رواية قلب السلطة الفصل الخامس عشر بقلم مروة البطراوي
مكان مهجور – الليل دامس، والهواء يئن من الصمت
صوت باب حديدي يُفتح بعنف، يكسر السكون ارتطامه بالحائط، فتتردد أصداؤه كأنها قرع طبول حرب وشيكة.
رائد اقتحم المكان، خطواته ثقيلة كأنها تجرّ خلفها ظلاً من العتمة. عيناه… لا يرفّ فيهما طرف، لا شرارة فيهما سوى الجمر الذي تغذّى على اسم "أوس".
رآه… مُكبّلًا، متهالكًا، رأسه مُنكّس، أنفاسه متقطعة كأن الألم ينهشها. كان واضحًا أن استقباله كان "يليق به"، لكن لا شيء يليق بعذابه كما يليق يد رائد به الآن.
وقف أمامه، لم يتحدث فورًا… فقط تأمل هذا الذي سلبه روحه، ثم بصوت أهدأ مما يحتمل الغضب قال:
— "أنا قولتلك قبل كده… إلعب مع الكبار، بس متقربش من ولادي."
حاول "أوس" أن يتكلم، أن يتوسل، لكن الرباط المحكم على فمه منعه، فاهتز جسده وهو يحاول الحركة عبثًا. ابتسم "رائد" بسخرية باردة، ثم أشار للحارس بإيماءة صغيرة.
تحرك الحارس على الفور، فك الرباط عن فم "أوس"، ثم تراجع إلى الخلف، وكأن الأمر لا يعنيه. التقط "أوس" أنفاسه المضطربة، ثم همس بصوت مرتجف:
— "أنا... بحبها، والله العظيم بحبها، يا بيه!"
ظل "رائد" صامتًا للحظات، يحدّق فيه كأنه يحاول رؤية روحه ذاتها، ثم قال بنبرة ساخرة، ثقيلة:
— "بتحبها، فتخليها تروح معاك اي مكان ، '؟!"
اتسعت عينا "أوس"، ارتبك للحظة، لكنه سرعان ما قال بسرعة:
— "كانت متضايقة منك! إنت السبب في اللي حصل، إنت اللي ضغطت عليها ترفضني، وإنت اللي مخليها خايفة! أنا عمري ما كنت أذيها، يا بيه، أقسم بالله!"
قهقه "رائد" ضاحكًا، لكن ضحكته كانت بلا مرح، كانت كضربة سيف تُطلق في الظلام. ثم قال ببرود:
— "خايفة؟! آه... أكيد خايفة، مش عشان أنا، لكن عشان شافت حقيقة اللي مفروض إنه 'بيحبها'. بس للأسف، لسه مش شايفة الحقيقة كلها."
ثم مال بجسده للأمام، حدّق في عينيه مباشرة وهو يردف بصوت بطيء، كأن كل حرف يسقط بثقل على صدر "أوس":
— "بس أنا هخلّيها تشوفها."
ارتبك "أوس"، تجمدت ملامحه للحظة قبل أن يبتلع ريقه قائلاً:
— "أنا ما عملتش حاجة غلط، والله، أنا كنت عايزها تبقى معايا بعيد عنك! إنت اللي مش عايز حد يقرب منها!"
أغمض "رائد" عينيه للحظة، كأنه يحاول كبح الغليان داخله، ثم فتحهما وقال بصوت منخفض لكنه مشحون بالقوة:
— "أنا مش عايز حد يقرب منها... ولا إنت بالذات. ودي حاجة المفروض تكون فهمتها من زمان، قبل ما تفكر إنك تاخدها مني!"
ثم وقف ببطء، وأشار لأحد رجاله:
— "فكّ السلاسل."
تردد الرجل، لكن نظرة واحدة من رائد جعلته يطيع بلا نقاش.
فُكّت القيود… حاول أوس النهوض، لكنه لم يستطع. في لحظة، رائد باغته بركلة أطاحت به أرضًا، ثم اقترب، وانهال عليه بالضرب، بلكمة تلو الأخرى، كأن كل ضربة كانت استعادة لحظة خوف، كل صفعة كانت انتقامًا لبكاء نيرفانا، كل ركلة كانت طعنة في قلبه قبل أن تكون في جسد أوس.
صوته انفجر مع ضرباته:
— "دي نيرفانا! بنتي!! اللي قربت منها… أنا مش هسيبك! مش هرحمك!"
