رواية لاجلها الفصل العاشر
خسرت الكثير والكثير، فلم يتبقى لها سوى شيء واحد، أقسمت بعمرها ألا تخسره، وهي على استعداد تام للتضحية في سبيله بكل شيء وفعل كل شيء..... من أجلها.
اتى الصباح
اصبح منزلها ساحة لقدوم الجميع، من رجال ونساء تعرفهم ويعرفونها، بعد أن انتشر الخبر كالنار في الهشيم، منهم من يربت عليها هي وابنتها لمروهم بهذا الموقف الجلل ويدعمها ومنهم من يرمي اللوم بكلمات مؤنبة على استيحاء لتركها زوجها بعد تلك السنوات والسكن هنا دون رجل يحميها هي وابنتها.
اما هو فقد وصله الخبر من بكرة الصباح وفور أن استيقظ من نومه، بعد أن اخبره وصفي عبر الهاتف،
ليركض إلى منزلها دون تفكير، وبرغم ذلك لعن نفسه فقد تأخر حسبما كان يرى امامه، وحشود من أفراد عائلتها والمعارف كانت قد سبقته، ليأخذ محله بين الرجال كالغريب حينما اطل عليها بنظرة خاطفة عليها وابنتها ثم خرج سريعًا
وعجز يقتله عن فعل ما يريده في طمأنتها وبث الأمان اليها، مكبل كالأسد الحببس في قفصه، يغطي نفسه بقشرة الاتزان حتى لا ينفجر ويزيد من صعوبة الأمر عليها، يود أن يصرخ بها، يود أن يطرد الجميع من المنزل ولا يظل الا غيره، كي يستفسر جيدا عما حدث، ألا يتركها تغفل عن تفصيلة واحدة ربما تساهم في العثور على هذا المتعوس الذي اعماه بصره ودعت عليه والدته في ليلة غبراء حتى يقع في طريقه، لن يرحمه، يقسم ان يذيقه من أصناف العذاب الوان، ذلك الذي روعها هي وابنتها واستغل وحدتهما، حتى وان اظهرت هي شجاعة تنقص كثيرا من الرجال.
اللعنة على الاعراف وعلى التقاليد وكل شيء يمنعه عنها مؤازتها في تلك اللحظات الصعبة،
هي في الداخل مع النساء، وهو مكبل خارج المنزل على تلك المصطبة الغبية التي يتشاور في مجلسها الرجال عن هذا مع شقيقها وصفي.
يلقون باللوم على المسكين وكأنه هو من أذنب ورمى شقيقته وابنتها، وكأنهم خلقوا وحدهم ليفعلوا ما يشاؤون، حمد الله حينما أتى رجل الشرطة الذي اتصل به، لينصرف معظمهم، ولم يبقى سوى اقرب الأقرباء في حضور التحقيق الذى اجراه رجل الأمن سريعا حول هذا المتعوس الذي هرب تاركًا أثرا ما أجمله، نقط الدماء التي سالت منه نظرا بعدما إصابته بالسلاح الناري، ذلك الشيء الوحيد الذي يرطب على قلبه الآن.
أنهى الرجل تحقيقه برفع عينات يأخذها معه، من اجل تحليلها ومعرفة صاحبها ربما بعد ذلك، غادر البقية من الرجال ولم يتبقى سوى هو وشقيقها وصفي وعائلته، والذي بادرها بحديثه معاتبا فور خروجهم:
- عاجبك كدة يا بت ابوي، الناس كلها جايبة اللوم عليا عشان سايبكم وراميكم انتي وبتك، ما انا راجل ني ومش حر زي باقي الرجال.
- وه يا وصفي انت هتبع حكاوي الناس اللي لا هتودي ولا تجيب، دول يموتو لو مجابوش اللوم علينا ويركبونا احنا الذنب على اساس انهم الملايكة، ما حد يحس بوجيعتك غيرك، واحنا ولله الحمد ميهمناش حد منهم.
تبسم ردا على قولها بمزاح مرددًا نحو ابنتها التي لم تغادر حضنه بعد ذهاب الجميع:
- واخدة بالك يا بت، انا معدتش هاممها حد بعد ما خيبت الراجل بطلجة من ورا الباب، خلته حتى هروب مش عارف مسكون، نفسي اعرف جالها قلب ازاي، دا انا الراجل كنت خيبت مكاني.
