رواية قلب السلطة الفصل الاول بقلم مروة البطراوي
تكرار لحظة مخيفة، كأنها لعنة أبدية تُعيد نفسها بلا رحمة. وتكرار لحظة مدمرة، أشبه ببئر مظلم مليء باللعنات، لا نهاية له ولا مهرب منه.
كان رائد يقف أمام الباب، لا يدري إن كان يعود لمنزل عمه، أم ينبش قبرًا منسيًّا. الهواء يحمل رائحة العطن والذكريات المتحللة. مدّ يده إلى المفتاح، لكنه توقف للحظة، كأن شيئًا داخله يصرخ ألّا يفعل. ثم، بحركة بطيئة، دار المفتاح في القفل، وأصدر الباب أنينًا متعبًا وهو يُفتح.
من الداخل، كان المنزل غارقًا في ظلال رمادية، كما لو أن الزمن قد تجمد داخله. لم يتغير شيء، إلا أن كل شيء بدا أقدم، أكثر هشاشة، أقرب إلى التحلل. في ركن الغرفة، كان نوح الذهبي يجلس كتمثال مهترئ، رأسه مائل، عيونه غارقة في العتمة.
رفع الرجل العجوز رأسه قليلاً، صوته خرج مبحوحًا، وكأنه لم يتحدث منذ زمن:
"مين؟"
جاءه الصوت من الظلام، هادئًا، لكنه بارد، كما لو كان ينبعث من ماضٍ بعيد:
"أنا."
تحرك ظل وسط العتمة، قبل أن يكشف القادم عن وجهه، خالعًا شماغه ببطء.
"إنت مين؟!"
لمعت الأباجورة بضوء أصفر شاحب، فظهرت الملامح بوضوح. للحظة، ظلت عينا نوح متسعتين، قبل أن يتمتم بصوت متهدج:
"رائد؟"
ابتسامة خفيفة لامست طرف شفتي القادم، لكن عينيه ظلتا جامدتين:
"أيوه، يا عمي. أنا رائد. كويس والله إنك لسا فاكرني."
ارتعشت يد نوح وهو يكفكف دمعة سالت دون أن يشعر بها، كمن فوجئ بأنه لا يزال قادرًا على البكاء:
"فاكرك يا بني؟ ده انتَ دمك من دمي… بس اتأخرت. اتأخرت أوي. كنت مستنيك."
لم يتحرك رائد نحوه. فقط أدار عينيه في المكان، كأنه يتفحص آثار جريمة قديمة. ثم اقترب أخيرًا، ببرود، ونطق بصوت خالٍ من أي انفعال:
"دريت، دريت يا عمي. البقاء لله."
سكنت الغرفة لحظة، لم يُسمع فيها سوى صوت أنفاس نوح المتعبة. رفع رأسه ببطء، وكأنه يريد أن يقول شيئًا، لكن الكلمات ضاعت منه وسط دوامات الذاكرة. كانت عيناه تبحثان عن شيء في ملامح رائد، شيء لم تجده.
أما رائد، فكان واقفًا هناك، كالغريب الذي عاد بعد سنوات، ليكتشف أن لا شيء في المكان يخصه، ولا حتى الدم الذي يجري في عروقه.
---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
كان الليل كثيفًا، كأن السماء حبست أنفاسها فوق هذا الخان المنسي، حيث تسكن الأرواح المثقلة بالأسرار. الضوء الشاحب لمصباح الزيت في ركن الغرفة يلقي بظلال متراقصة على الجدران، وكأنها أشباح تراقب المشهد في صمت.
جلس "رائد الذهبي" متكئًا على الأريكة العتيقة، ساقًا فوق ساق، وعيناه تنغرسان في الرجل الجالس أمامه، رجل بدا وكأنه خرج من تحت أنقاض حرب خاسرة. كانت يداه ترتجفان فوق ركبتيه، وعيناه غارقتين في بئر من الندم والخوف.
قال الرجل بصوت مبحوح، وهو يبلع ريقه بصعوبة:
"أنا غلطت، بس والله ما كان قصدي الأذية، يا رائد."
