رواية كرسي لا يتسع لسلطانك الفصل الثامن والاربعون والاخير
أمام جناح "فريال" هانم ...
طرق "عثمان البحيري" الباب مرتين بخفة.. و انتظر للحظة قبل أن يدخل.. داخل الغرفة.. أضاءت أباجورة صغيرة بجانب السرير تكفي لتكشف ملامح والدته النائمة ..
تمددت "فريال" تحت الغطاء بلونها الشاحب.. وجهها الذي استوطنته تجاعيد خفيفة لم تمسّ جمالها.. كانت كما هي دائمًا… أمه.. الملاك الذي تحمّل رغم كل شيء ...
أغلق الباب بهدوء.. و سار بخطواتٍ مترددة نحوها.. توقف عند طرف السرير.. جلس ببطءٍ.. و كأن حركة واحدة خاطئة قد تفسد لحظة السلام الهشّة ..
عينيه لم تتركا وجهها.. شعرها الأصهب الذي مزج الزمن بياضه فيه.. بشرتها التي رغم بهتانها ظلّت تحتفظ بنقاءٍ دافئ ..
مدّ يده ببطءٍ.. أصابعه ترتعش قليلاً و هو يلمس شعرها الناعم.. أنفاسها كانت هادئة.. لكنها حرّكت بداخله إعصارًا من المشاعر المتناقضة.. الدم في عروقه بدأ يغلي.. عاد به عقله إلى الماضي.. إلى ما حدث هنا في هذا السرير تحديدًا… الذكرى التي لوّثت كل شيء باكتشافها مؤخرًا ...
لماذا لم يكتشفها في وقتٍ باكر ؟ لم يحميها ؟ كيف لذلك الوغد — عمه الراحل —ينتهك حرمتها في غيابهم ؟ و كيف مات دون عقاب ؟
ضغط على أسنانه بشدة.. يحاول كبح غضب خامد استيقظ فجأة.. لكنه تذكر.. تذكر كيف انتقم من "مالك عزام" شر انتقام.. كيف حقق عدالة مؤلمة و كأنه يقتصّ من الماضي و يمحو آثاره في الحاضر ..
كانت تلك الأفكار تختفي تدريجيًا عندما بدأت "فريال" تتحرك.. همست باسمه : "عثمان…".. و هي ما تزال تحت تأثير النوم ..
قلبه انقبض.. عينيه أغمضتا.. و كأنه يحاول أن يحبس مشاعره قبل أن تظهر أمامها ...
-انا هنا يا ماما ..
اقترب أكثر.. صوته دافئ و منكسر في الوقت ذاته ..
فتحت عينيها ببطء.. و كأنها ما تزال غير مصدقة.. عندما أدركت وجوده فعلاً.. مدت ذراعيها نحوه دون تفكير.. و انهارت في بكاءٍ مكتوم ..
حاصرها بحضنه.. ضمّها بقوة.. و تركها تبكي كما لو أن كل آلام العالم تجد منفذها الآن ..
ظلّت متعلّقة برقبته.. و جهها مخبأ في صدره و هي تغمغم بحرارةٍ :
-عثمان… سامحني ...
هزّ رأسه.. صوته كان بالكاد مسموعًا :
-و لا كلمة… انا هنا.. انا معاكي.
استمر في احتضانها حتى هدأت تمامًا.. لكنه لم يتركها.. بقى بجانبها كأنه الحارس الذي عاد أخيرًا إلى مكانه الصحيح ..
**
خارج المقابر.. في مشهد ثقيل بالرثاء والندم …
كانت "لمى عزام" تقف بين والديها.. جسدها الصغير منكمش في سترتهما الحامية من الرياح الباردة.. عيناها متسعتان.. تحدقان في الأرض دون أن ترى شيئًا ..
الذهول خيّم على ملامحها.. و كأنها لم تستوعب بعد أن جدها "حسين عزام" قد رحل.. كانت الأمور تبدو و كأنها تتحسن بينهما.. كان جدها قد وعدها ببدء صفحة جديدة.. لكن القدر خطف اللحظة قبل أن تكتمل ..
