رواية قلبي وعيناك والايام الفصل الرابع عشر بقلم رحاب ابراهيم حسن
~...عتاب وعقاب...~
أحيانًا يخرج أعتراف الحب كصوت غاضب ..... گعتاب مؤجل .... گهزة تحت أقدامنا تجعلنا ننتبه أن هناك ميل ..!
في المركز الطبي .....مع ساعات النهار الأخيرة من هذا اليوم الشاحبة شمسه....ثارت ثائرتها ...
لم تكن تلك المريضة كأي حالة بالنسبة للطبيبة "مروة" ... أتى إليها قريبها ...... الضابط أحمد ...أبن خالتها .....
بعينيه نظرة تقول شيء يتردد في الاعلان عنه ... حيرة مبعثها عدم ثقته في مشاعرها نحوه .... وهي گ اللون المحير الذي يتصف بعدة أسماء ....مشاعرها متأرجحة ...
تارة تدفعه للإعتراف ...ويأخذه الحماس !
وفي التو ترجع لذات السكوت والصمت ..!
دلف مكتبها ...أقترب إليها وهي تقف شاردة أمام النافذة كأنها تفكر بحبيب طال انتظاره ..!
تطلع بشرودها جيدًا وكم تمنى أن يكن البال مشغول بحبه !
قال بصوت خرج هامسا :
_ مروة ..... اللي واخد عقلك ؟!
توترت ملامحها ... ودائمًا كان يأتي في الوقت الصحيح ...!
عندما يجتاحها الشوق وتتلهف لرؤيته تجده ماثل أمامها !
كيف الشوق يأتي به عند الطلب ولم يزلّ لسانه بالإعتراف ؟!
التفتت له ببطء ...لم يكن بمفاجئة أن تره ...وجوده قائم حتى وهو غائب لا عجب ..!
شعور مقيت يدفعها كي ترتمي على صدره وتخبره أنها تحتاج إليه ؟! ....ولكن بعد حساب أن هذا يخالف أخلاقها وحيائها ....كان يخالف الكبرياء أيضاً.......
هي ليست احتياط أو بديل كي يجده حينما ينتهي من علاقة أو ارتباط مع أحداهنّ....!
قالت بثبات وهي تعقد ذراعيها حولها ....إشارة دفاع ترسلها لقلبها سرًا :
_ شغلي اللي شاغل بالي يا أحمد ..!
تنهد أحمد بنفاد الصبر .... العمل مجددًا ..! ....لا بأس سيتحكم بأعصابه للمرة ما بعد المليون ...قال بهدوء :
_ ورد تاني ؟! ...... كل حياتك شغل ...شغل..!!
هتضيعي عمرك بالشكل ده !!
ارتاحت أنه صدق ما قالته للتو ..... يكفِ ضعف أمامه ...قالت :
_ هدفي أني اكمل مشواري معاها ....أنت عارف أني عنيدة ....
هز رأسه موافقا قولها ...مؤكدًا على ذلك بكل قوته ....لكن الأمر كان يبدو أنه أبعد عن حديث العمل ....قال بسخرية :
_ ومين يعرف أدي ؟! ..... عنيدة وعندك هيوصلك لحيطة سد ! ....
يتلاعب ثم يعاتب ؟!
أيا رجل ألا تسأل أفعالك عن ما طالك منها ؟!
التمعت عينيها بضيق منه .....
يؤرق القلب عتاب مختبئ ....كلمات كان لابد أن تُقال وقيدها الصمت .... أعتذار وأعذار ...دفاع ربما بعده كان السماح ممكن !
قالت بحدة صوتها :
_ تقصد إيه ...؟!!
أقترب احمد إليها خطوة....خطوة واحدة كان يعرف أنها ستؤثر على حدتها .....القرب يؤثر على غضب الأنثى ويعرف ذلك ...
قال بنظرة عتاب لعينيها :
_ اقصد أني عمري ما حبيت غيرك ..... يمكن خطوبتي كانت بقصد أني استفزك واغيظك...أخرجك من مرحلة السكوت والجمود ده ...... غلطت ...حسبتها غلط ...ظلمت انسانة معايا مكنش ذنبها أني بحبك .....بس عملت ده كله بسببك أنتِ..!
ابتسمت بسخرية ....مرارة ارتسمت على شكل ابتسامة ساخرة !
قالت :
_ حكايتنا كانت جميلة ....بنت خجولة وبتتكسف ...قلبها لسه أخضر .... وشاب شايف أن الحب عبارة عن كلام !!
أني لما تقولي بحبك ....يبقى لازم أرد وأقولك أنا كمان بحبك ...!! مافهمتنيش ....
التمعت عينيها بالدموع وتابعت :
_ ماحسبتش أني حسيتها بس كان صعب أقولها ....اسأل نفسك لما أنا مردتش كسوف وخجل كان رد فعلك ايه ؟!
عرفت كام واحدة وفي الآخر خطبت صاحبتي !
وده كله عشان تستفزني ....فكرك أني كده يعني هجري عليك وأقولك بحبك ؟! ......
سقطت دمعة من عينيها وهي تضيف بانكسار :
_ أنت كسرت جوايا مقامك عندي .... كسرت حلم بريء أوي اتمنيت أنه يكمل بشكل راضية عنه .....وده كله عشان احترمت مشاعري وحبيت أديها حقها بشكل رسمي ......
أنت بقى كنت عايز واحدة زي إسراء صاحبتي ....
بنت بتعرف تحب ...وبتعرف تلبس وتتشيك ...بتعرف تتكلم وتلف دماغك بكلمتين حلوين ....ده يعني من وجهة نظرك...!
بس الحب بالنسبالي مش كده !!
ومش هقولك عشان أنت ما تستاهلش ...واحمد ربنا أني قادرة اعتبرك حتى أخ ...!!
هتفت في آخر حديثها واشتدت دموعها انهمارًا ......للتو اكتشف كم كان غبي في قراره الذي عذبها هكذا ....قال بأسف وندم :
_ نفسي أعرف كام مرة لازم أعتذر واتأسف عشان تسامحيني ؟
كل اللي أقدر أقوله ....أني غلطان وندمان .....
أنا حبيت بجد ....بس أنا مش ملاك ....فهمت غلط ...وغلطت ...عكيت الدنيا ... كسرت بغبائي أحلى حاجة في حياتي ..... بس تفتكري لو أنا بالفعل عملت ده كله بدافع إنك تتحركي وتتكلمي وتبيني اللي جواكِ حتى لو كنت غبي في تصرفاتي ....ما استاهلش السماح ؟
عجزت مروة عن الرد ..... بماذا تجيب ؟!
