رواية حصاد الصبار الفصل التاسع
توجهت غفران إلى منزل صديقتها ريم وأثناء سيرها في الشارع كانت السماء تغطيها سحابة خفيفة وكأنها تشعر بثقل الأيام التي مرت عليها. عندما وصلت دخلت إلى شقة صغيرة لكن دافئة مزينة ببعض الزهور في الزوايا وكراسي مريحة تنبض بالراحة. الجدران كانت محاطة بالصور العائلية والستائر الناعمة كانت تنسدل بلطف على النوافذ. رائحة القهوة العطرة كانت تملأ المكان وكانت ريم تجلس على أريكتها الصغيرة في الزاوية مرتاحة في مكانها. جلست غفران بجانبها وحاولت أن تهدئ نفسها بعد يوم طويل.
قالت ريم وهي تتأمل غفران بحرص
بصراحة يا غفران أنا شايفه اللي انت بتعمليه ده غلط مش كده يا بنتي لازم تتقلي عليه شويه.
نهضت غفران من مكانها وتمشت في الغرفة بخطوات بطيئة تتأمل الأثاث البسيط
المحيط بها وكأنها تبحث عن إجابة داخل نفسها. ثم أجابت بحيرة
طيب عايزاني أعمل إيه يا ريم أنا حاسة إني في دوامة وما بقتش عارفة حاجة.
أجابتها ريم بعقلانية وتسمر نظرها في غفران وكأنها ترى صديقتها في حاجة إلى نصيحة صادقة
ليه مش عارفة حاجة كل واحد عقله في راسه وبيعرف يميز الغلط من الصح. وبعدين أنا بشوفك كده بتبقي خفيفة أول ما تشوفي أحمد ده. المفروض تهدي على نفسك كده. هيقول عليك إيه
توقفت غفران عن الحركة وأشاحت بنظرها نحو الأرض شعرت بأن كلام ريم قد دخل قلبها. تساءلت بصوت خاڤت
تفتكري يا ريم ممكن يكون أحمد شايفني من البنات إياهم أنا عمري ما زعلته من حاجة وعمري ما رفضت له طلب.
ردت ريم بقوة وكأنها تحاول أن تفتح عين غفران على الواقع
ما هو علشان كده بقى. إنك عمرك ما قولتي لأ
على أي حاجة يقولك يمين يمين يقولك شمال شمال وأنت ماشيه وراه زي الخايبة. وكده ما ينفعش.
جلست غفران بجانب ريم وامتلأت عينيها بالحيرة ثم قالت
طيب وانت شايفة إيه يعني أعمل إيه علشان يشوفني بصورة كويسة
ضحكت ريم ضحكة خفيفة وأجابتها بتهكم
بعد إيه يا حبيبتي جايه تقوليلي الكلام ده آنتوا على طول كده بتيجوا بعد المصېبة ما تجوش قبلها أبدا. أحمد بيتكلم معاك بقاله سنة يا غفران يعني حفظك أكتر مني. بس إحنا لسه فيها وأنت ممكن تصلحي ده.
أمسكت غفران يد ريم بلهفة وسألت
ازاي أصلح كل ده قوليلي يا ريم.
نظرت ريم إليها بعناية وهي تراقب ملامح وجهها ثم قالت بحكمة
المفروض بقى إنك تجمدي قلبك كده ولو هو بيحبك عمره ما هيسيبك وتقوليله بقلب جامد كفاية لحد كده. مقابلات وكلام في التليفون وقعدة في
الكافيهات. وإن كنت بسايرك فده علشان بحبك. بس الموضوع طول قوي والمفروض بقى تيجي تكلم بابا.
ارتبكت غفران وانتفضت في مكانها وقالت
أيوه بس كده ممكن يزعل مني ويضايق.