ضحكت ليلى وتبسمت مزيونة ليعلق هو بعد صمت:
- مين علمك النشان ولا مسكك البندجية؟ عشان تعرفي تصيبي هدفك صح؟
بنظرة هاربة كالعادة لا تروي ظمأه ابدا تحدثت تجيبه موزعة ابصارها على الجميع لا على من توجه بالسؤال فقط:
- الزمن هو اللي علمني، دي بندجية ابويا وانا عارفة استخدامها زين، وعاملة حسابي عليها عشان احمي نفسي انا وبتي، طول عمري اسمع من ابوي أن اللي داخل على بيتك هاجم بيبقى يا قاتل يا مقتول، وانا كان لازم اتصرف ساعتها، المواجهة مع واحد زي ده معناها الخسارة ليا حتى لو في يدي السلاح، قيست باحساسي المسافة اللي بيني وبينه من ورا الباب، حددت المكان اللي واقف فيه، ونشت على اخر جزء من الباب الحديد، وسبحان الله بعد ما طلعت صرخته اتأكدت اني اصبت هدفي، جومت أكد اكتر بكذا طلجة بعدها عشان يوصلني صراخه المكتوم وهرجلته ف الهرب من ضرب النار
حتى وهو قلبه يرتجف رعبا كلما تخيل المشهد، إلا انه لا يملك ألا أن يفتخر بها، مزيونة البهية الشجاعة على قدر إعجابه بفعلها على قدر غضبه ممن تجرأ وفعل، هذا الدنيء، هو ليس بالغبي حتى يصدق ان الغرض من حادثة الأمس هو السرقة وفقط كما تدعي هي امام البشر حتى لا تعطي فرصة للتأويلات المضللة، لكن لا والله لن يكون حمزة أن لم يعثر على هذا الفاسد وبعدها يأتي العقاب .
استفاق من شروده بعد ان وصل لأسماعه صوت صهيل الحصان ليغمض عينيه بتعب متوقعًا هبوب العاصفة، مع شعوره بنزول الاخر من حصانه، ليلج داخل المنزل المفتوح بابه وبدون استئذان هتف بذعر لاهثا:
- ايه الاخبار دي اللي سمعتها؟ مين اللي اتجرأ وهجم على البيت، حد قرب منك يا ليلى؟
اللعنة لقد فعلها
غمغم بها حمزة داخله قبل أن يندفع إليه هامسًا بحنق شديد:
- امسك نفسك يا زفت، وكفاية بداية السؤال، كان لزومها ايه الاخيرة؟
هم ان يتحدث ولكن سبقته مويونة، والتي وضح جليا انها فهمت ما يدور امامها، ولما التخمين ولا والتفكير من الأساس والأخر تفضحه نظراته نحو طفلتها التي اعتدلت هي الأخرى عن حضن خالها في حضوره:
-ليلى وامها زانين يا بشمهندس، متجلجش انت؟ حتة حرامي حب يجرب حظه، لكن خد على عينه وراح لحال سبيله
واصل معاذ باندفاعه:
- ازاي يعني يا خالتي مزيونة؟ انا لازم اشوف الواد بنفسه وادبه على عملته، والله تكسير عضامه حتى ما هيكفيني ولا يشفي غليلي.
- ما جالتلك يا عم الشيخ راح لحال سبيله، هو بس يعالج نفسه دلوك قبل ما رجله تغور، وبعدها بس نشوفه ونكسره براحتنا.
أضاف بها وصفي بحدة وصلت الى حمزة الذي سحبه من ذراعه يحذره كازا على اسنانه:
- امسك نفسك شوية عن كدة ياض، بقيت مفضوح جدامهم يا جزين، ودا مش وجته.
- امال وقته امتى لما حد يخطفها هي ولا امها....
سمعها منه حمزة حتى كاد أن ينفعل عليه امامهم، ليتماسك في الاخير ويسحبه بعض اللطف والكثير من العنف:
- طب يا جماعة عن اذنكم معلش وهنبقى نيجي وقت تاني.
استجاب لسحبه معاذ ولم يعارضه، حتى إذا خرجا الاثنان وابتعدا بمسافة آمنة عن المنزل، توقف قائلا باعتراض:
- ما هو شوف بجى، انا مش هستني اكتر من كدة، وليلى لازم تبجى في بيتي في أقرب وجت، هأمن عليها ازاي انا تنام ولا تحط رأسها على المخدة في البيت ده، مش يمكن ألحرامي يجي تاني ولا يشجع غيره على الاقل يعمل زيه.
بغضب متعاظم قبض حمزة على ياقتي قميصه يعلق على قوله بتهديد ووعيد:
- محدش هيقدر يعملها تاني ولا ياخد الفرصة اصلا .
تركه فجأة موزعا ابصاره على الانحاء من حولهم، قبل ان يعود اليه مؤكدًا:
- زي ما بجولك كدة محدش هيقدر يجرب تاني، ومتنساش انك مخدتش حتى موافقة امك عشان نفضى لمعركة مزيونة
.....................