بعض من الحكمة يخبرها أن تعطيه فرصة .....ولكنها تمقت هذا الشيء ....تمقت أن تكن لعبة بين يديه !!
وربما كان كاذب ....للأسف هي لا تعرف حقيقة مشاعره حتى الآن !
رغم أنه فردًا من عائلتها ....ولكن القلب محراب مغلق الدوام......لا يفتح لاحدًّا ......
ابتلعت ريقها وتهربت بحركة عائدة إلى مكتبها ....وراقبها بتمعن بانتظاره كلمة تبل ريقه بالحياة والفرحة....قالت :
_ أنا راجعة البيت .....بعد أذنك ....
صرّ على أسنانه بغضب مكتوم ....ثم قال بعصبية رنت بصوته :
_ هوصلك ....
رفضت قائلة وهي تحمل حقيبتها وتظاهرت بالبحث بداخلها عن شيء :
_ لأ مافيش داعي .....كنت بسيبك الفترة اللي فاتت توصلني عشان كنت بتساعدني أدور على ورد ...أنما دلوقتي مافيش داعي توصلني .....شكرًا جدًا ....
ارتفع صوته بعصبية ولمحة أصرار :
_ من غير نقاش يا مروة يلا عشان أوصلك ....أظن مش من الذوق أو الرجولة أني أسيبك تركبي مواصلات لوحدك بليل كده .....!
اللي بينا شيء .....وقرابتنا شيء تاني ....
قالت مروة وهي تحمل الحقيبة على كتفها :
_ أحنا مافيش بينا حاجة غير أننا قرايب وبس .....وعمومًا هتوصلني ولا هنقف كده كتير ؟!
تنفس بعمق وعصبية تلتمع بعينيه وهو يشير لها أن تخطو أمامه ....
➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖
انهمكت الفتيات في تحضير الطعام على صواني فضية اللون دائرية الشكل ......وكان الفريق الطبي مؤلف من ستة عشر طبيبًا من مختلف الاقسام والتخصصات وأثنين من الصيادلة وبعض الافراد الأخرى .....
وفي مندرة منزل العمدة التي كانت واسعة جدًا لأستقبال ضعف هذا العدد .....وضع نعناعة طاولات خشبية على شكل مستطيل أمام الضيوف وهذا طبقاً لطقوس إعداد الطعام الذي تعود عليها .....
فلا يترك أي من الفتيات تقترب من المندرة أثناء وجود أي من الرجال الغرباء .....ويستقبل هو مهمة ترتيب الأطباق على المائدة الريفية الثرية بالأطعمة اللذيذة ....
بدأ الصبي في نقل الصواني من المطبخ حتى المندرة ووضع الأطباق أمام الضيوف .....
ابتسم يوسف وهو ينظر للأطباق التي ترتفع منها السنة البخار برائحة شهية نفاذة بمختلف الأطعمة الدسمة.....وقال هامسا لرعد :
_ شوف الاكل اللي يفتح النفس ! ...... ومستغرب أني مبسوط هنا !! .....طبيعي أتبسط جدًا .....ريحة الأكل ده بتفكرني بريحة الفطير بتاع البنت العسولة الفلاحة اللي شوفتها من قريب ....
رد رعد عليه مبتسما بمكر :
_ البنت العسولة الفلاحة !! ..... وإيه كمان يا حنين ....يا ابو قلب كبير....يا أبو بطن كبيرة!
تحسس يوسف بطنه المسطحة وقال بتعجب :
_ بطني مش كبيرة يا غلس !! أنا بعوض بالرياضة وده قمة الذكاء بقا خد بالك...... باكل اللي أنا عايزه ....وساعة رياضة تخليني رشيق جدًا...
وعلى الجانب الآخر همس آسر ليوسف :
_ يوسف ...الأكل ده كله بالسمنة البلدي يعني خلي بالك .....ماتنزلش فيه أوي عشان أنت مابتصدق ....
تنقلت نظرة يوسف للأطباق الذي يرتبها نعناعة على الطاولة الخشبية أمامهم ورد على آسر وعينيه على الطعام :
_ شايف الطبق اللي فيه محشي قدامك ده ....عايزه ....
قال آسر بدهشة :
_ ما انت قدامك واحد من الناحية التانية؟!
وضح يوسف قائلًا :
_ رعد عايزه
هز آسر رأسه موافقا ...انتظر يوسف للحظات ثم همس لرعد :
_ بقولك .... قرب عليا طبق المحشي بتاعك ده كده ....أصل نفسي فيه ....
قال رعد بتعجب :
_ اومال اللي هناك ده بيعمل ايه ؟! ..
أجاب يوسف متظاهرا بالضيق :
_ آسر عايزه
قال رعد مبتسما وهو يربط على قدم يوسف بتأثر :
_ حاضر ...أول ما نبدأ اكل هحطه قدامك ....أنت أخويا يابني.... !
نظر يوسف له وأطرف عينيه سريعا بتأثر :
_ ربنا يحميك ويكتر من أمثالك لأمثالي ....
ابتسم رعد بشكر :
_ حبيبي تسلم ....ربنا يديك على أد معدتك يا حبيبي ....
تم ترتيب الطعام بعد دقائق قليلة فقال العمدة لهم جميعا وهو يبدأ باسم الله :
_ بسم الله يا دكاتره ...بالهنا والشفا ....
وضع رعد وآسر طبق "المحشي" في وقتٍ واحد أمام يوسف ....حتى نظر كلًا من رعد وآسر لبعضهما وفهما مكر يوسف عليهما فضيقا أعينهما في غيظ منه ..... بينما ضم يوسف الطبقين أمامه في ابتسامة واسعة ورماهمها بغمزة .....
تمتم آسر ورعد وكتما بعض الكلمات العصبية .....
تفاجئ جاسر بيد نعناعة التي تضع أمامه مزيدًا من الطعام من حين لآخر ببسمة واسعة .....حتى نظر جاسر له بغيظ وقال :
_ كفاية !!
قال نعناعة بضحكة بلهاء :
_ لازم تتغذى يا دكتور .... أنت نورت الدنيا والله ....
كتم جاسر غيظه من هذا الصبي المزعج وتابع طعامه الذي تلذذ به حقا ......
قال الصبي نعناعة بحماس :
_ على ما تخلصوا هكون جبت شنط الدكاترة اللي في الخيمة ....فوريرة وهتلاقوني جاي .....