ابتسم "رائد" ببطء، كأن كلماته لم تصل إلى قلبه، بل مرت فوقه كما تمر الريح فوق صخور الصحراء. ثم قال، بصوت هادئ كهدوء ما قبل العاصفة:
"الغلط ليه تمن، وانت أكتر واحد عارف التمن، مش كده؟"
ازدرد الرجل ريقه مرة أخرى، ونظر إلى الباب كأنما يتأكد أنه لا يزال مفتوحًا، أنه لا يزال يملك فرصة للهرب. لكن رائد، وكأنه قرأ أفكاره، استند للأمام، وغمغم بنبرة خافتة لكنها مشحونة بالخطر:
"مفيش مَفَر، ولا فايدة من الندم دلوقت."
ارتعشت أنفاس الرجل، وحاول الدفاع عن نفسه:
"كنت مضطر! كانوا هيقتلوني لو ما عملتش اللي قالوا عليه."
قهقه "رائد" ضحكة قصيرة، لكنها باردة كحد السكين، ثم هتف بسخرية:
"يا سلام! خايف على روحك وما خفتش على اللي بعته لله؟"
ثم مال للأمام أكثر، حتى أصبح وجهه أقرب ما يكون لوجه الرجل، وهمس بنبرة أشبه بالسم الزعاف:
"احكي لي، إيه الإحساس لما تبص في عيون حد عارف إنك سلمته للموت؟ كان إيه آخر كلمة قالها؟"
اختنق الرجل بعبرته، لم يستطع الرد، لكن جسده كله بات يروي الحكاية، يرتعش، يتلوى، كأن الألم يأكله حيًا.
نهض "رائد" ببطء، خطا نحوه، ثم جلس القرفصاء أمامه، ناظرًا لعينيه مباشرة، وقال بصوت خفيض لكنه كالسيف القاطع:
"أنا مش جاي أسمع أعذار، أنا جاي أقرر... هتموت إزاي."
ساد الصمت للحظات، ثم انطفأ المصباح فجأة، ولم يبقَ سوى صوت الريح تعوي خلف النوافذ، وصوت شهقة اختنقت في منتصفها...
******************************
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
الليل كان خفيف الخطوات، يسير على أطرافه في الخان الكبير، حيث لا صوت إلا أنين الريح بين الأبواب الخشبية العتيقة. كان "رائد الذهبي" واقفًا عند النافذة، يراقب الظلام كأنه يبحث عن شيء فيه. خلفه كان "العم صابر" جالسًا، ظهره محني، ووجهه كأن الزمن قرر أن يحفر فيه أخاديد لا تُمحى.
قال العم بصوت مبحوح، كمن فقد كل شيء:
"ما كنتش عارف إنك هتطلع زي أبوك، قوي للدرجة دي."
لم يلتفت "رائد"، ظل محدقًا في الخارج، كأنه غير معنيٍّ بالكلمات، ثم قال ببرود:
"الدم ما يبقاش ميّه، يا عمي."
تنهد العم بعمق، ثم غمغم بصوت بالكاد يُسمع:
"أبوك كان راجل صالح، ما كانش يغدر، ولا يغلط حتى في عدوه."
التفت "رائد" أخيرًا، عينيه حادتان، وصوته خرج كالسيف المسلول:
"وأنا مش أبويا، عارف ده كويس."
ارتعش العم قليلًا، وأطرق برأسه كمن أدرك أن النهاية اقتربت، لكنه قال بشيء من التوسل:
"أنا ما كانش ليَّ يد في اللي حصل، الزمن كان أقوى مننا كلنا، والناس كانت مستنيّة اللحظة اللي تقع فيها عيلة الذهبي."
ضحك "رائد" ضحكة خافتة، ثم اقترب منه بخطوات ثقيلة، جلس قبالته، وقال بلهجة خالية من أي مشاعر:
"مش الزمن اللي قتل أبوي، ولا اللي بوّظ الدنيا. البشر، الخيانة، الطمع... ده اللي عمل كل ده."
حاول العم النهوض، لكن رائد وضع يده على كتفه بثقل جعل الرجل يجلس مجددًا، ثم أخرج من جيب معطفه ظرفًا قديمًا، ورماه أمامه. تسمرت عينا العم عليه، ثم رفع بصره إلى رائد، مستفسرًا بصمت.
قال "رائد" بجمود:
"افتحه."
بأصابع مرتجفة، التقط العم الظرف، فتحه ببطء، وسحب الأوراق داخله. ما إن قرأ الأسطر الأولى، حتى شهق شهقة مكتومة، وارتعشت يداه حتى كاد يسقط الورق من بين أصابعه.