اڼفجر ڠضب ريم من أسلوب غفران الضعيف وقالت
هو إيه اللي يزعل منك ده ليه أنت بتطلبي منه حاجة حرام ولا مستحيله هو انت مش بتقولي إنه بحبك وشاريك وعايز يتجوزك خلاص مستني إيه
رددت غفران بتلعثم وكأنها تبحث عن مبرر لأفعالها
لسه قدامه سنة ويخلص وبعد السنة المفروض هنشوف هنعمل إيه
تعجبت ريم وقالت
لسه هتشوفوا هتعملوا إيه أمال انتوا بتتكلموا في إيه لما بتتقابلوا والله ما أنا عارفة أخرتها معاك إيه. هتفضلي طول عمرك خايبة كده يا غفران
تنهدت غفران بحزن شديد وأجابتها بصوت منخفض
أنا مش عارفة أنا نفسي بعمل إيه يا ريم يمكن صح
أو غلط كل اللي أنا خاېفة منه إنه يضيع من إيدي. أنا اتعلقت بيه قوي وحاسة إني هنهار لو بعد عني. أنا خاېفة قوي بجد خاېفة.
ربتت ريم على كتف غفران وقالت بطمأنينة
ما تخافيش يا غفران. لو حصل حاجة أنا هقفله. بس يا ريت تسمعي كلامي وتتقلي عليه شويه. يتصل عليك ما ترديش وتتحججي ليه بأي عذر. يقولك تعالي نتقابل في المكان الفلاني قولي معلش مش فاضية مشغولة دلوقتي بابا رافض إني أخرج. اتقلي يا غفران ها اتقلي يا حبيبتي.
تنهدت غفران وأجابت بشرود وكأن أفكارها مشتتة
نفسي بجد نفسي.
بعد قليل دخلت والدة ريم إلى الغرفة حاملة طبق من الحلوى بجانبة كوبان من العصير وقدمته لهما. بعد أن غادرت تحدثت ريم بينما تلوك الطعام
أيوه فهمت يعني عيد ميلاد باباك النهارده بس أجلتوه لبكره.
ردت غفران بابتسامة متواضعة
أيوه لأن ياسمين مشغولة النهارده قوي
وما عندهاش وقت ترجع في المعاد فقررت أنا وهي نعمل الحفلة بكره إن شاء الله.
ابتسمت ريم وقالت
ماشي يا ستي عموما كل سنة وعمو طيب.
ابتسمت غفران وردت
وانت طيبة يا ريم وربنا يخليك ليا يا أحسن صاحبة اتعرفت عليها في الدنيا.
اردفت ريم متسائلة عن نوع الهديه التي جلبتها لوالدها فأجابتها غفران بإبتسامة حنونه
رسمتله بورتريه يجنن يا ريم حسيت وانا برسمه اني بقدمله كل حبي وتقديري وامتناني ليه انت ما تعرفيش خد مني ليلة كاملة ومنمتش طول الليل علشان اخلصه وقبل ما اجيلك يا دوبك كنت لسه همضي عليه أسمي بس لما ارجع إن شاء الله هظبطه والفه في ورقة هدايا واقدمه لبابا وانا متأكده انه هيفرح قوي.
قطع حديثها نغمة هاتفها الخاص وكان المتصل زينب. ردت غفران على الفور. كانت زينب تستعلم عن سبب تأخر غفران فقالت
أيوه
يا دادة ما أنت عارفة إني مستأذنة بابا إني أروح أقعد مع ريم شويه.
ردت زينب بتعجب
شويه إيه يا بنتي أنت من بدري برة وخلاص هيقطعوا التورته!
قطبت غفران حاجبيها وقامت واقفة لتستعلم عن ماذا تقول
تورته إيه يا دادة أنا مش فاهمة حاجة.
شهقت زينب وقالت
مالك يا غفران تورته عيد ميلاد أبوك يا بنتي! يلا الكل واقف ومستني وبصراحة بقى شكل أبوك متضايق قوي من تأخيرك.
حركت غفران رأسها بعدم استيعاب وقالت
يا دادة إحنا مأجلين عيد الميلاد لبكره وبنحتفل في نادي أو فندق كل سنةأنت بقى إزاي بتقولي هيقطعوا التورته أنا بجد مش فاهمة حاجة.
تعجبت زينب هي الأخرى واستمعت جيدا لما سردته وغفران ثم قالت بحيره
معقول يا بنتي اللي أنت بتقوليه ده تأجيل إيه دي من الصبح المزغودة على عينها أحلام مجهزة الزينة وقالت هنعمل عيد
ميلاد عائلي وجايبة اسمهم إيه دول الناس المتخصصة في ترتيب الزينة وعاملة عيد ميلاد ولا كأنه فندق خمس نجوم وعازمة أصحابها والدكتور رمزي ومراته وعياله وأختك ياسمين واقفة وماسكة علبة الهدية وعايزين يطفوا الشمع. بس أنا بصراحة بقى اتجرأت كده وجمدت قلبي وقلت لسي مصطفى غفران جايه في الطريق.
