![]() |
رواية لعنة الخطيئة الفصل الثالث والخمسون
بعد قضاء اليوم مع عائلته وجلوسه رفقة عمته وشقيقه، وأخته التي كانت الفرحة لا تسعها وقد زينب بنصرها بدبلة الخطوبة بعدما أخبرهم آدم أنه من الأفضل عقد خطوبة صغيرة الآن ثم التحضير للزفاف.
وللغرابة كانت حكمت ساكنة رغم امتعاضها بعض الشيء من سرعة الترتيبات إلا أنها لم تفتعل أية مشكلة مثلما اعتقد الجميع.
تنهد مراد وهو يدخل للمنطقة القاطن بها لولا أنه حين اقترب من بيته لمح من بعيد زينب ووالدتها في مواجهة حادة مع عمها، ومن وقفتهما المتحفزة والنظرات النارية التي تتبادلها العيون أدرك أنهما يتشاجران عند باب منزلهم فأوقف السيارة على جانب الطريق ثم ترجل بسرعة متجها نحوهم.
ما إن اقترب حتى توضح له وجود رجل آخر رفقة عثمان ويبدو أنه يحاول تهدئته لكن هذا الأخير أبى ذلك بل استدار نحوه بظفر كمن وجد أخيرا فريسته المناسبة، وصاح بصوت أجش مملوء بالغضب :
- أهو ده بقى السمسار اللي ضحك عليا وسرق مني البيت.
لم يبدُ على مراد أي انفعال بل تقدم خطوة بهدوء وتشدق بلهجة ثابتة :
"أنا ماضحكتش على حد والموضوع كله تم بالقانون، المحكمة أصدرت قرارها ان البيت مش ملكك وأخوك مكتبتش حصته بـ اسمك زي ما حضرتك قولت، فأي اعتراض منك المفروض يكون قدام القضاء مش بالصوت العالي والتهجم على الناس.
قهقه عثمان بسخرية، عاقدًا ذراعيه أمام صدره:
"قضاء ايه وزفت ايه ما انت خدت ورق الملكية للمحامي بتاعهم رغم انك خدت مني فلوس قد كده والمفروض تشتغل معايا مش ضدي ! بس أنا مش هعديها.
تنهد الرجل الواقف أمامه ووضع يده عليه مدمدما بكلمات تطلب الهدوء فأشاحها عثمان بنزق وقال :
- شيل ايدك من عليا يا فاضل اهو سكوتنا ده اللي خلى الأم وبنتها يطلعو فوق روسنا.
تأففت زينب بخنق واحراج طفيف لأن عمها يظهر جشعه أمام جارها ويخجلهما أمامه إلا أن الآخر ازدادت نبرته صرامة وهو يؤكد عليه :
- هعيد كلامي يا حج الورق كله قانوني والعقد اللي انت قدمته طلع مزور وبدل كا تحمد ربنا لأنك متسجنتش جاي تعمل مشاكل !
خلاص المحكمة أثبتت كلامنا وفي حق رجع لأصحابه وانتهى الموضوع.
اشتد غضب عثمان وعجز عن مجابهته لأن كل حديثه صحيح وهذا ما جعله يقرر سلك نهج آخر فأشار بيده إلى زينب ووالدتها بعنف وطفق صوته يرتفع أكثر مع كل كلمة :
- ممكن افهم ايه اللي يخلي راجل غريب يدخل في مشاكلكم بدل ما تلجأوا لعيلتك إلا لو في حاجة مش مضبوطة ولا خلاص… بعد ما أخويا مات مبقاش ليكي راجل يلمك انتي وبنتك.
كانت اتهاماته أشبه بشرارة أشعلت النيران فلم تتردد زينب للحظة وتقدمت خطوة للأمام منفجرة بذهول واِنفعال :
- انت ازاي يجي في دماغك التفكير ده هو ده اللي طلع معاك يا عمي ! كتر خيره الأستاذ مراد ساعدنا لأنه راجل محترم وعارف اننا مظلومين بس حضرتك عشان عايش على النصب والخداع مش قادر تستوعب ان في ناس لسه عندها ضمير.
