رواية أخباءت حبه الفصل السادس والسبعون والاخير
بعد خمسة وعشرون عامًا
الساعه تشير إلى الخامسه
ونصف مساءًا ...
تجلس ساره فى شرفة واسعه
داخل قصرها الكبير الفاخر...
تتنهد وهى تعود للوراء بظهرها
وقد أكتسى بعض من شعرها
بصبغة اللون الأبيض ..
مع ظهور تجاعيد بسيطه ...
لم تغير من ملامحها الفاتنه
كثيرًا ..
كانت وما تزال تتمتع بالكثير من
مظاهر الشباب والحيوية ...
تجلس بالقرب منها فتاة شقراء
رقيقه وجميله ..
فى العشرون من عمرها ..
تدعى ماجدة ..
بملامح بريئه طفوليه تنظر لها
وتتابع ساره حديثها فى حزن
: عند تلك النقطه تنتهى
قصتى ..
تتنهد ماجده فى هدوء وهى
فى حاله من الذهول لم تعهدها
من قبل قائله : أننى لم أسمع
بقصة فى حياتى مثل ذلك ..
أنها مناسبه لعمل فيلم
سينمائى غير عادى ...
والآن أصبح مصير زوجك
محمود مجهول بعد موت
عبد الرحمن أثناء المطارده ..
تتراقص الدموع في أعين ساره
قائله : نعم ...
لقد كانت الشرطه ترصد حاتم
وتتبعه ..
ولحظة القبض عليه ومقاومة
رجال أبى حسان لهم الذى
تصور بأنه المقصود تم كشف
حقيقته هو الآخر ..
ومات فى السجن بعد سبع
سنوات قضاها ..
وأنا لم يكن على أى شىء
وتم الأفراج عنى ...
وبعدها بشهور ولدت ولدى
التوأم عمار و نادر
وحصلت على الميراث كما
كان متفق ...
وربيت أولادى وعشت من
أجلهم ولم أتزوج ...
الآن عمار أصبح طبيب ..
ونادر ضابط شرطه ..
وكلهم رجال صالحين فى
خدمة وطنهم ..
وتزوج نادر وأهدانى أبنتى
التى لم ألدها ..
تبتسم ماجده وهى تعتدل
واقفه تحتضنها قائله فى ود
: يعلم الله كم أحبك ..
وأنت بمثابة أمى ..
تبادلها ساره نفس الإبتسامه
الطيبه ولكن ما تزال ملامحها
حزينه وماجده تقول فى لهجه
يملؤها الحيره : ولكن لماذا ..!
لماذا أخفيت تلك القصة عن
ولديك عمار ونادر ...!
لماذا لم تخبريهم بها ..؟
ساره بصوت حزين :
كيف ..؟
كيف يمكننى أن أقول لهم بأنى
قد ضيعت يومًا أبوهم ...!
بأنى قد طلبت من عبد الرحمن
بكل قسوة قطع لسانه وأصابعه
حتى أضمن عدم عودته
مجددًا ..
ماجده بصوت خافت : أعتقد
أن محمود لن يعيش طويلاً
مع قلب مريض كل تلك
السنوات ...
آسفه لو قلت أن هذا الأمر
مستحيل ...
أعمى ..
ومشوه ..
مقطوع الأصابع واللسان ...
بقلب مريض. ..
وبلا رعاية خمسة وعشرون
سنه ...
ألقى به عبد الرحمن فى مكان
مجهول ..
مطت شفتيها ثم نفت برأسها
: سيكون من الصعب أن يكون
على قيد الحياة ..
تنفى ساره بيديها بقوه : لا ..
أننى مازلت أشعر بأنه على
قيد الحياة ...
قلبى يخبرنى ذلك وفي...
بترت عبارتها وهى تطىء رأسها
فى ألم : أقصد قلبه ...
قلبه الذى ينبض في صدرى ..
قلبه الذى أعادنى للأمل
والحياة ..
تتساقط دموعها مع حروف
جملتها ...
لتقول لها ماجده فى شفقه :
هونى عليكى ...
بعد ما أستمعت إلى قصتك
كامله أرى أن من الأفضل
عرض الأمر على نادر وعمار
عليهم أن يساعدوك فى
البحث عنه ..
تنفى ساره من جديد في إصرار
: لا ... أرجوك ...
لا أريد أن يعلم أحد هذا السر ..
لقد أخبرتك به لأنى كنت
بحاجه لإخراج هذا الثقل
الذى كنت أحمله فى صدرى
سنوات ...
كنت بحاجه الى شخص يكون
مصدر ثقه لأحكى له ...
لقد بحثت عن محمود فى
كل بقعه وشبر من أرض
مصر لم أجده ...
كونت فريق وصرفت الكثير
والكثير من النقود بلا
فائده ..
هل تعتقد بأن ولدى قادرون
على العثور عليه ..
العثور على أباهم الذى لا
ملامح له ...
أن يعرفوا ما فعلته به ...
لا ...
دعيهم يعيشون على ذكرى
جميله له ... ولى ..
حتى بعد رحيلى ..
تدور ساره ناحية ردهة القصر
إلى تلك الصوره الضخمه المعلقه
بعرض الحائط ..
التى تحمل ملامح محمود
وتسرح لحظات فى صمت ...
ثم تلتفت فجأة ناحية ساره
قائله : حسنًا لكن ماذا لو حدثت
المفاجأة وعثرت على زوجك بعد
كل طيلة السنوات ..!
ماذا يمكنك أن تخبرى أولادك
عنه ...؟
هل ستقص عليهم كل ما حدث ..؟
هل ستخبريهم ما فعلتيه به ..؟
أعتقد بأن الأمور ستتعقد أكثر ..
وسيكون الموقف صعب للغايه
بالنسبه لك أمامهم ..
ولن يستطيع مبرر أن يغفر
لك أمامهم عن ما فعلتيه ..
تحدق ساره في وجهه وهى
عاجزة عن الرد ...
وتشعر بصدق كل ما قالته
زوجة أبنها ...
التى تابعة حديثها : أعلم كم
كلماتى كانت قاسيه ولكنها
الحقيقة ...
الحقيقة التى يجب إدراكها ...
ومواجهتها ...
أغلقت ساره عينيها المدمعه .
وعادت تشير لها : أننى بحاجه
إلى النوم ...
وانصرفت نحو حجرتها ...
وهى تكمل بكاؤها ..
وتفكر ماذا فعلًا لو عثرت على
محمود ...!
بماذا ستخبرهم عما فعلته به ..؟
إن ماجده لم تقل الشىء الأهم ..
بالتأكيد لن يغفر لها محمود ...
لن يسامحها ...
ولن يستطيع قول شىء وهو
فاقد النطق وبلا لسان ...
إنها كارثه مؤلمه ...
إن الموت هو الراحة لها من
كل هذا العذاب. ..
لكن بالرغم من كل هذا كانت
تتمنى أن تلقاه ..