ثم أكملت قائلة
بسرعة يا غفران تعالي مش عايزين يا بنتي حاجة تحصل وتزعل أبوك منك. وتفرح العقربة مرات ابوكي فيكي.
صدمت غفران مما سمعته وقلبت عيناها يمينا ويسارا. أغلقت المكالمة بسرعة وهمت بالركض بعد أن اعتذرت من ريم بأنها ستذهب في الحال.
عادت غفران إلى المنزل وتفاجأت بالزينة وأجواء عيد الميلاد. كانت الأضواء مضاءة والأجواء مليئة بالحيوية ورمزي وزوجته كانوا حاضرين مع الهدايا. لكن أكبر صدمة كانت عندما رأت
أحلام صدمت غفران بشدة عندما رأتها تقدم اللوحة نفسها إلى مصطفى كأن الزمن توقف للحظة طويلة وانحبست أنفاسها وهي تراقب اللوحة التي سهرت عليها ليلة طويلة لتكون هدية تعبير عن حبها لوالدها. شعرت بذبول في عروقها بينما تسللت كلمات زوجة أبيها كالسهم في أذنيها
كل سنة وانت طيب يا حبيبي وعقبال سنين كتيرة. اتفضل.
ابتسمت أحلام وهي تقدم اللوحة برشاقة مصطنعة لتكتمل لعبتها. أما مصطفى فحدق في اللوحة باندهاش صادق وانفرجت أساريره قائلا
حلوة قوي اللوحة دي يا أحلام يمكن دي أجمل هدية جاتلي.
امتدحها دون أن يدرك ما يدور خلف الكواليس. أما أحلام فاستدارت نحو غفران الواقفة عند باب الغرفة بملامح تعكس صدمة وحيرة وقالت بمكر دفين
حبيبي الفضل كله يرجع لغفران. أنا قلتلها إن عيد ميلادك قرب وطلبت منها تعمل اللوحة دي بالوصف اللي أنا عايزاه وبجد
رسمتها زي ما أنا عايزة بالظبط.
تجمدت غفران في مكانها كأنها قطعة شمع تذوب تحت لهب الكلمات ولم تستطع الرد. عيناها تلمعان بالدموع المكتومة ويدها ترتعش لكنها أفاقت على صوت زينب القادمة من المطبخ وهي تناديها
غفران حمد لله على السلامة يا بنتي جيتي في وقتك.
تحركت الأجواء قليلا بوجود زينب لكن نظرات مصطفى لم تترك غفران وهو يقول بحنان امتزج بالدهشة
معقول يا غفران تتأخري عليا في يوم زي ده توقعت إنك تروحي تزوري صديقتك ساعة وترجعي.
ابتسمت أحلام بخبث واضح وردت سريعا
ما تظلمهاش يا مصطفى أكيد تأخيرها ده ليه سبب. وأكيد كانت بتجيبلك هدية. غفران عمرها ما تنسى مناسبة زي دي مش كده يا غفران جبت هدية لباباك
اشتد الخناق حول غفران شعرت بالدائرة تضيق أكثر فأكثر. كل العيون عليها تنتظر إجابة لكنها لم تجد في جعبتها
سوى الصمت تحركت شفتيها بصعوبة لكنها لم تنطق. في هذه اللحظة تدخلت زينب التي شعرت بشيء خفي يجري لتنقذها كما أعتادت وقالت بتوجس
ها يا غفران جبت الهدية اللي قلتلي عليها لمصطفى بيه ولا الراجل لسه ما خلصهاش
رفع مصطفى حاجبيه وردد بفضول
لا الموضوع شكلة كبير والهدية شكلها قيمة هدية إيه دي بقى ياغفران!
ابتسمت زينب سريعا وقالت محاولة تغطية الموقف
اومال طبعا يا بيه دي مفاجأة وغفران موصيا على حتة هدية مخصوصة ليك. بس كانت لسه ما خلصتش والراجل صاحب المحل كان قافل من يومين عنده حالة ۏفاة.