نظر إلى "رائد" بعيون متوسلة، وقال بصوت متهدج:
"إنت... إنت جبت الورق ده منين؟!"
ابتسم "رائد"، لكن ابتسامته كانت بلا دفء، بلا رحمة، ثم قال بصوت خافت لكنه نافذ:
"مش مهم منين، المهم إن كل كلمة فيه حقيقية. اعترف، يا عمي... مين اللي خان الأول؟"
ساد الصمت للحظات، لم يُسمع فيها سوى لهاث العم، بينما انحنى "رائد" للأمام أكثر، منتظرًا الإجابة التي يعلمها مسبقًا.
**********************
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
كان الليل كثيفًا فوق الخان، يُلقي بظلاله القاتمة على الأبواب العتيقة والجدران التي شهدت حكايات لا تُحصى من الغدر والخيانة. في إحدى الغرف، حيث الضوء الشاحب للمصباح يترنح مع نسمات الهواء البارد، جلس "رائد الذهبي" على مقعد جلدي قديم، ساقًا فوق ساق، يُدخن سيجارًا كمن يمتلك زمام اللحظة كاملة.
أمامه، جلس "العم صابر"، رجل طاعن في السن، ظهره محني كأنما يحمل جبالًا من الذنوب فوق كتفيه. كانت يداه متشابكتين فوق ركبتيه، يعبث بإبهامه في توتر، بينما عينه تراقب "رائد" بحذر، كأنهما تتحسسان الخطر الذي يحيط به كطوق محكم الإغلاق.
تحدث "رائد" أخيرًا، بصوت هادئ لكنه نافذ:
"كنت متأكد إنك مش هتقدر تبص في عيني، يا عمي."
لم يرد "صابر"، بل ابتلع ريقه بصعوبة، ثم غمغم بصوت بالكاد يُسمع:
"الزمن علّمنا نبص لقدام، يا بني... الماضي خلاص راح."
ضحك "رائد" ضحكة قصيرة، ثم مال للأمام، مسندًا مرفقه على ركبته، وقال بنبرة باردة:
"الماضي ما بيروحش، يا عمي... الماضي بيقعد جنبنا، بينام في سريرنا، بيصحى معانا، وبيدفعنا للّي إحنا فيه دلوقتي."
ثم أطفأ سيجاره ببطء على حافة المنفضة، وسحب من جيبه ورقة مطوية، فتحها أمام عمه، ورماها أمامه على الطاولة. كانت الورقة تحمل توقيعًا مألوفًا، توقيعًا يعرفه "صابر" جيدًا.
حدّق فيها الرجل بعينين متسعتين، ارتعشت أصابعه وهو يلتقطها، وقبل أن ينطق بأي كلمة، قال "رائد" بصوت رخيم لكنه قاسٍ:
"كل حاجة بثمنها... حتى الخيانة."
شهق "صابر"، عينه تتحرك بين توقيعه القديم وكلمات الاتفاق المكتوبة بوضوح، قبل أن يتمتم بصوت مخنوق:
"إنت... إنت ازاي وصلت للورقة دي؟!"
أمال "رائد" رأسه قليلًا، كأنه يستمتع بصدمة الرجل، ثم قال ببرود:
"خلينا نقول إن الدنيا دايرة، اللي بيتدفن بيصحى، واللي بيهرب بيتجاب، واللي خان... بيتحاسب."
ارتجف جسد "صابر"، ورفع عينه لرائد، يحاول استجداء رحمة لم يكن يعرفها الأخير، ثم قال بصوت يائس:
"إنت ناوي تعمل إيه؟"
ابتسم "رائد"، تلك الابتسامة التي تحمل ألف معنى، ثم قال بهدوء مرعب:
"أنا مش ناوي... أنا خلاص عملت."
وفي الخارج، على مشارف الخان، كان الدخان يتصاعد في السماء، يُعلن عن شيء قد انتهى... أو ربما شيء قد بدأ.
*******************
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى
كان الهواء في الغرفة خانقًا، مشبعًا برائحة الخشب العتيق والرطوبة التي تسربت إلى الجدران بمرور السنين. وقف "رائد الذهبي" أمام الطاولة، عيناه كجمرتين تتوهجان في الظلام، بينما جلس "العم صابر" على المقعد المقابل، يراقبه بنظرة مشوبة بالخوف والندم.