دلفت بحقدها إليه داخل الغرفة بعد ان وصلت اليها الاخبار المتداولة داخل البلدة الصغيرة، وقد كان نائما في هذا الوقت ولم يستقيظ بعد للذهاب إلى عمله، لتهتف به توقظه بنبرة تملؤها الشماتة:
- جوم يا جوزي، جوم يا راجلي شوف اللي بيحصل واللي كان هيحصل، استرها علينا يارب، استرها علينا
رفع رأسه مجفلا بتجهم لحديثها السام:
- مالك يا بوز الاخص؟ بتولولوي بحنكك الزفر حد مات ولا جاته نصيبة تاخدك وتاخده؟
تبسمت ساخرة بغيظ منه تخبره بمكرها:
- لا اخويا اطمن بعد الشر عليا، النصيبة جاتلك من ناحية تانية، البلد كلها النهاردة مقلوبة على بتك ولا مرتك ولا الحرامي اللي فط على لبيتهم ، استرها يا معنا يارب.....
- يا بت ال.......
صاح بالاخيرة ينتقض من محله ليقبض بكفه على قماش عبائتها في الإمام يسحبها إليه مرددا بنبرة مرعبة:
- بتخبرطي بتقولي ايه يا بت الفرطوس؟ الكلام تطير في رجاب
نفضت ذراعه عنها تجرأر بها:
- يا خويا وانا مالي، عايز تلبسني نصيبة والسلام، الكلام داير في البلد الفقرية دي ووصلني، طلق النار كان هيزغرد زغريد من بيت المحروسة، ولما الناس فرت عليها تشوف في ايه؟ قالتلهم دا حرامي وفر من الحيطة اللي نزل عليها ، وقال ايه ضربت عليه وصاله السلاح، والناس يا اخوي تجري وتدور على الحرامي اللي بتقول عليه ، كانه فص ملح وداب، الله اعلم بجى صح ولا حاجة.
- يعني هيكون ايه؟ غوري
نفضها عنه بقوة لتسقط ارضا تتوجع صارخة:
- اااه كل دا عشان مش متحمل عليها، هو انا كنت مألفاه؟ مش بردد الكلام الداير في البلد ، اطلع برا واسمع بنفسك
جأر بها يرتدي جلبابه الواسع ثم خف القدم متحركا كان للمغادرة:
- هطلع وهشوف، مش هتكل ولا اخد على كلامك، عشان عارفك وعارف قلبك الزفت زي وشك.
............................
وداخل منزل حماد القناوي
وصلت ايضا الأقاويل والتأويلات، حيث كل فرد يحكي القصة من منظروه او حسب أهدافه كما كانت هالة تحكي الأن:
- الكلام معبي البلد ولا ترند السوشيال ميديا حتى، ناس مستغربة وناس مش مصدقة اصلا
اعترضت حسنية بعد سماع الأخيرة بتساؤل:
- كيف يعني مش مصدقين؟ هي البنية كانت بتضرب نشان ف الهوا ولا هتألف حكاية من مخها؟ ولا هي الناس دي عايز تزود في الحكيوة وخلاص.
باضطراب ملحوظ بررت تسوق القصة نحو الجهة التي تريدها:
- يا مرة عمي الناس لازم هتظن بأكتر من كدة طول ما شافوش الراجل اللي قالت عليه، واحدة جاعدة لوحدها هي وبنتها في بيت لوحدهم، وراهم الجسر وقدامهم الزرع، ايه اللي يجبرهم .
- يجبرهم الهم يا هالة
هتفت بها منى في رد على كلماتها، وقد حضرت قادمة من الخارج بالصدفة لتسمع حديثها فتضيف بغيظ مكتوم:
- البنية وبنتها كافين خيرهم شرهم والموضوع في الأصل كان حرامي حاول يدخل البيت ومزيونة طلعت راجل من ضهر راجل وضربت عليه لحد ما صابته ودمه ع الحيط يشهد، الناس اللي بتقولي عليها دي، بتزود على ايه بالظبط؟ هي عيبة لما الواحدة تبقى شديدة في الحق وقادرة تدافع؟ ولا هما مغلولين منها أكمنها حلوة زيادة هي وبتها ، ومستكترين ان ربنا يجمع العقل مع الجمال.....
انتفضت هالة من محلها تقابلها ف وقفتها وكأنها وجهت السبة لها، فهي ليست بالغبية حتى تغفل عن مقصدها؛
- قصدك أن اللي بألف وغايرة منها يا منى؟ ليه؟ ناقصة حلاوة أن شاءالله ولا يمكن احسن مني
سمعت الأخيرة لتجلس على الاريكة بجوار والدتها تنفي ببرائة:
- انا بجول على الناس العفشة يا هالة انتي بتحسبي نفسك ليه منيهم؟
همت المذكورة أن تصرخ بها وتكذبها، ولكن حسنية سبقت لتقطع عليها:
- خلاص يا هالة اجعدي بقى، انتي كل كلمة تحسبيها عليكي، اجعدي يا بنتي خلينا نسمع منها، اكيد عارفة حاجة عن الموضوع ده
- عارفة الموضوع كله يا أمة.