أوس يصرخ… يتوسل… لكن لا صوت يصل لرائد، لا شيء يُسمع إلا الغضب الذي أطبق على قلبه، إلا الدم الذي ينزّ من قبضتيه كأنه يطفئ النار فيه.
بعد دقائق… أو ربما ساعات… وقف يتنفس بصعوبة، نظر إلى جسد أوس المُهشَّم أمامه، تمتم بصوت كأنه نعيٌ:
— "سيبوه هنا... بدون أكل... بدون مية... وبدون فرصة للهروب."
انتفض "أوس"، جسده يرتجف وهو يصرخ:
— "لااا! رائد بيه! بلاش كده، أرجوك! أنا بحبها، أنا مستعد أعمل أي حاجة!"
لكن "رائد" لم يلتفت، خرج من الغرفة وأغلق الباب خلفه بصمت مطبق، تاركًا خلفه صرخات "أوس" تتلاشى في ظلام الغرفة، حيث لا أحد ليسمع، ولا رحمة لتُرجى.
---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
عودة إلى ليلي الجميلة –
كانت ليلي تجلس في غرفتها، يعتريها قلق عميق لم تستطع دفعه، إذ كانت تتلهف لمعرفة سبب غياب نيرفانا المتكرر. لم يهنأ لها بال حتى سردت الأمر على والدتها، علّها تجد تفسيرًا يشفي غليلها، إلا أن نيفين، وعلى غير عادتها، بدا على وجهها سرورٌ خفيّ، وكأنها تتلذذ بمشهد ما تختمر ملامحه أمامها.
لم يكن الأمر محض صدفة، بل كان كما توقعت تمامًا؛ خطة محكمة دبّرها رائد الذهبي ليضغط على ليلي حتى تقبل به زوجًا. الجميع يعلم مدى تعلّقها بنيرفانا، فهي بالنسبة لها ليست مجرد تلميذة، بل روحٌ امتزجت بروحها، وحرمانها منها لا يقلّ عن حرمانها من الهواء الذي تتنفسه.
أطلقت نيفين ضحكة خافتة، وهي تهمس لنفسها بسعادة:
— "أيوه يا بقي يا رائد.. فهمتك أنا.. إنهاردة البنت غابت تاني.. إنت تيجي بقي تضغط على ليلي بيها.. إن شاء الله كله هيبقى تمام! صدقت لما قلت لي 'متقلقيش'.. أيوه، وبكرة أجازة، والسبت كمان، والحد برضه، البنت متجيش المدرسة.. كده الموضوع ماشي تمام!"
لكن فجأة، قُطِعَ حديثها الداخلي بصوت ليلي، التي باغتتها من الخلف متسائلة بنبرة فضولية:
— "بتكلمي نفسك وبتقولي إيه يا ماما؟"
انتفضت نيفين في جلستها، واستدارت نحو ابنتها وقد بدا عليها الارتباك، قائلة باندهاش:
— "بسم الله الرحمن الرحيم! مش تكحي يا بنتي ولا تقولي حاجة، فزعتيني!"
رفعت ليلي حاجبًا وهي تكرر تساؤلها بإصرار:
— "بتكلمي نفسك وبتقولي إيه يا ماما؟"
زفرت نيفين ببطء، محاولة تهدئة نفسها، قبل أن تجيب بنبرة حملت شيئًا من اللامبالاة:
— "كنت بفكر ليه رائد رجع يمنع نيرفانا من حضور المدرسة."
عقدت ليلي حاجبيها، وردّت بحدة:
— "إيه يعني اللي يخليه يمنعها؟ ما يمكن غابت عادي؟"
ابتسمت نيفين ابتسامة ذات مغزى، وقالت بثقة:
— "رائد الذهبي بيضغط عليكي بنيرفانا يا ليلي، شفتي بيحبك إزاي؟"
تنهدت ليلي بضيق، وزفرت بعمق قبل أن ترد بسخط:
— "إنتي مصممة يعني؟"
قالت نيفين بإصرار لا يقبل الجدال:
— "أيــوه! ومش هلاقي لك جوازة أحسن من دي، الراجل زي الفل ومايترفضش!"
قبل أن ترد ليلي، اقتحم مهاب الغرفة فجأة، وهو يمضغ قطعة خبز في فمه، ويمسك بيده كوب شاي. نظر إليهما باستغراب، وقال وهو يرفع حاجبيه:
— "إيه؟ تاني بتتكلموا عن موضوع الجوازة دي؟"
رمقته ليلي بنظرة جانبية، وقالت بسخرية:
— "أيوه، أهو ناقصك إنت كمان تقول رأيك!"