تراه ...
مهما حدث بعدها ...
عقد أصابعها وهى تنظر
للسماء وتدعو فى توسل إلى
ربها أن تجد هذا الرجل
الذى لم تحب قبله أو بعده. ..
فجأة هاتفها يصدر صوت
رنين ...
إنه عمار إبنها ...
الدكتور عمار ...
لتبدأ المحادثه بينهم ...
: أمى أين أنت ...؟
أننى فى الطريق إليك ...
ومعى خطيبتى الدكتوره
سالى ...
تمسح ساره دموعه : حسنًا
ياولدى ...
أنا فى إنتظارك ...
عمار بلهجه مرحه : دقائق
وسأكون أمامك ..
أغلق المحادثه بعدها ...
هنا بدأت ساره تقوم بغسل
وجهها وارتداء ملابس
أخرى ..
واستقبلت ساره سالى خطيبة
أبنها عمار بوجه آخر مبتسم ..
بشوش ..
وهى تقبلها فى حب وود ..
وسعاده ..
ويجلس الثلاثه سويًا قبل أن
تنضم إليهم ماجده فى جلسه
أسرية جميله ..
يكسوها الضحك والفرح
والمحبه ...
عمار بصوت يملؤه البهجه :
الحمد لله لقد بدأت المستشفى
الخاص التى بنيناها فى كسب
الكثير من الشهر وثقة الناس ..
هزت ساره رأسها : هذا من
فضل الله علينا ...
لقد بنينا تلك المستشفى لهدف
نبيل ..
وهو مساعدة الناس ..
وأعلم أن لديك أنت والدكتوره
سالى عمل شاق ينتظركم ..
ولكن أعتقد سيكون أجمل
لو تم الزفاف بينكم قريبًا ..
تورد وجه سالى خجلًا وهى
تطىء رأسها أرضًا ...
يعتدل عمار فجأة من مقعده
وهو يقترب يجلس بجوار
أمه ويمد بيده ويمسك
بأصابعه هاتفه يقول :
أنظرى يا أمى إلى مدخل
المستشفى بعد إقامة بعد
التعديلات عليه ...
لقد قمت بالتصوير هناك أنا
وسالى ...
تبتسم ساره وهى تنظر إلى
الصور قبل أن تتراجع فى
دهشه من تلك المفاجأة
وتقول : إنه أسمى ...
مستشفى ساره ...
لم تخبرنى بذلك ...
يضحك عمار وهو يقبل
رأسها أنه أقل شىء
يمكننى فعله من أجل أجمل
وأحن وأطيب قلب أم فى هذا
الكون ..
تحتضنه أمه فى حب وهى
تشاهد الصوره الملتقطه
ل عمار ابنها مع خطيبته سالى ..
فجأة ...
يرتجف كل جسدها ....
ويخفق قلبها ....
وهى تتوقف عند تلك الصوره ..
وتحملق بها ..
وتتسع أعينها عن آخرهم ..
وتعتدل واقفه فى ذهول حاد ...
ينتبه له جميع الحاضرين مع
شهقتها الكبرى ...
وهى تشير نحو تلك السيده
العجوز التى تجلس على باب
المستشفى ...
عمار فى تعجب شديد :
ماذا هناك يا أمى ...؟
ما الذى أزعجك إلى تلك
الدرجه ...!
ماذا رأيت ...؟
هل ثمة هناك شىء فى ديكور
مدخل المستشفى ...
تنفى ساره بأعين متسعه بشكل
لم تعدها من قبل وهى تشير
نحو السيده الجالسه على
الارض أمام الباب ...
عمار فى حيره : إنها مجرد
سيده عجوز مسكينه
تجلس وكأنها تتسول ...
ساره بصوت يملؤه الذهول
: أننى أعرفها ...
أعرفها جيدًا ..
تقترب ماجده وهى تميل نحو
الصوره وتحدق بها وتسألها
فى حيره شديده :
ومن تكون تلك السيدة
العجوز ..؟
ساره بصوت خافت وبكلمات
تجاهد لإخراجها تقول :
إن تلك العجوز هى ...
سمر ...
سمر أخت محمود ...
وسقط قلب ماجده
بين قدميها وهى لا تصدق
تلك المفاجأة الغير متوقعه
و المذهله ...
المذهله بكل المقاييس ...
فى ذهول شديد تطلق ماجده
شهق قويه وهى تنظر نحو
ساره لا تصدق ما تقوله ..
لقد أستمعت الى القصه كامله
بكل تفاصيلها ...
وتعرف ما حدث إلى سمر
لقد تم سجنها مؤبد بتهمت
قتل رحاب ...
لقد كان ذلك منذ زمن بعيد ..
إنها ما تزال على قيد الحياة ..
ولكن الفقر جعلها تبدو وكأنها
فى الثمانون من عمرها ...
ما الذى حدث لها لكى تصل
إلى الحاله المأساويه ...!
عمار فى حيره يقاطع ذلك
الصمت المخيم على الأجواء
قائلاً : ومن تكون سمر تلك
يا أمى ...!!
تنتبه ساره إلى ذلك الخطأ
الفادح الذى وقعت به بنطق
كلمه سمر أمام ولدها ...
كيف يمكنها أن تخبرها أمام
خطيبته أن تلك المرأة العجوز
المتسكح ليست سوى عمته ...؟
شقيقة أبوه ...؟
فى صمت جديد تنظر سالى
مع عمار نحو وجه ساره فى
إنتظار إجابة لذلك السؤال ...
قبل أن تجيب ساره بلهجه
متلعثمه : إنها ...إنها ...
لقد كانت يومًا جاره لى فى
الحى الذى كنت اسكن فيه
قديمًا ... قبل أن أتزوج ...
لكن من الواضح أن طريقتها
وصوتها لم تقنع الجميع ...
ولم يعلق عمار على ردها ..
اكتفى بالصمت ...
لكن ملامح ساره كان يكسوها
الإنزعاج الواضح ...
لقد كانت تفكر فى سمر ...
ما الذى حدث لها طيلة تلك
السنوات الماضيه ...؟
ولكن ما انتبهت له وجعل
جسدها يرتجف هو وقوفها
أمام المستشفى الجديد لولدها
الدكتور عمار بالتحديد ..
ابن اخوها ...!
هل يعنى هذا أنها تعرفه ...!
هل وقوفها فى هذا المكان
بالتحديد هو مجرد صدفه ...!
أم هى متعمده ...
بالتأكيد الإجابه تمتلكها سمر ...
إنها تحتاج لرؤيتها والحديث
معها ...
عادت تنظر إلى ولدها عمار وهى
تقول : أريد مقابلة تلك السيده
العجوز ...
ارتسمت الصدمه على وجه
الجميع ..
وبالتحديد سالى خطيبة عمار ..
وساره تحاول إقناعها بطلبها :
لقد كنت اعرفها يومًا ...
لقد كانت فتاه جميله ومن أصل
طيب ..