قالتها منى لتضع ساقا فوق ساق تستطرد عن ثقة حتى تفحمها:
- اخويا حمزة من الصبح كلم واحد من معارفه، والحكومة جات وعملت الواجب، ولسة هيدورو على ابن الحرام اللي امه داعية عليه، عرفتي بقى ان الحديت صح يا هالة، احكي لحبايبك بقى اللي بيزودو في الكلام، وصييهم يزود في الكلام عشان يجطعها عليهم ربنا ميا ونور ان شاء الله
..........................
لم يغادر كما امره شقيقه، بل انتظر متخذ حجته بسقي الحصان وربطه بجوار المجرى المائي كي يتناول طعامه من حشائش الأرض، ثم تخفى هو منتظرا حتى خرجت من الباب الخلفي لمنزلها في موعد ذهابها إلى درس مجموعة الانجليزي، فاستغل ليفاجأها بحضوره بقفزة مباغتة من فوق الشجرة لتجده امامها دون سابق انذار ، مما جعلها تشهق مرتدة بقدميها للخلف:
- يخربيييتك، انت بتطلعلي منين يا جدع انت؟
تبسم بمكر يدعي الأسف وهو يطالع جزعها:
- انا بعتذر لو خضيتك، اصل بصراحة مكنش ينفع امشي من غير ما اشوفك واطمن عليكي .
قطبت سائلة باضطراب تدعي الحدة:
- كيف يعني؟ ما تخلي بالك يا جدع انت من كلامك، في ايه؟
سارع يوضح حتى لا تأخذ كلماته على محمل خطأ:
- ليلى انا مجصدتش حاجة عفشة، انا فعلا كان نفسي اتكلم معاكي وش بوش كدة عشان اطمن واعرف منك عن اللي حصل امبارح، رغم كل اللي سمعته من اخوي، لكن برضو عايز اسمع منك .
لا تنكر انها تأثرت بنبرته ولكن لا يصح لها أن تلين معه:
- وتسمع ليه هي حكيوة وغنوة اغنيهالك، موقف وعدى زي كل المواقف اللي عدت بينا، وامي ربنا يخليهالي في كل مرة لازم تطلعني منها وانا رافعة راسي وفخورة بيها.
- ربنا يخليهالك، انا مطمن عليكي طول ما انتي معاها.
- مطمن عليا!
غمغمت بها قاطبة تزداد بحيرة يوما عن يوم، تتابع بتساؤالها:
- في ايه؟ إنت ليه مصطلحاتك غريبة؟ اسمع منك! اطمن عليكي! صفتك ايه عندي انت عشان تكلمني كدة.
ابتسامة اعتلت محياه يردد بخبث:
- جريب هيبقالي ان شاء الله متستعجليش.
ارتفع طرف شفتها باستهجان واستخفاف، وقد خمنت الان الى ما يرنو إليه:
- يا خفيف، دا انت واثق جوي من نفسك والله ، طب عن اذنك بجى اسيبك لاوهامك واروح لدروسي، جال استعجل جال!
همت ان تتخطاه وتغادر ولكنه منعها يتصدر امامها متجاهلا سخريتها، يقدم لها حنفة كبيرة من ثمار التين بكفه:
- ماشي يا ستي ما علينا، ممكن تاخدي دول نصيبك من شجرتكم اللي بطلعها واخد منها احلى تين.
شرعت بالرفض ولكن انتباهها لشيء ما جعلها تتراجع فاتحة كفيها الاثنان بابتسامة ممتنة تتناولهم منه، على قدر ما اسعدته، إلا أنها اثارت بداخله ارتيابًا لفعلها، حتى انكشف السر حينما هتفت بأحد ما من خلفه:
- حازم
سمع هو ليلتف برأسه للخلف نحو الجهة التي تنظر البها وهذا الفتى القريب المقارب إلى حد ما من عمرها الصغير يغير وجهته، بعد مغادرته المنزل من الباب الرئيسي ليقترف منهما بعد استماعه لندائها، ليأتي اليها ملبيًا:
- ليلى هانم بنفسها بتنده عليا، مين ده؟
كاد يجيب عن سؤاله بجلافة ولكنها سبقته بمكرها:
- دا البشهدنس معاذ اكيد شوفته جبل كدة، خد دوق التين ده، أصله احسن واحد يطلع الشجرة وينقي منها احلى تين، خد يا حازم خد.