قال "رائد" بنبرة هادئة، لكنها تحمل تحتها طوفانًا من الغضب المكتوم:
"إحنا النهارده بنكتب الفصل الأخير، يا عمي."
حاول "صابر" أن يتماسك، لكنه شعر بأن الأرض تهتز تحت قدميه، فتمتم بصوت مرتجف:
"أنا غلطت... لكن إنت كمان غلطت، يا رائد، وأنا وإنت عارفين إن الدوامة دي عمرها ما بتقف عند حد!"
ضحك "رائد" ضحكة جافة، ثم قال ببرود:
"يمكن... بس النهارده، أنا اللي في إيدي القلم."
أخرج من جيب معطفه مسدسًا، وضعه فوق الطاولة برفق، ثم سحب من جيب آخر مجموعة أوراق، بسطها أمام عمه وقال بنبرة آمرة:
"وقّع."
نظر "صابر" إلى الأوراق، ثم إلى المسدس، ثم إلى عيني "رائد"، وكأنه يبحث عن ثغرة، عن أي مخرج. لكنه لم يجد. لم يبقَ له إلا أن يواجه مصيره كما فعل غيره.
مد يده المرتجفة إلى القلم، وقبل أن يلمسه، قال بصوت منكسر:
"كنت بحبك زي ابني، يا رائد..."
لكن "رائد" لم يرمش حتى، بل رد بجفاء:
"وأنا عمري ما كنت ابنك."
وفي اللحظة التي لامس فيها القلم الورق، انطفأ شيء في عيني "صابر"، كأنما أدرك أخيرًا أن لا طريق للعودة، وأن كل ما بناه سُرق منه... كما سرق هو من قبل.
***********************
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
كانت خطوات "ليلى" على الأرضية الرخامية تصدر صدى حادًا في الممر الطويل، وكأنها تعكس التوتر الذي يغلي في صدرها. دخلت المنزل بوجه مكفهر، أغلقت الباب خلفها بقوة جعلت "نيفين"، التي كانت تجلس على الأريكة تتصفح هاتفها، ترفع رأسها بفزع.
"إيه يا ليلى؟ داخلة تولّعي البيت ليه؟!" قالت الأم بنبرة مستنكرة، وهي تضع هاتفها جانبًا.
ألقت "ليلى" حقيبتها على الطاولة، وخلعت وشاحها بعصبية قبل أن تقول بصوت غاضب:
"ما هو البيت هيتولع فعلًا لو فضلت ساكتة! أنا تعبت، يا ماما... تعبت بجد!"
اعتدلت "نيفين" في جلستها، تشبثت بكلمات ابنتها التي كانت تحمل نذر العاصفة، وسألت بقلق:
"إيه اللي حصل؟!"
رفعت "ليلى" يديها بعصبية ثم أنزلتهما على جانبيها وقالت بصوت يقطر ضيقًا:
"مدير المدرسة، يا ماما! الراجل ده فاكرني شغالة عنده مش مدرسة محترمة! من أول ما اشتغلت هناك وأنا موضحة إني مش بطلع رحلات مع العيال المدلعة بتوعهم، وهو وافق... فجأة النهارده، جاي يفرض عليّا أروح رحلة غصب عني! ولما رفضت، قال لي لو مش عاجبني أمشي!"
زفرت "نيفين" بضيق، وهزت رأسها:
"هو كان ناقصك وجع دماغ، يا بنتي؟ طب وإنتي عملتي إيه؟"
تراجعت "ليلى" للخلف، وأسندت نفسها على الطاولة بذراعيها المتشابكتين، ثم قالت بحدة:
"سلمت له استقالتي في لحظتها!"
اتسعت عينا "نيفين" بصدمة:
"إيه؟! إنتي اتجننتي؟!"
أشاحت "ليلى" بيدها وقالت:
"مش هستحمل حد يتحكم فيَّا! أنا محترمة نفسي وشغلي، مش هقعد في مكان يعاملني كأني ملكية خاصة!"
وضعت "نيفين" يدها على جبينها كأنها تحاول استيعاب الكارثة، قبل أن تهمس بحنق:
"يا بنتي، وإنتي فاكرة الدنيا سهلة؟ هتلاقي شغل بسهولة كده؟!"