- ايه بتزعقيلي بعد اللي عملته عشانكو ؟! أنا عرضت عليكم تجو تعيشو في بيت العيلة وأجوزك لواحد من الرجالة هناك بس الهانم تبطرت ع النعمة هو ده جزاتي عشان حبيت استر عليكي.
هنا تدخلت والدة زينب أخيرا، صوتها كان منخفضا لكنه مشحون بالانفعال تحاول من جهة تهدئة الأوضاع ومن جهة أخرى لم تستطع كتمان ما بداخلها أكثر :
- احنا عمرنا ما طلبنا منك حاجة يا حج بالعكس كل اللي كنا عايزينه انكو تسيبونا فحالنا بس انت بدل ما تصون حريم أخوك جيت تضحك علينا وتسرقنا، بس الحمد لله ربنا أظهر الحق.
التفت إليها عثمان بذهول مختلط بالعصبية وفتح فمه ليرد إلا أنها سبقته هادرة بغضب مكبوت :
- مراد ابني زيه زي بنتي، وقف جنبنا في الوقت اللي أقرب الناس سكتوا وعملوا نفسهم مش شايفين وهو اللي ساعدنا من بعد ربنا لما الدنيا اسودّت في وشي… واللي بيشكك في نيته يبقى هو اللي نيته مش !
عندما ذكرت أن أقرب الناس سكتوا عن الحق ارتبك الرجل الواقف بجانب عثمان، العم فاضل هو عم زينب الأصغر ورغم أنه لم يدعم أخاه في خططه ولكنه أيضا لم يدافع بل سكت خوفا من بطش عثمان.
بيد أنه في هذه اللحظة حينما رآه يتجاوز حد المعقول برطم بتردد واضح :
- هدي نفسك ياخوي الأمور مبتتحلش بالطريقة ديه وخلاص اللي حصل...
أخرسه بتعجرف وحِدة قاسية ثم هدر :
- ماشي يابنت خوي بس خدي بالك انكو خلاص بقيتو برا العيلة وأوعى يجي يوم وألاقيكم عند باب بيتي بتترجوني عشان اسامحكو.
ثم استدار بخيلاء كأن الكون ملكه ومضى بعيدا، فيما بقي فاضل متلكئا للحظة قبل أن يتبعه بصمت.
أخذت زينب نفسا عميقا في محاولة بائسة لتهدئة روعها قبل أن تطالع مراد وتردد بحزم :
- أنا الموت عندي أهون من اني اتذلل لحد في الدنيا ديه خاصة من اللي اسمه عمي، ولو هو فاكر انه هيقدر هيكسرني فيبقى لسه مبيعرفنيش.
نظر إليها مراد للحظة، ثم ابتسم ابتسامة غريبة ووجه حديثه للخالة دون أن يشيح نظره عن الابنة :
- حضرتك يا خالتي ام زينب قلتي انك بتعتبريني ابنك مش كده.
تبسمت الأخرى بحنان مجيبة فورا :
- طبعا انت ابني حتى لو مفيش رابط عائلي مابيننا.
- طب ايه رأيك ابقى واحد من العيلة بجد عشان الرابط ده يكون كامل.
- ازاي يعني.
ضيقت حاجبها مستفهمة قصده لينظر إليها مراد وأخيرا ويقول :
- أنا طالب إيد بنتك زينب على سنة الله ورسوله.
_________________
جلست في غرفتها وهي تطل من النافذة كالعادة حتى سمعت طرق الباب ودلفت ليلى تستأذنها بلين :
- ممكن ادخل يا تيتا ؟
رمقتها بطرف عينها وأماءت فدنت منها حفيدتها وابتسمت هامسة باِمتنان :
- جاية اشكرك لأنك وافقتي على محمد بصراحة أنا كنت فاقدة الأمل وحاسة الدنيا مقفولة في وشي بس دلوقتي حاسة انها مش سايعاني من الفرحة.
- للدرجة ديه بتحبيه يا بنت ولدي ؟
حركت ليلى رأسها بشيء من الخجل وأردفت :
- أوي يا تيتا وهو كمان بيحبني ووعدني ياخد باله مني ... بس في حاجة محيراني جدا واللي هي ازاي غيرتي رأيك بعد ما كنتي رافضة وقولتي مستحيل اجوزهم لبعض.