وقف "مراد" إلى جانبها.. ذراعه ملفوفة حول كتفيها.. يحاول أن يمنحها شعورًا بالأمان الذي يبدو أنه تلاشى في تلك اللحظة.. بقى صامتًا.. لكن عينيه كانتا مليئتين بالقلق و الخوف عليها.. أما "إيمان".. فقد وقفت في صمتٍ.. عيناها حمراء.. تمسح أنفها بين الحين و الآخر بمنديلٍ صغير.. رغم أنها لم تكن تحمل مشاعر طيّبة تجاه "حسين" طوال حياتها.. إلا إن موته المفاجئ هزّها بطرق لم تتوقعها ..
بعد لحظاتٍ من الصمت الثقيل.. خرجت "مايا عزام" من المقابر.. و إلى جانبها زوجها "نبيل الألفي".. "مايا" كانت صورة للحزن الأنيق.. فستانها الأسود الطويل يتماوج مع خطواتها.. وشاحها يغطي رأسها بعناية.. وجهها كان محتقنًا من البكاء.. لكن عيناها الآن ثابتتان.. تملؤهما صلابة مشوبة بالحزن العميق ..
اقتربت "مايا" متمسكة بذراع "نبيل".. بخطواتٍ بطيئة.. و رغم التوتر الذي ملأ الجو.. توجهت مباشرةً نحو "إيمان" ...
-شكرًا انك جيتي يا إيمان.
كان صوتها منخفضًا لكنه واضح.. نبرة تحمل قدراً من الامتنان المخلوط بالحزن ..
ظلّت "إيمان" للحظة تنظر إلى "مايا" بترددٍ.. لكنها لم تستطع أن تمنع نفسها طويلًا.. "مايا" لم تكن مجرد ابنة عمتها.. بل كانت أشبه بأخت في يومٍ من الأيام.. تربّت معها في بيتٍ واحد و تشاركتا أشياء كثيرة ..
بابتسامة صغيرة مترددة.. ردت "إيمان" بلطفٍ :
-مايا… انتي اختي.. و انا اللي ربّيتك... ماتشكرنيش ابدًا.
كلماتها كانت صادقة.. و بدت و كأنها تفتح نافذة صغيرة للمستقبل بينهما.. لم تتردد "إيمان" أكثر.. اقتربت من "مايا" و احتضنتها بقوة ..
بينما "مايا" التي حافظت على تماسكها طوال الجنازة.. شعرت بشيء داخلي ينهار.. دموعها انزلقت بلا إرادة منها.. و ذراعاها ضمّتا "إيمان" كما لو كانت تتمسك بآخر شظايا ذكرياتها الجميلة.. قبل أن تنقلب حياتها رأسًا على عقب بدءًا من وفاة شقيقها "سيف" قبل ما يزيد عن خمسة عشر عامًا ..
كانا كلًا من "مراد" و "نبيل" يقفان جانبًا.. ملتزمين بالصمت.. كلاهما يعرف الآخر.. لكن علاقتهما لم تكن أبدًا وديّة.. "مراد" نظر إلى "نبيل" نظرة عابرة.. ثم أعاد تركيزه على ابنته "لمى" التي كانت تشاهد المشهد كله بعيون ملؤها نظراتٍ فارغة ..
بعد لحظاتٍ.. تراجعت "مايا" عن حضن "إيمان" ببطءٍ.. تمسح وجهها بمنديلٍ صغير.. نظرت نحو "لمى".. تلك الفتاة الصغيرة التي تحمل لمحات من ملامح أخيها الراحل.. و كأنها تنظر إلى جزء منه لا يزال حيًا ..
اقتربت منها بخطواتٍ هادئة.. رفعت "لمى" عينيها لتواجه عمتها "مايا".. تحدق فيها بقوة لم تناسب عمرها الصغير ..
-ازيك يا لمى.. فاكراني ؟ سألتها "مايا" بصوتٍ دافئ رغم حزنه
هزّت "لمى" رأسها ببطءٍ.. عيناها تحملان خليطًا من الحزن و التحفّظ ..
انحنت "مايا" قليلًا لتكون على مستوى نظرها.. ثم مدت ذراعيها بحذر و احتضنتها.. لم تبادلها "لمى" الحضن في البداية.. لكن مع مرور الثواني.. شعرت بدفء "مايا".. و رفعت ذراعيها لتحيط بها ..
