن وجهه يعكس سنوات من القلق و الألم.. رد بصوتٍ منخفض.. لكنه كان مليئًا بالإصرار :

-انا جاي عشان حفيدتي يا مراد.. مش عشان أتكلم عن الماضي و ارجع لورا.. انا مش بطلب كتير.. بس لمى هي حفيدتي و انا من حقي اشوفها.. كل سنين الغربة و انا مش قادر افهم ليه منعتوني منها !؟

خفق قلب "مراد بقوةٍ و هو يقول بتصميمٍ :

-انت من جواك شايف الحقيقة و متأكد منها يا حسين بيه.. لما سافرت كانت لمى رضيعة.. سيبتها مع ايمان في مصر لمدة اربع سنين قبل ما اظهر في حياتهم.. انا اتجوزت إيمان.. و انت كنت بعيد عن حفيدتك اللي بتتكلم عنها.. لو كنت هنا معاها كانت حياتنا هاتبقى مختلفة.. بس انت ماكنتش موجود لما كان لازم تكون هنا.

نظر "حسين" إلى مراد بنظرةٍ ثابتة.. و عينيه مليئتين بكل ما مرّت به روحه طوال هذه السنين.. نظرته تجمع بين الشوق و الحزن و الندم.. ثم رد بصوتٍ منخفض لكنه محمّل بالثقل :

-انت فاكر ايه ؟ انت فاكر ان حياتي كانت سكة مفروشة ورد ؟ انت مهما فكرت عمرك ما هاتفهم انا مرّيت بإيه طول حياتي من ساعة ما شوفت راجية عمران.. بس برغم كل حاجة لمى دي تبقى حفيدتي يا مراد.. و مهما حاولت تبعدها انت و إيمان.. مش هاتقدر تاخد مني حقي.. انا بدوّر عن حقّي في حفيدتي.. طول السنين دي و انا بعيد عنها.. بتعذب لوحدي و بلوم نفسي في غربتي أكتر من مرة اني سيبتها.. و انا مش جاي هنا عشان اخرب حياتكوا.

شعر "مراد" بمزيج من الغضب و الحيرة.. تنهد بعمقٍ.. ثم رد بنبرةٍ جادة و صوت ثابت.. كأنما يريد أن يُغلق أيّ فرصة للمساومة :

-مش من حقك تيجي هنا و تطلب حقوقك في وقت متأخر.. لمى بنت إيمان.. و انا سواء انت رضيت و لا رفضت بقيت ابوها.. احنا تعبنا سنين عشان نربيها من و هي لسا طفلة.. ف ماتفكرش اني هابقى مجرد مشاهد في حياتها لما تكبر.. انت كنت غايب.. و كان وقتك ده كله اختيارك.. بس دلوقتي.. لما فوقت بعد فوات الآوان.. هكون انا اللي هنا.. مش انت.

شدّ "حسين" قبضته على الطاولة أمامه.. و كأن الكلمات التي قالها "مراد" قد أصابته بشكلٍ عميق.. لكنه ظل هادئًا و لم يرفع صوته.. أخذ نفسًا عميقًا.. ثم نظر إلى مراد و قال بصوتٍ ملييء بالأسف :

-انت مش فاهم.. أنا كنت مغترب.. مافيش حد جنبي حتى ولادي.. كانت علاقتي بيهم متوترة.. بس لما بدأت استعيدهم كنت دايمًا بحاول اتواصل مع لمى.. لكن إيمان مرّة و مرتين منعتني.. و مش عارف ليه.. انا مش جاي ازعج حد.. انا بس عايز حقّي في رؤية حفيدتي.. كل سنة بتمر.. و انا مش قادر استوعب ليه الناس اللي كنت مفكرهم اهل.. بيحرموها مني.. انا مش جاي اطلب منها تسيب حياتها.. و لا حتى بطالب بشيء.. لكن في النهاية هي حفيدتي.. و مش لازم تفضل بعيدة عني للأبد.

يتفاقم شعور "مراد" بالضغط عليه.. ظل صامتًا لبرهة.. و كان قلبه مشوشًا بين الشعور بالحماية المطلقة التي يجب أن يقدمها لإبنته الروحية.. و بين الشعور بوجود الرجل الذي يعبر عن نفسه الآن كجدها العجوز المستضعف لا يريد سوى رؤيتها ..