نظرت زينب إلى غفران التي بدت ضائعة تماما بينما أكملت زينب حديثها محرجة
مش كده يا غفران طمنيني عملت إيه جبت الهدية ولا لسه
ازدادت التوترات في الغرفة بينما شعرت أحلام بالڠضب يتصاعد داخلها بسبب تدخل زينب الذي أفسد مخططها
قليلا. كانت تريد أن ټصفعها لكنها اكتفت بالنظر إليها پغضب مكتوم متوعدة إياها بالاڼتقام لاحقا.
كانت عين غفران متعلقة باللوحة تتأمل تفاصيلها وهي تستحضر ذكرى الصباح. حينها قبل أن توقع باسمها على اللوحة لجأت إليها أحلام بابتسامة باردة تطلب منها الذهاب لصديقتها. تلك اللحظة لم تفارق ذهنها مشاعرها التي مزجت بين القهر والخجل كانت واضحة في ارتجاف صوتها حين قالت بأسى
لسه يا دادة. لسه مخلصتش.
ثم رفعت عينيها نحو والدها تنظر إليه كمن يبحث عن الأمان وسط عاصفة وقالت بصوت متهدج وصدق حزين
أنا آسفة يا بابا.
ابتسمت أحلام ونظرتها الماكرة أشعلت شرارة خيبة في قلب غفران. كانت تدرك ضعفها وترددها تعلم أنها لن تجرؤ على المواجهة وأنها ستصمت تحت وطأة القهر كما يحدث دائما. ابتسم مصطفى برضا لا يدرك أبعاده وشاركه رمزي
الابتسامة قائلا بمزاح
ولا يهمك يا غفران يا بنتي الأيام كتيرة وبعدين أبوك بيحتفل بعيد ميلاده مرتين كل شهر يعني مش هتلاحقي عليه!
ضحك الجميع بينما قال مصطفى وهو ينظر بحب ودفء
وماله يا عم أعيش وأحتفل هو حد طايل حد يجيله هدايا في الزمن ده
ثم أشار لغفران أن تقترب قائلا بحنو
تعالي غفران تعالي يا حبيبتي وأنا واثق أنك موصية علي هدية مفيش منها اتنين. بس مش مشكلة هنعمل صفقة هتاكلي النهارده التورتة وبكره تجيبيلي الهدية. إيه رأيك مع إن وجودك أنت وياسمين أجمل واحلا هديتين ليا العمر كله.
كانت تريد أن تبكي أن تهرب من كل شيء أن تجد لحظة واحدة تستطيع فيها الحديث بحرية دون خوف أو قيد. رغبت أن ترتمي في أحضانه كما كانت تفعل وهي طفلة صغيرة حينما كانت همومها لا تتجاوز عثرة في الطريق أو لعبة مکسورة. حدقت
فيه بعينيها المليئتين بدموع محتجزة تحاول أن تكتم صړخة عالقة في صدرها. أرادت أن تقول له بصوت ېمزق السكون
يا أبتي لم أنسك يوما. لم أنس عيد ميلادك أو هديتك. لقد صنعتها بيدي بكل حب وصدق. يا أبتي لقد رسمتها لك خصيصا تلك اللوحة التي حملت كل ما في قلبي من امتنان وفرح بوجودك في حياتي. لكن أحلام... أحلام أخذتها مني. أخذت كل شيء. أخذت فرحتي وسعادتيومجهودي وحلمي البسيط بأن أراك مبتسما لي وحدي. أخاف يا أبتي أخاف من اليوم الذي تأخذ فيه أحلام حبك لي. أخاف من أن يأتي يوم تجعل قلبك يكرهني.
كانت كلماتها تتردد في رأسها كصدى مؤلم لكن شفتيها ظلت مغلقتين. حاولت أن تبدو قوية ولكن صوت أنين قلبها كان أعلى من أي تصنع. نظرت إلى والدها الذي كانت ابتسامته لها كضوء يتيم في ليل حالك
وأرادت أن تتوسل إليه بعينيها أن يلاحظ أن يشعر أن يمد يده لينقذها من بحر الوحدة الذي ټغرق فيه يوما بعد يوم.