همست "مايا" بكلماتٍ.. و كأنها تحاول أن تمنح ابنة أخيها شيئًا من الطمأنينة :
-انا عايزة وعد منك يا لمى… احنا لازم نفضل على تواصل.. هاجي ازوك و تبقي تيجي عندي.. مش عايزاكي تغيبي عني ابدًا.. مفهوم ؟
أومأت "لمى" بخفة.. و دمعة وحيدة انزلقت على خدها ..
كان "مراد" يراقب من مكانه.. عينيه مليئتين بمشاعر مختلطة.. بينما "نبيل" وقف جامدًا.. يطوي ذراعيه أمام صدره.. منخرطًا في حزنه الخاص على شريكه.. و صديقه الوحيد.. الرجل الذي آواه و احتضنه و أنقذه من الضياع.. "حسين عزام" ..
الصمت الذي ساد بينهم جميعًا حمل وعدًا ضمنيًا بمرحلة جديدة.. مليئة بالتحديات و الآلام التي تحتاج إلى التصالح معها مستقبليًا ..
_______________________________
كان الصمت يلف الأجواء داخل السيارة.. رغم صوت المحرك الذي كسر هدوء المساء.. جلس "مراد" خلف عجلة القيادة بجواره جلست "إيمان" في كرسي الراكب.. عيناه مركزتان على الطريق أمامه.. لكنه كان يشعر بوزن اللحظة يخيّم على الجميع ..
في الكرسي الخلفي.. جلست "لمى".. ذراعيها متشابكتان أمام صدرها.. و نظرتها مثبتة على النافذة.. عيناها كانتا تتبعا المشاهد العابرة.. لكنها لم تكن ترى شيئًا.. "إيمان" أيضًا كانت غارقة في أفكارها.. تعبث بمنديلها بين أصابعها.. لكنها قررت قطع الصمت :
-لمى.. حبيبتي… انتي كويسة ؟
التفت مراد إلى ابنته عبر المرآة الأمامية.. صوته كان منخفضًا لكنه حنون :
-ايه يا حبيبتي.. تحبي نقف في أي مكان ؟ قوليلي اخدك في حتة تغيري مود ؟ انتي مأكلتيش من الصبح !
تنهدت "لمى بهدوء.. ثم قالت بصوتٍ خافت :
-انا كويسة يا بابي… بجد.. بس… حسين.. جدو.. ظهر فجأة و كان بيحاول يعوّضني غيابه زي ما قال.. كان لسا… لسا بيقول انه هايحاول ...
أحنى "مراد" رأسه قليلاً.. يحاول أن يجد الكلمات المناسبة :
-عارف يا لمى.. و كان واضح انه فعلاً بيحاول.. بس ساعات… القدر بيتدخل بطريقة احنا مانقدرش نتحكم فيها.
نظرت "إيمان" إلى زوجها.. و كأنها تريد أن تضيف شيئًا.. لكنها ترددت للحظة قبل أن تسأل :
-مراد.. احنا هانروح على فين دلوقتي ؟
تحدث "مراد" بنبرةٍ هادئة و لكن حازمة :
-احنا رايحين المطار.. هانقابل رامز الأمير هناك.. و نرجع كلنا على مصر الليلة.
زفرت "إيمان" براحة قائلة :
-ايوة من فضلك.. لازم نرجع بسرعة.. قلبي مشغول على عمر اوي من ساعة ما سيبته في بيت صاحبك.
هزّ مراد رأسه و قال بصوتٍ أجش يطمئنها :
-ماتقلقيش خالص.. انا مطمن على ابننا في بيت صاحبي و مش شاغلني نهائي.. قصر البحيري آمن جدًا.. و عثمان بنفسه هناك.. و بعدين انا تقريبًا متربي هناك.. ما انتي عارفة.. عثمان البحيري صديق عمري.. اخويا.
أتت طمأنته ثمارها و شعرت "إيمان" بشيء من الراحة.. لكنها اكتفت بهزة رأس خفيفة ..