- لأني مش عاوزة انك تبقي حكمت تانية.
همست الجدة بهذه الجملة بصوت خافت لم يصل لحفيدتها التي همهمت بتساؤل :
- قلتي حاجة ؟
تنهدت حكمت بعمق وكأنها تزن كلماتها قبل أن تتحدث ثم استدارت لتطالع ليلى بنظرة طويلة، نظرة تحمل في طياتها حكايات الماضي وأسراره، حتى قالت بصوت رخيم :
- مش قلتيلي اني مش هفهمك لأن عمري ما حبيت ؟ أنا عشت حياتي كلها بفرض السيطرة وبأنر لازم أكون الأقوى وكل حاجة تمشي زي ما أنا عايزة بس في النهاية القوة ديه خسّرتني بقدر ما فادتني.
ثم أمسكت بكفها تربت عليها بجدية :
- شوفتك وانتي بتحبي محمد، شفت في عنيكي نفس البريق اللي كان في عيني زمان بس أنا خليت قلبي حجر لأن محدش دعمني ساعتها عشان كده أنا مش عاوزة أكرر نفس الغلطة معاكي.
اتسعت عيناها بذهول مما تسمعه فهي لم تعتد أن ترى جدتها بهذه الصراحة والهشاشة المخفية خلف جدار من القوة، هل السيدة حكمت متحجرة القلب ذاقت مرارة الحب في الماضي وهذا ما جعلها تقسو هكذا ؟!
ابتلعت ليلى ريقها وسألت بتردد :
- يعني... لو الزمن رجع بيك كنتي اخترتي الحب ؟
- كان زمان فات ومبقاش ينفع أغيره بس انتي عندك الفرصة انك تعيشي حياتك بالطريقة اللي قلبك مختارها ايوة أنا بهتم بالمناصب والمستويات بس مش لدرجة احرق قلب حفيدتي الوحيدة.
- يبقى ليه حضرتك فضلتي رافضة نيجار مع أنك عارفة قد ايه آدم بيحبها.
قطبت حاجبيها ممتعضة ومع ذلك هتفت معترفة على مضض :
- لأنها بنت عدوينا وبسبب اللي عملته في أخوكي قبل كده ... ومع اني لسه مبحبهاش بس مش هنكر انها حبت حفيدي بجد المرة ديه وأنا اتأكدت من ده لما فضلت واقفة مع آدم بعد ما الحقيقة اتكشفت ... وبيني وبينك أخوكي مش هيقع على جدور رقبته عشان واحدة إلا لو كانت قوية زي بنت الشرقاوي.
ابتسمت ليلى ثم قبلت يديها قائلة بصدق :
- أنا بحبك أوي يا تيتا ربنا يخليكي لينا.
ودعتها وغادرت وهي تطالع دبلة خطوبتها من فينة لأخرى فطُرق الباب ودلف آدم هذه المرة ليجلس أمامها ويهتف :
- أنا عايز اشكرك لأنك قبلتي بالخطوبة وكسرتيش بخاطر ليلى.
- ع أساس انك مكنتش هتجيبه غصب لو فضلت أنا مصممة على رفضي ياحفيدي.
ابتسم وضم كف يدها بين أصابعه معقبا :
- موافقتك بتهمنا كلنا يا ستي وصدقيني ليلى هي بنفسها كانت هترفض محمد لو مقبلتيهوش.
- معقوله لسه بتحترموني بعد اللي عرفتوه عني وبعد ما خسرت العمودية بسببي.
- حطي في بالك ان مهما حصل فحضرتك هتفضلي ست البيت ده وتاج على راسي أنا تعلمت القوة منك يا حكمت هانم.
أجابها آدم بصدق ومحبة تتوهج في عينيه البنيتين فاِرتعشت أصابعها للحظة بين يديه ولكنها سحبتها سريعا عائدة إلى جمودها المعتاد، ومع ذلك لم تستطع إخفاء لمعة التأثر عنه.
زفرت حكمت ببطء واستطردت مستفهمة :
- احكيلي بقى ايه اللي بيحصل بره بعد ما انكشف سر الوصية والناس في البلد بقت عاملة ازاي أكيد في منهم فرحانين لأنهم ياما اتمنوا يوقعونا.