تناول منها حازم فاردا كفيه يتلقاهم بترحاب، فيقرب احداهم من فمه يتذوقها بتلذذ قائلا له:
- حلوة جوي دي طازة ومستوية على اخرها
تبسمت بمليء فمها تخاطبه:
- ياللا بجى عشان تشكر بشمهندس معاذ، واسيبكم انا وامشي على درسي، عن اذنكم.
وهكذا تحركت ذاهبة من امامه، تاركته مزهولا امام هذه الفتى الذي تناول اخرى يردد بمرح:
- تسلم يدك يا بشمهندس، بصراحة مش عارف اشكرك ازاي؟ اسيبك انا كمان اتسلى فيهم براحتي في الطريق وانا مروح بيتنا.
تجمد معاذ يطالع ذهاب الفتى ثم ينقل بنظره نحو تلك الماكرة وقد تخطت نصف الطريق ليغمغم بغيظ وتوعد من خلفها:
- ماشي يا ليلى انا أن ما كنت اربيكي عليه المقلب ده، مبقاش انا معاذ .
........................ ....
وفي مكان آخر
حيث وجد هذا الشقي ملاذه الأمن عند احد الاصدقاء القدامى له، ليجد له حلا ويعالج إصابة القدم المؤلمة، فلم تتوقف عن النزيف حتى الأن رغم لفها بالعديد من الاربطة، والتي كان يرفعها الان المدعو جمعه حتى يقوم بتطهيرها:
- يخرب مطنك يا عطوة، دا الطلقه فاتت في القصبة وعدت منها.
تأوه المذكور بتوجع:
- ما انا عارف يا زفت إنها عدت منها وربنا ستر ، كنت هلاجي منين دلوك حد يطلعهالي؟ اخلص ياللا شوف هتعمل ايه يخفف عني الالم .
تحدث جمعه وهو يتابع عمله بخبرة اكتسبها عبر سنوات عمله في المشافي الحكومية كممرض :
- يا سيدي هخلصك بس انتي اهدى كدة واتحمل ولا اتسلى معايا واحكيلي، ايه اللي عمل فيك كدة وانت مبطل الشقاوة بجالك سنين؟ عملية كبيرة وتستاهل انك تغامر ولا ايه؟
اجابه عطوة وهو يجاهد للتحمل:
- هي فعلا كانت تستاهل مغامرة، بس مش فلوس يا وش الفقر، انا ربنا غناني اصلا من ساعة ورث ابوي بعد ما مات، لكن الحظ بقى، هو عملها وعاندني
- حظ ايه؟
اجاب سؤال صديقه وعيناه شردت إلى ما تحب:
- بطل يا واض، طول عمري شايفها وبتحسر على حظ اللي جاعدة في عصمته، ولما خلى الجو وجولت هانت لقيت اللي يتصدر زي جدامي كيف اللجمة في الزور،
ضحك المدعو جمعة ليعلق ردا له:
- ايوة بقى جول كدة، يعني الموضوع في تاء التأنيث، مصيبة كمان تكون هي اللي صابتك؟
نظر له بصمت ابلغ من الإجابة ليضيف جمعة ساخرا:
- وه يا فقري، يعني صابت قلبك ورجلك كمان، طب اتحمل بجى جزاة الشجاوة.
قال الأخيرة ليضغط بالمطهرات في تنظيف الجرح والأخر يتأوه بألم مضاعف، حتى إذا انتهى من المرحلة الصعبة، خفف عنه ليلتقط انفاسه، قبل أن يعاود بسؤاله:
- طب انا دلوك بعد ما اخلصك هينفع تروح البيت ولا......
- لا طبعا هبيت عندك.
قاطعه بها عطوة ليضيف بتحذير:
- انا اصلا جاي ع البلد هنا اختفي عندك لحد ما تخف، مينفعش حد يشوفني برجلي المتصابة، اكيد هتكشف ويعرفوني، دا انا ما صدقت اعرف اهرب بالمكنة قبل ما حد يشوفني ولا هي نفسها تعرفني، واهي فرصة عشان اعرف افكر زين في خطوتي الجاية.
اومأ جمعة يمط شفتاه بضجر لم يخفى على الآخر ليسارع بإرضاءه:
- اطمن يا حبيبي كله بتمنه، ما انا عارفك زي الموس طالع واكل نازل واكل ، مفيش حاجة عندك من غير تمن ، وخد يا اخوي ادي عربون.
تناول جمعة روزمة النقود الورقية ليفتر فاهه بضحكة سمجة يردد ضاحكا:
- ولزومو ايه بس الاستعجال يا حبيبي ما انت قاعد معايا، بيتك ومطرحك.