لا اعرف سبب وصولها إلى تلك
الحاله المذريه ...
عمار بصوت هادىء : يمكنني
تسوية ذلك الأمر بدفع معونه
شهريه دون الحاجه لمقابلتك
لها ...
تنفى ساره بقوة : لا ...
أنا أحتاج لمقابلتها بنفسي ...
وبأسرع وقت ...
وشعر عمار بدهشه لا حدود
لها من طلب أمه ..
وبأن هناك سر مجهول وراء
ذلك اللقاء ...
سر بالتأكيد كبير. ...
******
اليوم التالى ...
منتصف الظهيره ..
داخل مستشفى الدكتور عمار
التى إقامتها ساره من أجله ..
كانت واقفه أمام النافذه
يكتسي وجهها بعلامات التوتر
والقلق ..
تحدق نحو الخارج وهى
تعقد يديها خلف ظهرها ..
تنتظر فى لهفه لا حدود لها
أن تأتي سمر مرة أخرى وتعاود
الجلوس أمام الباب الجانبى
للمستشفى ...
طرق الباب ودلف نحو الداخل
ولدها عمار الذى قال فى حيره
: أنا فى غاية الدهشه لإهتمامك
الشديد والواضح لمقابلة تلك
السيده العجوز ...!
ربما لن تأت هنا مجددًا ...
تلتفت ساره بهدوء ناحيته
وهى ما تزال تفكر وتحاول
إيجاد إجابه مقنعه فى أعماقها
عن سبب رغبتها الملحه لمقابلة
سمر ..
ربما لا يجدى هذا اللقاء أى نفع ..
ولكنها ترغب به ...
تنتبه فجأة إلى وجه عمار الذى
يقول فى دهشه :
أعتقد بأن هناك سر وراء تلك
الرغبه لمقابلة تلك العجوز ...
ثانيًا لقد قلت أخت محمود ...!
من محمود هذا ...؟
ما سر تلك المرأة العجوز ...؟
لكن ساره ظلت صامته ...
عاجزه عن الرد ...
ليقترب عمار بهدوء وهو ينظر
إلى عينيها : لم ارك من قبل
تخفين سر عنا مثل تلك
المره ...!
تأخذ ساره نفسًا قصيرًا ثم
دارت بوجهه ناحية النافذه
وهى تقول : ربما قريبًا أخبرك
كل شىء ..
ربما ...
لا تتعجل ..
لكن إنتظارها قد طال ..
ولم تأت العجوز المنتظر ...
وتتابع ساره فى اليوم الثانى
والثالث ...
أسبوع كامل ..
دون جدوى ..
أشعلت الحيره والشغف الشديد
فى صدر ولدها عمار ورغبته
فى معرفة السر وراء ذلك
الإهتمام المبالغ فى مقابلة
عجوز متسكح ...
إلى أن جاء ذلك اليوم
وسمعت رنين هاتفها وصوت
عمار يخبرها وهى داخل
بيتها بأنه قد وجد العجوز ..
وهى الآن داخل مكتبه ..
وينتظر قدومها ...
انطلق سياره بسرعه مع سائقها
داخل سيارتها الفارهه ...
وقلبها يخفق بقوه شديده
لا تدر ماذا ستقول ل سمر
فى تلك المقابله ...؟
أو لماذا حتى ترغب فى الحديث
إليها ..؟
ربما لأنها من رائحة ذلك الماضى
الذى تشتاق له ..
فهى شقيقة حبيبها محمود ..
وكانت يومًا صديقه مقربه منها ...
تصل الآن إلى إدراج المستشفى
قلبه يزداد فى دقاته ..
أنفاسها متسارعه ويتوقف كل
شىء وهى تدخل الحجره
الصامته وعلى المقعد تلك
العجوز البائس تجلس ورأسها
تنظر نحو الأرض فى سكون ...
تقترب منها ساره ببطء ...
وعمار يتابع الموقف فى إهتمام
بجوار النافذه القريبه ...
ترفع العجوز رأسها ببطء
قبل أن تقع عيناها على وجه
ساره ليرتجف جسدها كله ...
وتتسع حدقت عيناها الخامله
فى صدمه واضحه انتبه لها
عمار ولاحظها ...
وهى تهتف فى دهشه كبيره
بإسمها قائله : ساره ...!
تقترب منها ساره أكثر وتجلس
على المقعد المقابل و تهز
رأسها بهدوء : نعم ... هو أنا..
ثم دارت بوجهها ناحية عمار
تقول : من فضلك يا عمار ...
أريد أن نتحدث سويًا وحدنا ..
ليخرج عمار فى طاعه وبوجه
يكسوها الضجر والغضب ...
ورغبه مكبوته لمعرفة تفاصيل
ذلك الحوار الذى ترفض أمه
سماعه ...
وبعد خروجه تميل ساره نحوها
وهى تقول : سمر ...
كيف حالك ..؟
ما الذى حدث لك لتصلك بك
الأمور إلى هذا الحد المذرى ...!
تنظر لها ساره بأعين دامعه :
إنها النهاية المنطقيه لقصتى ..
فبعد خروجى من سجن مؤبد
كان هذا المصير هو المنتظر
بالنسبه لي ...
ساره في تعجب : أليس أولادك
ما يزالون على قيد الحياة ..
هزت سمر رأسها : بلى ..
وكلهم فى مناصب مرموقة ..
ولديهم حياة مستقره ناجحه ..
أنا بالنسبه لهم : أم قد ماتت ..
لا أحد يعرف قصتى منهم ...
أو أننى على قيد الحياة ..
لقد أخفى سعيد ذلك عنهم ..
وأرى أنه كان على صواب فى
ذلك ...
لقد كانت خطوة جيده ...
وبعد أن خرجت من السجن منذ
خمسة أعوام لم يكن لدى مأوى
أو مصدر رزق سوى التسول ...
يعتصر قلب ساره ألمًا من أجلها
وهى تقول بصوت حزين :
لم أكن أتخيل تلك النهاية
المؤلمه لك ...
لكن هناك شىء غريب أود
سؤالك فيه ...
تنظر لها سمر فى تعجب :
أى شىء ...؟
ساره فى حيره : وجودك هنا ..
أمام ..
تقاطعها سمر بسرعه : أمام
مستشفى الدكتور عمار ...
ابن محمود أخى ...
أليس كذلك ...؟
هزت ساره رأسها فى صدمه :
يبدو بأنك تعرفين ذلك ...
تبتسم سمر إبتسامه باهته جدًا
وبشفاه رفيعه متحجره : نعم ..
لقد علمت كل شىء عنك ...
وسعيده إلى أقصى حد لما
وصل له حالك أنت وأولاد
أخى ...
عمار ونادر. ..
أنت تستحقين كل خير ...
لقد تعذبت كثير في حياتك ..
أعلم كم عانيت ..
وأنا كنت فى شوق لجلوسى
برفقة اولاد اخى ..