عدل آدم جلسته مسندا ظهره إلى الكرسي، وعيناه تراقبان جدته قبل أن يعقب بثبات :
- كلامك صح في ناس فرحانة باللي حصل ولأن العمودية خرجت من بيت الصاوي، وناس تانية زعلانة بس المشكلة مش فيهم، المشكلة في صفوان.
- ماله ولد الشرقاوي المفروض يكون بيعمل خططه دلوقتي عشان يستلم المنصب مكانك.
- ايوة ماهو واضح انه مستني الفرصة من زمان بس هو عايز يطلعنا من القرية خالص وعمل اجتماع مخصوص علشان كده قال ايه عيلتنا مبتستحقش تفضل وسطيهم.
تشنجت ملامحها بعدائية واضحة وصكت أسنانها بغيظ ضاربة كفها على ذراع الكرسي وهي تهدر :
- قايل الكلام ده ع مين على الصاوي؟ ده بدل ما يقول الحمد لله ان العمودية جاتله على طبق من فضة ! هو ده اللي انت اتنازلت عشانه يا آدم.
رفع آدم يده نافيا بحسم :
- لا يا ستي أنا اتنازلت عشان نفسي وضميري وعشان عيلتي تعيش مرتاحة من غير ما تكون متورطة في حاجة غلط.
أنا ما سبتش العمدية عشان صفوان أساسا محدش من البلد عايزه يستلمها، وصدقيني لو افتكر إنه هيقدر يطردنا من بلدنا يبقى غلطان صفوان لسه مبيعرفش مكانتنا عند الأهالي.
حدقت فيه حكمت طويلا وعجزت عن عدم الشعور بالإنزعاج منه فمهما كان سيظل آدم أحد المسؤولين عن كشف هذا السر.
ليس وكأنها لا تعلم بأن حفيدها من جعل صفوان يصل لمكان أسر سليمان حتى يستنبط الحقائق منه !
إلا أن العتاب واللوم لم يعد لديه فائدة الآن فاِنفرجت شفتاها أخيرا وهمست بصلابة :
- جدك الله يرحمه كان دايمًا يقول "عيلة الصاوي مبتقعش، ولو وقعت بتقوم أقوى" اقف في وش كل واحد بيقف ضده واوعى تخلي حد يكسرك يا حفيدي.
أومأ الآخر بإيجاب ونهض واقفا بثقة، وعيناه تقدحان تصميما :
- ولا عمري هسمح لحد يعمل كده يا ستي.
تركها هناك جالسة على كرسيها بحوار النافذة كما اعتادت وذاكرتها تجول بأحداث اليوم والفرحة التي عاشها أحفادها -حتى مراد- بسبب تنازلها عن الماديات لأول مرة منذ عقود طويلة ...
ثم ومن بين كل الأفكار التي طرأت عليها جال ببالها آخر مواجهة مع نيجار حينما لامتها هذه الأخيرة وقالت لها أنها دمرت حفيدها بألاعيبها وكذبها ... وربما كان معها حق هذه المرة !!
_________________
بعد مرور أسبوع.
سارت في الأزقة تحمل أكياس السوق بين يديها وتسرع في خطواتها لكي تصل للمنزل قبل الغروب عندما وقعت عيناها اصطدم بها رجل بشكل عرضي، توقفت للحظة بتفاجؤ قبل ان تستعيد هدوءها بسرعة وتهتف :
- صفوان.
ابتسم بتهكم بائن وعلّق :
- أهلا بنيجار الصاوي.
وقبل أن تتحدث وجدت يده تمسك بذراعها ويسحبها إلى طرف الزقاق حيث لا أحد يراهما ليسألها مباشرة :
- انتي كنتي بتعرفي بحكاية سليمان ده وعارفة ان حكمت زورت الوصية ونقلتها لعيلتها بدل عيلتنا احنا ؟
نظرت إليه بصلابة وقلبها تسارع للحظة لكنها لم تحاول التظاهر بالبراءة بل صارحته بالإجابة :
- أيوة.