ابتسم مهاب بمكر، ورفع الكوب إلى شفتيه، قبل أن يتمتم:
— "على فكرة... لو تجوزتيه، ممكن تعيشي في فيلا كبيرة، وعربية تودّيني الجامعة كل يوم، وأنا مش هقول لأ طبعًا."
حدجته ليلي بنظرة قاتلة، فأكمل بمكر:
— "بس بجد... رائد الذهبي ده مش أي حد، ده راجل تقيل قوي، وأنا سمعت ماما بتقول إن أسر العزبي وصالح الذهبي نفسهم مش قادرين عليه."
تجمدت ليلي للحظة، ونظرت إلى والدتها، التي اكتفت بابتسامة غامضة. لم تكن تجهل من هما أسر وصالح الذهبي… صالح عم رائد،و أسر الذى عرفها علي خيوط الحقيقه والخصوم الأشرس له، اللذان لطالما سعيا لإسقاطه.
عادت بنظرها إلى مهاب، الذي أكمل بنبرة أكثر جدية:
— "يعني يا ليلي... لو رائد حب واحدة، محدش يقدر يمنعها منه، حتى لو كانوا أسر وصالح نفسهم."
لم ترد ليلي، فقط ابتسمت ابتسامة ساخرة، قبل أن تقول بعزم لم يخلُ من التحدي:
— "ماااشي.. خليه يجي.. وأنا هثبتلك إنه مش مدهش أوي كده...!!"
---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
– طفولة نيرفانا وذكرى الفقدان
لم تفهم نيرفانا، حتى ذلك الوقت، لماذا كانت والدتها تهجرها دائمًا وترحل، مرة بعد أخرى، حتى جاء اليوم الذي قيل لها فيه إنها لن تعود أبدًا. كانت لا تزال طفلة حينذاك، وذاكرتها الصغيرة تنقش مآسي الطفولة البائسة على جدران روحها، فتلك الأيام حفرت في أعماقها يقينًا بأن الفقدان قدرٌ لا مفر منه، وأن الوداع حتمي كالغروب.
لكنها لم تصدق أن أمها رحلت وحدها. كانت طفلة لكنها لم تكن غبية. لقد اختفت أمها بعد شجار أخير مع والدها، ولم يكن الأمر غريبًا، فقد كانت تلك المشاجرات جزءًا من الحياة، كالأكل والنوم والذهاب إلى المدرسة. إلا أن هذه المرة، لم يكن هناك صوت صراخ في اليوم التالي، ولا خطوات غاضبة تهبط السلالم، ولا حتى بقايا عطرها في الممرات.
هذه المرة... لم تعد.
لم يقل لها أحد الحقيقة، لم يخبرها أحد بما حدث. حتى حين سألت، لم تجد إجابة، فقط نظرات تحمل شفقة تخنقها. أخبروها أن أمها رحلت، لكنها لم تكن غبية، كانت تعرف أن الرحيل الحقيقي لا يأتي وحده، بل يأخذ معه أشياء أخرى.
أخذت معها كل شيء.
ولم يكن والدها أفضل حالًا. اختفى هو الآخر لبعض الوقت، قيل لها إنه كان في رحلة طويلة، لكنها لم تستطع تصديق ذلك تمامًا. في نظرها، كان والدها رجلاً لا يُوثَق به، منذ طفولتها وهو يفرض عليها قوانينه الخاصة، قوانين لا تخضع لمنطق أو عدل، بل تنبع من رغباته المطلقة. لم تفهم معنى الهجران الذي اختارته والدتها، لكنها ربما فهمت الموت أكثر مما فهمت الحزن.
لقد كان فراق أمها المتكرر يشبه قِطَطها التي تموت واحدة تلو الأخرى دون أن تدري السبب، بل كان يشبه حتى النباتات والأشجار التي تحرص على زراعتها بيديها الصغيرتين، فتذوي أمام عينيها بلا تفسير. كل ما تحبه، كل ما تتعلق به، يختفي، يذوي، يموت. الشمس التي تتوق لرؤيتها سرعان ما تغرب، والقمر الذي ترى انعكاس وجهها عليه كل ليلة يختفي مع بزوغ الصباح. في عقلها الطفولي، لم يكن الموت بعيدًا عن هذه المسلمات، كان جزءًا من نظام الأشياء، حقيقة باردة تتكرر بلا رحمة.
