![]() |
رواية سدفة ج2 (عن تراض) الفصل الثامن والعشرون بقلم أيه شاكر
انقطع تفكيرها حين وقف أمامها، فجأة، بجسده المنتصب وملامحه المتصلبة.
شهقت دون أن تشعر، وارتدت خطوة للخلف بفزع، كأن جسدها تحرك من تلقاء نفسه، يدفعها للهروب...
تلعثمت، وهمست بصوت خافت بالكاد يُسمع:
-بـ... با... بابا...
انعقد حاجبا «صالح»، ورد بصوت خالٍ من أي أثر للتعاطف:
-إيه مالك؟ شوفتي عفريت؟
ابتلعت ريقها في مرارة، واحتبست الكلمات في صدرها، تتصارع بداخلها كطيور مذعورة، لكنها عجزت عن الوصول إلى شفتيها.
كانت صرخاتها تحترق في داخلها: لماذا جئت؟! ابتعد! ماذا تريد مني؟ لماذا فعلت ذلك؟!
لكن شفتيها ظلتا مغلقتين، ولم تملك سوى أن تحدق في ملامحه المتصلبة، وكأن عينيها تحاولان أن تفهم، أن تجد شيئًا خلف هذا الوجه الجامد.
مرّت لحظة ثقيلة، مشبعة بالصمت، قبل أن يقول بنبرة خفّت حدتها قليلًا:
-أنا جيت أعتذرلك... على اللي حصل.
وصلت كلماته إليها باهتة، كأنها صدى بعيد بلا حياة، ومع ذلك، لم تلبث أن لاحظت تغيرًا طفيفًا؛ وجهه ارتخى قليلًا، وصوته حمل لمسة واهنة من الأسى وهو يضيف:
-العربية اتقلبت بيا أنا ومراتي وعيالي، كنت خايف أموت وإنتي زعلانة مني... سامحيني يا بنتي...
تاهت نظراتها بين قسمات وجهه، كأنها تبحث عن صدق دفين وسط أنقاض من الخيبة...
أرادت أن تتسلل إلى أعماقه، أن تفتش في قلبه، أن تميز بين الحقيقة والتمثيل.
لم تجد سوى عينيه، محمّلتين بحزن غامض...
ثم وبلا مقدمات، مدّ «صالح» ذراعيه نحوها وضمها إليه.
شعرت بجسده المضطرب، وارتجاف أنفاسه التي اصطدمت بكتفها بأنين خافت، كأنه يحاول أن يكبح البكاء...
تجمدت مكانها، عاجزة عن الحركة، كانت تشعر بأنفاسه المرتعشة، لكنها بقيت ساكنة، لا تدري إن كانت تنتمي لهذه اللحظة أم تنفر منها.
وفجأة، شق صوت قلق الأجواء داخلها:
-رحمة!!
رفعت «رحمة» رأسها ببطء، وعيناها تسبحان في بحيرة من الذهول، تتشبثان بالواقع كمن عاد توا من حلم مربك.
رأت «بدر» واقفًا، وعلى مقربة منه «نادر»، لا يفصل بينهما وبينها سوى خطوات معدودة.
أفلتها «صالح» ببطء، ثم استدار نحو مصدر الصوت.
بدل نظراته بين «نادر» و«بدر»، وكأنه يزن الموقف بعين خالية من الانفعال.
وأخيرًا، ثبت عينيه على بدر، وبملامح استعادت جمودها الكامل، نطق بصوت خالٍ من المشاعر:
-نعم؟
شعرت رحمة بجفاف في حلقها، وازدردت ريقها بتوتر، ونظراتها تنتقل بين «بدر» و«صالح»، بينما خاطب «بدر» «صالح» بنبرة حادة:
-راجع ليه؟ عايز منها إيه بعد اللي عملته فيها؟
ارتسم على وجه صالح شبح ابتسامة ساخرة وقال:
-إنت مالك؟ ومين إنت عشان تتدخل...
ثم استدار إلى «رحمة»، يتفحص وجهها بعينيه، وخرج صوته يتشح بالحدة وهو يشير نحو «بدر»:
-مين ده؟
لم يترك لها «بدر» فرصة للرد إذ تقدّم من «صالح» خطوة، بجسد مشدود وقال بنبرة ثابتة:
-أنا المدرس بتاعها...
ثبت «صالح» نظره في وجهه برهة، ثم قال بنبرة هادئة مغايرة لما سبق:
-إنت بقا... أكيد مستر بدر!
تبادل «بدر» و«نادر» نظرة قصيرة، ثم أجاب بدر:
-أيوه أنا مستر بدر...
اتسعت ابتسامة «صالح»، واكتسبت نبرته نعومة غير معتادة:
-فرصة سعيده يا مستر... اعذرني لو انفعلت في البدايه مكنتش أعرفك...
نظر «بدر» إليه دون رد، ثم التفت إلى «رحمة» وقال بنبرة مفعمة بالقلق:
-إنتِ كويسه يا رحمه؟
أومأت له بهدوء، قبل أن تدير وجهها وتمضي مسرعة نحو البيت...
لم تكد تبتعد كثيرًا حتى اختنق صوتها بشهقة باكية، حاولت كتمها قدر استطاعتها كي لا يسمعها أحد...
تابعها «صالح» بنظراته لثوانٍ، ثم رمق «نادر» بنظرة سريعة قبل أن يوجه كلامه لـ «بدر»:
-ممكن كلمتين لوحدنا يا مستر بدر...
***********
كانت «مريم» تتصفح صفحات الكتاب بعينين غارقتين في السطور، فقطع تركيزها رنين هاتفها.
نظرت إلى الشاشة، فرأت اسم «ماما وئام» يسطع عليها. وضعت الكتاب برفق على الفراش، وأجابت بنبرة هادئة:
-ألو يا ماما...
جاءها صوت «وئام» كعاصفة:
-إنتي فين يا مريم؟!
في تلك اللحظة، وصلت فاطمة عند باب الغرفة تحمل صينية عليها أكواب عصير باردة، فتوقفت حين تناهي لسمعها صوت «مريم» وهي تقول بخفوت:
-بتزعقيلي ليه يا ماما؟! أنا بس روّحت أشوف رغدة وأنا راجعة من الدرس... واستأذنت من بابا، والله... حاضر، حاضر، جاية على طول... خلاص بقا جايه...