أحلام كانت تقف هناك بملامح باردة ونظرة خالية من الرحمة. كانت تعرف أن خطتها نجحت غفران لن تجرؤ على مواجهة الحقيقة ولن تخبر أحدا أن اللوحة هي هديتها. ألم الخۏف من كلمات أحلام القاسېة كان كالسيف المعلق فوق رأسها.
في زاوية الغرفة كانت غفران تنظر إلى الجميع وهم يحتفلون. الضحكات تملأ المكان والهدايا تزين الطاولة. شعرت أنها كائن غير مرئي وسط زحام الألوان والأصوات. جلست على الأريكة تلف ذراعيها حول نفسها وكأنها تحاول أن تحتضن بقايا أمل هش. شعرت بخطوات تقترب منها فرفعت عينيها لتجد ياسمين تجلس بجوارها وعلى وجهها أسف واضح.
أنا آسفة يا غفران. أنا زيي زيك صدقيني.
رجعت من السنتر لقيت ماما عاملة الحفلة وجايبة الهدية بتاعتي كمان. حقيقي مش عارفة ليه بتعمل معانا كده
حاولت غفران الابتسام لكنها شعرت بثقل الكلمات وهي تخرج من حلقها المنهك
عادي. ما فيش أي حاجة وعدت على خير.
نظرت إليها ياسمين بحزن وقالت
بس هديتك اللي تعبتي فيها ماما أخدتها وقدمتها لبابا. تعبك كله راح. أنا كنت هقوله بس بصراحة خفت منها. خفت تعاملني زيك. أنا مش عارفة أقولك إيه.
وضعت غفران يدها على كتف أختها تنهدت وهي تقول بابتسامة باهتة
ما تقوليش حاجة يا ياسمين. حصل خير. المهم إن بابا مبسوط. ودادة زينب كتر خيرها طلعتني من الورطة اللي كنت هبقى فيها. الحمد لله.
حاولت ياسمين التخفيف عنها فقالت بابتسامة مشجعة
داده زينب بتحبك قوي يا غفران. وده في حد ذاته حاجة حلوة
حلوة قوي كمان. أنا عايزاك ما تزعليش كبري دماغك من أي حاجه تعكر مزاجك. وقومي بقى افرحي معانا. تعالي نتكلم مع لؤي وحنين ولاد عمو رمزي.
هزت غفران رأسها ببطء ثم قالت
طيب يا حبيبتي اسبقيني. أنا هدخل أغسل وشي علشان أفوق وراجعالك.
قامت ياسمين تلتها غفران وغادرتا الغرفة بهدوء.
في الممر وقفت غفران تتأمل الأرض تحت قدميها محاولة تهدئة أفكارها المضطربة حين سمعت صوتا يناديها.
غفران.
كان ذلك صوت أحلام يناديها بنبرة مفعمة بالتحدي والبرود. التفتت إليها غفران ببطء نظرة مختلطة بين الألم والانزعاج تملأ عينيها لكنها لم ترد. كان الڠضب يتصاعد داخلها كبركان خامد يوشك على الانفجار.
ابتسمت أحلام وهي تقترب منها بخطوات واثقة تأبطت ذراع غفران ببرود ظاهر وقالت بنبرة متهكمة
بجد الهدية تحفة عجبت مصطفى قوي قوي. إيه رأيك مفاجأة حلوة مش كده
نظرت
إليها غفران نظرة خذلان حادة لكنها سرعان ما ارتسمت على شفتيها ابتسامة أربكت أحلام وجعلتها تتراجع خطوة إلى الوراء. كانت ابتسامة غامضة تختلط فيها المرارة بالسخرية.
تساءلت أحلام باندهاش
يا ترى ممكن أعرف سر الابتسامة الحلوة اللي ظهرت على وشك الحلو ده مرة واحدة يا ست غفران
أخذت غفران نفسا عميقا تحاول جمع شتات كلماتها ثم ردت بصوت هادئ لكنه مثقل بالإحباط
ببتسم علشان الهدية عجبت بابا. في الأول وفي الآخر أنا اللي رسمتها مش حد تاني.