نظرت إلى "لمى" التي كانت ما تزال تحدق في النافذة.. ثم وضعت يدها على كتفها.. تحاول أن تمنحها شعورًا بالطمأنينة قائلة :
-ان شاء الله اول ما نوصل نبدأ نخطط لإجازة طويلة في مصر.. عشان لولو و عمر يتفسحوا و يتبسطوا.. انا مش شايفة ان بقى في سبب يمنعنا نستقر هناك شوية.. صح يا مراد ؟
أومأ "مراد" بصمتٍ.. ثم قال بهدوء :
-صح.. انا هاظبط شغلي كله من هناك عشان نقعد لآخر الصيف.. و بالنسبة للدراسة نبقى نرجع على الامتحانات و ننزل مصر تاني.. المهم عندي لمى تكون مبسوطة و أي حاجة تطلبها تتنفذ فورًا.
ابتسمت "لمى" لعينيه عبر المرآة الأمامية و إلتزمت الصمت ..
الجو داخل السيارة استمر مشحونًا.. لكنه أصبح أكثر هدوءًا.. و كأن الكلمات التي قيلت كانت كافية لإعادة بعض التوازن المؤقت ..
في الأفق.. أضواء المطار بدأت تظهر.. و معها بدأ فصل جديد يلوح في الأفق لعائلة "مراد" ...
**
داخل غرفة المكتب في قصر "البحيري" ..
كانت الغرفة مضاءة بإضاءة خافتة تعكس دفء المكان و هيبته بالاضفة لضوء الشمس المتسلّل عبر زجاج النوافذ العريضة.. الأثاث الفخم يشهد على عراقة تاريخ العائلة.. بينما "عثمان البحيري" يلج أولاً.. متبوعًا بزوجته "سمر حفظي" التي كانت تراقبه بعينين مليئتين بالقلق ...
-في ايه يا عثمان ؟ .. سألته بنبرةٍ حذرة و هي تتابع خطواته الثقيلة نحو الأريكة
جلس "عثمان" على الأريكة و أشار لها أن تجلس بجانبه.. ثم مد يده نحو الطاولة أمامه حيث استقر ملف سميك من الأوراق ...
-عايز اكلمك في حاجة مهمة ! .. قالها بهدوءٍ.. بينما دفع الملف قليلاً باتجاهها.
غاصت "سمر" بجانبه فوق الأريكة الوثيرة.. عيونها معلّقة على الملف قبل أن ترفعها إليه ...
-ايه ده ؟
أخذ "عثمان" نفسًا عميقًا.. ثم قال بثباتٍ :
-القصر ده… كله بقى ملكي لوحدي.
رمشت "سمر" بعينيها بدهشةٍ.. و لم تقل شيئًا.. تنتظر أن يكمل ...
-انا اشتريت نصيب كل الورثة.. محدش بقى له حاجة هنا غيري.
-ليه ؟ .. سألته بذهول و هي تشير للملف :
-عملت كده ليه ؟
ابتسم "عثمان" بهدوء.. و نبرة صوته بدت و كأنها تحمل إجابة معدّة مسبقًا :
-عشان كتبت القصر باسم يحيى… ابننا.
تجمّدت "سمر" في مكانها للحظة.. تحاول استيعاب كلماته.. رددت مشدوهة :
-بإسم يحيى ؟ ليه ؟ ليه ماكتبتوش باسمك انت ؟
-لأن ده حقه.. القصر ده لازم يبقى باسم الوريث الأكبر في العيلة.. و هو الوريث الكبير من بعدي.. لما يكون باسمه مافيش حاجة من المِلك هاتطلع بره.. و انا عارف ان يحيى زي ما هو ابني.. هايبقى عادل زيه زي ابوه.. هاياخد باله من اخواته.. و هايدير كل حاجة بحكمة.
نظرت إليه "سمر" بعيون مليئة بالحيرة.. لكن شيئًا في كلماته جعلها تشعر بالرهبة و الحنان في الوقت ذاته ...
-طيب و باقي ولادك ؟ انت مش شايف ان ده ظلم ليهم ؟
-مافيش ظلم يا سمر ! .. قالها بثقة.. و ابتسامته لم تفارقه :
-انا ضامن لكل واحد فيهم حقه.. كلهم ليهم حقهم في ميراثي.. و محدش فيهم هايتظلم ابدًا.. لكن ده… ده تراث العيلة.. لازم يبقى في امان و ملك شخص واحد بس.