أغلقت «مريم» الخط على مضض، ثم تنهدت وهي تنهض واقفة، نظرت للكتاب على الفراش لبرهة ثم دسته في حقيبتها وخطت نحو الباب، وارتدت خطوة بارتباك حين التقت عيناها بعيني فاطمة، التي وقفت حائرة وهي تحمل الصينية، قالت فاطمه بحزن:
-رايحه فين؟
نظرت مريم للصنية وتذكرت تحذير والدتها ألا تشرب شيئًا عند فاطمة، حاولت التظاهر باللطف فابتسمت وقالت:
-أنا آسفة يا تيته، لازم أمشي دلوقتي... هشرب معاكي العصير وقت تاني إن شاء الله.
ظهرت خيبة الأمل في ملامح «فاطمة»، وارتخت يداها، فمالت الصينية قليلًا من ثقل الحزن...
فوضعتها على المكتب وأطرقت...
لاحظت «مريم» لكنها استأذنت بلطف وأسرعت لترتدي حذائها فتبعتها فاطمة وهي تقول:
-ابقي خلينا نشوفك يا مريم...
انتهت مريم من ارتداء حذائها واقتربت تحتضنتها برفق، ثم قبلت رأسها وقالت بعفوية:
-إن شاء الله يا تيته... هجيلك تاني، وأقعد معاك وقت أطول... أنا أصلًا بحبك أوي.
اتسعت ابتسامة «فاطمة»، وشعّ النور في عينيها.
ترددت كلمة "بحبك" في أرجاء قلبها، كأنها تعيد الحياة لجدرانه، فلم تسمعها منذ زمن طويل حتى رحمه ورغدة لا تتذكر أنهما نطقاها من قبل!
وحين همّت مريم بالخروج، لحقت بها فاطمة بخطوات مرتجفة، وقالت بنبرة دافئة:
-خلي بالك من نفسك يا حبيبي.
أومأت «مريم» ولوّحت لها بابتسامة...
أشفقت على فاطمة، وقفت قليلًا في الشارع، تنظر يمينًا ويسارًا، وكأنها تبحث عن قرار... ثم استدارت بثبات نحو بيت دياب.
وفي الأعلى، أغلقت فاطمة باب شقتها، وعادت تجلس على طرف الأريكة، تنظر إلى أكواب العصير التي لم تُمسّ، ثم رفعت كوبًا منها، واحتضنته بيديها المرتجفتين... وبدأت دموعها تنزل بهدوء، تسقي وحدتها.
استغفروا 🌸
*****
ومن ناحية أخرى...
في بيت «دياب»، وتحديدًا في شقة «رامي»، كانت «ريم» تقف في المطبخ، تصب القهوة في فنجان صغير بعناية، بينما وقف خلفها أخوها «محمد»، مستندًا إلى الحائط وذراعيه متشابكتان على صدره.
كانت الأجواء مشحونة بحديث ثقيل، يدور حول «رغدة» و«رحمة»، وما فعله «صالح» بهما، وعن حالة «رغدة» التي لم تتحسن حتى الآن.
ساد صمت طفيف قطعته ريم التي رمقته وقالت:
-ماما عامله ايه معاك؟ لسه بتعامك بقسوة؟
تنهد محمد وبدأ يتحدث، وصوته يخرج ممزوجًا بالمرارة، قال:
-والله أنا بحاول من زمان أكون بعيد عن والدتك قدر الإمكان لأنها لما بتشوفني بتتجنن... هو أنا ذنبي إيه يعني يا ريم... بابا اتجوز عليها أمي الله يرحمها وأنا جيت للدنيا... ذنبي ايه!!؟
صبت «ريم» فنجان القهوة الأخر بهدوء، وقالت دون أن ترفع عيناها:
-والله يا محمد ماما طيبه بس فيها حتة كده... يعني قلبها جامد شويه... فبتحسها قاسية لكنها طيبه من جواها والله...
ثم توقفت، أخذت نفسًا طويلًا خرج في تنهيدة ثقيلة، وكأنها تفرغ شيئًا عالقًا في صدرها منذ زمن وقالت:
-عارف... أنا شايفه إن بابا غلط حتى لو هو مش مقتنع بغلطته...
مال «محمد» قليلًا للأمام، وارتسمت على وجهه ابتسامة ماكرة كعادته حين يهرب من الحزن بالمزاح، وقال:
-ما هو أنا برده نتيجة الغلطه دي يا ريمو... لولا الغلطه دي مكنتش هبقى موجود.
ضحكت «ريم»، وقالت وهي تلتفت له أخيرًا:
-خلينا نعترف برده إنها غلطه بس نتيجتها حلوه... على الأقل بالنسبالي...
اقترب منها «محمد» فجأة، واحتضنها بسرعة وعفوية، فابتسمت وهي تشعر بالدفء في حضنه، ثم قال ممازحًا بنبرة مرحة:
-حبيبي المسكر على رأي رامي جوزك...
ضحكت أكثر وردّت بحب أخوي صادق:
-إنت اللي مسكر... وحبيبي وأخويا العسل...
قُرع جرس الباب فقطع لحظتهما...
اعتدل محمد في وقفته، واتجه بخطوات واسعة نحو الباب، فتحه فرأى «مريم» تقف خلفه بابتسامتها المعتادة.
-أهلًا بست البنات... اتفضلي.
دخلت مريم بخفة، وهي تشد حقيبتها، وعيناها تبحثان في المكان:
-ازيك يا عمو محمد... هي خالتو هيام هنا ولا ايه؟
أشار برأسه نحو الداخل وهو يبتسم:
-لأ خالتو ريم اللي جوه...
في تلك اللحظة، خرجت «ريم» تحمل صينية القهوة، وابتسامة دافئة على وجهها، رحبت بها بحرارة وجلست «مريم» بينهما، ثم تبادلوا حديثًا خفيفًا قطعته فجأة حمحمة خفيفة من «مريم»، كأنها تهمّ بأن تفتح ملفًا حذرًا، قالت:
-هو... هو إنتوا ليه مش بتروحوا عند تيته فاطمه... دي قاعده لوحدها وشكلها زعلان اوي... بتقول محدش بيحبني... مش انتوا أولادها ليه مش بتروحوا تقعدوا معاها!!