وبينما كانت تجلس في إحدى زوايا غرفتها، تراقب شعاع الشمس المتسلل من النافذة، همست لنفسها بصوت خافت، كأنها تحاول استيعاب الحكاية بأكملها:
— "ليه يا أمي؟ ليه سبتيني؟ كنتِ لازم تروحي كده؟"
لكن في الحقيقة، لم يكن السؤال موجّهًا لأمها وحدها.
في داخلها، كانت تعرف أن هناك من دفعها للرحيل.
لم يكن هناك من يجيب، سوى صوت الريح التي تحرك ستائر الغرفة برفق، كأنها تربت على وحدتها.
لم تحتمل رؤية والدها لأسبوعٍ كامل، فتجنّبته قدر استطاعتها، لكنّه، كعادته، لم يكن ممّن يُتركون جانبًا دون أن يفرضوا حضورهم. ولأنّ صبره قد نفد، قرّر أن يُحاسبها كما يرى هو مناسبًا.
---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
وقفت يقين عند باب الغرفة، تتأمل شقيقها الذي اقتحم المكان بملامح لا تُنبئ بالخير. كانت تعي شدّة غضبه، ولكن رغم ذلك، حاولت التدخل بحذر، قائلة بتوجس:
— "رائد!.. "
رمقها بنظرةٍ واحدة، فازدردت ريقها قبل أن تتابع، مترددة:
— "أنا كنت بأكل نيرفانا الغدا بتاعها.. بس هي مغلباني شوية.."
لكنها توقفت في منتصف جملتها، حين لم تجد أي استجابة منه. وقبل أن تتجرأ على قول المزيد، أتاها صوته حاسمًا، قاطعًا تردّدها:
— "اطلعي وسِبينا لوحدنا شوية، يا يقين."
— "أسيبكوا لوحدكوا؟! رائد!"
— "يقين!"
قالها بلهجةٍ تحمل من الإنذار ما يكفي لثنيها عن أي جدال، ثم أكمل ببرودٍ نافذ:
— "من فضلك... اطلعي وسبيني مع بنتي شوية."
نظرت إليه بعدم ثقة، لكنها أدركت أن لا جدوى من المعارضة. تنهدت بيأسٍ وأطاعته، ولكن قبل أن تخرج، مرّت بجواره وهمست برجاءٍ مذعور:
— "رائد، بليز بالراحة عليها.. عشان خاطري، البنت بجد مش حملك دلوقتي.. خليك لطيف، بلييييز.. وأه، أنا آسفة، حكتلها على حاجة كدة .. كنت مضطرة، والله.."
لم يُظهر رائد أي رد فعل، ظل ثابتًا، كأنّه لم يسمعها، بينما انسحبت يقين على عجل، تخشى أن يغلبها قلبها فتعود مجددًا.
---
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
داخل الغرفة، لم تكن "نيرفانا" قد رفعت رأسها بعد. ظلّت تحتضن ساقيها، متكوّرة كأنّها تحاول الاختفاء عن العالم. لم تتحرّك حتى عندما تقدّم والدها خطوة، ثم أخرى، حتى صار أمامها تمامًا.
وقف "رائد" للحظات، ينظر إليها بصمت، أنفاسه بطيئة لكنها مضطربة، كأنّه يحاول تهدئة العاصفة التي تضرب صدره. ثم، دون أي مقدمات، جلس على الأرض أمامها، جعل المسافة بينهما معدومة، حتى لم تعد تستطيع التظاهر بعدم رؤيته.
مد يده، أزاح خصلات شعرها عن وجهها، صوته خرج خافتًا لكنه مشحون بكل ما يكبته داخله:
— "بصّي لي يا نيرفانا..."
ترددت، لكنها أطاعته، رفعت عينيها ببطء، لتجد عينيه جامدتين، لكن خلف الجمود... كان هناك شيء آخر، شيء لم تستطع قراءته.
قال بهدوءٍ مريب:
— "أنا شُفتك، بعيني شُفتك... والوجع اللي حسّيته يومها، عمري ما حسّيته قبل كده."
تجمدت أنفاسها، حاولت أن تتكلم لكنه لم يترك لها فرصة، أكمل بصوتٍ منخفض لكنه قاتل:
— "أنا ممكن أسامح أي حد، إلا اللي خدعني... إلا اللي سرق مني حاجة تخصّني..."
شعرت بقشعريرةٍ تسري في جسدها، كان يقصدها؟ أم يقصد غيرها؟ تلعثمت وهي تقول:
— "بابا... أنا..."