صمتت "سمر" للحظاتٍ.. و كأنها تستوعب كلماته.. ثم رفعت نظرها إليه و قالت بصوتٍ شبه منكسر :
-عثمان… ليه كل ده دلوقتي ؟ ايه اللي خلاك تفكر بالطريقة دي ؟
ابتسم لها بهدوءٍ.. و عيناه مليئتان بتعب سنوات لم يعترف به من قبل و قال :
-محدش فينا هايعيش للأبد يا سمر.. انا بس عايز اطمن على مستقبل ولادي قبل ما اسيبهم في اي وقـ ..
قاطعته فجأة.. و رمت نفسها في حضنه.. دموعها بدأت تسيل دون أن تشعر و هي تقول من بين أنفاسها المتقطعة :
-اسكت ! ماتقولش كده.. تنت بتوجع قلبي بالكلام ده يا عثمان.
ضمّها "عثمان" بحنانٍ.. و مسح على شعرها.. لكنه أكمل بصوتٍ منخفض.. و كأنما يخاطب قلبها قبلها :
-ابويا مات فجأة يا سمر.. و كان لسا ماكبرش اوي.. كان صغير.. و انا دلوقتي بقرب من السن اللي مات فيه !
رفعت "سمر" رأسها بسرعة.. وضعت يدها على فمه لتوقفه.. عيناها امتلأتا بالدموع و هي تهز رأسها ...
-بعد الشر عليك يا حبيبي.. ابويا و امي كمان ماتوا و هما لسا صغيرين.. بس ده قضاء و قدر.. محدش عارف معاده إلا ربنا.
ابتسم "عثمان" برقة.. و أمسك يدها ليبعدها عن فمه بلطفٍ قائلًا :
-و نِعم بالله يا حبيبتي.. انا عارف كل ده.. بس انا اتعلمت من اللي فات.. اللي سبقونا سابوا الدنيا من غير ما يضمنوا حاجة.. و انا مش عايز اعمل كده.. عايز اسيبكوا كويسين.. مش ناقصكوا حاجة.
كلماته كانت ثقيلة على قلبها.. لكنها لم تستطع الرد.. فقط أغمضت عينيها و دفنت وجهها في صدره ..
ابتسم "عثمان" من جديد.. و مسح دموعها بأنامله بحنانٍ.. ثم همس لها بصوتٍ طمأنها رغم كل شيء :
ما تقلقيش يا سمر.. انا مش هاسيبكوا دلوقتي… مش هاسيبكوا دلوقتي خالص.
**
الإسكندرية – مطار برج العرب
ضجيج صالة الوصول كان طبيعيًا.. المسافرين يتنقلون بين الحقائب.. أصوات عربات النقل و صدى الإعلانات عن الرحلات.. لكن وسط الزحام.. وقعت تلك الصدفة التي بدت و كأنها مكتوبة في سيناريو مُحكم ..
كان "مراد" يسير بجانب زوجته "إيمان".. و خلفهما "لمى" تمسك بيد "رامز الأمير" الذي كان يدفع عربة حقائبهم.. الكل بدا مرهقًا بعد الرحلة.. لكن "مراد" كان أول من لاحظ الثنائي الذي ظهر أمامهم فجأة.. "هالة البحيري" و زوجها "فادي حفظي" ..
بشعرها البني المصفف بعناية و فستانها الكاجوال الأنيق.. وقفت "هالة البحيري" بجانب زوجها الذي بدا أطول منها بشكلٍ مُلفت.. و جذّابًا بملامحه الجادة و نظرته الحذرة ..
كانت المفاجأة بادية على وجه "مراد".. لم يكن يتوقع أن يلتقي بها هنا.. بعد كل هذه السنوات ..
اصطحب زوجته في يده بينما يتوجه نحو طليقته و زوجها مباشرةً.. و رغم السنوات التي مرّت.. لم يخفِ "مراد" ابتسامته الخفيفة و هو يقترب منها هاتفًا :
-هـالة !