لم تكد "ليلى" ترد حتى انفتح باب الغرفة المجاورة، وظهر "مهاب"، شقيقها الأصغر، وهو ينظر إليهما بوجه متجهم، وقال بحدة:
"هو إحنا خلصنا من مصيبة وفائي، ندخل في مصيبة ليلى؟!"
تصلبت ملامح "ليلى"، ثم نظرت إلى والدتها بحدة وسألت:
"وفائي؟ مال وفائي؟!"
زفرت "نيفين" بضيق، كأنها كانت تحاول تأجيل الحديث عن هذا، ثم قالت بنبرة متثاقلة:
"وفائي اتقبض عليه، يا ليلى!"
تراجعت "ليلى" خطوة للوراء، وكأنها تلقت ضربة غير متوقعة، وسألت بذهول:
"إيه؟! ليه؟!"
نظر "مهاب" إلى أخته نظرة تحمل مزيجًا من الغضب والشفقة، ثم قال بسخرية مريرة:
"لأنه ابن خالتك شكران، ولازم حد في العيلة يورّطنا في مصيبة كل شوية!"
********************
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
عاد "رائد" إلى منزله في العاشر من رمضان، لكن هذه المرة، لم يكن الانتصار الذي حمله معه كافيًا ليمنحه الراحة. كان في داخله شيء لا يهدأ، كأن هناك حربًا لم تنتهِ بعد، رغم أنه استرد كل ما كان يريده من عمه.
دخل المنزل متثاقل الخطوات، ألقى سترته على الأريكة بإهمال، واتجه مباشرة إلى المطبخ حيث كانت "يقين" تقف تعد كوبًا من القهوة، التفتت إليه فور أن شعرت بوجوده، وحدقت فيه قليلًا قبل أن تقول بنبرة هادئة:
"ما كنتش متوقع ترجع بالسرعة دي."
جلس على الكرسي وسحب نفسًا عميقًا قبل أن يجيب بصوت خافت:
"خلصت اللي كان لازم يتعمل."
وضعت فنجان القهوة أمامه، ثم جلست مقابلة له وهي تتفحص ملامحه المتوترة.
"مش شايفة في ملامحك راحة اللي خلص كل حاجة... إيه اللي مضايقك، يا رائد؟"
مرر كفه فوق وجهه في إرهاق، ثم قال بعد صمت قصير:
"فيه حاجة غلط، يقين... كل حاجة تمت زي ما خططت، بس حاسس إن الموضوع مش مقفول."
قطبت يقين حاجبيها، وقالت بحذر:
"تقصد عمك؟"
هز رأسه ببطء، ثم قال بصوت خافت لكنه حازم:
"لا، عمّي انتهى خلاص. لكن في حد تاني دخل اللعبة... حد كان مترصد لي طول الوقت."
شعرت يقين بقشعريرة تسري في جسدها، فسألته بقلق:
"مين؟"
رفع رائد عينيه إليها، وعيناه تلمعان بالغموض:
"نيرفانا."
كاد الفنجان يسقط من يد "يقين"، فتداركته بسرعة قبل أن تسأله بدهشة:
"بنتك؟! مالها نيرفانا؟"
أسند رائد مرفقيه على الطاولة، وشبّك أصابعه معًا، ثم قال ببطء:
"من ساعة ما سافرت لعمي، وهي اختفت من المدرسة. محدش عارف هي فين، ولا حتى المدرّسين. الأم خدت البنت وراحت على بلدها، وده معناه حاجة واحدة بس..."
أحست يقين بثقل كلماته قبل أن ينطق بها، فأكملت عنه بقلق:
"إنهم كانوا عارفين إنك مشغول في حربك مع عمك، واستغلوا الفرصة!"
ابتسم رائد ابتسامة خفيفة، لكنها كانت مزيجًا من السخرية والغضب:
"بالظبط... لكنهم نسيوا إن الحرب ما بتخلصش إلا لما أنا أقول إنها خلصت!"
وقفت يقين مكانها، تنظر إلى شقيقها الذي بدأت تتغير ملامحه تدريجيًا... لم يعد ذلك الرجل العائد بانتصار، بل صار وحشًا يستعد لمعركة جديدة، وربما أكثر خطورة من كل ما سبق.