لكنه لم يمهلها، فجأة، شدّ ذراعيه حولها بقوةٍ أربكتها، جعلت عينيها تتسعان في صدمةٍ كاملة، فبادرها بصوته الخشن:
— "ما تتفاجئيش..."
ابتلعت ريقها بصعوبةٍ، بينما أكمل بنبرةٍ امتزج فيها الغضب بالعجز:
— "إنتي نقطة ضعفي، وإيدي اللي بتوجعني ومقدّرش أقطعها.. أنا بحبك يا نيرفانا، بحبك أكتر من نفسي ومن روحي.. ليه تعملي فيا كده؟ ردي عليا.."
رفعت "نيرفانا" وجهها نحوه بصعوبةٍ، محاربةً الغصّة التي تخنق حنجرتها، قبل أن تهمس بصوتٍ مرتعشٍ:
— "أنا ما عملتش حاجة، ليه مش قادر تفهم إني بحبه؟.. إنت بعدته عني، هو الحب وحش يا بابي؟!.. كل ما أحب حد تبعده عني.. مش حابب تشوفني سعيدة؟"
تنهد "رائد" بضيقٍ، ثم قال بنبرةٍ جادّة:
— "لأ، الحب مش وحش، يا نيرفانا.. بس لما نتعامل معاه بالعقل قبل القلب.. وإنتي للأسف تبعتي قلبك بس، وكنتي هتروحي مني.."
ضغطها في حضنه أكثر، كأنّه يحاول حمايتها من نفسها، لكنها انتفضت بين ذراعيه، تهتف ببكاءٍ مرير:
— "بس "أوس" كان بيقول إنه بيحبني.. وأنا وثقت فيه!.."
"لدرجة إنك تهربي من أبوكي عشانه؟!"
ابتعد قليلًا عنها، لينظر في عينيها مباشرةً، قبل أن يضيف بحدةٍ لا تخلو من الألم:
— "أهو طلع عيل ابن كلب.. خدك وكان عايز يستغلك، ولولا وصلتلك في الوقت المناسب.."
ارتجف صوتُه في آخر جملته، لكنه أكمل، وقد ارتسمت على ملامحه لمحةٌ من الرعب:
— "مش متخيّل لو كان عمل فيكي حاجة كنت هعمل فيه إيه.. وإنتي؟ لو كنتي فوقتي ولقيتي نفسك خلاص، كنتِ هتواجهي الدنيا إزاي؟!"
تجمدت "نيرفانا"، وسالت دموعها على وجنتيها، ثم رفعت كم كنزتها لتمسحها سريعًا، قائلةً بصوتٍ مرتجف:
— "يعني إيههو كان ممكن "يعتدي" عليا؟ وضّح كلامك.."
صمت "رائد" للحظةٍ، ثم قال بصوتٍ أقرب للهمس:
— "مش قادر أوصفلك الموقف اللي تخيلتك عليه.."
مرّت لحظات ثقيلة قبل أن تهمهم "نيرفانا" بتفهمٍ، فتابع بصوته العميق، محاولًا تهدئتها:
— "على أي حال، أديكي جربتي بنفسك، وأكيد عرفتي إن أبوكي مش بيحاول يقف في طريقك عشان يضايقك.. كنت بحاول أحميكي، وإنتي اللي كنتِ مصممة تأذي نفسك.."
تشبثت بذراعه، ورفعت عينيها إليه برجاءٍ خافت:
— "بابي.. بليز.. أنا حبيته بجد.. بلاش تأذيه.. ممكن تسامحه؟"
رمقها "رائد" بضيقٍ شديدٍ، قبل أن يهتف باستنكار:
— "تاني؟ هتقولي حبيته؟! يا بنتي، قلتلك ده ولد مش كويس، وعايز يستغلك، عايزة إثبات تاني؟"
أطرقت برأسها خجلًا، فتنهد والدها، ثم رفع ذقنها بإبهامه، مجبرًا إياها على النظر إليه، قبل أن يقول بجديّةٍ مهيبة:
— "طيب يا نيرفانا، أنا معاكي للآخر.. واللي إنتي عايزاه هيحصل.. وحياتك عندي، لأجبلهولِك راكع تحت رجليكي!"