............................
عاد إلى المنزل محملا بغضبه من تلك المتمردة وذلك المقلب الذي فعلته به، رغم قلقه عليها من الصباح وفعله المستحيل من اجل ان يراها، ولكن لا بأس سوف يأتي وقت حسابها وساعتها لن يتهاون، أو يجعلها تكلم فرد ما غيره.
تقابلت عيناه بخاصتي والدته وقد كانت جالسة في محلها المعتاد وسط الدار ، بصحبة منى التي تعمد إلقاء التحية عليها متجاهلا والدته والتي استفزها الأمر لتهدر به وتوقفه:
- استني عندك هنا ياض، فاكر نفسك هتخاصمني يا زفت؟ بقى دا الأدب مع امك ياللي متربي في الأزهر؟
التف اليها بعد فترة من التوقف، ليستجيب اليها بفتور مقارعًا:
- وايه اللي جاب سيرة التربية دلوك؟ هو انا غلطت فيكي يا حجة حسنية، دا انا حتى بريحك من وشي ، مش أنتي اللي جايلة بنفسك في آخر نقاش لينا، غور من جدامي مش عايز اشوف خلجتك.
عقبت منى على قوله بسخرية :
- دا على اساس انك مخبيه دلوك يعني ما هي السحنة نفسها جدامنا اها.
- منى.....
هتف اسمها بغيظ قبل أن يتلقى الأمر من حسنية التي أشارت منه ليقترب ويجلس امامها حتى لا يصل إلى إلى الطابق الثاني حيث وجود هالة:
- اجعد يا بوز الاخص وخلينا نتحدت، مش عايزين صوتنا يطلع احنا مش ناقصين فضايح.
انفعل خلف كلماتها ليتوجه بالحديث نحو منى:
- طب اشهدي وشوفي بنفسك، حتى كلامنا خايفة المحروسة تسمعه، ليه يا ابوي هو احنا بنعمله حاجة غلط، دا جواز وكل واحد وليه نصيبه، موجفتش على فلانة ولا علانة
تكفلت منى بالرد عليه هذه المرة برجاحة عقلها:
- بلاش غشم يا معاذ وخليك فهيم، اعتبرها مراعية لمشاعرها، أو حطها في مبدأ داري على شمعتك تجيد يا اخي، انت مخك ضلم كدة ليه يا واض؟
زفر يشيح ببصره عن الاثنتان، مربعا ذراعيه حول صدره بعبوس كفعل الأطفال، حتى جعل والدته تعلق شاكية شقيقته:
- شايفة بنفسك اها، وهو بيتجمص لي زي العيال ، بالزمة دا فعل كبار؟
رمقها بنظرة غاضبة لا تخلو من عتاب يعلم حجم تأثيرها جيدا على والدته التي تدخلت في الموضوع مباشرة في الموضوع محل الخلاف:
- طب اسمعي انتي مني يا كبيرة يا عاجلة، مهما كانت البت حلوة ولا مأدبة، ولا امها حتى ست الستات، برضو انه جاعد اهم عيب فيها، اللي هو ابوها، دا اللي هتحط يدك في يده، بالذمة دا ينفع نسيب؟
- مليش دعوة بيه، وحتى لو حصل واتجبرت اتحمل احط يدي في يده عشانها، عشان البت الوحيدة اللي حبيتها، ليلى هي الوحيدة اللي قلبها شاور عليها، دا حاجة من عند ربنا
تعلم جيدا انه يابس الرأس وعنيد كالجدار، ولكن لا بأس أن تحاول استدراج عاطفته:
- وبت عمك إسراء يا ولدي، دي تجريبا مكتوبة على اسمك، مين هيرضي يتجدملها بعد ما......
- اماااا
تمتم بها بلهجة حازمة حتى تتوقف:
- سيبك من الالاعيب دي يا حجة حسنية، عشان انا بت عمي متكلمتش عليها ابدا، أمور الجواز زي جسمة ونصيب، ومش انا اللي هوجف حالها عشان هخطب غيرها، عشان هي كمان هتلاجي اللي رايدها.
دعمته حتى تقطع الطريق على والدتها:
- اكيد طبعا، محدش نصيبه بيوجف على حد، واسراء جميلة وتستاهل تتجوز واحد يحبها، مش ياخدها عشان الخوف من كلام الناس وحديتهم.
حدجتها حسنية بضيق، فقد كانت تأمل الدعم منها في اقناعه لا ان تقف بصفه، وقد ارسلت اليها مسبقا في هذا الشأن، الأمر الذي جعل الأخرى تضحك ساخرة تردد بخبث:
- سامحيني يا حجة حسنية، غلبتني مشاعري ونسيت اللي كنتي موصياني عليه، انا من الاول عارفة نفسي منفعش ابقى واسطة في اي حاجة يا بوي.