رمش صفوان مرتين وكأنه لم يصدق ما سمعه ثم ازداد وجهه صلابة وقبضته تشددت على ذراعها، قبل أن يتركها فجأة مبرطما بذهول مختلط مع الغضب :
- كنتي عارفة وسكتي ؟ أنا جيتلك بنفسي وطلبت منك تساعديني نفهم ليه آدم تنازل عن العمودية بس عملتي نفسك مش عارفة عشان تحميه !
تنفستنيجار ببطء وهي تحاول ضبط أعصابها لتوضح له الأمور :
- لا أنا وقتها مكنتش بعرف حاجة بجد ولما عرفت يعني لما آدم قبض عليه وحكالي مكنتش عاوزة أقولك الحقيقة بطريقة تخليك تعمل تصرف غلط.
ضحك صفوان بسخرية وهز رأسه محدقا فيها بحدة :
- لأ انتي مرضتيش تقولي لأنك خلاص بقتي مرات آدم الصاوي وعاوزة تحميه ومش فارق معاكي حد غيره حتى عيلتك الحقيقية.
- آدم لو محتاج حماية بجد كان اتخبى ورا كرسي العمودية ومرضيش يتخلى عنه وكان هيقتل سليمان قبل ما حد يوصله ويكشفه بس هو اللي سهلك الطريق عشان تعرف.
- لسه بتدافعي عشان تبرري خيانتك! انتي ازاي تعملي كده وتبيعي عيلتك الحقيقية بعتينا عشان تفضلي واقفة في صفه.
حملقت فيه نيجار للحظات ثم هزت رأسها مبرطمة باِستهزاء خالص :
- عيلتي الحقيقية؟ العيلة اللي اتخلت عني في أول مطب وضحت بيا رغم اني عملت الخطيئة عشانها .. العيلة اللي سابتني في إيد ناس بتكرهني وعاوزة تنتقم مني صح.
زمّ صفوان شفتيه بخنق لكن نيجار لم تمنحه فرصة للتحجج ككل مرة فتقدمت خطوة وواجهته بقوة :
- آدم اللي مش عاجبك هو اللي ساعدني ومسك إيديا ساعة ما انت ضربتني وطردتني من البيت ! رغم إنه كان لسه بيكرهني ومجروح مني، بس مسابنيش ومرمينيش زي ما حضرتك عملت.
قلب عيناه بضيق من ذكر أحداث الماضي عندما ضحى بها حتى تظل سلمى بأمان ولا تُكشف مؤامرته في سرقة آدم وحرقه حيًّا، وحين اعترفت هي ضده فصفعها وطردها من المنزل قائلا أنها لم تعد من عائلة الشرقاوي.
- انتي لسه شايلة في قلبك وحاقدة علينا يا بنت عمي.
زفرت نيجار بتعب، ذلك النوع من الإرهاق الذي يثقل القلب قبل الجسد ولكنها حافظت على ثباتها مجيبة إياه :
- لا ده مش حقد، ولا حتى زعل.
طالعها صفوان باِرتياب فتابعت الأخرى :
- اللي بيني وبينكم عدى خلاص والماضي ده جرح تعلمت أعيش معاه، مش أعيش فيه.
ارتفع حاجبه بسخرية مستترة لكنه لم يقاطعها بينما تسترسل هي بنبرة أكثر هدوءًا تحاول نزع فتيل غضبه :
- أنا عارفة انك شايل هم العيلة وحاسس إن حقكم ضاع وتفكيرك صحيح لأن جدي كان هيبقى العمدة بدل الصاوي بس طول ما انت مركز ع انك تنتقم من آدم عمرك ما هتبقى جدير بالعمودية ولا هتحقق اللي نفسك فيه بجد.
قهقه صفوان ضحكة قصيرة فارغة من أي مرح ورفع ذقنه قليلا وهو ينظر إليها نظرة من يعتقد أنه يملك الحقيقة المطلقة :
- جدير بالعمودية؟ انتي بجد لسه فاكرة ان العمودية ديه حاجة بتتوهب للي يستحقها! العمودية والسُّلطة بيتاخدو بالغصب يا بنت عمي بكل طريقة ووسيلة هي مش بتتساب للي عنده ضمير مرتاح وقلبه حنين.
ثم دنى منها خطوة وأخفض صوته كأنه يبوح بسرّ خطير :
- وأنا مش ههدا ولا هرتاح غير لما أدمر جوزك وسُمعة عيلة الصاوي كلها.