قال أبيه العمدة بأمر :
_ لأ استنى .....بعد لما يخلصوا عشان تشيل الأكل وتدخله المطبخ......وتبعتلنا الشاي ....
وافق الصبي في ترحاب شديد بالضيوف .....
➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖
قالت سما بسيمات الإرهاق على وجهها وهي تستند على رخامة المطبخ:
_ طب كده هيكون فاضل بس المواعين تتغسل .....هروح استريح في اوضتنا ....مابقتش قادرة أقف ...
قالت جميلة وهي ترتشف كوب من شاي بالنعناع :
_ روحي ارتاحي أنتِ يا سمكة ....هخلص انا المواعين أنا وحميدة ورضوى......
هزت سما رأسها وتوجهت لغرفتهم بداخل المنزل .....قالت حميدة بصوت خافت وضيق لأجل شقيقتها :
_ البت سمكة مابقتش بتهزر زي الأول ..... أنا زعلانة عشانها أوي ....
قالت رضوى بغيظ :
_ منه لله اللي كان السبب ..... واحد مايستاهلش تعريفة كرهها في عيشتها وطفش !
تنهدت جميلة بألم وقالت :
_ غلبانة سمكة ....كانت راضية بيه رغم انها مكنتش بتحبه ولا كانت عايزاه في الاول .....احنا اللي اقنعناها وفضل خاطبها اربع شهور ......اربع شهور مقالهاش كلمة حلوة !!
على طول كلامه دبش ....وشايفها وحشة ومسترجلة ! اومال حفي على ما وافقت عليه ليه ؟!
أجابت حميدة عليها :
_ بس سمكة برضو غلطانة يا جميلة ....هي جافة أوي بصراحة ....ماهي ممكن توصل اللي في دماغها بشكل هادي من غير مشاكل ...هي عصبية وهو عينه زايغة وطلع مش سهل ....
وضعت رضوى يديها على خصرها بإعتراض :
_ يعني تتسهوك عشان تعجب يعني !! مايغور في داهية ....بكرة يجي سيد سيده !!
نفت حميدة الأمر وأوضحت :
_ مش بتكلم عن الواد ده ...بتكلم عمومًا يا رضوى .....سمكة عصبية في كل حاجة والدنيا مش بتتاخد كده ..... لما تتجوز هتفضل كده برضو وهتتعامل كده ودي المشكلة الحقيقية .....
في غرفة الفتيات .....
التي تضم سريرين وخزانة ملابس كبيرة تحتوي على ملابسهما الأربعة ......وأريكة جانبية خلفها نافذة خشبية باللون الأخضر الباهت بعض الشيء ......
أغلقت سما الباب جيدًا خلفها ثم توجهت للأريكة ....فتحت نصف النافذة ونظرت للسماء الغائمة وهي تدمع وتتذكر كلمات الطبيب الشاب .....مع ذكريات مؤلمة مرت بها ...
وتقول دموعها الكثير .....
لست قبيحة .....لست كما تراني أعينكم .....انظروا إلى قلبي ...إلى روحي ....أنظروا إليّ بعين الأنصاف ....
انظروا إليّ وأنا اطعم طير ضعيف يبحث عن الطعام بجوع ..... أو وأنا احمل صغير وابتسم له .....
أنظروا لما أصنعه بيدي ....وليس لما بيدي فيه أي صنع !!
لست مثل أحد للمقارنة بالأخريات ... أنا أحب تلك الملامح بوجهي.... لما اجبرتوني على كرهها لأنها لا تروق لكم؟!
أنتم تنظرون لما ترونه ...ولكن لا ترون دموعي بالخفاء ليلًا على كلماتكم الجارحة .....لا ترون أنشقاق قلبي عند تذكرها ....ولا ترون صفعات الألم مع تردد صداها وتأثيرها بروحي .....
أعينكم ليست مبصرة ...وقلوبكم دون بصيرة لرؤية الجمال الكامن بالقلب والروح .....
أي جمال يمتلكه انسان يؤذي مشاعر غيره بمنتهى الثبات دون رفة ندم ؟!
وعن أي قبح تتحدثون عنه بفتاة لا تريد من الحياة أكثر من أن تغفو عند المساء دون دموع ؟!
أنتم بشر ....والبشر ليس ملائكة ....إذن علي تحمل ما اقابله منكم...أسفا على قلبي ....وعلى قوة احتمالي .....
وعلى حياة لابد أن اتحملكم فيها وليس بيدي شيء سوى أن أهرب لغرفتي وأبكِ في عزلتي ..... في شموخ صمتي ...
هذا رد فعل متأخر .....يسبقه رد سريع ببسمة تخفي دموعي حتى أنفرد بنفسي .....بمساء أبكِ فيه وحدي ....مثلما أفعل الآن تمامًا...
انتفضت سما من البكاء وهي تسقط رأسها على حافة الأريكة وتدفن دموعها بجفاف قماشها المقلم ......
ورغم أن العين تدمع ....والقلب منكسر ... لكن هناك يقين بأن السعادة آتية بالأماني ....
➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖
القلب له أعين ....تسهر وتنام ...تغفو بالأحلام ...وتستيقظ مهلة وأحيانا فزعة .... بينما هناك قلوب عينيها گعيون التماثيل الثابته .... ساهدة صباحها ومسائها .....تنتظر مساء الفرحة بيوم ....
كانت في طريقها إلى المشفى ....وقد دخل الليل بعاصفة من البرد الشديد ..... كانت قد ابتاعت بعض الملابس بنهار اليوم لها ولأبنتها ...ببعض المال الذي تبقّى معها ...
أضفى الرداء الطويل الكحلي من قماش القطيفة نعومة في طلتها .... ولابد أن تعترف أن لهفتها يشوبها لهفة لرؤياه ...رغم أيضا بعض القوة التي لا تريد أن تراه ....فسيبدو الأمر بعدما حدث كارثة !
كارثة ليس بمعناها المعروف...
كارثة مشاعر !!
ربما هذا نوع من الكوارث يدحض أخطر القرارات .... أن نحب كثيرًا ....ونضحي أكثر ...ونبتعد ونفارق لإبعاد الخطر عن قلوبهم ....وتأتي تلك الكارثة الحسية وتخبرنا أننا نريد البقاء ويحدث ما يحدث ...
ويتنحى الكبرياء لبعض الوقت ....
شيء شديد الخطورة بالأخص في هذا الوقت .... التي تبعده لتسعده .... أو لتقنع نفسها بذلك .....