كنت أود رؤيتهم من بعيد ..
لم أكن أتوقع كشف أمرى ...
أننى آسفه على كل حال ..
وأعدك بأننى لن آت هنا
مرة أخرى ...
ولن يرى أحد وج...
تقاطعها ساره بسرعه : لا ...
أنا لم اقصد مقابلتك من أجل
هذا ..
كنت أود ..
أود ..
وعادت فى تعلثم شديد
وسمر تتابعها فى تعجب وهى
تتابع : كنت أود سؤالك عن
محمود ...
تتراجع سمر فى دهشه :
أنا التى كنت أود سؤالك عنه
كل ما علمته أنه قد مات ..
يكسو ملامح ساره الإنزعاج
وهى تصرخ فى صدمه :
مات ...!
كيف حدث ذلك ...؟
كيف مات محمود ...؟
سمر بهدوء : أقصد ما
سمعته من الناس فى كل مكان
أن زوجك والد عمار ونادر
مات ...
الجميع يعلم هذا ...
حتى أولادك ...
لكنى لا اعرف كيف مات ...!
ومتى ...!
إلا إذا كان هناك سر آخر تخفيه
وهذا واضح من سؤالك عنه ...
بأنك لست واثقه فى خبر موته
تضع ساره رأسها أرضًا فى خجل
: نعم بالفعل لقد اختفى محمود
دون أن أعرف مصيره ...
أختفى منذ خمسة وعشرون
عامًا ..
سمر فى صدمه شديده :
وكيف حدث هذا ...؟
لكن ساره كانت عاجزه عن قول
الحقيقه ...
عاجزه عن قول أنها كانت السبب
وراء ذلك ...
تخشى أن تصنع سمر ضوضاء
وشوشرة حين تعلم ما فعلته
بأخيها ..
وحينها من الممكن أن يكشف
عمار ذلك السر الكبير ...
تعتدل ساره واقفه وهى تقترب
من سمر وتقف بأقدامها على
بعد خطوه واحده منها ثم
تضع يديها على كتفها قائله
: من اليوم سأقوم بتوفير
سكن مناسب لك ...
وسيكون لديك دخل ثابت
كل شهر ..
تبتسم سمر فى سخريه :
تقصدى معونه ...
ساره بلهجه حاده : هذا سيكون
أفضل من ذلك التسكح فى
الشوارع أو التسول فى
الطرقات ..
سمر فى سخريه : وهل
ستخبرى أولادك عنى ...؟
وبأن عمتهم ما تزال على قيد
الحياة..؟
تطلق ساره تنهيده : أعتقد
من الأفضل لجميع الأطراف
إخفاء تلك الحقيقة ...
تعتدل سمر واقفه : وأنا
أفضل التسول من الناس
وعطفهم ...
أفضل من إنتظار معونتك
كل شهر ...
ساره في تعجب : ما يزال
عقلك كالحجر صلب ...
عادت ساره تمسك بيديها
كتفى سمر وهى تقول فى
ود : أنت تعلمين كم مقدار
حبى إليك ...
أنت اخت زوجى وحب عمرى
وعمة اولادى وهذا أقل واجب
يمكننى تقديمه إليك ...
ساد الصمت برهة ..
ثم تراجعت ساره خطوه للوراء
قائله : اسمعى لدى سكن مناسب
جدًا لك ...
شقه صغيره ستكون ملائمه
لإقامتك بها ..
ثم أشارت بسبابتها نحو وجه
سمر : لكن أتمنى أن يظل
ذلك السر بيننا ...
ثم أمسكت يديها قائله :
هيا بنا ...
تنفى سمر : لا دعينى اليوم ..
وسأعد نفسي لذلك بعد
يومين ..
ساره في دهشه : تعدى نفسك ..
إن شقتك الجديده مجهزه ...
ولن تحتاج إلى شىء ..
هزت سمر رأسها : فقط
يومين أجمع بعض المتعلقات
الخاصه بى ..
وسأكون أمامك بعد يومين ...
تنفى ساره : لا ..
لا تأتي إلى هنا مجددًا ...
حتى لا نثير الشكوك أكثر
خاصتًا فى نفس عمار ...
أخبرينى عنوانك المقيمه فيه
الآن ..
وسأرسل لك سياره بعد يومان
لإصطحابك ..
سمر بصوت هادىء : لا داعى
لذلك ..
فأنا مقيمه بالقرب من
المستشفى ..
سأنتظرك فى الباب الخلفي
منها بعد يومين ...
هزت ساره رأسها تقول
فى ثقه : إتفقنا ...
لكن أعين سمر كان لها بريق
غريب شعرت به ساره ...
ولكن لم تفهمه ...
*****
بعد أسبوع من تلك الأحداث ...
انتظرت ساره سمر فيها كل
يوم ..
لكنها لم تأتي ...
لقد خدعتها ...
واختفت ..
اختفت تمامًا ولم يعد لها
أدنى أثر ...
وشعرت ساره بالمرار والسخط
مما فعلته سمر ...
كانت فى حيره شديده لما
فعلته ...
إنها تقدم بكل حب يد
المساعده ...
ولكنها ترفض ...
( ما زلت تلك العجوز تشغلك )
ألتفت ساره داخل ردهة القصر
إلى ولدها عمار الذى يبتسم
فى سخريه : أكثر من أسبوع
أليس كذلك ...
تتسع أعين ساره في صدمه
وهى تقول : كيف علمت
ذلك ...؟
هل تقوم بالتجسس على ..؟
ينفى عمار بقوة : لا ...
هذا لم يحدث ...
ولكن أمن المستشفى أكتشف
وجود سيارتك كل يوم
تنتظر فى هذا المكان ...
وعندما استدعيت السائق
أخبرنى بالقصه ...
وبأنك من طلبت منه المكوث
وإنتظار العجوز واصطحتبها
إلى شقة المعادى التى تملكيها ..
شىء يدعو للحيره والدهشه
القصوى ...
ماذا بينك وبينك تلك المرأة
العجوز لتفعلى معها كل ذلك ..
أخبرينى يا أمى ...
أرجوك ...
أنا فى غاية الدهشه والتعجب ..
الأغرب أنها لم تأتي ..
إنها لا ترغب فى إستجابتك ..
إنها لن تعود ثانيًا ...
وأنت كل يوم على أمل بذلك ...
من تلك المرأة يا أمى ...؟
لكن ظلت ساره تنظر له فى صمت
وهى عاجزه عن الرد ...
ليأخذ عمار نفسًا عميقًا ..
وهو يهز رأسه ويضرب كفيه
فى تعجب : امرأة متسوله تسكن
المقابر ..
يصيبك صدمه حين رؤيتها
وتهديها شقة بدون مقابل ..
و ..
تقاطعه ساره فى تصدمه :
تسكن المقابر ...!!
كيف علمت ذلك ...؟
كيف ...؟
عمار فى هدوء : لقد تتبعتها
حين جاءت هنا لك ..