سلطت نظرها على محمد وقالت:
-خصوصا إنت يا عمو محمد مش بشوفك تروح هناك... هو إنت زعلان منها؟ على فكره من باب بر الوالدين آآ...
قاطعها محمد بهدوء ناضج، يخفي خلفه طبقات من القهر:
-هي في مقام والدتي يا مريم... بس أنا مش ابنها...
تجمدت «مريم» في مكانها، بدت على وجهها دهشة حقيقية، وكأنها اكتشفت شيئًا كان مخبأً عنها طول الوقت.
طالما تساءلت، لكن لم تملك الشجاعة لتسأل.
-هو عمو ضياء متجوز واحده تانيه... طيب هي فين؟
نظرت ريم إلى محمد، فالتقيا في نظرة تحمل الكثير من الذكريات والكتمان، قبل أن يبدأ محمد في شرح مقتضب لطبيعة العلاقة، بصوت منخفض وكلمات مقتضبة، كمن لا يحب النبش في الجروح.
رن هاتف «مريم» فجأة، فانتفضت، نظرت إلى الشاشة باستعجال، ثم قالت:
-استأذنكم... لازم أمشي... ماما بترن عليا...
نهضت بسرعة، ألقت تحية خاطفة، وقبل أن تغادر ألقت نظرة عليهما وقالت:
-على فكره تيته فاطمة طيبه أوي... ابقوا روحوا اقعدوا معاها متسيبوهاش لوحدها... الإنسان لما بيقعد لوحده أصلًا نفسه بتسرح بيه...
ابتسما لها فابتسمت وهي ترفع كتفيها بحركة طفولية ثم غادرت... تاركة خلفها غرفة مازالت تئن...
صلوا على خير الأنام 🌸
*************
كان «نادر» على وشك التراجع ليترك «بدر» يتحدث مع «صالح»...
لكن «بدر» أمسكه من يده، ونظر إلى «صالح» قائلًا بنبرة ماكرة:
-لا قول الكلمتين قدام نادر، أصل حتى لو نادر مشي وإنت قولتلي على انفراد أنا هقول لنادر...
تباطأ «صالح» في الرد، رمق كليهما بنظرة تقييم سريعة، ثم زفر بهدوء وقال:
-إنت باين عليك شخص محترم وبتحب تعمل خير... أنا كنت بعتذر لرحمه... وعايزك تساعدني إني أقعد مع أبويا ويسامحني هو كمان... محدش ضامن عمره يابني وأنا عرفت غلطتي وعايز أصلحها...
تبادل بدر ونادر نظرة فيها الكثير من التساؤلات المكتومة...
قُطع التوتر حين رن هاتف بدر، برقم عمرو فانتبه إلى الكتاب الذي حدثه عنه عمرو، فقرر قطع الكلام مع صالح، قال:
-موافق لكن بالليل لأني مش فاضي دلوقتي...
-لا أنا... أنا كمان عندي شغل... نخليها بكره؟
-تمام...
مد «صالح» يده، فصافحه «بدر» بلا تردد.
ثم صافح «نادر»، واستدار لينصرف بهدوء وعلى وجهه ابتسامة رضا...
في المقابل، أسرع «بدر» و«نادر» في خطواتهما نحو بيت ضياء، وكل منهما يخبئ في صدره مزيجًا من الريبة والفضول.
ما إن دخلا الشارع حتى ظهرت «سعيدة» كأنها كانت مختبئة لهم، تلوّح بكيس خضار وتقول بابتسامة واسعة وفضول مزعج:
-إنت رجعت من القاهرة يا نادر؟! هو إنت لحقت؟ طردوك؟ ولا نازل أجازة؟
ارتبك «نادر» ورفع حاجبيه بدهشة، فتح فمه وهمّ بالرد نفيًا أنه طُرد، لكن جذبه «بدر» من ذراعه وكأنه ينقذه من فخ، وقال بسرعة:
-هنرجعلك يا خالتي سعيده، بس إحنا مستعجلين!
ثم أسرعا مبتعدين، تلاحقهما كلمات سعيدة الساخطة:
-ليه يا هندسه كده! بتتكبر على خالتك سعيده!
التفت لها «بدر» الذي كان يجرّ «نادر» وراءه كأنهما في سباق.
حانت منه التفاتة خاطفة نحو سعيدة هو يقول:
-هنرجعلك يا خاله...
وحين التفت بدر أمامه اصطدم رأسه بعمود إنارة بكل ما أوتي من حماس.
توقف فجأة، ثبت في مكانه ووضع يده على أنفه، وعيناه مغمضتان كأن الزمن توقّف للحظة.
من خلفه، دوّى صوت ضحكة سعيدة، صافية وصاخبة:
-أهو دا جزاء اللي يتكبر على خالته سعيدة... يا هندسة الشارع نفسه بيحبني!
قالتها وهي ترفع رأسها بزهو فانفــجر «نادر» ضاحكًا، رغم أنه حاول كبح ضحكاته لكن المشهد كان أقوى من قدرته على التمثيل.
التفت له «بدر» يحدجه بحدة فتظاهر «نادر» بالجدية، وكبح ضحكاته، بينما أسرع «بدر» ليدخل لبيت «ضياء» وتبعه نادر بينما وقفت سعيدة تتمتم:
-آه يا شوية متكبرين!
*****★*****
دق «بدر» الجرس، ولم تمضِ لحظات حتى فتحت «رحمة» الباب فقد عادت من الخارج للتو...
تأملت وجهيهما للحظة، قبل أن تعقد حاجبيها بقلق وتسأل:
-هـ... هو حصل حاجه؟
أومأ «بدر» برأسه سريعًا، وعيناه تبرقان بنفاد صبر، وقال:
-عايزك تشوفي كتاب بين كتب أختك غلافه أسود وعنوانه بالإنجليزي ومن غير اسم مؤلف... بس بسرعه...
وقبل أن ترد «رحمة»، أطلت «فاطمة» من خلفها، تبتسم بترحاب، وأصرت بإلحاح أن يدخلا البيت.