نظرت إليه نيجار بدهشة غلبها الاستنكار الحقيقي، فهي لم تتوقع هذا القدر من الإصرار الأعمى، لتهمس متفاجئة :
- تعرف أنا كنت فاكرة لما انت وآدم اتفقتوا تشتغلوا مع بعض عشان تواجهوا العدو اللي كان بيهددكم، ان العداوة بينكم هتخلص أو على الأقل تحترموا بعض بعد اللي مريتوا بيه بس واضح اني كنت غلطانة.
- أحترمه؟ ابن العيلة اللي خدت حق عيلتي ميستاهلش الاحترام يا نيجار ... ومهما حصل هتفضلي انتي شايفاه بعينين الحب، وأنا هشوف عدوي بعيون اللي اتسرق منه كل حاجة.
- اللي اتسرق منه كل حاجة ولا اللي فضل واقف مكانه يبكي على اللي راح بدل ما يبني لنفسه مكانة الناس تحترمه عليها ؟
عاجلته نيجار بسرعة لم يتجهز لها.
ساد الصمت بينهما، كان ثقيلا ومليئا بالكلمات غير المنطوقة، لكن في عيني نيجار كان هناك وضوح نادر...
وضوح جعل صفوان للحظة واحدة فقط يشعر أنه مكشوف أمامها فأشاح بوجهه مغادرا بغضب وتاركا إياها واقفة وحدها في الزقاق...
ضغطت هي على أكياس التسوق بين يديها وفي لحظة كانت تهرع للسرايا حتى تضع مشترياتها ثم تنطلق إلى المزرعة وتدخل للإسطبل.
وحين لمحها آدم تفاجأ وبرطم بكلمات قلقة يسألها عن وجود خطب ما، بيد أن حروفه حُشرت في حلقه حين هرعت نيجار تفصل المسافة بينهما وتلقي رأسها على صدره محتضنة فتعلقت يدي آدم في الهواء متعجبا منها قبل أن يتدارك نفسه ويبادلها العناق بقوة هامسا :
- في ايه مالك.
أراد إزاحتها لكي يرى وجهها لكنها تعلقت به أكثر فاِستسلم وشرع يمسح على شعرها برقة حتى استكانت نيجار ونظرت له قائلة :
- أنا مش عاوزة تحصل مابينكم مشاكل اكتر من كده ... مش عاوزة حد يأذيك أو يلمس شعرة منك.
- في حاجة حصلتلك وانتي برا ؟
- ايوة أنا شوفت صفوان وحاولت اشرحله ان انت ملكش دعوة بأي حاجة حصلت والمفروض يبطل يهاجمك ويخطط ضدك بس هو رفض يسمعني، وفضل مصمم يكمل في اللي بيعمله.
تشنج وجه آدم بنزق من ذاك الغرّ الذي لا يريد إفلات ياقته ويصمم على معاداته ثم رسم بسمة بسيطة على محياه وداعب وجنتها مرددا بطمأنة :
- نيجار أنا مش غبي وعارف إن صفوان مش هيسيبني في حالي، بس بردو هو مش هيقدر يأذيني ولا يأذيكي، فاهمة؟
لم تجبه هي لكن عيناها تبحثان عن يقين أكثر في صوته ليشدد على حديثه مؤكدا :
- أنا واثق من نفسي وواثق إني هحميكي وأحمي عيلتي وكل اللي بحبهم، حتى صفوان هيلف ويدور ويزهق لما ميلاقيش حد يعاديه وساعتها يشوف حياته ومشاغله بعيد عننا.
تنهدت نيجار على مضض ثم أومأت برأسها أخيرا، فأضاف آدم مغيرا مجرى الحديث :
- وبعدين سيبك من النكد ده احنا عندنا خطوبة قريبة ولازم نجهزلها.
- احنا هنعمل خطوبة تانية لأختك ليلى ولا ايه.
- لا ديه بتاعت حد تاني ... مراد.
- مراد !