مرت السيارة الأجرة بالطريق ووصلت أمام المشفى في سرعة لم تشعر بها ليلى ..... همست ليلى لأبنتها التي صمتت طيلة الطريق فقط لأنها تعتقد أنها عائدة لبطل حكايات قبل النوم ..... لأبيها التي قررت ببراءة أنه أصبح أبيها !
وقالت للصغيرة :
_ أوعي تعملي أي صوت .....وإلا هيزعقولي أنا ...ماشي يا حبيبتي ؟
اومأت الصغيرة برأسها في موافقة عاجلة .....للأسراع فقط والدخول .....وقفت السيارة الأجرة بقرب المشفى ....نظرت ليلى من النافذة الزجاجية لتتعجب !!
ليس هناك حراسة على باب المشفى !
أين هم إذن ؟!
مصادفة أم غير ذلك ؟!
تذكرت ليلى أن الحرس قد أرسلهم وجيه لقسم العناية .....سبب مقنع لأختفائهم ....رغم أن عدم وجود باقي الحرس أمر مثير للشك .....ولكن سيسهل الامر عليها بهذه الطريقة للدخول ....
خرجت من السيارة الأجرة وتوجهت إلى المشفى وهي تحمل طفلتها ......
دق قلبها بخوف وشعور قوي أن هناك مؤامرة بالأمر ....ولم تعرف لما لم تبحث على الأقل عن وسيلة أخرى للدخول ....
كأنها تريد أن يقبض عليها وتقنع نفسها أنها ما كانت تريد ذلك !
خطواتها كانت بين البطء والسرعة وهي تمضي من باب الدخول بيسر ....كأن الظروف تمهد لها ذلك ....ولا تدرك فعليًا أن الأمر مرتب له من قبل .....
مضت من أمام مكتب الاستعلامات وهي تخفي وجهها في كتف أبنتها .....ووقفت أمام باب المصعد ....تنتظر أن يحتويها قبل أن يرها أحد .....
أي كارثة وضعت نفسها بها ....للتو ادركت الأمر ....رغبتها متضاربة بين اللهفة والخوف والابتعاد .....
لسان الافتقاد هو من ارغمها على هذا العبث والمجيء بهذا الشكل ....علها تره ...عله يجدها في تيهتها ...رغما عنها ....
وقف المصعد وتنفست الصعداء عندما خرج منه بعض الغرباء .....دخلت وهي تتعجب من نفسها !!
ماذا تريد ؟!
ما هذا الجنون ؟!
تريده بشدة أن يجدها ....وتريد بجنون الهرب منه ! ...أي عبث هذا ؟!
بين اللحظة والأخرى الف شعور ولهفة وهجر يتقلب بخاطرها .....!
صعد المصعد بها وهي لا زالت تحمل ابنتها ....وعامل المصعد يواليها ظهره بانتظار الطابق المقصود ....
حتى وقف المصعد وتابعت سيرها ...على سير من الجمر والخوف وهي تترقب ظهوره بين اللحظة والأخرى .....لتقابلها زميلتها "بثينة" وهي تباشر عملها بتنظيف الممر .....
دهشت بثينة من رؤيتها تسير هكذا وهي من هربت بالأمس !!
تركت ما بيدها واسرعت إليها في تحذير وقلق :
_ كنت اتصلي بيا وطنت نزلت جبتك من باب تاني ....أنتِ مش خايفة وأنت ماشية كده عادي ؟!!
قالت ليلى بعجالة :
_ نبقى نتكلم بعدين يا بثينة ....خليني بس أشوف أبويا الأول واطمن عليه .....
نظرت بثينة حولها بترقب ثم قالت :
_ طب هاتي بنتك هخليها معايا ....البسي لبس ممرضات وكمامة وادخلي شوفيه ...محدش هيعرفك بالكمامة ....
أنا حضرت اللبس في أوضة المنظفات ...ادخلي بسرعة ومتتأخريش ..... الحرس عندهم راحة بعد دقايق ...قدامك عشر دقايق بالضبط أكتر من كده معرفكيش .....
اودعت ليلى صغيرتها مع بثينة وتوجهت لغرفة المنظفات سريعا ....وبسرعة خارقة كانت ارتدت رداء الممرضات وارتدت الكمامة الطبية التي حجبت ملامحها عن التعريف .....
ثم خرجت من الغرفة وهي تنظر حولها ولاحظت أن بثينة اختفت من الممر أيضا .....
سارت ليلى بترقب وخوف وهي تنظر حولها ....كان الطريق لغرف العناية هادئ وخالِ من المرور ......
مضت بساقيها التي ترتجف من الخوف وتحملها بالكاد .....كانت تبتلع ريقها بصعوبة كلما مرت خطوة ..!
حتى وقفت اقتربت من غرفة العناية التي بها والدها ....وانتبهت لبثينة وهي بغرفة مواجهة وتحمل الصغيرة .... نظرت لها بثينة وحذرت إنها ليلى بتلك الكمامة الكبيرة الحجم .....اغلقت ليلى الباب علي بثينة وقالت بهمس :
_ ماتعمليش صوت يا ريمية زي ما قولتلك ....رجعالك تاني ....
ضافت الطفلة من ترداد قول أمها للمرة التي لم تحسب كم !
وبدأت تتأفف من الانتظار ......
اغلقت ليلى الباب وحمدت ربها أن الحرس ذهبوا للإستراحة قبل أن تأتي وأنهم لم يتعرفوا على ابنتها....
فتحت باب العناية المركزة لتخدمها الظروف أيضا أن هناك ممرضة واحدة تعاين أحد المرضى على بُعد خطوات بعيدة من والد ليلى الذي كان سريره مقابل للباب مباشرةً.....
توجهت بنظرة يغمرها اللهفة لفراش والدها ....لتجده على حاله ....اطرفت عينيها بإعتذار ودمعة سقطت من عينيها وقالت بصوت خافت جدًا :
_ غصب عني سيبتك .... بس جيت رغم كل شيء عشان أشوفك .... بس بالكتير يومين وهتتنقل وهقدر اكون جانبك على طول .....أنت سامعني يا بابا ....أنا متأكدة ...
مرت الممرضة بجانبها وقالت متسائلة وهي تنظر لليلى بتعجب :
_ مالك ؟!