لم يمانعا، وتبادلا التحية ودخلا إلى غرفة الجلوس، حيث جلست فاطمة تحدثهما بمرح خفيف محاولة كسر التوتر الظاهر عليهما، بينما اختفت «رحمة» في الداخل.
مرت دقائق بدت أطول مما ينبغي، حتى عادت «رحمة»، تتقدم خطواتها بتردد، وقالت بنبرة يكسوها الاعتذار:
-مفيش كتب بالشكل ده هنا يا مستر...
انعقد حاجبا«بدر»، مال نحوها قليلًا وهو يسأل بلهفة مكتومة:
-دورتي كويس؟
هزت رأسها مؤكدًة، ورفعت يدها كما لو كانت تُقسم:
-أيوه والله مفيش...
تبادل بدر ونادر نظرة قصيرة قبل أن يقول بدر، مستجمعًا شتات أفكاره:
-طيب ممكن تتصلي على رغدة تسأليها يمكن أخدته معاها؟
-هي مأخدتش كتب معاها بس هتصل بيها... حاضر.
ثم أخرجت هاتفها بسرعة، راحت تطلب رقم رغدة مرة بعد الأخرى، بينما فاطمة تراقب الموقف وقد ارتسم الفضول على ملامحها، سألت بفضول حذر:
-هو الكتاب ده في إيه يعني؟ ليه مهتمين بيه قوي كده؟
ارتبك بدر للحظة، وزاغت عيناه بحثًا عن الكلمات، تمتم متلعثمًا:
-عشان الكتاب ده مهم... كتاب بيحكي عن...
علقت الكلمات في حلقه، فتكفّل نادر بإكمال الحديث ببرود مفتعل:
-عن الحضارة والفيزياء والتاريخ والـ...
رمقه بدر بنظرة ثاقبة، وكأنه يحذره من أن يتمادى، فاستدار نادر بنصف ابتسامة ساخرة وأردف:
-باختصار كتاب بيحكي عن الحياة...
اكتفت فاطمة بإيماءة خفيفة، وقد بدا عليها أنها لم تقتنع تمامًا، بينما قالت رحمة بصوت يحمل نفاد صبر خفيف:
-رغدة مش بترد...
كتم بدر أنفاسه للحظة قبل أن يقول برجاء:
-طيب يا رحمة لما ترد عليكي ابقي اسأليها وقوليلي... ضروري.
-حاضر.
قالتها رحمه بينما استأذن بدر ونهضا لينصرفا...
ووقفت فاطمة تسأل رحمه:
-كتاب ايه ده!
رفعت رحمه كتفيها لأعلى بجهل ومطت فمها باستغراب...
*******
خرجا إلى الشارع، والجو ثقيل مشبع بصوت أنفاسهم المتسارعة.
استند نادر إلى جذع شجرة قريبة، ألقى رأسه للخلف مستندًا إليها، بينما كان بدر يحدق في هاتفه، حاجباه معقودان بضيق، بعد أن لاحظ سيل الاتصالات الفائتة من «عمرو» و«عامر».
زم شفتيه بغيظ وتمتم ساخرًا:
-دول نازلين رن... هو حد قالهم إني عندي طيارة خاصة...
قهقه نادر بخفة وهو يهز رأسه:
-ولا عندك حتى عجلة خاصة...
ثم أضاف بسخرية مرحة، ساخرًا من حالتهما معًا:
-أنا بقى كان عندي عربية خاصة، واخدنا أنا وإنت علقة محترمة واتسرقت...
ضحك بدر هازًا كتفيه وقال:
-صحيح الشرطه موصلتلهاش يا نادر؟
هز نادر كتفيه بلا مبالاة، قائلاً بحنق خافت:
-ولا ليها أي أثر... زمان اللي سرقوها باعوها قطع غيار...
تنهد بدر وهو يربت على كتف نادر:
-يلا يا غالي ربنا يعوض عليك وعلينا...
-يارب... المهم هنعمل إيه في الكتاب ده؟
أجاب بدر، وهو يشيح بوجهه عن الهاتف:
-ولا أي حاجة... هنستنى لما رغده ترد... وهرن على عمرو أقوله...
★★★★★★
أسدل الليل ستاره الثقيل فوقها، غير أن ظلامه بدا أرحم من الظلمة التي اجتاحت حياتها فجأة، دون مقدمات.
جلست على الأريكة ساكنة، تلتقط أذناها ارتباك خطوات جدتها داليا المتوترة، وصوتها المرتعش وهي تتحدث بهمس مضطرب مع أحدهم، لترتب لقاء مع دجالة تعرفها، عسى أن تفك عقدة رغدة التي باتت تؤمن أنها سحر سفلي لا بد من معالجته.
كانت رغدة كغريق مرهق، يتعلق بأمل هش؛ تجلس مكتوفة اليدين، تنتظر بلهفة متوترة أن تسمع الموعد الذي ستذهب فيه.
تسلل إلى ذاكرتها صوت "رحمه"، وهي تسألها عن ذلك الكتاب... الكتاب الذي أنكرت امتلاكه خوفًا من عامر!
لو لم تأخذه خلسة... لو فقط طلبت الإذن... لكنها لم تفعل، كانت ستقرأه وتُعيده دون أن يُلاحظ غيابه لكنه قد لاحظ، لعنت فضولها الذي دفعها لذلك...
اتسعت حدقتيها فجأة واستبد بها القلق؛ ماذا لو فتش عامر غرفتها، وعثر عليه؟
لقد تركته على المكتب دون حذر! يكفي أن يخطو خطوتين داخل الغرفة ليقع بصره عليه.
ارتجفت أنفاسها وهي تفكر: ربما لا يدخل... ربما لا ينتبه... إذن لن تخبر أحدًا بأنها أخذت الكتاب... إنه مجرد كتاب!! وستعيده فور أن يعود بصرها... لكن متى سيعود بصرها؟!
مزق أفكارها صوت جدتها المضطربة، وهي تدخل الغرفة بخطوات عجلى، وقالت:
-يلا يا رغدة، أخدت ميعاد... قومي ألبسك عشان نمشي...