تحدّث "مراد" أخيرًا.. لكن بنبرة أكثر لطفًا هذه المرة.. رغم تحفظه :

-أنت خسرت وقت كتير يا حسين.. و محدش كان سبب في بُعدك عن لمى غيرك انت.. بس مش هي دي المسألة.. المهم دلوقتي هو ازاي نواجه الحقيقة مع بعض.. لمى اتربت معايا انا و إيمان.. و خلينا نكون واقعيين.. مش هقدر أسلمها لك لمجرد انك عاوز تشوفها.. لكن ممكن نبدأ من جديد.. عايز تكون جزء من حياتها ؟ .. دي حاجة مش بسيطة.. لو كانت حياتها هتتأثر من وجودك.. يبقى ما فيش مكان ليك فيها.. لكن هحاول معاها و اقيس رد فعلها.. طبعًا بدون ما اضغط عليها.

واصل "حسين" النظر إلى مراد.. و في عينيه كان هناك شيءٌ جديد.. شيء من التفهم.. و كأن الثقل الذي حمله على كتفيه طوال تلك السنوات بدأ يخف قليلاً.. قال بصوتٍ هادئ جدًا.. لكنه ميليء بالإصرار :

-انا مش عايز اكون مجرد شخص في الماضي بالنسبة لها يا مراد.. انا هنا عشانها.. مش عشان استرجع شيء ضاع.. دي دمي.. و معاك حق.. مافيش حد فينا يقدر يغير الواقع.. لكن ممكن نعمل بداية جديدة.. خليها هي اللي تقرر.

أومأ "مراد" برأسه.. شعر بشيء من التراجع بعد سماع كلمات "حسين".. تنفس بعمقٍ و قال أخيرًا بنبرةٍ هادئة.. وكأن الجرح الذي كان في قلبه منذ رآه و أحس بالتهديد حياله قد بدأ يندمل ببطء :

-احنا مش هانجبر لمى على حاجة يا حسين.. بس لو هي قررت هاتكون موجود في حياتها.. هي مش ملكيّة لأي حد.. وهي عندنا.. في أيدينا.. بس مش هانهمل أي فرصة لوجودك في حياتها… لو هي حابة.

رفع "حسين" نظره إلى مراد.. و كانت عيناه مشبّعة بالمرارة.. لكنه ابتسم ابتسامةٍ صغيرة و حزينة.. و قال بصوتٍ هادئ جدًا.. ملييء بالإحساس :

-مش جاي أطالب بحق ماستحقهوش يا مراد.. انا بس جاي احاول اني اكون جزء من حياة حفيدتي.. و هانتظر لما هي تقرر بنفسها.

تأمله "مراد" للحظةٍ.. ثم قال آخر كلماته.. لكن بلهجةٍ تنم عن احترام :

-احنا هانتكلم مع لمى.. لو هي حابة تشوفك.. هانكون موجودين.. بس حياتها مش لعبة في ايد حد حتى لو كنت انا او إيمان.. و لا هاتتغير على حسب أطماع
 أي طرف فينا.

هز "حسين" رأسه قليلًا.. و قال بصوتٍ خافت :

-انا ماجتش عشان اعمل قلق ليها و لا اغيّر في حياتها أي شيء.. بس لو هي محتاجة تشوفني.. انا هكون هنا.

جلس الرجلين في لحظة صمتٍ.. كأنهما توّصلا إلى تفاهمٍ ضمني.. لم تكن النهاية مُرضية تمامًا لكل واحد منهما.. لكنها كانت بداية لطريق صعب لكنه ممكن.. "مراد" شعر بتخفيفٍ من الضغط.. لكن في داخله كان يعرف أن هذا لم يكن نهاية للصراع.. بل بداية لفصل جديد في حياة "لمى" ..

**

في المستشفى التخصصي .. 

كانت الأجواء مشحونة بالقلق.. "شمس البحيري" فاقدة الوعي في غرفة الطوارئ.. و الجميع في الممر ينتظرون الأخبار.. "عثمان البحيري" كان يقف أمام باب الغرفة.. يده على وجهه.. عينيه مليئتان بالهم و القلق ..