جف ريق ليلى التي ضيقت عينيها لتخفي الدموع وقالت بتلعثم :
_ لا أبدًا ....أصل ....أصل حسيت بحركة ...و
قاطعتها الممرضة وقالت بموافقة:
_ أيوة فعلًا ..... النهاردة الدكاترة كانوا بيتكلموا عن الموضوع ده ...يمكن المريض ده قرب يفوق مين عارف ...
لم تعتقد ليلى أن كذبتها تشكلت حقيقة وواقع ! .....أرادت بشدة أن تبك بسعادة ....نظرت لأبيها وعينيها ملؤها الدموع وابتسامة بآنٍ واحد ....حتى انتفض جسدها عندما اقتحم القسم من هربت منه .....من اصبحت لديه كالهواء الذي يتنفس ولا يستطع أن يمسكه بيديه!
اتسعت عينيها وكاد قلبها أن يتوقف عندما سمعت صوته وهو يدخل سريعا للقسم وخلفه الحرس......
أنا لا أخاف منـه .... أنا أخاف من شوك الطريق إليه ....
ولكن هجوم خطواته على قسم العناية يعلن أنه يعرف أنها هنا !!
النبضة التي كانت هادئة منذ لحظات انتفضت بقلبها ...
وهنت ساقيها وكأنها لا تستطع الوقوف لأكثر من دقائق آتية .... حمدت تلك الكمامة الطبية التي تخفي معظم معالم الخوف والذعر على وجهها ....
باستثناء اتساع حدقتيها وبؤبؤ عينيها التي انفرجا بصدمة .....
اسرع وجيه اتجاه والدها ولم يدرك أن تلك الممرضة المتخفي وجهها خلف كمامة هي ....تظل عينيها بالنسبة إليه مميزة ...بالتأكيد إذا نظر إليها سيشك على الاقل .....
تعمدت اسقاط قرص دواء كان على طاولة خشبية صغيرة بجانب الفراش وانحنت لتلتقطه وتباطئت بتعمد ....
نظر وجيه حول المريض التائه بغيبوبة ولم يرَ سوى تلك الممرضة وممرضة أخرى !!
أين هي ؟!
يشهر برحيقها يحوم حوله ؟!
كان ترك الباب الرئيسي مفتوح دون حراسة ضمن خطته لتسهيل دخولها دون مجهود .....
ترك الفتاة المنحنية للأسفل بلا اكتراث وقال لأحد الحراس وهو ينظر لجميع الجهات :
_ اقلبوا المستشفى حته حته لحد ما تلاقوها ....واقفلوا كل ابواب الخروج....طالما ظهرت في االكاميرا ودخلت المستشفى ومخرجتش يبقى اكيد لسه موجودة هنا ..... بس الحرس اللي هنا راحوا فين ؟!
هتف بعصبية بوجه الحارس فقال الآخر بتوتر :
_ ليهم خمس دقايق راحة عند كل وجبة ..... في بنت عاملة هنا بتفضل لحد ما يرجعوا وبتحرس الباب في الدقايق دي ...
وضع وجيه يديه على رأسه بعصبية وقال :
_ هي فين ؟! ابعتوهالي فورًا وراقبوا المكان هنا ما تتحركوش لحظة واحدة .....
انتفض جسد ليلى بخوف ....لو رأى صغيرتها ماذا سيكون الحال ؟!
استقامت وهي تنظر للأسفل بتعمد حتى تبعد وجهها عنه وهو منشغل بالتحدث مع الحراس .....
كانت بالكاد تسير ولكن اسرعت خطاها حتى اوقفها صوت الممرضة الأخرى من داخل القسم وقالت :
_ استني .....ماينفعش تخرجي وقت النباطشية!! ....
لم تتعرف الممرضة على هوية ليلى ولكنها حسبت انها احدى زميلاتها ...وبوجود طبيب كبير مثل وجيه واهتمامه بالقسم لهذا الحد كان الألتزام بالعمل يبدو زائد أمامه.....كاد قلب أن يقف ولو استدارت ستكن مخاطرة ومجازفة ......
ومع تكرار سؤال الفتاة كان لابد أن تلتفت ليلى وخصوصا أنها سمعت صوت وجيه يتحدث مع الرجل.....
استدارت وكادت أن تتحدث لتصطدم بعينين وجيه وهي مثبته عليها رغم انه يتحدث مع الحارس .....
جف ريقها مع نظرته الضيقة على عينيها ولم تستطع أن تقف خصوصا وهي ترى قدميه وكأنه تستعد للأنقضاض عليها.....
لم تدرك إلا عندما وجدت نفسها تركض للخارج وبأسرع ما في قوتها وسرعتها ......زم وجيه شفتيه بغضب واندفع خلفها تاركا الحرس بالقسم وأمرهم بأغلاق أبواب المشفى .....
من التفات وصمت وارتباك بعينيها الحبيبة ....كان الأمر أكثر من كافِ ليعرف أنها هي !
➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖
كان الممر خارج غرفة العناية طويل وبه غرف على جانبيه ....خرج وهو يلتفت بجميع الجهات بنظرات يتطاير منها الشرر والغضب ولكنها اختفت بلمح البصر !!
أين هي ؟! ...أين اختفت ؟! ....كأنها لم تكن !!
اندفع يفتح الغرف بحركة غاضبة جنونية بأن يجدها ....فتح أثنين وعندما فتح باب الغرفة الثالثة وجد الممرضة منى تدثر طفل نائم بالأغطية ذو عشر سنوات كان مصاب بكسور في عظامه منذ أيام .....
قال وجيه بعصبية لها :
_ محدش دخل هنا ؟!
تظاهرت منى بالثبات وقالت :
_ لأ يا دكتور محدش دخل ....
كاد وجيه أن يخرج حتى شعر بحركة داخل حمام الغرفة فوقف وهو يمعن النظر اتجاه الحمام .....ثم نظر لمنى التي شحب وجهها من الخوف ليقول بحدة :
_ مين اللي هنا؟!
أشار اتجاه الحمام فقالت منى بتلعثم :
_ دي أم الطفل ده ....
ضم شفتيه في ضيق شديد ثم خرج من الغرفة متابعا بحثه .....
تأكدت منى أنه ابتعد بالفعل بالممر ثم اسرعت اتجاه الحمام وفتحت بابه وهي تقول إلى ليلى التي كانت تبكِ بصمت وهي تضع يديها على فمها تكتم شهقاتها :
_ الحمد لله عدت على خير ....بس لازم أعرف عملتي إيه خلى دكتور وجيه كده !!