وقفت جدتها تساعدها بارتداء ملابسها فسألتها رغدة:
-هنروح لوحدنا؟!
-أيوه...
قالتها داليا وتنهدت بعمق، بينما أغلقت رغده عينيها واستسلمت لجدتها وهي تساعدها بارتداء الملابس...
★★★★★★
وأثناء العودة...
في الحافلة...
جلس «عامر» يفرك، يطرق الأرض بأطراف قدمه بإيقاع عصبي لا ينقطع.
كانت «تُقى» تجلس قريبًا منه، تلتفت إليه بين الحين والآخر، رمقته بنظرات قلقة قبل أن تهمس:
-مالك؟
أجابها باقتضاب، محاولًا كبح اضطرابه:
-مفيش حاجه.
ابتلع قلقه في صدره، لا يريد أن يزيد من توترها... يكفي أنه حمل همّه إلى «عمرو»، الذي لم يكن حاله أفضل منه...
كان «عمرو» يجلس خلفه، ينحني نحوه بين حين وآخر، يتهامسان بكلمات قصيرة مشوبة بالقلق، ثم يعتدل كل منهما متظاهرًا بالتماسك.
ظل «عمرو» يتواصل مع بدر بين لحظة وأخرى، كل مكالمة تحمل أملًا خافتًا، وسرعان ما يبدده صوته الخالي من البشرى.
ومع كل ردٍ غائم، كانت قسمات عمرو تتغير كأنما تتحطم من الداخل؛ عينيه تضيقان بحنق، وجبهته تتغضن تحت وطأة قلق متصاعد.
داخل الحافلة، خيّم صمت ثقيل، حتى الهواء بدا لزجًا، يحاصر صدورهم ويبطئ أنفاسهم.
كان عامر يدير رأسه صوب النافذة من حين لآخر، كأنما يطارد مشهدًا آخر بعيدًا عن هذا الاختناق.
تمنى لو يبتلعهم الطريق إلى وجهتهم دفعة واحدة، لكنه كان يدرك أن المسافة بينه وبين ما ينتظره، تطول بتمهل قاسٍ.
فجأة، شق رنين الهاتف هذا السكون المتشنج.
انتصب عمرو في مقعده، وجسده كله ينتفض بترقب، وانحنى نحو عامر كمن يستعد لالتقاط نبأ مصيري.
أسرع عامر بالإجابة عندما لمح اسم بدر يتوهج على الشاشة، وصوته يخرج متقطعًا باللهفة:
-إيه لقيته؟
أتاه صوت بدر:
-لأ... كلمنا رغدة قالت إنها متعرفش كتاب بالمواصفات دي!
صك عامر أسنانه بغيظ وردد:
-البت دي كدابة... أنا متأكد إنها قرأته من الجلدة للجلدة...
-وهي هتكذب ليه بس يا عامر...
-معرفش يا بدر...
صمت بدر هنيهة ثم زفر بقــوة وقال:
-هحاول أكلمها تاني.
أنهى عامر المكالمة ببطء، كأنما كان يمسك بحبل أمل واهن.
التفت إلى أخيه، فاستقبله عمرو بنظرة تنتظر الكلمة الفاصلة، ولم يحتج إلى حديث؛ فقد هز عامر رأسه نفيًا، وخيبة الأمل تنسكب من عينيه قبل ملامحه.
ثم أطرق بنظره إلى الأرض، وقلبه يضرب صدره بعنف، كأن الطريق أمامهم يمتد ويتلوى أكثر مع كل دقيقة تمر.
سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم 🌸
*******
كانت «سراب» تراقب «عمرو» وحركاته المرتبكة.
مالت نحوه وهمست:
-إنت كويس؟
رد باقتضاب:
-آه...
قالت بنبرة خفيفة:
-مش باين!
رمقها بنظرة سريعة، ثم سخر:
-الغريبة إنك لاحظتي؟
رفعت ذقنها بفخر وردت:
-يا بني أنا بفهمك من غير ما تتكلم.
التفت نحوها، طالعها من أعلى لأسفل، وقال:
-مش باين!
ردت بإصرار:
-لا، بفهمك... شكلك زعلان مني عشان...
تلعثمت قليلًا، فابتسم عمرو بسخرية وزفر ضاحكًا:
-فاكراني زعلان عشان مسكت إيدك واتعصبتي وسيبتيلي المكان؟! لا خالص...
أسند رأسه إلى الخلف وأردف:
-أنا بس مشغول بحاجة، أول ما أخلصها هفوقلك... وهعرفك تتعاملي مع جوزك إزاي!
ازدردت لعابها وقالت مرتبكة:
-إحنا... متفقين على كل حاجة من الأول!
ضحك وقال:
-مين دول اللي متفقين؟ أنا ما اتفقتش على حاجة!
صمتت قليلًا وحاولت أن تغيّر دفة الحديث:
-طب ما تقول إيه اللي شاغلك؟
طالعها بنظرة طويلة، ثم قال ببرود:
-مليش مزاج.
لكزته بمرح وقالت:
-إنت مستفز.
أمسك يدها، وانحنى نحو أذنها هامسًا:
-متـمديش إيدك تاني.
انتزعت يدها منه بسرعة، وأسندت رأسها إلى النافذة محاولة النوم.
لكنه حاصرها بذراعه وهمس بمكر:
-نامي يا حبيبة قلبي.
حاولت أن تبتعد، لكنه جذبها بلطف وهو يهمس:
-يا بت، اهمدي بقى... نامي.
وفي النهاية، استسلمت... وأسندت رأسها إلى صدره لتغفو...
تأملها لبرهة وابتسم ابتسامة سرعان ما تلاشت، وهو يتذكر كلمات عامر عن ذلك الكتاب!!!
استغفروا 🌸
★★★★★
في سكون الليل، جلست «مريم» أمام الكتاب العجيب، تحدق فيه بعينين متسعتين، وقلبها يخفق بتوجس.
كان بين يديها كأنه سر مسروق؛ فقد أخذته دون إذن.
تساءلت همسًا، وكأنها تخشى أن يسمعها أحد:
-ياترى دي سرقة؟
شهقت شهقة صغيرة مكتومة بسبب تلك الفكرة، وضغطت الكتاب إلى صدرها للحظة، ثم دفعها قلقها إلى أن دسّته داخل حقيبتها بعجلة.