كنت فى شغف لمعرفة من
تكون ...
وسر إهتمامك بها ...
ولكنى تفاجأة بوجودها تسكن
داخل المقابر ...
مع زوجها ...
تتراجع ساره فى ذهول وهى
تقول : زوجها ..!
إنها ليست متزوجه ...!!
أقصد ...
كيف علمت بأنها تسكن مع
زوجها ..
عمار فى هدوء : بكل تأكيد
زوجها الكفيف ...
المشوه ...
يسقط قلب ساره بين قدميها
فى صدمه عارمه وهى تصرخ
فى جنون
كفيف ... ومشوه ..!!
هز عمار رأسه : نعم ..
رجل كفيف ومشوه ...
وتصرخ ساره بجنون دون
وعى ...
تصرخ من أعماق قلبها ...
اسم الرجل الوحيد الذي
سكن كل جسدها ...
تصرخ بإسمه فى جنون
: محمود ...
لم تشعر ساره بمثل هذا
الإحساس الذى ضرب كل
خلايا جسدها مثل تلك اللحظه ..
كانت ترتجف بشكل ملحوظ ..
وهى تهتف بجنون وتصرخ
فى وجه ولدها عمار بإسم
حب عمرها محمود ..
عقد عمار حاجبيه في تعجب
شديد وهو يردد : محمود ...!
من محمود هذا يا أمى ...؟
لم تنتبه ساره لسؤاله كان
كل ما يشغل عقلها هل هو
حقًا محمود زوجه الذى رآه
عمار ...
مستحيل ...!
ولكن من يكون سواه مع سمر
أخته ...!
مشوه وكفيف ...
بكل تأكيد هو ...
أمسكت ساره بقبضتها اليمنى
كتف عمار وهى تسألها :
أين رأيتهم ...؟
خذنى الآن إلى حيث بيتها
إلى حيث رأيتهم ...
داخل المقابر ...
تتسع أعين عمار فى صدمه
وهو يقول : ماذا ...؟
الآن ...!
نذهب إلى المقابر ...!
لماذا ...؟
هل تعرفى ذلك المشوه ...؟
من يكون ليصيبك كل هذا
الذعر يا أمى ...؟
أصدقينى القول ...
كفى غموض فى قصتك هذا ...
تنفى ساره بقوة : لا وقت
لدى للحديث
تعالى واذهب بى إلى هناك ..
بسرعه ...
ينفى عمار بطريقه لم تعهدها
ساره من قبل معها وهو يرفض
: أنا لن أذهب معك ولن
أصطحبك إلى أى مكان دون
أن أفهم السبب ...
تغلق ساره عينها وهى تشعر
برغبه عارمه فى البكاء وتتوسل
إلى ولدها : أرجوك ...
اذهب بى إليهم ...
يزداد تعجب عمار إلى أقصى
حد وهو يرى دموع أمه
ليضع يده على رأسها يقول
فى حيره : أنك تبكين ...!
تبكين يا أمى ..!
أنا فى غاية الحيره من أمرك ...
تجلس ساره فى إنهيار على
المقعد المجاور وتدفن رأسها
بين راحت يديها ...
لتسمع صوت عمار : حسنًا ...
فليكن يا أمى ...
مادامت تلك رغبتك ...
هيا بنا ...
وفى صمت دون أن ينبس أحد
بطرف كلمه كان عمار ينطلق
بسيارته مع غروب الشمس
إلى المقابر ...
لم تقوى اقدام ساره على حملها
وهى تخطوا خطوات متعرجه
ثقيله ...
ريقها جاف كالصخر ...
تشعر بضربات قلبها تكاد
تسمعها ..
يمسكها بسرعه عمار وهو
يشعر وكأن أمه توشك على
السقوط ...
وقلبه ما يزال يشتعل حيره ..
حتى توقف أمام حوش صغير
داخل المقابر ...
وهو يشير برأسه : إنها
تسكن هنا ...
تحركت ساره ببطء وهى تعيش
وكأنها داخل حلم ...
وما يحدث وتراه ليس حقيقى ..
وعلى بعد خطوه واحده طرقت
ساره باب الحجره. ...
وانتظرت فى هدوء ومن خلفها
عمار يتابع الموقف عن كثب ...
وبعد دقيقتين ...
فتح الباب بهدوء ..
وطلت من وراءه سمر بوجه
شاحب سرعان ما تبدل
واكتسى بالذهول الشديد
وهى تصرخ : ساره ...!
كيف جئت إلى هنا ...!!
تتجاهل ساره سؤالها وهى
تقول بلهجه وصوت خائف
وخافت ومتعلثم :
هل هو هنا ...؟
هل هو لديك ..؟
هل ما يزال على قيد
الحياة ...؟
أخبرينى ...أرجوك ...
أكاد أن أموت ...
ظلت سمر متجمده بلا حركه
أو حديث وهى تنظر إلى عمار
الذى يتابع بتعجب ما يحدث ..
ويدور بعينيه فى أرجاء
المكان وهو يشعر بالإشمئزاز
من قذارته ...
وساره تتابع فى شغف ولهف
شفتى سمر ....
تنتظر ردها القاتل
بالنسبه لها ..
حتى حركت سمر شفتيها وهزت
رأسها : نعم ...
إنه هنا ...
وتسقط ساره على ركبتيها
وهى تتأوه ...
وكأنها تحتضر ...
وينطلق عمار وهو يحملها
بين يديه ويصرخ : أمى ...
ماذا حدث. ..؟
تنفجر ساره فى البكاء وهى
تهتف : أين هو ...؟
أخبرينى بالله عليكى ...
سمر بهدوء : إنه نائم على
الفراش فى ذلك الركن
البعيد ..
أعتدلت ساره وتحركت ببطء ...
وهى تشعر بأنها تحتضر ..
لا يمكن أن يحدث هذا ..
هل ستلتقى بحبيبها بعد كل تلك
السنوات الطويله من العمر ...!!
توقفت ساره أمام الفراش ...
وهى تطل برأسها وعينيها ببطء ..
تتفحص وجه ذلك الرجل النائم
فى هدوء وسكون تام كالجثه ..
قبل أن تسقط على قدميها
وتنهار فى نحيب وبكاء شديد ..
تمد أصابعها تجذب كف يده
من جانب الغطاء الذى يغطى
منتصف جسده ...
وتقبل يده بشكل مؤلم ...
تقبلها وهى تغرقها بدموعها ...
مشهد جعل عمار يكاد يصرخ
من صدمة ما يراه ولا يفهمه ...
وأمه تهمس بكلمات لا تقوى على
إخراجها : لقد تحققت دعوتى ..
تحققت أمنيتى فى أن ألقاك
من جديد ياحب العمر ...
أنا لا أصدق أننى أراك ..
أو معك ...
كم اشتقت لك ...
تقترب سمر منها وهى تميل
نحوها وتهمس : إنه لن
يسمعك ...