اشټعل الڠضب في عيني أحلام لكنها حاولت إخفاءه برد سريع مليء بالضجر
قصدك إيه يا بنت
ردت غفران بإحباط يفيض من كلماتها
أرجوك يا ماما سيبيني أفرح بعيد ميلاد بابا. ده اليوم الوحيد اللي بفرح فيه. لو سمحتي.
تركتها غفران وذهبت بخطوات ثقيلة نحو غرفتها. أغلقت الباب خلفها ثم اڼهارت. جلست
على الأرض ودفنت وجهها في يديها تحاول كتم صوت بكائها حتى لا يسمعها أحد. كان كل شيء يتداعى في رأسها الشمس التي جلست ترسمها عند الفجر تلك الألوان التي خلطتها بحب كبير والحلم الصغير الذي أرادت تقديمه لوالدها كل ذلك أصبح كابوسا مؤلما بفضل أحلام.
أما أحلام فقد وقفت مكانها.
كان عقلها يعمل بسرعة تفكر في طريقة لإعادة الأمور إلى ما كانت عليه. ابتسمت بخبث تخطط لخطوة جديدة خطوة ستجعلها تزيل حب غفران من قلب والدها نهائيا.
بعد انتهاء الحفل...
جلس مصطفى على الأريكة متكئا بيده على جبهته يحاول تهدئة الصداع الذي يطرق رأسه. بجواره جلست ياسمين وفي الجهة المقابلة كانت أحلام تحتسي كوبا من العصير تنظر إلى الجميع بعين مليئة بالثقة.
دخلت غفران إلى الغرفة حاملة كوبا من الماء وحبة دواء للصداع. اقتربت من والدها وقدمتها
له بابتسامة خفيفة. شكرها مصطفى بإيماءة صغيرة بينما كانت أحلام تستغل اللحظة.
فتحت حقيبة يدها وأخرجت مبلغا من المال ثم قدمته إلى غفران بنبرة خبيثة
اتفضلي يا غفران أنا عند وعدي. وادي يا ستي اللي اتفقنا عليه.
ثم أضافت بسرعة حتى لا يقاطعها أحد صوتها كان متسارعا كما لو كانت تحاول أن تسرق اللحظة
أنا طلبت منك ترسمي اللوحة وانت طلبت المقابل. أي نعم حاسة إن المبلغ مبالغ فيه بس مش مشكلة كله يهون علشان مصطفى. وبجد بجد أنا بشكرك لأن اللوحة حقيقي عجبتني جدا وعجبت باباك كمان. تسلم إيدك يا حبيبتي.
ما إن سمع مصطفى كلمات أحلام وضع الكوب الذي كان يمسكه في يده على الطاولة وعينيه اتسعت بدهشة بينما كانت ياسمين مذهولة بجانب غفران التي كانت في وضع حرج للغاية لا تعرف كيف تواجه هذا الموقف. كان شريط من الأسئلة يعبر في
ذهنها وهي لا تعرف إن كانت ستكذب أم تواجه أمها لكن قلبها كان يشير إلى شيء أكبر. فجأة نطق مصطفى بتعجب وكأن الكلمات كانت صاډمة له
مصطفى مقابل! مقابل إيه ده يا أحلام
ابتسمت أحلام ابتسامة غريبة بينما أكملت حديثها وكأن لا شيء غريب يحدث
ما أنا قلتلك يا حبيبي دي الفلوس اللي غفران طلبتها مقابل الرسمة اللي أنا طلبتها منها. وأنا وعدتها إني هادفعلها بعد ما أشوف البورتريه. وبصراحة طلع يجنن! وهي تستاهل.
مصطفى نظر إلى أحلام للحظة ثم نظر إلى غفران مجددا متسائلا بعينيه وكأن لا شيء يصدق
غفران طلبت منك فلوس مقابل اللوحة اللي انت هترسمهالي
أحلام حركت كتفيها وكأنها تقول إنه ليس أمرا مهما
وفيها إيه يا مصطفى البنت من حقها تاخد مقابل تعبها. وبعدين ياحبيبتي دي قعدت في اللوحة دي كام يوم ترسم فيها وأنا مش شايفة فيها حاجة وملاحظة إنك مكبر الموضوع.