كررت نيجار اسمه بذهول وكأنها لم تسم جيدا، فأومأ آدم مؤكدا وهو يشرح لها :
- أيوة، مراد عنده جارة معجب بيها وامبارح كلمني وحكالي عنها هو عاوزني أروح معاه انا وباقي العيلة عشان نخطبها رسمي.
ظلّت تحدق فيه وكأنها ما زالت تحاول استيعاب الأمر، ثم رفعت حاجبيها متنهدة :
- مين كان يصدق أن هيطلع عندك أخ وتروح تخطبله كمان ... الدنيا ديه غريبة.
- ربنا يسعده هو اتعذب أوي في حياته وبيستاهل انه يحب ويتحب.
ساد بينهما صمت قصير قبل أن تقع عينا نيجار على مهرتها الجميلة المربوطة، تأملتها للحظة ثم اقتربت منها وفكَّت لجامها فبرطم آدم باِستفهام :
- رايحة فين بالمهرة ديه.
ربتت على رقبتها بحنو ولمعت عيناها بالتحدي وهي تقول :
- حابة نتسابق ونشوف مين يكسب.
نظر إليها مستهجنا ثقتها بنفسها :
- بتتكلمي كأنك هتعرفي تسبقيني.
- جرب وشوف بنفسك.
رفع حاجبيه بتحدٍ وتظاهر باللامبالاة بينما يهتف :
- مش فاضي للعب العيال ده.
وضعت نيجار يدها على خصرها وقالت بتفاخر وكبرياء مغتر :
- تمام فهمت أنت خايف تخسر وتحرج نفسك.
كلامها ولّد في قلبه تحديا عنوة عنه فاِستقام في وقفته ورفع حاجبه محذرا :
- أنا هديكي فرصة أخيرة تراجعي نفسك.
- مش محتاجة، يلا جهز حصانك.
ضحك آدم أخيرا وهو يستسلم ثم توجه إلى حصانه الأسود سلطان وامتطاه بخفة هاتفا :
- يلا يا ست هانم نشوف مين هيكسب.
** على المروج الواسعة انطلقت الخيول بقوة وانطلقت معها الضحكات الممزوجة بالإثارة، كان الهواء يندفع في وجهيهما بقوة، يُحرك شعر نيجار ويبعثره خلفها كأنه جزء من الريح نفسها وصوت الحوافر كالموسيقى التي تنسجم مع ضربات قلبها المتسارعة.
كانت الأرض تمتد أمامهما كلوحة مفتوحة، والتلال الشاهقة تُشكل خلفية مثالية لهما كلما زادت سرعتهما وعلا صوت الرياح حاملة معها إحساسا بالحرية المطلقة.
بينما كان آدم مستمتعا بمشاهدتها في قمة حماسها ضحكت نيجار بصوت عالٍ وتقدمت تتقدم عليه قليلا فصرخ الأخير بمزاح :
- انتي بتغشي.
- أنا؟ ده انت اللي بطيء يا ابن سلطان.
دفع آدم حصانه للأمام ليلحق بها بسرعة وعندما اِقترب مال نحوها قليلا وصاح :
- لو كسبتي، ليكي عندي طلب واحد أنفذهولك مهما كان.
- حادت بعينيها نحوه وأومأت بحماس مرددة :
- تمام وأنا موافقة !
لكنه لم يُعطها فرصة للرد أكثر إذ زاد من سرعة حصانه وانطلق مبتعدا مما جعل نيجار تشهق معترضة بحنق :
- ده مش عدل !
كانت اللحظة تحمل مزيجا من التحدي والمرح والجنون اللذيذ الذي لم يتذوقاه منذ فترة، الرياح، الأرض، الخيول، والسماء المفتوحة، كل شيء كان يشهد على هذه الحرية النادرة بينهما.
وعندما وصلا إلى قمة التل توقفت نيجار ونزلت من ظهر مهرتها متأملة الأفق الغارق في ألوان الغروب الساحرة، فلحق بها آدم ووقف يراقبها وهي تُشاهد المشهد بسحر أخَّاذ.
أخيرا التفتت إليه ببطء وهمست :
- كنت ناسية إحساس الحرية ده كأن العالم كله ملكنا احنا بس.
نظر إليها آدم بعينين مليئتين بشيء عميق، وعقب بهدوء :
- وانتي ملكي أنا بس، ده اللي يهمني.