وأكملت ضاحكة لتكمل على غيظ والدتها التي فقدت الأمل منها لتأتي بالاخيرة:
- طب سيبك مني ومنها، ابوها نفسه اللي بيكره اخوك كره العمى، تفتكر هيرضى يوافق عليك؟
بشي من الثقة التي اعتاد عليها من الاخر رد يجيبها:
- انتي بس جولي امين وسيبك من الأمر التاني، انا متأكد ان حمزة اخوي هيعرف يلاجي حل.
تدخلت هنا منى باستدراك :
- ايوة صح هو فينه حمزة، انا مش شايفاه خالص من الصبح؟
ردت حسنية:
- لا جه، رجع بعد مشوار مزيونة واللي حصل معاهم، دخل اوضة مكتبه وطلع بعدها بدقايق ومن بعدها محدش شاف وشه تاني.
.......................
مساءًا
داخل منزل مزيونة مع ابنتها وقد انفض جمع البشر التي كانت تتواتر افواجا على المنزل، ولم يتبقى سوى هي وابنتها في المنزل الذي اختراته لحريتها رغم أنف الجميع والحاح شقيقها الذي كادت ان تصبح خصومه بينها وبينه اليوم لاصراره الشديد على اخذها هي وابنتها معه إلى منزله، ولكنها ثبتت على موقفها مستعينة بمعزتها الكبيرة عنده، ورغبته الدائمة في ارضاءها ولو على حساب نفسه
ابنتها في داخل الغرفة التي خصصتها لها كي تستذكر دروسها وهي في المطبخ تعد الطعام من اجل التحضير لوجبة العشاء، حتى وصلتها اصوات ضجيج لبشر ومرور أشياء كبيرة، كانت تقترب ويعلو وصوتها اكتر حتى صارت تشعر بها داخل المنزل او خلفه على الأكيد الأمر الذي جعل ليلى تخرج اليها من الغرفة هاتفه:
- اللحقي يا أمه بشر كتيرة، وعربيات نقل كبيرة محملة بالرمل والأسمنت كلهم عمالين يفضوا ورا بيتنا، شوفتهم بيعيني من شباك الاوضة اللي بذاكر فيها دلوك
قطبت مزبونة تردد خلفها بتساؤول:
- لودرات واسمنت، دا مين دا اللي هيبني جنبينا؟
..............................
غلبها الفضول والارتياب، لتخرج بعدها بلحظات قليلة تلف طرحتها حول وجهها، حتى تستكشف ذلك الأمر.
لم تخطو سوى خطوتين خارج المنزل بحرص حتى وصل لأسماعها ذلك الصوت الذي اصبح مألوفا إليها هذه الايام:
- بلاش تبعدي اكتر من كدة، الرجالة كتير وعيونهم كيف الرصاص
التفت اليه تخفي إجفالها، بعد أن تفاجأت بقربه من مدخل المنزل وكأنه كان في انتظارها، فخطا يقرب المسافة اكثر حتى أصبح مقابلا لها قائلا:
- لو عندك اي استفسار اسأليني.
ابتعلت بخجل تحاول اخفاءه، ثم تماسكت لتلقي بأسئلتها:
- ايوة طبعا عندي استفسارات وأسئلة كمان، ايه اللي بيحصل في الأرض دي؟ وأصحاب الأرض اللي نعرفهم فينهم؟ انا مش شايفة ولا حد فيهم؟ و..... وبس كدة.
يعلم ان سؤالها الاخير يتعلق به وعن وجوده الان، ولكنها كالعادة تبتعد عن أي شيء يخصه، ليتغاضي الأن فيجيبها بتفصيل:
- اولا يا ست مزيونة، مالك الأرض الجديدة بعد الناس اللي اشتروها منكم، يبقى انا دلوك، والناس والهيصة اللي حواليكي، فدول عشان البيت الجديد....... اصل انا نويت ابني بيت كبير هنا يبقى ليا خاص انا وولدي، اصلي ملجيتش احسن من الارض الزينة دي والهدوء.
- فجأة كدة؟
سألته بعدم استيعاب ولهجة يملؤها الشك ليعود اليها موضحًا:
- لا بصراحة هو مكنش فجأة لان انا بجالي فترة وانا الموضوع في مخي، ربنا وفقني واشتريت الأرض من صحابها، والنهارده زي ما انتي شايفة، جايب المعدات والرجالة عشان يجهزوا حاجتهم للبنى من بكرة.