التفتت "هالة" إلى النداء.. و في عينيها شيء من الارتباك ما إن رأته.. كأنها تراجعت إلى ذكرياتٍ قديمة.. على الرغم من ذلك.. بقيت يدها متشابكة مع يد زوجها "فادي".. كما لو كانت تحاول الحفاظ على تلك المسافة بين الماضي و الحاضر ...
-مراد… ازيك ؟ .. قالت بصوتٍ منخفض و عيناها تشي بما يختبئ من توتر خلف تلك الكلمات البسيطة
هذه هي المرة الثالثة التي يلتقي زوجها و طليقها وجهًا لوجه ..
مدت يدها له.. لكنها كانت تتحاشى أن تترك يد "فادي" الذي أحسّت بتصلّبه بجوارها ..
شدّ "مراد" على يدها بحميميةٍ مألوفة.. ثم أضاف بصوتٍ ناعم كأنما يعتذر عن أيّ إساءة لحقت بها بسببه او اقترفها هو بحقها :
-انا كويس… و انتي اخبارك ايه ؟ ما شاء الله.. ابنك !
و نظر إلى الطفل الجميل الذي تعلّق بأيدي والديه.. ثن نظر إلى "فادي" مبتسمًا و قال :
-ربنا يحفظه.. و يبارك لكوا فيه يارب.
ازداد "فادي" جمودًا و هو يقف بجانب "هالة".. و بغض النظر عن كم التوتر الذي شعر به.. كانت عينيه تتنقل بين "مراد" و "هالة" بعنايةٍ.. لم يكن يخفى عليه تاريخ "مراد" و "هالة".. تاريخ كانت فيه العلاقة بينهما ذات يوم أكثر من مجرد صداقة.. لقد كان زوجها !!!!
على الطرف الآخر.. "إيمان" التي كانت تراقب المشهد عن كثب.. نظرت إلى "مراد" ثم إلى "هالة".. ثم إلى يد "فادي" المترابطة مع يد "هالة".. كانت تعرف القصة جيدًا.. "هالة البحيري".. كانت في يوم من الأيام جزءًا من حياة "مراد" و كانت العلاقة بينهما تحمل الكثير من الذكريات المختلطة.. "إيمان".. رغم صمتها.. كانت تراقب بهدوء.. لكن لم يكن في عينيها مكان للمقارنة أو الشك، فهي تعرف كل شيء.. و تخطّت حاجز الثقة بزوجها منذ مدة طويلة.. هو ليس زوجها فحسب.. إنه حبيبها.. حب عمرها ...
-ازي حالك يا مراد ؟ .. سأل "فادي" بصوتٍ رزين.. لكنه كان يحمل توترًا خفيًا في طياته.. ناتجًا عن معرفة تاريخ العلاقة بين "مراد" و زوجته "هالة" ..
أجابه "مراد" بثباتٍ و هو يدرك تمامًا عبء الصدفة التي جمعت بهم و تأثيرها عليه :
-بخير يا فادي.. حمدلله على السلامة.. انتوا جايين في زيارة ؟ رايحين على قصر البحيري !؟
أومأ له "فادي" قائلًا :
-آه فعلًا.. رايحين.. هاننزل ضيوف كام يوم.. لكن قررنا نستقر هنا.
-حلو.. احنا كمان رايحين على هناك.. نتحرك سوا و لا معاكوا عربية ؟
لم يجاوبه "فادي" بسرعة.. بينما "هالة" نظرت إليه بتوتر.. لكنها لم تعلق.. بدا كأن اللقاء ترك طعمًا معقدًا على الجميع ..
ليقترب "رامز" من "مراد" و يربت على كتفه قائلًا :
-انا معايا عربية برا تكفينا كلنا.. الطريق طويل يا جماعة.. لو هانكمل دردشة.. نخليها في مكان أريح.
الجميع التقطوا الإشارة بصمت.. و اتجهوا للخروج من صالة الوصول.. الجو كان مشحونًا.. لكن اللقاء في قصر "البحيري" بدا و كأنه يحمل وعودًا لمزيد من التوترات و المفاجآت ...
**
قاعة الطعام الرئيسية بقصر "البحيري" ..