لقد تناول الدواء منذ دقائق ..
والدواء هذا به جرعة من
المنوم ..
ساره فى حزن : دواء ...
أى دواء ...
سمر بصوت خافت : لقد
أصابه الكثير والكثير من
الأمراض التى نسيت أسماؤها
أو عدها ..
حتى الدواء لا يأخذه بإنتظام
فشراؤه أصبح يسبب أزمه
ماديه كبيره بالنسبه لنا ..
تعود ساره تحتضن كف يده
وتضع جبينها فوقه ..
وهى ما تزال تهمس : ليتنى
أنا من أعانى كل هذا ..
ليتنى أنا يا حبيبي ..
أتسعت أعين عمار فى صدمه
من كلمات أمه الغريبه ..
ليخطو ويقترب منها وهو يقول
فى حيره بالغه : أمى ...
ماذا يحدث ...؟
أنا لا أفهم أى شىء ...!
ما هذا الذى تفعليه ...؟
ومن هؤلاء ...!
ومن هذا الرجل الذى تبكى
من أجله ...!
تعتدل ساره واقفه وهى تمسح
دموعها وتنتبه لوجود عمار الذى
أنساها لقاء محمود وجوده ...
لتسمع صوت عمار يسألها
من جديد : من هذا الرجل
يا أمى الذى تبكى من أجله
هكذا أسفل قدميه ...!
ساره بصوت مهموم :
سنتحدث لاحقًا يا ولدى ...
سأخبرك كل شىء ...
ظهرت علامات الضجر والسخط
على وجه عمار وساره تعود
برأسها ناحية سمر قائله :
لماذا لم تأتي فى الموعد كما
أتفقنا ...؟
تنظر لها فى حزن : الإجابه
واضح يا ساره ...
ساره في دهشه : أى إجابه
أنا لم أعد أفهم شىء ...
كيف عثرت على محمود بعد
خروجك من السجن ...؟
سمر : أنا لم أعثر عليه ...
بل هو من عثر على ...
تتراجع ساره فى تعجب
وسمر تتابع : لقد وجدته
مقيم هنا داخل مقابر الأسره ..
تدور ساره برأسها فى المكان
وسمر تتابع : نعم ..
إنها حجرة مدافن رفات
أجدادنا ...
وأبى وأمى هنا ..
وجدته يعيش فى تلك الحجره
وحده لسنوات طويله ...
ساره في حزن عميق :
كيف ...؟
كيف كان يعيش وحده هنا ..؟
كيف تحمل ذلك وهو كفيف ...!
سمر بهدوء : ربك لا ينسى أحد ..
لقد كان يخدمه الكثير من
فاعلى الخير ...
بل يتسابقون من أجل رعايته
وإطعامه ...
بل يحبونه ..
بل حاولوا كثيرًا إيجاد مأوى
له مناسب غير ذلك ...
لكنه رفض ..
وصمم على بقاءة هنا ..
كان قلب ساره يعتصر ألمًا
بل ينزف بشده حسره من
أجل حبيبها ...
وما تسمعه ...
وسمر تتابع : لقد كانت مفاجأة
لم أتخيلها أو أتوقعها أن أجد
شقيقى بعد كل تلك السنوات
الطويله ..
و ...
بترت عبارتها وقد تحرك جسد
محمود الثابت فجأة ...
لتتراجع سمر وهى تهمس
إلى ساره : يبدو بأنه يستيقظ ..
أرجوك ألزمى الصمت ...
لن يتحمل جسده المريض
أو قلبه صدمة وجودك ...
هزت ساره رأسها إيجابيًا فى
طاعه ..
لتسمع صوت محمود يدب
من جديد في مسامعها بعد
خمسة وعشرون عامًا يهتف
وينادى أخته سمر ...
ليسقط قلب ساره بين قدميها
فى ذهول لا حدود له وهى
تصرخ فى أعماقها : مستحيل ...
إن محمود ما يزال يتحدث ..
وينطق ..
انتبهت فجأة إلى أصابعه
التى كانت تقبلها منذ لحظات ...
ونسيت أنها من المفترض أن
تكون مبتوره كما اتفقت مع
عبد الرحمن قبل سنوات
بعيده ...
ما معنى هذا ...!
لماذا لم يقم عبد الرحمن
بتنفيذ أمرها ...!!
لماذا ...!!
عادت تنتفض ومحمود يقول
بصوت هادىء : سمر ..
هل تسمعينى ...
تجيبه سمر بسرعه : نعم يا أخى
أسمعك ...
يبتلع محمود ريقه : إننى أشعر
بالظمأ الشديد ..
وفى لحظات كانت تمد له سمر
بكوب من الماء ..
يتجرعه ثم يحمد الله وهو يلامس
يده قائلًا : شىء غريب ...
إن يدى مبتله ...
هناك قطرات من الماء عليها ...!
من أين جاءت ...!
ثم وضع يده على صدره وقال
: اشعر بدقات قلبي عاليه ...
ومتسارعه ...
لا اعلم لماذا ...!
هل تصدقي أنني الآن أشعر
بشيء غريب لا أستطيع
تفسيره ...
سمر في تعجب تقترب منه
وتجلس الى جوراه على
أطراف الفراش قائله :
أخبرني ما الذي تشعر به ...؟
محمود بصوت هادئ :
وكانني سمعت صوت ساره
فأوقظنى من نومي ....
تتراجع ساره وقلبها يخفق بقوه ومحمود
يتابع : سمعت صوتها
وكأنه يناديني من بعيد ...
ينادي بأسمي ..
يطلب منى أن أستيقظ ....
أي حلم جميله هذا ....!
سمر بعطف تسأله إلى هذا
الحد ما تزال تحبها وتشتاق
إليها ....؟
يأخذ محمود نفسًا قصيرًا
ثم قال : وأي حب ...؟
وشوق هذا الذى فى صدرى
لها ...
فهي الحب الوحيد الذي عشته
بصدق ....
هل تتخيلى أننى الذى كنت أحبها
فى صمت ...
أنا من أخبأت حبها ...
ليس هى كما كانت تعتقد ...
تسأله سمر من جديد :
وهل تتمنى رؤيتها ...؟
يبتسم ساخرًا :
أنني بالفعل أرآها
تتراجع ساره فى خوف وهى
تحدق به وهو يتابع :
أرآها كل يوم ...
كل لحظه ...
فهي لما تغب يومًا عن عقلي ..
وخاطرى ...
وأحلامى ...
أما عيني ...
فلن يكتب عليها رؤيتها ...
او رؤيه شيء ...
فمنذ ان فقدت بصري ما
يؤاذر حزني ويواسينى دائمًا
هو قلبها ....
قلبها الذي أحمله ويسكن
صدر .. وأعيش به ...
لقد شاء الله أن أحى لسنوات
طويله بقلب مريض كتب
عليه الموت ...