قررت أن تؤجل القراءة، وأن تتصل برغدة في الصباح لتطمئن عليها ثم تطلب إذنها قبل أن تقرأ منه حرفًا.
مع هذا القرار، تنفست مريم بعمق، وكأنها تخلصت من حمل ثقيل، ثم استلقت على الفراش ببطء.
أغمضت عينيها، وأسلمت نفسها ليد الليل التي راحت تخيط جفنيها بخيوط النعاس الخفيفة، حتى سكن كل شيء.
*************
في سكون ما بعد الفجر بقليل قبل أن يتنفس الصباح بعمق...
صدر دق خفيف على باب الشقة شق السكون...
فتح «يحيى» عينيه ببطء، وشعر بثقلٍ يجثم على جسده. مدّ يده إلى هاتفه المجاور، ورمق الشاشة بعين نصف مفتوحة؛ كان أذان الفجر قد رُفع منذ ربع ساعة تقريبًا.
زفر وهو ينهض بتكاسل، يجر قدميه نحو الباب، كأن الأرض تشده من قدميه...
حين وصل، توقف للحظة وقلبه يخفق بقــوة، التصق بالأرض يحدق في الباب بوجوم، قبل أن يسأل بصوت خافت مرتجف قليلًا:
-مين؟
جاءه الرد من خلف الباب، بصوت مبحوح يتوسل بمرح:
-أستحلفك بالله تفتح يا شيخ يحيى... مش قادر...
بلهفة غريزية، أدخل يحيى المفتاح في القفل وأداره بسرعة، فانفتح الباب.
وقف لحظة مذهولًا، حين وجد نفسه وجهًا لوجه مع «آدم»...
كان واقفًا هناك، حقيبة سفر على كتفه، وشعره مبعثر كمن ركض نصف الطريق.
عينيه العسليتين، رغم التعب، كانتا تلمعان بنظرة لم يرها «يحيى» منذ زمن، نظرة اشتاق لها...
إنه آدم ابن عمه الطفل الذي تربي على يده، أصبح الآن شابًا، اقترب من منتصف العشرين...
فقد سافر ألمانيا بمنحة دراسية حصل عليها بصعوبة، بعد منافسة طويلة مع مئات الطلبة... درس في جامعة برلين، قسم الآثار، وعُيّن بعدها كمساعد باحث في أحد مشروعات الجامعة؛ مساعد الباحث في جامعة برلين...
لم يعد ذلك الفتى الذي غادر كان الآن مزيجًا من الغربة والحنين، مزيجًا يفهمه القلب قبل العقل.
ابتسم «آدم» ابتسامة باهتة، وهمس بصوت خفيض وكأنه لا يريد أن يوقظ النهار:
"إخ هابه ديش فِرمِست"
لم يفهم «يحيى» الكلام لكن نظرة آدم، ونبرة صوته، كانا كافيين.
ابتسم «آدم» بارتباك، حك رأسه بخجل، وقال بعدها بالعربية:
"وحشتني."
ابتسم «يحيى»، غمره شعور دافئ دون أن يجد كلمات مناسبة فضم أدم وهو يقول بشوق:
-وحشتني يا عم... وحشتني أوي...
شدد «آدم» من ضمه وقال:
-مصر وحشتني أوي... أوي يا شيخي...
قبل «يحيى» رأسه وقال:
-ادخل تعالى... مقولتليش ليه إنك جاي كنت قابلتك...
-محبتش أتعبك.
قالها «آدم» وأطرق بحزن حين داهمته الذكريات، فقد توفى والده وهو بالخامسة عشر من عمره ولحقت به والدته بعد عامين...
انشغل إخوته البنات مع أزواجهم وحياتهم...
وتكفل يحيى بتعليمه ورعايته كإبن له...
خرج من بؤرة الذكريات حين عبث يحيى بشعره بمرح ثم فتح الباب على اتساعه وأشار له بالدخول وهو يسحب معه الحقائب.
دخل آدم لغرفة الجلوس وخطواته الخفيفة فوق البلاط البارد بدت وكأنها تحكي قصة عائدٍ إلى وطنه الأول.
-هسيبك دقيقتين ألحق الصلاة قبل الشروق وأرجعلك...
قالها يحيى فابتسم آدم وقال بمرح:
-معقول! الشيخ يحيى ينام عن صلاة الفجر!
-والله ما حسيت بنفسي الليلة يا آدم كنت مرهق جدًا... يلا راجعلك...
قالها يحيى وهو يغادر الغرفة ويغلق الباب على آدم...
وفي الخارج، بدأت السماء تبلل أطرافها بشيء من نور خجول، كأن الفجر نفسه كان ينتظر رجوعه.
وبعد فترة
جلس «آدم» يسرد إنجازاته ويستعرض شهاداته أمام «يحيى»، والكلمات تتدفق منه كما لو كانت شريطًا طويلًا لا ينقطع...
استمر الحديث بينهما حتى تسلل ضوء الصباح من خلف الستائر الثقيلة...
دخلت وئام بالطعام ورحبت بآدم الذي حياها باحترام...
خاطبت وئام يحيى:
-معلش يا يحيى صحي مريم وعبوده مش راضين يقوموا هيتأخروا...
اومأ يحيى وهو يقول:
-حاضر هصحيهم...
خرجت وئام، فنهض «يحيى» وقال بنبرة عملية:
-مريم وعبوده هيروحوا المدرسة، فهروح أصحيهم... وإنت بقى بعد ما تاكل كده، تدخل تريح شوية في أوضتهم، على ما ننضف الشقة بتاعتك النهارده.
ارتسم الإعياء على وجه «آدم»، وانخفض صوته كمن يستجدي الراحة:
-أيوه أنا فعلًا هلكان وعايز أنام أوي... أستحلفك بالله تشوفلي سرير أترمي عليه...
ابتسم «يحيى» ابتسامة دافئة، ثم لكزه بذراعه بخفة قائلاً:
-وحشتني... ووحشني كلامك...
حرج «يحيى»، بينما ظل «آدم» جالسًا مكانه، يتأمل الغرفة حوله بنظرة مشبعة بالحنين، وكأن ذكريات طفولته القديمة عادت تتسلل بين الجدران...