استندت ليلى على مقبض باب الحمام ودموعها تتساقط وارتخى جسدها وكادت أن تسقط بإعياء :
_ معملتش حد اطمني .... أنا مشيت وكنت وعدته أني مش همشي ....دي كل الحكاية .....
قالت منى بشك :
_ حاسة أنه بيحبك ! .....دكتور وجيه من وقت ما أختفيتي وهو مش طبيعي وحاله اتقلب !
من صمت ليلى ونظرتها الساقطة بحزن للأسفل تأكدت منى من ظنها فقالت بعطف :
_ طالما كده يبقى تمام .....مش هجبرك تقولي حاجة وخصوصا دلوقتي ......
تاهت ليلى في حيرة وخوف فقالت :
_ بنتي ....عايزة بنتي ..... بنتي مع بثينة ....هروحلها أزاي دلوقتي وهنخرج أزاي اصلًا !!
امتلأت عين منى بحيرة وتردد ثم قالت :
_ هحاول اتصرف ....بس ما تطلعيش من هنا لحد ما ارجعلك ....ربنا يستر وتعرفي تخرجي من هنا ......
خرجت منى من الغرفة وليلى تحاول ايجاد مخبأ بالغرفة من اقتحام أي غريب الغرفة .....
➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖
طاف وجيه بالطابق بحثا ولم يجد لها أثرًا .....تلاحقت أنفاسه واصبحت عينيه گ الجحيم وكاد أن يبتعد من أمام غرفة العناية ليوقفه صوت بكاء طفلة ...!
اتجاه الباب المقابل لقسم العناية !!
الصوت مألوف لديه ....ليس بغريب ....جذب قلبه مباشرةً.....توجه للغرفة وفتح بابها ليجد بثينة تحاول أن تهدأ من بكاء الصغيرة ريميه !
عين الطفلة الحمراء بالبكاء رق لها قلبه ....قال بحنان عندما رآها وأشرق قلبه من شمس برائتها :
_ ريميه ؟
التفتت الصغيرة سريعا لمصدر الصوت وتوقفت فجأة وهي تطرف عينيها لتتأكد من ظنها ....
وقفت بثينة وهي تحمل الطفلة وقالت بخوف شديد أقرب للبكاء :
_ دكتور أنا .....
تبدلت نظرة وجيه عليها بعصبية وقال :
_ ليلى فين ؟ ....
كانت نظرة كفيلة أن يفهم أنها تآمرت مع ليلى للدخول إلى هنا دون علمه وهو من يجن بحث عنها .....
قطبت بثينة حاجبيها برعب من نظراته الغاضبة وقالت بتلعثم :
_ هي ..... هنا ...بس مش عارفة راحت فين ....
قال وجيه بعصبية وأمر :
_ سيبي البنت وأمشي....اعتبري نفسك مطرودة ....
تلألأت الدموع من عين بثينة بشعور الظلم .....لم يكن هو بذلك الجبروت أبدًا ...ولكنه اعتبر تصرفها مؤامرة عليه .....
تركت بثينة الصغيرة على المقعد وخرجت من الغرفة واغلقت الباب خلفها ......
التفت وجيه للصغيرة التي ابتسمت ووجهها غارق بالدموع ..!
اقترب اليها بلهفة، وضم قبضتيها الصغيرة التي رفعتها اليه بيديه الدافئة وقال وهو ينحني بعض الشيء .....همس وهو يقبل رأسها الصغير بحنان :
_ ريميه ...أميرتي الصغيرة .....
قالت ريميه وهي تطرف عينيه المبتسمة :
_ بابا وجيه ....وحشتني أوي أوي .... كنت بعيط عايزة أشوفك ....فين ماما ؟
تنهد وجيه بعمق ....ذات السؤال يتردد بعقله كل ثانية ...ويهتف به القلب ...أجاب:
_ أنتِ عايزة ماما ؟
قاطعته ريميه باجابة سريعة وعفوية :
_ عايزة ماما ...وعايزاك أنت كمان ....عايزاكم مع بعض ....
اجابة بريئة ....غير مقصودة من طفلة بعمرها الصغير الذي لم يتعدى الخمس سنوات ......ولكنها حملت ما يتمناه قلبه بجميع الأماني ....
صمت وجيه للحظات وشرد بعينيه حتى نظر للصغيرة من جديد ويشبع عينيه منها ...فقط اشتاق لها بشدة ....اشتياق أب لأبنته الغائبة .....قال بدفء :
_ لو بعدتِ تاني هزعل منك ....... عشان أنتِ وحشتيني أوي .... مش أنا بابا ؟
ابتسمت الصغيرة ورفعت يدها ترفع خصل شعرها التي تسقاطعت على وجهها وقالت ببراءة :
_ أيوة أنت بابا .... أنا حلمت بيك وأنا بقولك يا بابا .....كنت بتحضني أنا وماما ....
سرى الدفء بعين وجيه ....ليت حلم الصغيرة يتحقق .....ورغم كل شيء فأن غضبه من ليلى دفن مؤقتٍ برؤية الطفلة .....
➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖
تسللت ليلى بعد نفاد صبرها عبر الممر ....لتجد بثينة تسير متجهة لغرفة المنظفات وهي تمسح عينيها الدامعة فاوقفتها متسائلة بخوف :
_ بنتي فين ؟
نظرت لها بثينة وقالت بعصبية :
_ بنتك مع دكتور وجيه ...وبسببك أنا اتقطع عيشي ....مش عايزة ادعي عليكِ يا ليلى ....سيبيني بقى أمشي .....
احترقت غصة بحلق ليلى ....يكفيها عذاب ...لن تحتمل عذاب الضمير أيضا وهي من تسببت بطرد زميلتها المسكينة .....قالت بطلب :
_ طب ممكن اعمل اتصال من تليفونك ؟ ....لمكتب دكتور وجيه ....
لم تخف بثينة ...لم يعد بالأمر أي خوف بعدما تم طردها فقالت وهي تعطيها الهاتف :
_ لو تقدري تكلميه يرجعني يبقى كتر خيرك .....
ردت ليلى بتأكيد :
_ هحاول اصلح اللي عملته .... هو اكيد ميعرفش رقمك ..... تعرفي رقم تليفون مكتبه ؟
اجابت بثينة بالايجاب وتم إجراء المكالمة على الهاتف الأرضي للمكتب ....وبعد عدة محاولات كان قد دلف وجيه للمكتب وهو يحمل الصغيرة التي ارتسمت الابتسامة على وجهها بثبات ....وضع وجيه الطفلة على المكتب ورفع سماعة الهاتف بلهفة ...فقالت ليلى وهي تقف بغرفة المنظفات بتلعثم وتوتر :
_ أنا ليلى .....