نظرت له في صدمةٍ مدهوشة، قبل أن تهتف بذهول:
— "من غير أذية يا بابي؟ ليه مصر؟"
قال بابتسامةٍ غامضة، ثم أكمل بثقةٍ مهيبة:
— "إنتي بنت "رائد الذهبي".. يعني تقعدي مكانك، وكل اللي إنتي عايزاه يجي لحد عندك.. متروحيش لحد برجليكي تاني، وتكسري ظهري قدام اللي يسوى واللي ما يسواش.. مفهوم يا نيرفانا يا حبي؟ الواد ده أنا هجبُهولِك راكع.. أي أوامر تانية؟"
ضحكت "نيرفانا"، فقفزت على والدها، محتضنةً إياه بقوةٍ وهي تهتف بفرحٍ غامر:
— "بابي!.. إنت بتتكلم بجد؟! يعني هشوف "أوس" تاني؟! بحبك جدًا!"
أحاطها "رائد" بذراعيه، ثم قال بصوتٍ هادئ، لكنه يحمل بين طياته نيةً مبيّتة:
— "هوافق عشان خاطرك إنتي.. مش إنتي عايزاه؟ أنا هخليه تحت رجلك.. هجوزهولِك!"
تراجعت "نيرفانا" خطوةً إلى الخلف، هاتفةً باندهاشٍ لا يخلو من رفض:
— "عايزني أتجوزه؟! غريبة أوي ومش معقولة بالمرة!"
لم يبدُ على ملامح "رائد" أي أثرٍ للمداعبة أو المزاح، بل نفث دخان سيجارته ببطء، قبل أن يقول بحزمٍ ثابت:
— "أيوه، وإنتي اللي طلبتيه... صح؟"
حدّقت فيه للحظات، ثم همست بصوتٍ مهتز:
— "بابي.. بس أنا لِسّه13 سنة!"
ابتسم "رائد"، ابتسامةً باهتة... لكنها لم تصل لعينيه.
ثم فجأة، أطفأ سيجارته بعنف، ونهض واقفًا، قبل أن يردف بصوتٍ خافتٍ لكنه مشحون بمعانٍ مبطنة:
— "بس قبل كل ده، لازم الأول أعرف حاجة.."
استدارت "نيرفانا" إليه بدهشة، وقالت بقلقٍ متردد:
— "حاجة إيه؟!"
استدار نحوها ببطء، نظر في عينيها نظرةً جعلت الدماء تجمد في عروقها، ثم قال بنبرةٍ مشحونةٍ بالغموض:
— "لازم أعرف الحقيقة كاملة... عن اللي حصل بينك وبين أوس!"
***************
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
اتسعت عينا "نيرفانا" في رعب، جفّ حلقها تمامًا، بينما تنقلت نظراتها على ملامح والدها، تحاول أن تجد أي أثرٍ للمزاح فيما قاله… لكنها لم تجد.
ارتعشت أنفاسها وهي تهمس، محاوِلةً التملّص:
— "بس أنا قلتلك كل حاجة يا بابي…"
رفع "رائد" حاجبًا ساخرًا، ثم اتكأ بظهره على أقرب كرسي، عقد ذراعيه على صدره، وقال بنبرةٍ رخيمة لكن قاتلة:
— "نيرفانا، ما تحاوليش تلعبي معايا لعبة الغباء… أنا كبير كفاية ، بس معرفش … معرفش الكلام اللي دار بينك وبين الواد ده قبل ما شامل يوصل ، وده أهم حاجة عندي دلوقتي."
بدأت أنفاسها تتسارع، عقلها يعمل كالإعصار، تحاول تذكر كل كلمة تفوّهت بها أمام "أوس"، تحاول تقييم مدى خطورة ما قد يصل لوالدها إن عرف…
لكن قبل أن تفكر في أي رد، تقدم "رائد" خطوةً، مدّ يده وأمسك بذقنها برفق، جعلها تنظر إليه، قبل أن يقول بنبرةٍ أكثر هدوءًا، لكنها أشد قسوةً:
— "هسألك آخر مرة… إنتي قولتِ له إيه يا نيرفانا؟ وكان بيقولك إيه قبل ما شامل يوصل ؟"
تعثرت الكلمات في حلقها، وبدأت الدماء تتراجع من وجهها، لم تستطع التفكير في أي شيء سوى…
تلك اللحظة تحديدًا.
عندما وقفت أمام "أوس"، بعد أن أمرت "حور" بتركهما وحدهما…
عندما نظرت في عينيه وقالت له تلك الكلمة التي لم تقلها لغيره من قبل…
"أنا واثقة فيك!"