تنهار لحظتها ساره وهي
تتقدم نحوه من جديد
وتلامس سطح يده بأصابعها ..
لينتفض محمود بقوه وكأنه مس
أو صاعق كهربى ضرب جسده
ليصرخ بقوه وهو يهتف دون
تفكير : ساره ....
يتراجع الجميع في دهشه عارمه
غير مصدقين ما يروه ...
ومعرفته ل ساره من لمسة
يدها ....
لتقول ساره في تعجب وصدمة :
كيف علمت أنه أنا ...!
كيف عرفت بوجودي ...!
يصرخ محمود بجنون : ساره
أنت حقًا هنا ...!
انتى معى الآن ...؟
ساره بهدوء : نعم ...
كيف عرفت أننى من لامس
يدك ...؟!
محمود فى ذهول :
وكيف لي لا اعرف لمسه يد
حبيبتي ...
أو أنفاسها ...
أو رائحتها ...
تجذب ساره يده وهي تضعها على
خديها وتقبلها ...
وما تزال تبكي ...
ومحمود في صوت حزين
يقول : كيف جئت إلى هنا ...؟
كيف عرفتي مكاني ....؟
لكن ساره لم تتحدث ...
فقط ألقت بجسدها في صدره ..
وبين أحضانه الدافئه ...
وهي تبكى قائله : كم اشتقت
إليك ...
كم تمنيت رؤيتك ...
أنني لا أصدق بأنى في
حضنك من جديد ...
أنني لا أصدق أنني معك ...
ولا أصدق أنني وجدتك
يا حبيب عمري ...
ويا نور عيني ...
كم تمنيت أن ألقاك ...
أن تغفر لي ...
أن تسامحني ...
كم كنت غبيه ....
كم كنت ظالم ....
كم قسوت عليك ...
وأنا أجهل أنك أشرف وأخلص
رجل قابلته ...
عند تلك النقطه شعر عمار
بقمة الغضب ...
وهو يقترب أكثر ويقول في
سخط واضح : أمي ....
من هذا الرجل ...؟
وما الذي تفعليه معه ...؟
وكيف تسمحي لنفسك بأن
تحتضنيه هكذا .....!!
تتراجع ساره وهي تمسح
بأصابعها دموع عينيها قائله
: وكيف لا أحتضنه وهو
زوجي ....
وهو أبوك ...
عندها أتسعت أعين عمار في
جنون وهو ينفي برأسه يقول :
مستحيل ....!
ما الذي أسمعه ...!!؟
هزت ساره رأسها قائله : نعم ...
أنه أبوك محمود ....
الذي بحثت عنه عمري كله
ولم أجده ....
ولم أكن أتوقع أنه ما زال على
قيد الحياه ...
ينفي عمار من جديد برأسه : أنا
لا أفهم شيء ...
كل ما علمته من صغرى أن أبي
قد مات ...
وأنا مازلت جنين في أحشائك ...
ساره بصوت حزين : نعم ...
هذا ما قلته وكذبت عليكم
به ...
ولكن أبوك محمود ما يزال على
قيد الحياه ...
وها هو أمامك ...
محمود بصوت خافت ومرتجف
يقول : هل هذا صوت ولدي
يا ساره ...؟
تلتفت ساره ناحيته مبتسمه
مع دموعها قائله : نعم هو ...
الدكتور عمار ...
وهناك أيضًا نادر ..
أنهم التوأم الذي كنت تتمنى
وتحلم برؤيته ..
عمار في غضب يصرخ :
أي هراء ذلك الذي أسمعه ...!!
فجاه يظهر أبي ويعود إلى
الحياة ...
يعود بصورة ذلك المشوه
الكفيف ...
وأنك قد أخفيتى هذا السر
خمسة وعشرون عامًا ..!
لماذا ...!!
ساره بصوت خافت :
أنها قصه طويله ...
يصعب شرحها وتفاصيلها كثيره ..
عمار في غضب شديد ينصرف
مبتعدًا عن المكان وسط هتاف
أمه الذي تحاول اللحاق به
وهي تهتف بإسمه وتدعوها أن
يتوقف وفي الخارج يدور عمار
في حنقه ناحيتها يقول :
أي جنون هذا الذي يحدث ..؟
هل هذا الكفيف المشوه هو
أبي ...؟
أبى الرجل الذي كان في خاطري
هو ذلك الاب المثالي ..
القدوه ..الناجح ...المشرف ...
الذي اخبرتي عنه الكثير من
البطولات والنجاحات ..
أجده فجأه في هذا المكان القذر
مجرد رجل متسول ...
تنفي ساره برأسها وبيديها تقاطعه
: أنا لم أكذب عليك ..
أنه بالفعل كذلك كما قلت ...
ولولا هذا الرجل ما كنتم أنتم ...
وما كنت أنا ...
أن قلبي الذي في صدري هو
قلبه الذى أهداه لى ...
كى أعيش بينكم الآن ...
لولا هذا الرجل ما أصبحت في
كل ما تراه ...
إنه صاحب كل هذا الثراء الذى
تعيشون فيه ...
وما وصلتم إليه من فضله ...
أنت لا تعرف شيء ...
ولا تفهم شيء ...
هذا الرجل هو أشرف واخلص
رجل على وجه الأرض ...
لقد ضحى من أجلى وأجلكم ...
أنني لم أحب ولن أحب غيره ...
كفى لا تكن غبيًا مثلي. ..
هذا الرجل لا يستحق شقاء
اكثر من ذلك ...
لقد قضى عمره في عذاب
وألم دون أي ذنب ..
بدلًا من أن تقبل قدميه وتشكره ..
بدلًا من أن تحتضنه وتبكي أسفل
قدميه وتطلب منه الصفح مثلى ..
المفترض منا أن نكون عوضًا له ..
لقد أعطاني هذا الرجل قلبه
السليم وعاش عمره بقلبي
المريض ...
عاش ينتظر الموت ويتألم كل
يوم ...
وعشت أنا فى كامل الصحه
والقوه والعافيه ....
لكي أجعلكم رجال صالحين ...
هو أراد ذلك ...
وعاش هو كما تراه في هذا المكان الموحش ...
عاش عشرات السنين كما ترى فى
ذل وإهانه ...
عمار بعد أن أصغى لها ساد
صمت طويل ..
وقبل أن يهم بالإنصراف ومع
دوران جسده وجد في وجهه
أخوه نادر الذي يقترب وهو
يقول : أمك لديها كل الحق ...
تتسع أعين عمار في تعجب
ونادر يتابع بكل هدوء :
لقد استمعت وعلمت القصه
كلها ...
وعلمت أكثر مما تعلم أنت عن
هذا الرجل ...
أمك صادقه ...
هذا الرجل لا يستحق منا سواء
أن نحتضنه .... ونحتويه ...
لقد أخبرتني فى الهاتف القصه ...
وأنا تتبعتكم وعرفت كل شىء ..