تملك منه الغضب مجددٌا ....ولكنه تحكم بغضبه بوجود الطفلة ....أخذ الهاتف مبتعدًا عنها وقال إلى ليلى بتوعد وحدة :
_ مش بيهرب غير الجبان اللي مش قادر على المواجهة ..... كان في امكانك تواجهيني وتقولي كل اللي عايزة تقوليه ..... اكيد مكنتش هسجنك هنا !
كذبت ليلى وقالت :
_ أنا خرجت من المستشفى .....وعايزة بنتي ارجوك .....ولو ليا خاطر عندك ترجع بثينة لشغلها دي غلبانة ...... أنا اللي اتحايلت عليها هي مذنبهاش حاجة ....
صرّ وجيه على اسنانه بغيظ وغضب وقال :
_ عايزة بنتك يبقى تعالي خديها بنفسك .....عايزة ترجعي بثينة لشغلها اقفي قدامي واطلبي مني كده وجها لوجه .... أبواب المستشفى هفتحها ..... وأنا عارف أنك بتكذبي وأنك لسه هنا ....بس عارف كمان أنك مش هتقدري تمشي وريميه مش معاكِ ...... وأنا مش هسلمها لحد غيرك مهما كان .....
ابتلعت ليلى ريقها ذو الغصة بخوف من مواجهته ......فهتف بها بعصبية مرةً أخرى :
_ جبانة يا ليلى .....عيب اكتشفته بخلاف خيانتك وكذبك وعيوب كتير أوي فيكِ......جيهان أفضل منك الف مرة وهي اللي تستحق تشيل اسمي ..... تعالي خدي البنت اللي فعلًا ما تستحقش أم زيك ......
اغلق الهاتف وهي ما زالت تضع الهاتف على أذنيها بقلب يلتهب بالنيران والثورة ......
راقبتها بثينة بقلق وترقب .....لتجد ليلى تجهش في حالة بكاء وهي تضيق عينيها الغاضبة من ما سمعته منه......
خلعت ليلى الكمامة من وجهها وقالت بنيران تتقلى بعينيها :
_ أنا هروحله بنفسي ....وهاخد بنتي ومش هخليه يشوف وشي تاني .....
اتسعت عين بثينة بصدمة من مجازفة ليلى بالأمر....وللحظة غفلت عن أمر طردها وانحصر تركيزها كله على المقابلة الصادمة بينهما .......
اخذت ليلى ملابسها وخلف حاجز من الصناديق الورقية بدلت ملابس التمريض إلى ملابسها الاساسية ......
➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖
ودقائق كانت تقتحم مكتبه بثورة مشتعلة تطل من عينيها ....نظراته لها كانت ثابته وكأنه لم يكن يبحث عنها منذ قليل ....!
ولكنها تطلع به بغضب شديد ......ودموع تضرب أي مقاومة عرض الحائط .....جالت نظرتها عن ابنتها ولم تجدها !!
هتفت به بعصبية مفرطة :
_ جتلك بنفسي ومطلعتش جبانة ....بنتي فين ؟!
اقترب لها ببطء حتى وقف أمامها بثبات وتركها تثور ....لتكرر بشكل هيستيري من الغضب :
_ بنتي فين ؟! .... عايزة اخدها وأمشي من هنا ....أنا ما استحقش اي حاجة وكدابة وخاينة وبيعتك وغدرت بيك كمان ...... كفاية ولا أقول تاني ؟!
ضيق عينيه بنظرة شرسة ورد بثبات رغم غضبه :
_ لسه عندك تاني ؟! ......أكتر من كده ؟!
تذكرت ما قاله عن زوجته وهتفت بعنف وهي تبك :
_ آه عندي ..... وقولتلك سيبني في حالي بدل المرة اتنين وتلاته ....... ولا لازم اقولك أني مش بحبك !!
اسودت عينيه بصدمة .....اي شيء كان متوقع منها غير أنها تقول ذلك !! ..... اتسعت عين ليلى بعدما قالت ذلك في هوج غضبها .....صدمتها كانت من نفسها. ومما قالته !
ابتلعت غصة حارقة وهي تنظر له بقهر وتضرعت أن لا يصدقها ولكنه كاد أن يصفعه وتراجع وارجع يديه جانبه .....
لا تسحق يا قلبي ...لم تكن تستحق حتى تلك رفة الشوق بعينيه .....رجع وجيه خطوة ...وتلاها خطوة ....مبتعدًا عنها ....صدمة زلزلت كيانه بكل صدق .....
كان ينتظر منها الاعتراف بالحب .....لتصدمه أنها لا تحب !
أي منعطف مال قلبه إليه ؟!
وأي جحيم وضع نفسه به ......
ابتلعت ليلى ريقها بخوف عليه .....صدمة رجل كان قائدًا لجيش عظيم وهزم بآخر معاركه ...!
حاولت أن تقول شيء ولكنه أشار لها أن تصمت وقال بنظرة انهزام بعينيه :
_ أبعدي عني يا ليلى ....أرجوك أبعدي عني ..... لأول مرة من عشر سنين فاتوا أبقى عايز أخرجك من حياتي بجد .......كل مرة كنت بثور وأقول وأقول ...كلام كتير مكنتش بنفذ منه حرف مجرد ما بهدا وأحن ليكِ.....
المرادي لأ ......أنك قولتي كده والمفروض اتمسك ...ده مستحيل .....بنتك في نفس المكان اللي خصصته ليكِ هنا ...والدك تقدري تاخديه في أي وقت محدش هيمنعك ........ بس ابعدي عني ..... أنا كرهت قربك ......
نطقت اسمه ببطء من صدمته في حالته الغريبة التي لأول مرة تراه بها :
_ وجيه ....
قاطعها بحدة :
_ دكتور وجيه ....مافيش بينا أي رابط .....اتفضلي أمشي من هنا ....
لم تتحرك ليلى التي وكأن أصابها حالة من الجمود والتسمر .....فتحرك هو وخرج من المكتب وتركها تقف مكانها بلا حركة ......
➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖
غادر الفريق الطبي من منزل العمدة باستثناء الأربع شباب ....شباب العائلة الواحدة ......وصاحبهم الصبي نعناعه حتى مندرة الضيوف بجانب منزل العمدة .....