ارتجفت شفتاها، أغمضت عينيها بقوة كأنها تحاول طرد تلك الذكرى، لكنها عادت لتفتحها مجددًا عندما سمعت صوت والدها ينطق ببطء، نبرة صوته أصبحت أكثر خطورة، أكثر قتامة:
— "ولا بلاش، ما ترديش دلوقتي…"
أطلق زفرةً متعبة، ثم أكمل بصوتٍ كأنه يُلقي بعبء ثقيل من على كتفيه:
— "أنا اللي هعرف كل حاجة بنفسي…"
تجمدت، رفعت رأسها ببطء، حدقت فيه بارتباك، قبل أن تسأل بصوتٍ مهزوز:
— "تعني إيه؟!"
ألقى عليها نظرةً طويلة، ثم ابتسم ابتسامةً باردة قبل أن يردف بهدوءٍ قاتل:
— "أديت أوامري… "أوس" في طريقه لحد هنا دلوقتي، ولو حابب يقول حاجة، هيقولها قدّامي… وهيقولها كلها!"
تصلّبت أطراف "نيرفانا"، بينما حلّ الرعب في عينيها محلّ كل المشاعر الأخرى…
"أوس" قادم إلى هنا… لمواجهة "رائد الذهبي"!
ارتجفت شفتيها، حاولت استجماع أي كلمة، لكن عقلها لم يكن يعمل، لم تستطع التفكير سوى في شيءٍ واحد:
"لو "أوس" قال أي حاجة غلط… بابا مش هيسامحه أبداً!"
حدقت في والدها في رعبٍ مكتوم، بينما كان هو يقف بثقةٍ تامة، وكأنه قد أتمّ خطته بنجاح…
والآن، لم يتبقَ سوى أن يلعب الجميع وفقًا لقواعده.
*******
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
في تلك الأثناء، عند بوابة البناية …
توقفت السيارة أمام المدخل، نزل منها "أوس" ببطء، كانت ملامحه شاحبةً رغم محاولته الحفاظ على هدوئه، عيناه تضيقان بتوجّس وهو ينظر إلى السور العالي، ثم إلى الحراس المنتشرين عند المدخل، يراقبونه دون أن ينطقوا بكلمة.
بلع ريقه، تراجع خطوتين لا إراديًا، لكن الصوت البارد الذي جاءه من الخلف جعله يجمد في مكانه:
— "إنت ماشي لفين؟"
التفت ليجد رجلًا ضخم الجثة، يرتدي بدلةً سوداء، عينيه غامقتين كأعماق بئر، يتأمله بثباتٍ كأنّه يستطيع قراءة كل أفكاره.
أحسّ "أوس" أن قدميه التصقتا بالأرض، لكنه حاول التحلي بالشجاعة وهو يسأل بصوتٍ متردد:
— "هو… هو الأستاذ "رائد" اللي طلبني؟"
لم يرد الرجل، بل اكتفى بالإشارة برأسه نحو الداخل، بينما انفتح الباب الحديدي بتباطؤٍ كأنّه يعلن عن بدء محاكمةٍ لا عودة منها.
ابتلع "أوس" خوفه، ثم تقدم، حذِرًا في كل خطوة يخطوها، عيناه تراقبان القصر الفخم، والحديقة الواسعة التي لم تكن تبعث في قلبه أي راحة… بل مزيدًا من التوجّس.
وفي الداخل…
كانت "نيرفانا" تجلس على الأريكة، أصابعها تضغط على بعضها بعصبيةٍ، عينها لم تفارق والدها، الذي كان يقف عند النافذة، ظهره إليها، يدخّن سيجارته في صمتٍ ثقيل.
حاولت أن تتكلم، أن تقنعه بعدم التهور، لكن كل كلماتها اختنقت في حلقها عندما سمعت صوت فتح الباب…
التفتت بسرعة، ليتلاقى بصرها مع "أوس"، الذي وقف عند المدخل، أنفاسه مضطربة، عيناه تتنقلان في القاعة بحذرٍ واضح، حتى استقرتا أخيرًا على الشخص الذي ينتظره…
"رائد الذهبي".
التفت إليه "رائد" ببطء، ألقى عليه نظرةً باردة، طويلة، كأنه يزن وجوده نفسه، قبل أن يقول بصوتٍ هادئ لكنه كالسيف القاطع:
— "ادخل واقفِل الباب وراك."
لم يتجرأ "أوس" على معارضته، فعل كما طُلب منه، ثم وقف في مكانه متصلبًا، محاولًا أن يخفي ارتجاف أصابعه.