كان العشاء فرصة نادرة لاجتماع العائلة بأكملها بعد الأوقات العصيبة التي مرّوا بها.. المائدة ممتدة.. اجتمع الجميع حولها.. الأجواء هادئة على السطح.. لكنها تخبئ تحتها مشاعر متضاربة ..
أطباق شهيّة متنوّعة و موّزعة باتقانٍ.. أضواء الثريات تنعكس على الكريستال الفاخر.. لكن العيون كانت هي الحكاية الحقيقية ..
تجلس "سمر" على يمين زوجها.. "عثمان البحيري".. تحاول أن تكون أقرب إليه في غياب "فريال" هانم التي ما زالت تتعافى في جناحها.. كانت تتحدث بهدوءٍ إلى الحضور.. تحاول التخفيف من توتر اللحظة ..
على الجانب الآخر.. "شمس البحيري" جلست في صمتٍ يشبه العزلة.. وجهها شاحب.. و عيناها مثقلتان بالكآبة.. لا تكاد ترفع رأسها عن طبقها.. قلبها مثقل بذكريات حبيبها الذي حُرمت منه قسرًا.. و حياتها التي أصبحت كأنها قيد.. لم تكن قادرة على التركيز مع أيّ حديث أو صوت حولها ..
كان "عثمان" يراقبها خلسة لعدة دقائق.. ثم فجأة.. مد يده و أمسك بيدها بهدوءٍ.. ممّا جعلها تنتفض قليلاً و تلتفت إليه بتوهان ...
-ايه يا شمس ؟ .. سألها بنبرةٍ دافئة و عيناه مليئتان بالحنان الذي نادرًا ما أظهره لها
لم ترد "شمس".. لكنها شعرت بطمأنينة غريبة من لمسته.. في تلك اللحظة.. رفع "عثمان" صوته ليتحدث إلى الجميع :
-يا جماعة.. مبدئيًا منورين.. انا عايز اشكركوا كلكوا انكوا هنا معايا انهاردة.. وجودكوا معايا بيسعدني اكتر من اي حاجة تانية.. لما بنشوف بعض بعد مدة طويلة من الغياب.. بتكون لحظات غالية.. ماتتقدرش بتمن.. لحظاتي معاكوا دلوقتي ماتتقدرش بتمن.. كلكوا عيلتي.. كلكوا مني ..
كانت كلماته تملأ الجو بشيء من الألفة و المحبة.. تبادل النظرات مع كل فرد على الطاولة مبتسمًا و معبّرًا عن امتنانه.. ثم توقف للحظة و بصوته العميق أضاف :
-الليلة دي كمان ليلة مميزة بالنسبة لي.. ليلة فيها أمل جديد.. بعد كل اللي عدينا بيه.. عايز أشارككم حاجة مهمة ..
توقف قليلاً.. ثم وجه نظره نحو "رحمة جابر".. والدة أخته نصف الشقيقة التي كانت تجلس في مكانها بعيون مليئة بالشك و الحيطة ...
-رحمة.. انا اخدت قرار.. القرار ده يخص شمس.. و واثق انك مش هاتراجعيني فيه.. لأن في الأول و الاخر كل اللي يهمنا هو سعادتها.
نظرات "رحمة" كانت خليطًا من الشك و الارتباك.. الهمسات بدأت تدب بين الحاضرين.. و نظرت "شمس" إلى أخيها غير قادرة على تخمين ما سيقوله ..
بينما "رحمة" التي كانت توقعاتها تميل للأسوأ.. حدقت فيه بعينين متسائلتين.. لكن "عثمان" تابع بثقة :
-رامز الأمير… جالي من فترة و طلب إيد شمس مني.. انا كنت رافض لأسباب مافيش داعي اقولها دلوقتي.. لأنه ببساطة قدر يرتقي بنفسه للمعايير اللي حطتها في الراجل اللي ممكن اقبل بيه زوج لأختي ..
ارتفعت بعض الأنفاس المفاجئة من الحضور.. بينما "شمس" كانت كأنها فقدت القدرة على التنفس.. عيناها امتلأتا بالدموع.. و يدها اهتزت في مكانها ..
ليكمل "عثمان" بنبرةٍ أقوى :
-هو جه و طلبها مني تاني.. و انا وافقت.