ثم شرع بتناول الطعام...
استغفروا 🌸
********
اقترب «يحيى» من مريم وربت على كتفها برفق، لكنها تململت تحت الغطاء، ساحبًة إياه فوق رأسها وقالت بنعاس ثقيل:
-مش هروح المدرسة النهارده يا بابا... سيبني أنام.
أجابها بصبر مكسور:
-مينفعش... النهارده بالذات لازم تروحي.
انتقل إلى «عبد الرحمن»، الذي كان يغوص أكثر تحت الغطاء، مرددًا بجزع:
-يا بابا سيبني عايز أنام...
وقف «يحيى» يتنفس بعمق ليكتم ضيقه، ثم تراجع خطوة للوراء، يضع يديه على خاصرته وكأنها محاولة لاستجماع قوته. ثم وبصوت واحد قاطع، قال:
-آدم رجع من السفر.
تغير كل شيء في لحظة.
اتسعت عينا مريم بدهشة لم تستطع إخفاءها، وقلبها ارتجف في صدرها بعنــف لا إرادي.
في اللحظة نفسها، انتفض عبد الرحمن من فراشه، وعيناه تتقدان بالحماسة:
-قولت إيه؟
كرر «يحيى» وهو يبتسم نصف ابتسامة:
-آدم بره وعايز يدخل ينام شوية في أوضتكم... قوموا بقى...
وثب عبد الرحمن من فوق السرير كأن به جناحين، يركض نحو الباب وهو يهتف:
-فين آدم؟
أشار له والده إلى غرفة الجلوس، فانطلق كالسهم. هناك، كان «آدم» قد فتح ذراعيه بمجرد رؤيته، احتضنه بقــــوة، ودار به في الهواء كطفل اشتاق لحضنٍ دافئ، مرددًا بحب:
-عبوده حبيب قلبي...
******
في الغرفة، جلست مريم على طرف السرير، قلبها يضرب جدران صدرها بلا هوادة.
حين سمعت صوت «آدم» يعلو بالترحيب، قفزت واقفة، وأسرعت تغلق الباب خلفها كما لو تهرب من فيضان مشاعرها.
وضعت يدها على قلبها محاولة تهدئة الارتعاشات الاإرادية.
نظرت صوب مصحفها على سطح المكتب، ونهضت تحتضنه وتتشبث به كأنها تعلم أن قلبها لن يهدأ إلا به...
طرقت «وئام» الباب ثم دخلت قائلة بلطف وهي تراقب ملامح ابنتها المرتبكة:
-يلا خلصي كده والبسي عشان نفضي الأوضة لـ آدم...
ارتبكت مريم، والتوت شفتيها تحاول لملمة أفكارها، وردت بسرعة متقطعة:
-حـ... حاضر... هاخد كتبي وهدومي وأطلع.
أسرعت تجمع حاجياتها، مدت يدها إلى حقيبتها تسحب كتابًا مدرسيًا، لكنها أخرجت دون أن تنتبه الكتاب ذا الغلاف الداكن، ووضعته على المكتب بينما تدس بقية الكتب بعجلة في الحقيبة.
التقطت ملابسها وخرجت من الغرفة بخطوات خفيفة، تتلفت حولها وكأنها تهرب من مواجهة منتظرة... كانت تأمل ألا يراها «آدم» في تلك اللحظة...
صلوا على خير الأنام 🌸
★★★★★
وصلوا إلى البيت، وما إن توقفت السيارة حتى قفز «عامر» منها بخطوات متوترة، تبعه «عمرو»، ثم نزلت «سراب» و«تقى» بهدوء.
استقبلتهم «شيرين» عند الباب بابتسامة دافئة، لكنها ما لبثت أن لاحظت الجمود في ملامح «عامر» و«عمرو» رغم محاولتهما المصطنعة للابتسام.
كان كل منهما يخفي خلف ابتسامته عواصف مضطربة لا تهدأ.
دلف عامر إلى شقته وهو يحمل الحقائب، وأول ما فعله أن تناول مفاتيح مكتبه بانفعال، وتوجه مباشرة ليتفقد الكتاب، وتبعه عمرو في ارتباك وقلق...
فتح باب الغرفة بعجلة، ثم درج مكتبه، فتش بعينيه المتوترة المكان... ثم تسمرت نظراته في الفراغ.
التفت إلى عمرو الذي يقف قبالته وقال باضطراب:
-الكتاب مش هنا!
شحب وجهه، وارتفع صدره يعلو ويهبط بعــــنف، قبل أن ينفجر صائحًا بغضب مكتوم:
-أنا اللي غلطان... مكنش لازم أغفل عن المفتاح...
اندفع نحو الصالة، وعينيه تقدحان شررًا، وسأل والدته بنبرة حادة مشوبة باليأس:
-رغدة... دخلت الأوضة إمتى؟
تراجعت «شيرين» خطوة إلى الوراء تحت وقع انفعاله، وأجابت بدهشة مربكة:
-رغدة؟! دي مجتش هنا من يوم الفرح يا عامر...
رمق «عمرو» والدته بنظرة قلقة، وسأل بترقب مكتوم:
-طيب... هي فين دلوقتي؟
أجابت «شيرين» بتوجس:
-عند عمتك داليا... بس إيه الحكاية؟
لم ينتظر عامر تفسيرًا، كان الغضب قد استبد به، بينما عمرو تمتم:
-خدت من عنده كتاب مهم...
استدار «عامر» دون أن ينبس بكلمة إضافية، ودخل غرفته كالعاصفة، وجهه معقود بتجهم قاسٍ، ونيران القلق تشتعل في عينيه.
بحث بعينيه السريعتين عن اختراعه، فوجده كما تركه...
زفر بنفَس ثقيل، وتقدم بخطوات متحفزة، يلتقطه بحذر، ثم أخذه إلى شقته، كأنه يحمي كنزًا مهددًا بالخطر.
اقتربت «تقى» منه على أطراف أصابعها، وعيناها لا تفارق الشيء الغريب الذي يحمله، سألت بصوت خافت يقطر حذرًا:
-في إيه؟ مالك؟
استدار لها، عينيه لا تزالان مضطربتين، وعلى عجل غطى الاختراع بقماش خفيف، ثم قال بصوت مشحون:
-مفيش يا تقى... سيبيني لوحدي.