تقدّم "رائد" نحوه خطوتين، لا أكثر، ثم سأله مباشرةً، بلا مقدمات:
— "عارف أنا جايبك ليه؟"
حاول "أوس" التحدث، لكنه شعر أن صوته قد خانه، فأجبر نفسه على الابتلاع قبل أن يهمس:
— "أنا… يمكن عشان حضرتك عايز تفهم اللي حصل؟"
ارتفع حاجب "رائد" ساخرًا، ثم قال بصوتٍ ساخرٍ بارد:
— "آه… أنا عايز أفهم، وأنت اللي هتشرحلي، من غير ما أحتاج أضغط عليك… صح؟"
تجمّد "أوس"، بينما رفعت "نيرفانا" يديها بتوتر، وكأنّها تحاول التدخل قبل أن ينفجر الوضع، لكنها لم تجرؤ.
اقترب "رائد" أكثر، نظر مباشرةً في عيني "أوس"، ثم نطق بالكلمات التي جعلت قلبه يسقط في قدميه:
— "قُل لها… إنتَ كنت عايز إيه منها؟!"
تسارعت أنفاس "أوس"، توتره تضاعف، بينما أضاف "رائد" بصوتٍ أكثر حِدّة، وأكثر برودًا:
— "أنا عارف الإجابة، بس عايزها تسمعها منك… دلوقتي، وأدامي أنا بس."
تبادل "أوس" النظرات مع "نيرفانا"، التي كانت تهز رأسها بلهفةٍ، ترجوه أن لا يقول شيئًا قد يزيد الطين بلّة… لكن الوقت قد نفد، والسؤال كان صريحًا.
إما أن يجيب… أو يترك "رائد الذهبي" يوضح لها بنفسه.
**********
قلب السلطة بقلمي مروه البطراوى 💜
لم يكن "أوس" بحاجة إلى كثير من الذكاء ليدرك أنّ أي إجابة خاطئة ستكلفه أكثر مما يحتمل، ومع ذلك، لم يستطع منع نفسه من بلع ريقه في توتر، قبل أن يجيب بصوتٍ مرتعش:
— "أنا… أنا كنت بحبها، والله العظيم بحبها، ومش عايز منها حاجة وحشة، بس…"
رفع "رائد" يده فجأة، فأطبق الصمت على الجميع، قبل أن يميل نحوه قليلًا، قائلاً بنبرةٍ منخفضة لكنها زلزلت قلبه:
— "بس إيه؟ كمل!"
رمش "أوس" بعينيه سريعًا، قبل أن يهمس بارتباك:
— "بس… كنت خايف من حضرتك، من رد فعلك… وخوفت لو جيت طلبتها رسمي ترفض."
ارتفع حاجب "رائد" قليلًا، بينما قطب جبينه وهو يحدق في الشاب الواقف أمامه كأنه ينظر إليه للمرة الأولى. صمت للحظات، ثم فجأةً، ضحك ضحكة قصيرة باردة، قبل أن يقول باستهزاء:
— "يعني كنت عايز تاخدها من غير إذني؟ تهرب بيها عشان خايف أرفض؟!"هو ده كل السبب
— "لا… لا والله العظيم، أنا… ما كنتش بفكر أعمل كده!"
لم يكن "أوس" قد أنهى جملته حين قذفه "رائد" بنظرةٍ واحدة فقط، جعلته يشعر بأن الهواء قد تجمد في رئتيه. تقدم نحوه أكثر، حتى باتت المسافة بينهما شبه معدومة، ثم قال بصوتٍ مخيفٍ:
— "إنتَ كداب… وكذاب قليل الذكاء كمان! مش عايز تقولها حقيقتك يا واطي"
لمعت عينا "أوس" بقلقٍ حقيقي، بينما تنفست "نيرفانا" بحدةٍ، تحاول التدخل بأي طريقة قبل أن تتفاقم الأمور أكثر.
لكن قبل أن تتمكن من فتح فمها، سمع الجميع صوت طرقات خفيفة على الباب، تبعها دخول "يقين"، التي وقفت عند العتبة وعيناها تتنقلان بين الوجوه المتوترة.
رفعت حاجبها قليلًا وهي تقول بلهجةٍ جامدة:
— "أنا أسفة للمقاطعة، بس "شامل" طلب مقابلتك فورًا؟"
تصلبت ملامح "رائد" للحظة، بينما ارتجف جسد "أوس" بالكامل، وأحسّ أن الهواء قد فُرِّغ من الغرفة تمامًا…
"شامل!"
نظر "رائد" نحو الباب، حيث ظهر "شامل"، الذي وقف هناك، عاقدًا ذراعيه فوق صدره، وعلى وجهه نصف ابتسامةٍ لم توحِ بأي خير.