شهقت "رحمة" بصوتٍ مكتوم.. عيناها ملأتهما الريبة.. كانت لتعترض.. لكن نظرة واحدة من "عثمان" أوقفت في حلقها أيّ كلمة قبل أن تخرج.. عيناه كانتا قاسيتين بما يكفي لفرض سلطته.. لكنهما أيضًا حملتا وعدًا صامتًا بحماية "شمس" تحت أيّ ظروف ..
بإشارة من "عثمان".. ظهر "رامز الأمير" فجأة من خارج القاعة.. كان أنيقًا بشكلٍ لافت.. يرتدي بذلة سوداء و ربطة عنق أنيقة.. ممسكًا بباقة من الورود الحمراء الكبيرة.. كل العيون تحوّلت نحوه.. لكنه كان ينظر فقط إلى "شمس" ..
فتحت "شمس" فمها.. لكن الكلمات أبت أن تخرج.. صدمتها كانت عميقة.. عيناها تتحركان بين "عثمان" و "رامز".. كأنها تحاول أن تستوعب ما يحدث ..
اقترب "رامز" بخطواتٍ واثقة.. لكن وجهه كان يعكس توترًا دفينًا.. وقف أمام "شمس" و ركع على ركبته ممسكًا بالباقة التي تخفي علبة صغيرة من القطيفة ..
صوته كان مليئًا بالمشاعر حين قال :
-بحبك يا شمس.. تتجوزيني ؟
كانت "شمس" تنظر إليه و كأنها ترى حلمًا مستحيلًا يتحقق أمام عينيها.. الدموع انهمرت من عينيها بغزارةٍ دون أن تستأذن.. و يدها ارتجفت و هي تلتقط باقة الورد.. لم تستطع الرد بالكلام.. لكن عيناها قالتا كل شيء ..
و "رحمة" التي لا تزال تجلس في مكانها مشدوهة.. غير قادرة على تصديق ما يحدث أمامها.. شعورها بالاعتراض كان واضحًا.. لكنها ابتلعت كل شيء حين نظرت إلى "عثمان" الذي أدار الموقف بذكاء و قوة ..
يفتح "رامز" العلبة أمام عينيّ "شمس" كاشفًا عن خاتم زواج أنيق و لامع.. همس لها بصوتٍ سمعه الجميع بسبب الهدوء الشديد و المترقب للحظة :
-اوعدك ان عمري كله ليكي… و انك هاتكوني اسعد انسانة في الدنيا.. لو قولتي آه... انا هكون اسعد راجل في الدنيا.
لم تتمالك "شمس" نفسها.. و انفجرت بالبكاء.. تقلّص وجه "رامز" بجزعٍ.. حاول أن يقترب ليحتضنها.. لكن "عثمان" كان أسرع.. مد يده ليوقفه هاتفًا بنبرةٍ صارمة :
-ممنوع أي لمس قبل كتب الكتاب !
تطلّع إليه "رامز" بدهشةٍ ممزوجة بالرجاء.. و قال :
-بس هي بتعيط… لازم اخدها في حضني.
رد "عثمان" بابتسامة صغيرة مستفزة.. لكن نبرته بقيت حازمة :
-انا اللي اخدها في حضني.
و اقترب "عثمان" من أخته.. احتضنها بحنانٍ أخوي عميق.. نهضت "شمس" و تعلّقت به كأنها تبحث عن الأمان في حضنه.. و هي تجهش بالبكاء و تردد بصوتٍ مرتعش :
-شكرًا يا عثمان… شكرًا.. شكرًا.
الحاضرون صفقوا بحماس.. بعضهم ابتسم بسعادة خالصة.. و البعض الآخر كانت مشاعره مختلطة.. "رامز" وقف في مكانه.. عينيه تمتلئان بالدموع.. لكنه اكتفى بابتسامة امتنان عميقة لـ"عثمان".. لصديقه ..
كانت "رحمة" الوحيدة التي ظلّت ساكنة في مكانها.. نظراتها ملؤها القلق.. لم تستطع تقبّل "رامز" بسهولة.. لكنها عرفت بأنها لن تملك الكلمة الأخيرة أمام "عثمان" ! ......