و "رحمة" كانت تقف ورائه مستندة إلى ذراعيّ خطيبها "إبراهيم النشار".. كانت صامتة في البداية.. ثم انفجرت فجأة بالكلمات.. و كأنها لا تستطيع كبح مشاعرها أكثر ...

-كل ده بسبب رامز.. لو ماكانش دخل في حياتها.. مكانتش هاتوصل لده !

إلتفت "عثمان" إليها.. و عيناه مليئة بالحزن و الغضب معًا.. قال بصوتٍ حازم.. محاولًا الحفاظ على هدوئه رغم الغضب الذي يتصاعد داخله :

-اخر حد ممكن يشغلني في اللحظة دي.. هو رامز يا رحمة.. انا عارف انه كان ليه دور في اللي حصل.. لكن ده مش وقته.. شمس دلوقتي هي اللي محتاجانا نركز معاها.. مش رامز.

"رحمة" التي كانت تغلي من الداخل.. ردت بغضبٍ شديد.. و قد ارتفع صوتها قليلًا :

-مش وقته !؟ .. شمس اتدمرت عشان واحد زي رامز.. و بقولك دلوقتي.. مش هاسيبه يعدي بعملته بالساهل.. لازم ارجع حق بنتي.. عشان هو مش هايتحاسب لو سكتنا.

بقى "عثمان" يحاول تمالك أعصابه.. إلا إنه شعر بالضغط الشديد من كلامها.. نظر إليها بنظرةٍ ثابتة و قال بحزمٍ.. و كأن كلماتها قد أشعلت في قلبه نارًا لم يكن يعرف أنها موجودة في هذه اللحظة الحرجة :

-ما انتي لو كنتي ام بحق.. و متابعة بنتك كويس و مربياها.. لا كان رامز او غيره قدر يوصل معاها لحد النقطة دي.. و ماكانش دخل حياتها من الأصل.. ماكانش لعب بيها كده.. و لا كنا وصلنا للمرحلة دي كلنا.. بس الخبر السعيد.. أنا كمان مش هاسكت.. لو و لو مافيش حاجة قادرة توقفه.. هاوقفه بنفسي !!

لم تستطع "رحمة"  كبح مشاعرها بعد.. تمتمت بصوتٍ غاضب :

-انت بتلزمني و مش فاهم حاجة من اللي حصل.. ده مش مجرد شخص.. ده واحد مش سهل لعب بمشاعر شمس و وّرطها في قصص حب و غرام و قدر يسيطر عليها.. خلاها تحس انها مش قادرة تكمل.. بنتي كانت هاتموت نفسها عشانه.. هو السبب في كل اللي حصل ..

كان "إبراهيم" يراقب الموقف بصمتٍ.. شعر أن الحوار قد بدأ يخرج عن نطاق السيطرة.. فوضع يده على كتف "رحمة" قائلًا بحذر :

-رحمة.. الغضب مش هايفيدنا دلوقتي.. لازم نكون هاديين عشان نساعد شمس.. لو حست شمس اننا مشغولين بالانتقام من الراجل اللي بتحبه.. ده هايزيد من تعبها.

عجزت "رحمة" بالكامل عن إخفاء شعورها بالانتقام.. و أجابت بنبرةٍ قاسية مخاطبة شقيق ابنتها :

-الانتقام مش هايفيد ؟ شمس عمرها ما هاتشوف مصلحتها طول ما هي مش قادرة تنسى الراجل ده.. انا مش هقدر اسكت على اللي حصل.. انا بقولها لك دلوقتي يا عثمان.. رامز هايدفع تمن اللي عمله كله في بنتي ..

نظر "عثمان" إليها لحظة.. ثم قال بصوتٍ ثابت لكنه ملييء بالوعيد :

-رامز هايدفع التمن.. انا وعدتك.. بس لما شمس تبقى بخير.. و تكون في حالة أفضل.. انا مش هاعديها له المرة دي.. و ان كان لازم اتعامل معاه بنفسي.. هاعمل كده.