مصطفى نظر إلى غفران منتظرا إياها لكي ترد لكن غفران أبقت عينيها على الأرض وقلوبهم جميعا كانت مشدودة
بين الصمت والتساؤلات. سألها مصطفى بنبرة مشدودة وهو يضع يديه على الطاولة
معقول بجد انت طلبتي فلوس تمن لرسمه انت بترسميهالي يا بنتي
لكن غفران لم تجب وظل الصمت يسيطر عليها حتى أحلام وضعت قدما فوق الأخرى وقالت ولسانها كان مليئا بالكبرياء
انت مكبر الموضوع قوي يا مصطفى. كل شيء في الدنيا دي بمقابل وأنا شايفة مفيش مشكلة. أنا اللي رحت ل غفران برجلي لحد عندها وطلبت منها اللوحة وقالتلي تمام هرسمهالك بس أخد تمن رسمتي وتعبي. إيه المشكلة
مصطفى شعر بالانزعاج الشديد وبينما كان ينتظر إجابة من غفران لتبرر ما سمعه صمتت ابنته مرة أخرى. وهذا الصمت أكد له تماما أن زوجته على حق. تنفس بعمق وقف وقال عيونه مليئة بالصدمة
انا عمري ما قصرت معاك في حاجة. حقيقي متفاجئ والله أعلم بقى بعد اللي سمعته وقت الحفلة ده كان حجة أو لا! ويمكن أكون مجتش على بالك بالمرة وكمان بتاخدي فلوس مقابل إنك تعملي حاجة لابوكي يا غفران! أنا حقيقي
مصډوم فيك! لأول مرة بجد اټصدم فيك.
ثم نظر إلى المنضدة التي أمامه وضع عليها الدواء دون أن ينظر إلى أي أحد ثم قال بصوت منزعج
أنا رايح على أوضتي ومش عايز ازعاج.
ثم غادر الغرفة وهو يغلق الباب خلفه بقوة تاركا الجميع في حالة صمت مطبق.
ياسمين وقفت في مكانها بعد أن تأكدت من أن مصطفى قد ذهب. وجهها كان مليئا بالانزعاج ولكنها كانت تدافع عن أختها بكل قوة
ماما ما كانش لازم اللي حضرتك عملتيه ده غفران...
لكن أحلام أشارت لها بالصمت وقالت بحدة وعينيها مليئة بالتحذير
على أوضتك يا ياسمين امتحاناتك بعد أسبوع وعايزه درجات بيرفكت! تمام اتفضلي.
ياسمين نظرت إليها بنزعاج لكنها اختارت أن تلتزم بالصمت وذهبت إلى غرفتها. أحلام و غفران بقيا وحدهما في تلك الغرفة التي أصبحت ضيقة على غفران كأنها تتنفس بصعوبة.
أحلام اقتربت منها مباشرة وقالت بنبرة ساخرة وشيفوية وكانت عيونها مليئة بالتحدي
مش شايفة ابتسامتك الحلوة يعني يا غفران
ياترى راحت فين
لكن غفران لم ترد بل ظلت عيناها منخفضتين وكأنها في عالم آخر. ثم أكملت أحلام حديثها بنبرة مليئة بالټهديد والوعيد عينها لم تترك غفران
علشان تعرفي يا حبيبتي تضحكي كويس وأنا بكلمك... مفكرة إنك بكلمتك اللي قلتهالي وبابا فرحان برسمتك إني مش هعرف أردهالك لا فوقي! ده أنا أحلام اللي يقف قدامي تدوسه وتعدي عليه!
ثم أشارت إليها بأصبعها في ټهديد صارم ونصيحة ليكي أول وآخر مرة تقفي قدامي وتردي عليا وترفعي عينك في وشي. علشان وقتها هتخسري كتير قوي.
أخذت نفسا عميقا وأكملت باستفزاز
لما أروح بقى أراضي مصطفى أكيد يا حبيبي مصډوم في بنته اللي بقت تفكر في الفلوس أكتر من أي حد حتى أبوها نفسه.
أنهت كلماتها بضحكة ساخرة ثم همت بالخروج إلى غرفتها وأغلقت الباب خلفها بشدة.
غفران جلست على الأرض كل شيء حولها أصبح مظلما دموعها تساقطت دون أن تنطق بكلمة واحدة وهي في حالة من الاڼهيار الداخلي لا تعرف كيف تواجه هذا
العالم أو كيف ستستمر.