مندرة عبارة عن شقة صغيرة بها غرفة واحدة وحمام صغير مع مساحة واسعة لصالة الاستقبال يلفها الآرائك الخشبية التقليدية.......
قال نعناعه بحماس :
_ هروح بقى اجيبلكم الشنط وجاي .....
كان جاسر يضع يديه في جيبه وينظر للمكان بتمعن ....غادر الصبي فتهالك كلًا من رعد وآسر على الآرائك وقال رعد :
_ أنا كلت كتير ومش قادر اتنفس !
شاركه آسر قائلًا :
_ محتاج ساعتين رياضة عشان أقدر أنام ..... الأكل هنا دسم أوي ....
جلس يوسف بجانبهم بضحكة واثقة وقال :
_ أنا بقى زي الفل .... نفسي ابعت رسالة شكر لمعدتي بصراحة ..... بهنيها عليا
قال جاسر بضيق :
_ بقولكم ايه ....مش في سطح هنا ؟ .....اكيد يعني ....أنا طالع أشم شوية هوا ...... بدل الجو اللي اتقلب بط ومحشي وملوخية ده !!
توجه جاسر للدرج بخارج المندرة صعودًا لسطوح المبنى .....بينما سخر يوسف واستنكر قوله وقال :
_مش وش نعمة!
شرد رعد وظهرت ابتسامة على وجهه ....ضيق يوسف عينيه وهو يتسلل اليها مقتربا وقال وهو ينظر بعينيه جيدًا بوجهه :
_ سرحان في إيه يا رعد ؟ ..... ابتسامتك مرسوم فيها فتاة !
قال آسر بسخرية :
_ فتاة ! وهنا ؟! ...... أحنا بقالنا ساعتين هنا ماشوفناش أي فتاة لحد دلوقتي !!
قال يوسف بابتسامة تسخر منه وقال :
_ يابني هنا مش زي المدن ..... مافيش اختلاط والكلام ده ..... وبصراحة كده احسن ....
قال رعد بابتسامة تتذكر ذلك الوجه ذو السمرة المحببة :
_ هنا البنات جمالها طبيعي .... ضحكتها جميلة ....وبغمازة كمان ..... بتتكسف من أقل شيء ..... شيء كده يشغل البال وأسمر يا أسمراني وربنا يستر .....
هز يوسف رأسه بضحكة ماكرة وقال :
_ ما تقول هي مين وتفضفض يا رعدود !!
تابع رعد على نفس شروده :
_ بنت شوفتها صدفة ..... هو أنا مش عارف اتشدتيت ليها ليه تحديدًا ....... بس لما ضحكت بغمازتها دي قلب أخوك مابقاش على سابق عهده ......
اغمض يوسف عينيه بابتسامة شاردة وهو يتذكر حميدة :
_ أيوة ....ايوة ....كمل كمل ..... وقفت عند سابق عهده ...وبعدين ؟
هتف آسر فيهم بحدة ففتح يوسف عينيه بخضة ورمقه بغيظ .....ليقول آسر مجددًا :
_ ياريت نفوق لشغلنا كده بدل جو يوم من عمري ده اللي هيجبلنا مشاكل ...ويعطلنا ......
وقف يوسف قائلًا له بغيظ :
_ أنت اللي جواك ده مش قلب ....دي علبة تونة وفاضية !
رد آسر بسخرية :
_ احسن من برطمانات العسل اللي عندكم ...بس عسل أسود !
رد آسر وهو قاطب الجبين بغيظ من آسر :
_ يا كئيب يا عدو الفرحة !! ربنا يوقعك في واحدة تخليك ماتنامش الليل وتحتار حيرتنا وتسرح سرحتنا قادر يا كريم ....
➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖➖
وضع الفتيات الملابس المبتلة على سطوح المنزل .....تثاءبت حميدة وقالت :
_ بصراحة أنا تعبت ومش قادرة أنشر هدوم .....
وسايرتها رضوى التي كانت تكره هذه المهمة وقالت متظاهرة بالنعاس:
_ وأنا كمان ....هموت وأنام ....
فهمت جميلة الأمر وقالت ضاحكة :
_بتخلعوا يعني !! ...ماشي ......انزلوا وأنا هنشر الهدمتين دول واحصلكم ....
ركضا كلا من حميدة ورضوى ضاحكين إلى الأسفل ....وبدأت تفرد جميلة الملابس المبتلة على الأحبال .....
حتى لاحظت ظل لشبح طويل وعريض المنكبين خلفها .....
كان جاسر يقف بسطوح المبنى حتى لاحظ اصوات الفتيات ....لم يكترث للأمر حتى صدم بتلك الفتاة التي أوقعته بترعة الأرض الزراعية ..... قفز من على السور الفاصل بين المنزلين .....وتسلل بخفاء حتى استطاع الوقوف خلفها دون أن تشعر.... ورسم خياله ظل ضخم أمامها .....
انتفض جسد جميلة وهي تسمي في صوت مرتعش اسم الله وتتستعيذ بالله ..... كتم جاسر ضحكته ورفع يديه وكأنه سيخنقها فظهر ظل يديه ضخم جدًا جعلها تكتم صرخة بحلقها .....
ضخم جاسر صوته وتظاهر بأنه شبح وقال :
_ أنا عفريــــــت الليل ........ شيييييييش
جف ريق جميلة من الذعر ولكنها تعجبت وقالت :
_ شييش !! ..... عفريت القناة الخامسة !
استدارت جميلة وكادت أن تصرخ حتى ضحك جاسر عليها ووضع الرداء المبتل الذي كان بيدها على فمها لتصمت ...فقال وهي يحاول أن لا يضحك أكثر من ذلك :
_ أنتِ بتطلعيلي ليه كل ما بكون زهقان ؟!
حدجت جميلة فيه بصدمة ....لا يعقل أنه هنا ؟!
نظر جاسر لعينيها الملتعمة تحت قمر الليل وقال مبتسما بمكر :
_ عينك الحلوة دي خدت قلبي غسيل ومكوة ..... زي الغسيل اللي غسلتيه ده ....يكونش ده قلبي ومش واخدة بالك ! ولا دي.......
فجأة وجده نفسه يُدفع بعيدًا والملابس المبتلة تتدافع في وجهه فتأون بألم من اصطدم شيء معدني بوجهه وهي تهتف بعصبية :
_ لأ دي الله يرحمها كرامتك اللي هتتنشر وهتتعصر وهتتفرد دلوقتي ..... جاك حش وسطك يا بعيد.....
..... الحقونــــــــــاي....هموته