 يحاول "إبراهيم" أن يحافظ على الهدوء.. رد برفقٍ :

-الانتقام مش هايشفي جروحها يا رحمة.. الغضب ممكن يدمر كل حاجة.. و لازم تركزوا على شمس دلوقتي.

كانت "رحمة" على وشك الانفجار.. قالت بصوتٍ خافت.. محاولة تمالك نفسها :

-انا مش هقدر اعيش و انا شايفة اللي بيحصل في بنتي بيعدي منغير رد.. لازم يجي اليوم اللي يتحاسب فيه.. مهما كان.

ضغطت كثيرًا على أعصاب "عثمان" الذي كان يحترق داخليًا من الألم و الغضب.. زأر بصوتٍ جاد :

-خلاص يا رحمـة.. قلت دلوقتي لازم نركز على شمس.. انا هخليه يعرف انه مش هايفلت من اللي عمله.. اسكتي بقى.. قفّلي على الموضوع و ماسمعكيش تتكلمي فيه تاني !

و بالفعل ..

انتهى الحوار.. و الجميع كان يعلم أن الأيام القادمة ستكون مليئة بالتوتر و الصراع.. "رحمة" كانت مُصممة على الانتقام من "رامز".. و "عثمان" كان يتوّعده ..

بينما "إبراهيم" كان يحاول جاهدًا أن يُهدئ الموقف و يذكرهم بأهمية دعم "شمس" في هذه اللحظة العصيبة ...

**

عودة إلى الحفل ..

في وسط قاعة الاحتفال.. لا زالت الأنوار تتلألأ و تخترق المسافات بين الحضور.. بينما كانت الموسيقى تُعزف بألحانها الناعمة في خلفية المكان ..

كانت "صفيّة البحيري" تقف وحدها مع "فارس الزيني".. تتبادل معه الحديث بابتسامة هادئة.. فيما عينيها تتجنب النظر إلى أيّ مكان آخر.. كانت تحاول أن تهدأ.. أن تجد لنفسها لحظةً من الهدوء بعيدًا عن كل هذا التوتر الذي يملأ حياتها مؤخرًا ..

لكن "صالح البحيري".. الذي دخل القاعة متأخرًا.. كان قد لاحظها.. لأنه لم يكن يرى غيرها حتى عثر بصره عليها ..

لم تكن عيناه تلاحقها بحب.. بل كان قلبه يغلي بالغيرة الآن.. كانت تلك مشاعره المكبوتة منذ وقتٍ طويل.. مشاعر لم يجرؤ على التعبير عنها تمامًا بعد الجريمة التي اقترفها بحق زوجته و ابنة عمه.. و أم طفلته .. 

لكن رؤيتها مع "فارس الزيني".. أحد المدعوين المعروفين.. جعلت كل شيء يتفجّر دفعةً واحدة ..

اقترب صالح بخطوات سريعة.. و عينيه لا تترك "صفيّة" لحظةً.. ثم توقف فجأة أمامها.. قائلاً بلهجةٍ غاضبة و حادة :

-ممكن تيجي معايا شوية ؟

توترت "صفيّة" التي كانت تحاول أن تظل هادئة.. شعرت ببرودة في قلبها حين سمعت صوته.. و كأن ذلك الصوت ما زال يرن في أذنيها منذ ذلك النهار.. كان الصوت نفسه الذي كانت تسمعه و هو يصرخ في وجهها.. و تلك اللمسات التي لا تُنسى… لكن هذه المرة.. كانت تحاول أن تكون أقوى.. هي لن تضعف أمامه الآن.. حتى لو كانت رهبتها منه تلازمها كل لحظةٍ ..

رفعت "صفيّة" رأسها.. و حاولت أن تكون صامتة للحظة.. ثم قالت بصوتٍ منخفض.. مشحون بالكراهية و المرارة :

-صالح.. مش دلوقتي.. مش قدام الناس.. لا انا و لا انت لازم نتكلم عن اللي بينا هنا !!

الآن يشعر "فارس" بتوتر الجو فجأة.. منذ ظهور ذاك الرجل الذي جاء يُطالب بـ"صفيّة" إذ يبدو أنهما يعرفان بعضهما.. قرر أن يبتعد قليلاً.. فأخذ خطوة للوراء و قال بلطفٍ :

-آسف اذا كنت اسببت في ازعاج.. الظاهر ان الوقت مش مناسب عشان نكمل كلامنا.. عن اذنك يا صافي.