لماذا تشعر أن الأمر له علاقة بما حدث معها، ولكن لا، هي لن تعطي فرصة للتأويلات بعقلها، ولابد أن يتم تصرفها بما يناسب الحدث:
- الف مبروك طبعا، بس انا كنت عايزة اعرف، انت خدت الحتة اللي جمبنا بس ولا اشتريت كمان من الزرع
دار بإصبعه السبابة بدائرة امامها يجيب:
- كل الزمام اللي جدامك بقى بتاعنا، ملك عيلة القناوي، الأرض والبيت اللي هيتبني جمبك، لأنه ممكن كمان يبقى اكتر من بيت وتتعمر حواليكي اكتر
- تتعمر حواليا!
تمتمت بها، وتساؤل حول مقصده منها، فاستدركت سريعا لحقيقة الوضع قائلة:
- ارجع تاني اباركلك، بس معلش يعني هو الخبط والرزع هيجعد طول الليل .
ابتسامة رائقة اظهرت صف اسنانه الامامية البيضاء لتشرق بوجهه قائلا:
- لا طبعا هما بس يخلصوا التجهيز لأول يوم بناء بكرة، بكتيره ساعتين ويروحوا العمال وسواقين النقل، هيفضل بس الغفر اللي هيسهروا طول الليل، حراسة على المعدات، كلهم رجالتي على فكرة ومزارعين في ارضي، يعني لو عوزتي حاجة تطلبها منيهم بكل امان .
الونس، لقد خلق الونس، على الرغم من انها لم تطلبه او كانت تدعي الاستغناء عنه، ولكنها لا تنكر أن تسلل إلى قلبها ارتياحًا خلف كلماته، ومع ذلك لا يمكن لها ان تنجرف وتعطي الموضع اكثر من حقه.
- متشكرين جوي، عن اذنك بقى وربنا يديكم العافية
همت ان تتحرك الا انه اوقفها قائلا:
- على فكرة انا كنت في المديرة من ساعة، هما لساهم بيبحثوا ويقارنوا نتيجة التحاليل لعينه الدم اللي خدها الظابط مع المجرمين اللي يعرفوهم ولسة لحد دلوك موصلوش، بس انا وعد عليا اجيب ابن الفرطوس ده لحد عندك وتحت رجلك كمان.
برقت عينيها في الاخيرة لتوميء رأسها، وتستدير ذاهبة من امامه بخطوات سريعة مهروله لتبتعد عنه وعن محيطه، ثم تدلف داخل منزلها وواحة امانها ، ولكن وقبل ان تغلق بابها عليها، وجدت امامها ابن شقيقها وصفي، حازم يخاطبها:
- عمتي ابويا بيقولك البسي عبايتك وتعالي على البيت ، بيتنا يعني
قطبت بعدم استيعاب تستفسر منه:
- وابوك عايزني دلوك ليه؟
............................
بعد قليل
وصلت الى منزل شقيقها لحضور الجلسة التي طلبها الشيخ خميس والحاج جاد والمحامي المخضرم، بناءا على طلب من ذلك البغيض الذي كان يجلس امامها الان، ناظرا بجمود ليس بغريبا عنه، تجاهلته ملقية بالتحية، ونظرها نحو اصدقاء والدها وشقيقها الذي امسك يدها بدعم يجلسها بجواره
- اجعدي يا بت ابوي اجعدي، خلينا نشوف ايه اخرتها
جلست متوجهة نحو الرجل اكبرهم :
- خير يا شيخ خميس، بعتينلي كدة في الليالي الأمر ضروري
هم ان يجيبها، ولكن سبقه عرفان
- أن شاءالله خير يا حرمنا المصون سابقا، بس انا بلغني عن اللي حصل في الليلة اللي فاتت عندكم وقصة الحرامي وضرب النار.
زوت مزبونة ما بين حاجبيها بحدة تريد ايضاحا اكثر:
- وماله يعني ما هي كانت ليلة وعدت على خير الحمد.لله، أيه المطلوب دلوك؟
رد يجيبها صريحة وافية:
- المطلوب بتي يا مدام، انا مأمنش اجعد عليها في منطجة غير امنة على رأي القانون.
- نعم! بت مين اللي انت عايزها؟ هو انا اطلجت ليه اساسا مش عشانها تيجي دلوك تقولي اطلبها، ليه هو لعب عيال.
صرخت بها موجهه ابصارها على باقي الحضور وقد خيم الصمت عليهم، فواصل عرفان بقوله:
- مكنش لعب عيال يا مدام، بس انا اب ومن حقي ابقى مطمن على بتي، مش عايزة افرض طبعا لو الحرمي أتمكن ودخل على اتنين ولايا، كان هيبقى فعله ايه؟
يبقى من حقي لحمي، ولو مستغنيه عن عمرك، انا مش مستغني عن بتي والقانون في صفي على فكرة