وبعدها تقدمها نادر نحو
الداخل وهو ينظر إلى أبوه
محمود الذي يرقد فوق فراشه ..
صامتًا وساكنًا ...
يقترب منه بخطوات ثابته ثم
يلقي بنفسه في أحضانه
وهو يبكي ويقول : أبي ...
أنا لا أصدق أنك على قيد
الحياه ...
أنني ولدك نادر ...
عندها يصرخ محمود من الفرحه
وهو لا يصدق نفسه
ويشعر إن ما يعيشه هو حلم
جميل ...
ويندفع بعدها عمار هو الآخر
يبكي وهو يلقي بنفسه فوق
الفراش بين أحضان أبيه
ويحتضنون عمتهم سمر في حب ..
ويقبلون يديها ...
ونادر يقول بصوت حنون :
لقد تعبتم وتحملتم كثيرًا في
هذه الحياه ...
ومن حقكم أن تعيشوا باقي
عمركم مع أبنائكم وأسرتكم ...
وبعدها يمد نادر وعمار يديه ويحملون
أباهم ويغادرون الحجرة
ويجلسوه داخل السياره مع أمهم
التى لم تجف دموعها ..
تبكى متبسم ...
وهى تميل نحوه وتهمس فى
أذنيه : هل ما نعيشه حقيقه ..؟
هل حقًا أنت معى ...؟
يبتسم محمود : أنت دائمًا معى ..
منذ أن أحببتك ...
من قبل حتى أن تلقى بخطابتك
أسفل باب الورشه ...
تتراجع ساره فى صدمه وهى
تبتسم : هذا يعنى أنك
من أحببتنى اولًا ..!
هز محمود رأسه : نعم ...
أنا من أخبأت حبك ..
ساره في حيره : هل قابلت
عبد الرحمن ..
صديقك القديم ..
يضحك محمود : نعم ...
وقال أنك طلبت منه أن يقطع
لسانى وأصابعى ...
كى لا أعود إليك مجددًا ...
تنحنى ساره وهى تقبل يده
فى حزن : كنت غبيه ..
سامحنى ...
لقد عشت خمسة وعشرون عامًا
فى عذاب لا تتخيله بسبب
ما فعلته ...
وكلما تخيلتك مبتور الأصابع
واللسان احترق من شدة
الندم ...
يبتسم محمود : لقد
رفض عبد الرحمن طاعتك ...
لقد أشفق على صديقه ..
خاصتًا أننى تحدث معه ...
وعلم كل شىء قد حدث ...
حتى قلبى الذى فى صدرك ...
وأنا من وعدته بأنى لن أظهر
من جديد فى حياتك ...
وكان يثق في ..
وحزنت بشده عندما علمت
بموته بعد مطاردة الشرطه
له ...
ساره فى تعجب : كيف علمت
ذلك ...!
محمود بهدوء : لأنى كنت أعلم
أن عبد الرحمن يعمل مع أبوك
حسان ...
وبعد كشف أمره علم جميع
الناس القصه ..
وكانت صدمه ومفاجأة لهم ..
وتناقلت الأقاويل عن ذلك
العملاق الذى أصيب برصاص
الشرطه وسقط فى الماء
وغرق ..
فتوقعت أنه عبد الرحمن ..
خاصتًا بأنه كان يعلم بأنى أسكن
المقابر ...
ولم يفكر يومًا بزيارتى ...
ساره بصوت خافت : نعم ..
لقد مات عبد الرحمن ..
مات أمام عينى ..
فى مشهد يصعب نسيانه ...
عادت ساره تشيح بيديها
دعنا ننسي كل الماضى ...
بكل ما يحمل ...
ونعيش الآن السعاده ...
السعاده فقط. ...
*******
بعد شهر ونصف ..
داخل المستشفى
ساره تستمع الى صوت ابنها
عمار الذي يقول في هدوء :
أعلم أنها مفاجأه لكى ..
ولكني فعلتها من أجلك ومن
أجل أبي ...
حققت معجزه ...
معجزة لا تصدق ...
بل أكثر من معجزة بفضل الله ...
ساره في ذهول :
أى معجزات تلك ...!!
يبدأ عمار فى نزع الغطاء تدريجيًا
عن رأس أبوه الساكن بلا حركه
أو صوت ..
ونادر يقول : أنا نفسي لا أصدق
ما سمعته حينما أخبرنى أخى
العبقري بما فعله ...
ساره فى شغف رهيب :
لقد تأخرت فى نزع الغطاء عن
وجه أبيك ...
وقتلنى الخوف والفضول ...
يضحك محمود : أما أنا فمطمئن
مادمت فى يدى ولدى ...
عمار بهدوء : سأخبرك يا أمى
لقد جاء إلى المستشفى منذ
أسبوع رجل انتهى وعلى مشارف
الموت مصاب ونزف بشده
وموته أصبح محتم بلا شك ...
ليس لديه أى أقارب ...
فأخذت موافقه بالحصول على
عينيه ووجهه ..
تتراجع ساره في صدمه قويه
وهى تقول : ما الذى فعلته ...!!
تعطى أبوك وجه رجل غريب ..
عمار بهدوء : هذا أفضل من
حالة التشوه الذى كان يعيش
فيه ...
نادر يقاطع الحديث : أنا متفق
مع عمار فى القول ..
حتى الرجل الذى حصلنا على
ملامحه ليس سىء ...
وتقريبًا نفس المرحله العمريه
لأبى ...
وينتهى عمار من نزع الغطاء ...
ومعه تتراجع ساره ونادر يكمل
مفاجأة أليس كذلك ...
إنه للأسف وجه اخطر مجرم
سمعت عنه ...
تصورنا لسنوات بأنه قد مات
قبل أن يعود ويظهر فجأة
للحياة ...
وبعد مطارده أخيره تم
تصيفته ...
وتصرخ ساره ...
تصرخ بقوه ...
ومحمود يهتف بسعاده :
أننى أرى ...
أركم جميعًا ...
أما ساره فلم تسمعه ...
كانت ما تزال تصرخ فى جنون
تصرخ بشكل هيستري
بث الرعب والذعر في قلوبهم ...
وهم يحاولون تهدئتها دون
أن يعرفوا السبب ...
لا يدركون أن ذلك الوجه الذى
استعان عمار به بديلاً لوجه
أبيه ...
هو وجه لم تنساه ...
وجه أصبح الآن يحمله
زوجها ..
بل وعيناه أيضًا ....
ينظر لها نظره لم تنساها يومًا ...
نظره مخيفه ...
لقد كان هذا الوجه آخر ما تتوقع
رؤيته مرة أخرى ...
وجه عبد الرحمن .....
على جسم زوجها محمود ..
تمت بحمد الله
انتهت احداث الرواية نتمني ان تكون نالت اعجابكم وبانتظار ارائكم في التعليقات وشكرا لزيارتكم عالم روايات سكيرهوم
للمزيد من الروايات الحصرية زورو قناتنا علي التليجرام من هنا