نظرت "صفيّة" إلى "فارس" و أسرعت بالاعتذار بصدق.. محاولة أن تبعده عن الموقف بشكلٍ نهائي و هي تقول بحذرٍ :

-مافيش مشكلة يا فارس.. اتفضل و انا اتشرفت جدا بمعرفتك.

ابتسم لها بكياسةٍ.. و ابتعد في هدوءٍ و ثقة ..

إلتفتت "صفيّة" إلى صالح الذي كان يقف أمامها.. و عينيه مشتعلة بالغضب و الغيرة..  لكن في داخله كان هناك شعور آخر يختلط مع تلك المشاعر المظلمة و هو الندم العميق ...

-كنتي واقفة مع فارس الزيني ليه و بتقولوا ايه ؟؟؟ .. سألها مباشرةً و بحدةٍ قوية

انعقدا حاجبيّ "صفيّة" التي كانت تشعر بأن قلبها يضغط عليها من كل ناحية.. قالت أخيرًا بصوتٍ ثابت.. محاولًة أن تُنهي هذا الفصل مرةً واحدة.. لكن دون أن تضعف أمامه :

-صالح.. مش هقبل انك تتدخل في حياتي كده.. موضوعنا منتهي.. و انا ماليش كلام معاك أصلا و مش مطالبة ابرر لك تصرفاتي.. انا مش مستنية منك حاجة غير ورقة طلاقي.. ف ارجوك ابعد عني كفاية اللي عملته فيا.. خلينا نسيب بعض باحترام على الأقل عشان خاطر ديالا.

صالح شعر بحواسه كلها تنفجر.. و كأن كلماتها كانت تفتح جروحًا عميقة في قلبه.. لم يكن بإمكانه أن ينكر بأنه أحبّها.. و لا زال.. لم يكن بإمكانه أن ينسى تلك الأيام التي كانت فيها ملكة في حياته .. 

لكن المواقف التي جمعتهما كانت قد دمرت كل شيء.. و عندما تذكر الماضي.. تذكر كل كلمة جارحة تفوّه بها.. و كل لحظة انتقامية.. و كل لمسة كانت في وقتٍ غير مناسب… لكنها كانت موجودة.. و هو كان من تسبّب في ذلك ..

تنهد "صالح" بحزنٍ عميق.. ثم قال بصوتٍ منخفض.. محمّل بالندم :

-انا آسف… لو كنت قادر ارجع لورا و اصلح كل حاجة.. كنت هاعمل كده.. لكن انا ضيّعتك.. ضيّعت نفسي… ضيّعت كل حاجة.. بس انتي في قلبي يا صافي.. عارف انك مش هاتصدقيني.. لكن انا فعلًا ندمان.. اكتر من اي وقت !

 كانت "صفيّة" قد جمعت شجاعتها تمامًا.. كانت قد قررت بأنها لن تضعف أمامه مهما كان.. عيناه اللتان كانتا تحملان الندم، لن تُعيداها إليه.. قالت بصوتٍ صارم.. غير قابل للجدال :

-الندم مش كفاية يا صالح.. انت مش بس اذيتني من برا.. لكنك كمان اذيت كل شيء فيا من جوا.. و كل ما حاولت اكون قوية كنت تجرّني لورا و تضعفني.. بس دلوقتي قررت.. خلاص.. الطلاق هو الحل الوحيد !

بدا "صالح" متجمدًا.. كأن الكلمات التي خرجت من فم "صفيّة" قد أصابته بصدمةٍ.. كانت هذه المرة الأولى التي تتحدث فيها بهذه الجديّة عن الطلاق.. كان يفكر في لحظاتٍ كثيرة مضت.. في محاولاته لإصلاح العلاقة.. لكنّه الآن يشعر أن كل شيء قد سقط من يديه ..