طبعت قبلة رقيقة على وجنته وابتعدت تردد بشقاوة :
- طيب، مش هتقولي أنا كسبت ولا لأ.
- هنحسبها تعادل، بس هتنفذي طلبي برضه.
- ايه هو.
مال آدم نحوها وهدر بحرارة طبعت على صفحة وجهها :
- تفضلي جنبي... على طول.
سكتت نيجار مراقبة ملامحه الجادة وكأن كلماته أيقظت شيئا دفينا بداخلها، تورد وجهها الجميل قليلا ولكنها لم تبتعد، فقط ابتسمت بخفة وهمست بصوت مفعم باليقين :
- بوعدك… هفضل جنبك على طول ومش هبعد عنك أبدا.
عادت تشرد في تأمل المنظر أمامها والأفق الذي امتزجت فيه ألوان الغروب باِنسيابية ساحرة كأن الطبيعة نفسها تحتضنها بلطف، إلا أن صوته قطع شرودها حين جاء هادئا وفي نفس الوقت يحمل ثقلا عاطفيا لم تعهده منه من قبل :
- نيجار.
همهمت دون أن تنظر إليها فتلفظ بصوت أجش :
- أنا بحبك.
تجمدت في مكانها وقد توقف الزمن وتوقفت الأرض عن الدوران للحظة واحدة، تردد صدى كلمته في أذنيها كنبض متسارع وكرجفة تسري في أوصالها، ففتحت شفتيها قليلا وهي تستدير نحوه ببطء، كأنها غير متأكدة مما سمعت :
-ها ؟
ابتسم آدم، تلك الابتسامة التي تحمل خليطا من الحب واليقين والارتياح ثم خطوة وعيناه تحيطان بها كأنهما حِصنٌ يحميها من كل شيء، ثم أعادها بصوت أكثر ثباتا :
- أنا بحبك… حتى في الوقت اللي كرهتك فيه كان حبك متخبي في مكان عميق جوا قلبي ورافض يطلع.
لم تستطع نيجار السيطرة على رعشة خفيفة اجتاحت كيانها، هذه الفتاة التي عاشت طوال عمرها متحجرة القلب لا تأبه بالعاطفة والمشاعر...
ها هي تشعر الآن كأن جدرانا كانت تحيط بخافقها لوقت طويل وانهارت دفعة واحدة وكلماته اخترقتها دون مقاومة، لم تسمع هذه الجملة منه منذ تلك الليلة التي غدرت فيه بها… منذ اللحظة التي تحطم فيها كل شيء بينهما.
تجمعت الدموع في عينيها دون قصد منها وباتت مثقلة بمشاعر لم تجد لها مخرجا منذ أدركت أنها وقعت في حبه، لكنها لم تبكِ من الحزن… بل من السعادة، ومن شيء يشبه التحرر من الذنب الذي حملته طويلا.
رفعت نيجار يدها إلى قلبها محاولة تهدئة نبضاته المتعثرة ثم همست بصوت مبحوح :
- انت مش عارف ايه اللي قدمتهولي بالكلمة ديه بس بوعدك هكون جديرة بحبك ليا المرة ديه ومش هجرحك أبدا.
لم ينبس آدم ببنت شفة، فقط مد يده وأمسك بيدها برفق ورفعها إلى شفتيه طابعا عليها قبلة طويلة، كأنه يريد أن يخبرها بأن أفعالها عبرت عن مصداقية حبها بالفعل، بأن وجودها بجانبه الآن هو كل ما يريده.
لم تستطع نيجار تمالك نفسها أكثر فألقت بنفسها بين ذراعيه، تحيطه بكل ما تملك من حب واعتذار وأمل، وضمت رأسها إلى صدره تستمع إلى دقات قلبه القوية، كأنما تترنم على لحن لم يغب عن مسامعها أبدا.
- أنا بحبك أوي.
همستها كانت حارة متحشرجة لكنها وصلت إليه بكل قوتها وشعر بها تتخلل خلاياه وروحه، فتسارعت أنفاسه وهو يضمها إليه أكثر ويحيطها بذراعيه هامسا في أذنها بصوت مغمور بالعاطفة :
- وأنا عمري ما بطلت أحبك.