لم تقتنع، تقدمت نحوه بقلق أكبر وهمست:
-مالك يا عامر؟ أنا مش متعودة أشوفك كده...
مرر يده بعنف فوق وجهه كأنه يحاول مسح الغضب، وزفر زفرة طويلة، ثم قال بنبرة متعبة:
-بالله عليكِ يا تقى... أنا مش طايق نفسي... وبلاش تقربي من البتاع ده...
توقف لحظة، ثم أمسك بيدها وسحبها خارج الغرفة دون مزيد من الشرح ثم أغلق الباب خلفه بإحكام، وأدار المفتاح في القفل، قبل أن يدسّه في جيبه بحركة عصبية وهو يتمتم:
-أنا خارج.
وقبل أن تتفوه تقى بكلمة، كان قد استدار وصك الباب خلفه بقــوة.
وقفت للحظة تنظر إلى أثره، قلبها يثقل صدرها بحزن غامض، ثم جلست على أقرب مقعد، وانفرجت شفتيها عن شهقة باكية...
وانفـــجر الدمع الذي كانت تحبسه طوال اللحظات الماضية.
من ناحية أخرى...
بمجرد أن دفعت سراب باب شقتها وأغلقته خلفها، تنفست الصعداء بارتياح، وكأنها تخلت عن حمل ثقيل كان يطبق على صدرها طوال الأيام الماضية.
ترنحت بخطوات مرهقة نحو الأريكة، وارتمت عليه بملابسها، تاركة جسدها يستسلم لإغفاءة ثقيلة، بينما أهدابها تخونها وتتساقط فوق عينيها سريعًا.
********
في الخارج، عند مدخل البيت، كان «عمرو» واقفًا مع بدر، الذي يروي له بتوتر ما دار بينه وبين «صالح».
أنهى «بدر» حديثه قائلًا وهو يهز رأسه:
-هو مكلمنيش تاني بعدها...
أطلق «عمرو» تنهيدة ثقيلة، مسح بها الضيق عن صدره قبل أن يقول بفتور:
-سيبك منه يا بدر... خلينا نركز في موضوع الكتاب وإن شاء الله نلاقيه، وبعدها نشوف موضوع جدك... اللي طلع أبو أمي ده.
تردد «بدر» للحظة، ثم قال بلهجة خافتة:
-وفيه كمان موضوع مهم... نادر رجع من القاهرة النهارده.
انعقد حاجبا عمرو وسأله بسخرية نافذة:
-وإيه يعني؟ رجع... حمد الله على السلامة!
أخذ «بدر» يحكي بحذر عما حدث مع «نادر» ورؤيته لراشد، ولمّا وصل إلى اختفاء راشد المباغت، احمر وجه «عمرو» وانفـــجر:
-وإنتوا لسه فاكرين تحكولي دلوقتي يا بدر؟!
رفع بدر إصبعه في وجهه بحدة، وهمس بنبرة محذرة:
-متعليش صوتك، إحنا واقفين في الشارع! وبعدين، مش كل مرة تعصب تتخانق معايا.
لوّح «عمرو» بيده في الهواء بضيق مكبوت، وقال:
-ما هو إنت كمان بتستعبط.
انعقد حاجبا «بدر» غضبًا ورد بعصبية:
-بستعبط؟! عشان كنت بحاول مبوظش فرحتك أبقى بستعبط!
ضرب «عمرو» كفّه بكفه في إحباط وقال وهو يكتم غليانه:
-الواحد زهق وقرف... والله العظيم كرهت كل حاجة.
وبينما يدور بعينيه الغاضبتين، لمح «عامر» يهبط درجات السلم مسرعًا، فصاح مشيرًا نحوه بسخرية لاذعة:
-وأهو العبقري بتاعنا... اللي طالع شغال في السحر الأسود وهو فاكر نفسه بيخترع حاجه تفيد البشرية!
ضحك بسخرية وصفق بيديه وهو يضيف:
-أبهرتنا... والله أبهرتنا يا عامر.
توقف«عامر» فجأة عند أسفل الدرج، وعيناه تقدحان شررًا، وقال بامتعاض مكتوم:
-محدش يتكلم معايا... أنا حرفيًا على آخري!
تقدم «عمرو» خطوة للأمام وهدر:
-والله أنا اللي على آخري... وهفرقع في وشكم كلكم!
في لحظة خاطفة، ضــرب عامر كتف أخيه بقوة، وكأن غضبه كان يحتاج إلى متنفس، وهتف محذرًا:
-كلمة كمان وهنتخانق يا عمرو... بجد، مش ناقص.
تدخل بدر سريعًا محاولًا تهدئة الجو، مشيرًا بيديه كمن يفصل بين النارين:
-اهدوا بالله عليكم... إن شاء الله كل حاجة هتتحل. يلا نروح نقابل رغدة ونشوف موضوع الكتاب ده، مش عايزين نضيع وقت...
تبادلوا النظرات المتوترة، ثم انطلقوا في صمت، تطغى عليهم غمامة ثقيلة من القلق والغضب المكبوت.
استغفروا🌸
★★★★
كانت «رغدة» مستلقية على فراشها، مغمضة العينين، تسترجع بقلق ذكريات الليلة الماضية. لم تكن تستطيع نسيان ملمس ذلك الدهان اللزج ذي الرائحة النتنة، الذي أخرجته الدجالة من قنينة قديمة وناولته لجدتها.
أمرتها أن تدهن به جفونها وحول عينيها وألا تفتح عينيها ليوم كامل... وقد فعلت الجدة، رغم خوف رغدة الذي تملّكها حينها.
وسط شرودها، قطع صفو تفكيرها صوت جرس الباب يدوي في أرجاء البيت، سمعت صوت عامر يعلو من الخارج، غاضبًا، كصفعة تقطع سكون البيت:
-فين الست رغدة؟!
ارتجف قلبها لا إراديًا، كأن الصوت طرقه بمطرقة حادة وجلست منتصبة على السرير، تنصت لكل كلمة.