لحظاتٍ من الصمت تخلّلت الجو.. كانت العيون تراقب.. و كان "صالح" يحاول استجماع نفسه.. ثم قرر أخيرًا أن يأخذ الأمور إلى مستوى آخر.. قال بصوتٍ منخفض.. لكنه كان مليئًا بالأسى و المرارة :

-طيب مش هانقشك في قرارك.. و انا مستعد انفذ لك اللي انتي عاوزاه.. بس من فضلك يا صافي.. ارجوكي قوليلي السبب.. انا عملت ايه ؟ .. بعد كل اللي بينا ده.. ليه عايزة تسبيني ؟ .. ليه مصممة اوي بالشكل ده !؟؟

خفضت رأسها قليلاً لتخفي عينيها عنه و هي تقول بهدوءٍ.. لكن صوتها كان يحمل رجاحة و استقرارًا غريبًا :

-صالح.. العلاقة بينا انتهت من زمان.. القرار بس جه متأخر.. مش هاينفع أكمل كده.. انا ماكنتش بحاول ازعلك طول سنين جوازنا.. و استحملت عشان بنتنا.. لكن الحقيقة ان مش كل شيء ممكن يتصلّح.. كنت عارفة انك رجعت تشرب رغم انك وعدتني مش هاترجع.. كنت بخاف اواجهك لأني عارفة بتكون عامل ازاي و انت عصبي.. و اتأكدت من قراري في اخر موقف حصل بينّا.. انا جربت كتير اديك فرصة.. بس بقت كل فرصة مأساة جديدة.. انا خلاص.. مابقتش شايفة حاجة تخليني استمر ..

تقلّصت ملامح "صالح" ألمًا.. يشعر بقسوة كلماتها في قلبه.. ظل ساكنًا للحظة.. و كأن الزمن توقف عند تلك اللحظة.. لم يستطع الرد.. كان فقط ينظر إليها.. عينيه تملؤها الملامة و التساؤلات ..

بينما "صفيّة" التي كانت على وشك الانهيار من الداخل.. توقفت عن الحديث تمامًا.. ثم ابتعدت قليلاً عنه.. و أخذت نفسًا عميقًا كي تسيطر على مشاعرها.. ثم قالت.. لكن هذه المرة بنبرةٍ حاسمة أكثر.. عينيها تلتقيان بعينيه دون أن تخشى أي شيء :

-أنا مش هاخلي خوف منك يحدد حياتي.. و لا هاخلي ندمك يخليني ارجع عن قراري.. لو كانت حياتنا كلها مبنيّة على أكاذيب و جرح.. ف الاحسن ننهي العلاقة.. اتفقنا ؟

ثم أضافت.. محاولًة أن تظهر له القوة التي اكتسبتها أخيرًا :

-انا رجعت أعيش هنا.. في بيتي يا صالح.. مستنيّة ورقة طلاقي.. و ديالا بنتك زي ما هي بنتي.. اهلا بيك وقت ما تحب تشوفها في أي وقت.. عمري ما هامنعك عنها.. باي يا صالح.

و ابتعدت "صفيّة" عائدة إلى الحفل بخطواتٍ واثقة.. تاركةً خلفها قلبًا محطمًا لا يستطيع أن يقاوم تدمير نفسه.. "صالح" الذي كان يقف في مكانه.. شعر بالندم يعتصر قلبه ..

لكنه كان يعلم أن لا شيء يمكن أن يعود كما كان.. انتهت فرصه.. انتهى كل شيء ! 

تعليقات



×
insticator.com, 6ed3a427-c6ec-49ed-82fe-d1fadce79a7b, DIRECT, b3511ffcafb23a32 sharethrough.com, Q9IzHdvp, DIRECT, d53b998a7bd4ecd2 pubmatic.com, 95054, DIRECT, 5d62403b186f2ace rubiconproject.com, 17062, RESELLER, 0bfd66d529a55807 risecodes.com, 6124caed9c7adb0001c028d8, DIRECT openx.com, 558230700, RESELLER, 6a698e2ec38604c6 pmc.com, 1242710, DIRECT, 8dd52f825890bb44 rubiconproject.com, 10278, RESELLER, 0bfd66d529a55807 video.unrulymedia.com, 136898039, RESELLER lijit.com, 257618, RESELLER, fafdf38b16bf6b2b appnexus.com, 3695, RESELLER, f5ab79cb980f11d1